الإسلام والتحرر من العوز
(١) الإسلام والحرية الاقتصادية
أبنتُ أن مقررات الإسلام لا تنفي حرية الاعتقاد، وتؤيد حرية الرأي. وحرية الاعتقاد وحرية الرأي مبدآن من مبادئ الحرية الأربعة التي نص عليها ميثاق الأطلنطي، أما المبدآن الآخران فهما تحرير الناس من العوز، وتحريرهم من الخوف.
فهل تؤيد مقررات الإسلام هذين المبدأين كذلك؟ وإن كانت هذه المقررات تؤيدهما، فهل هذا التأييد مطلق أم محدود؟
وقبل أن أجيب على هذين السؤالين، أود أن أوضح المفهوم من عبارة «التحرر من العوز» و«التحرر من الخوف» وهذا التوضيح يقتضي بعض الرجعة إلى الماضي، والتذكير لما كان فيه.
وأبدأ بالكلام عن التحرر من العوز:
فقد كان مبدأ الحرية الاقتصادية سائدًا في القرن التاسع عشر على نحو يكاد يكون مطلقًا، وكان مذهب الفردية يعبر عن هذه الحرية الاقتصادية تعبيرًا حل من نفوس الناس — مدى قرن كامل — محل الإيمان.
والمذهب الفردي يقوم على أساس من حرية الفرد المطلقة فيما يصنع وما يدع، فلا شأن للدولة بالفرد، ولا سلطان لها عليه، إلا إذا أخل بالأمن أو احتاجت الدولة إليه للدفاع عن كيانها ضد معتدٍ أجنبي.
من ثم، كانت الدولة حارسًا للأمن في الداخل والخارج، وكانت وظيفتها محصورة في حدود هذه الحراسة لا تتخطاها.
وقد أيد كثيرون من فلاسفة القرن التاسع عشر هذه الحرية واعتبروها من سنن الطبيعة، ورأوها القوام الأساسي لحياة الجماعة، فإذا نجم عنها ظلم أو بؤس أو شقي بسببها كثيرون، فتلك أعراض طبيعية لا مناص من الإذعان لها، كإذعاننا لثورة البركان إذا ثار، ولهياج البحر إذا هاج، ولتدمير العواصف أو الصواعق ما تحصد وما تدمر.
وكان هؤلاء الفلاسفة ينظرون إلى ما تعانيه بعض الطوائف بسبب هذه الحرية على أنه أمر طبيعي يعللونه تعليلًا منطقيًّا، كما يعللون كسوف الشمس أو خسوف القمر أو جاذبية الأرض من ظواهر الطبيعة، فإذا تحدثوا عن الأجور تحدثوا عن قانون الأجور الحديدي كما يتحدثون عن جاذبية الأرض، وقالوا إن انخفاض الأجور وارتفاعها رهن بقانون العرض والطلب، فحيثما ازدادت الأيدي العاملة نقص الأجر، وحيثما قلَّت زاد.
والأجر ميال في نظرهم دائمًا إلى الانخفاض؛ لأن ازدياده في صناعة من الصناعات أو حرفة من الحرف يدعو العمال إلى الإقبال على تعلم هذه الصناعة أو الحرفة، فيزداد العرض على الطلب، وتنزل الأجور إلى مستوى الكفاف الذي يقيم به العامل أوده، فإذا بلغت هذا المستوى، انصرف الناس عن هذه الصناعة أو الحرفة إلى غيرها.
لم تلبث الحرية الفردية التي تؤدي إلى هذه النتيجة إلا قليلًا حتى طفرت بأفراد إلى ذروة الثروة، بينما بقي المجموع العامل مضغوطًا في حدود الكفاف. ونشأ عن ذلك أن بدأت جماعات العمال تتكون في صور مختلفة تطالب في شدة بما تعتبره حقوقها.
عند ذلك لم يكن للدولة بُد من أن تتدخل باسم الأمن والنظام بادئ الأمر، وباسم العدل العام بعد ذلك، لتخفف من ضغط هذه الحركات الاجتماعية الناشئة. وتَرَتب على ذلك أن قررت بلاد مختلفة مجانية التعليم للجميع، وأقامت النظام الصحي المجاني للجميع، ثم أصدرت تشريعات العمل تنص فيها على حقوق العمال في التعويض عن حوادث العمل ومعاشهم للتقاعد.
ولقد كانت المذاهب الاشتراكية تجد في هذا التطور الاقتصادي والاجتماعي غذاء يزيدها قوة وتغلغلًا بين مجاميع العمال. ولما كانت الحرب العالمية الأولى قد اشترك فيها ملايين من هؤلاء العمال من مختلف الأمم، فقد أسرع اشتراكهم هذا في نمو المذاهب الاشتراكية في الأمم المستعدة لها، فكانت الاشتراكية الديمقراطية في فرنسا، والاشتراكية القومية في ألمانيا، والشيوعية في روسيا.
على أن رأس المال ونظامه بقي له من السلطان حظ متقارب بين الدول التي أظلته. وتقرير ميثاق الأطلنطي — إبان الحرب العالمية الأخيرة — حق تحرير الناس من العوز كمبدأ للسلام تطور جديد في تصوير ما يجب أن يكون بين رأس المال والعمل من علاقة.
فهل تقر مبادئ الإسلام هذا التحرير من العوز على أنه مبدأ من المبادئ التي يقوم عليها المجتمع الإنساني؟ وهل تستطيع الأمم الإسلامية لذلك أن تشترك في تقرير التفاصيل التي يُنَفذ بها هذا المبدأ مع الأمم التي تدين بغير الإسلام؟
(٢) مقررات الإسلام والتحرر من العوز
لا أتردد لحظة في القول بأن مقررات الإسلام تقر هذا التحرير من العوز وتدفع إليه، فقد فرض الإسلام الزكاة، وقرر الصدقة وجعلها للفقراء والمساكين وأبناء السبيل ممن عضهم الفقر بنابه، كما جعل لها مصارف أخرى هي مرافق الدولة العامة.
وقد جعل القرآن في أموال الأغنياء حقًّا معلومًا للسائل والمحروم. ولما بدأت الأموال ترد من البلاد المفتوحة إلى مقر الخلافة في عهد عمر فرضت للناس أعطيات لم تقتصر على المحاربين وعلى عِلية القوم، بل كان منها لكل فقير حق مدون في دفاتر العطاء، اعتبره الخليفة واعتبره أولو الرأي الحد الأدنى لمستوى المعيشة العربية.
إن الإسلام يقر الاشتراكية ويقر الملكية الخاصة ويقر الميراث، وما دام الأمر كذلك فالمقادير التي ترضاها الجماعات في نظامها من هذه المذاهب والنظم متروك تقديرها لساستها ولأُولي الأمر فيها، فكما أن لهم أن يجبوا من الضرائب ما يكفل التعليم العام والصحة العامة ومرافق الدولة جميعًا، على النحو الذي يتصوره أهل عصرهم، فلهم كذلك أن يضعوا للأجور حدًّا أدنى، وأن يحرروا الناس من العوز على الوجه الذي يتفق مع المصلحة العامة، وأن يعينوا الحد لهذا التحرير.
فلن يقال إن عمر بن الخطاب رضي كذا حدًّا أدنى لعطائه، ليكون هذا التعيين ملزمًا اليوم، فلكل زمن تقديره وتصويره، والتشريع يجاري تصور الناس في زمن بذاته، ما دام هذا التصوير لا يتنافى مع المقررات الأساسية للإسلام.
وكيف يرتبط المسلمون اليوم بحد تقرر من قبل لأدنى مستوى العيش، وقد تغيرت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للحياة خلال القرون التي انقضت من صدر الإسلام إلى عصرنا الحاضر، تغيرًا جعلها شيئًا آخر غير ما كانت.
وحسبك أن تذكر الانقلاب الذي طرأ على العالم بقيام الصناعة الكبرى فيه، وأن تذكر كيف أثار هذا الانقلاب الإنتاج والتوزيع وكيف اهتز بسببه ما كان مستقرًّا في العالم ألوف السنين من علاقة بين رأس المال والعمل، لترى ما بين العهدين من فرق هائل.
والانقلاب الصناعي وليد القرن الماضي، ما بالك بما حدث من انقلابات اقتصادية قبله، وما بالك بما سبقه وما عاصره من انقلابات اجتماعية! أما والأمر ما ترى، فالتقيد بما تقرر في الماضي لا يمكن أن يتفق مع أوضاع الحاضر ونظمه.
هذا، ثم إن الناس كانوا يَشْكون في الماضي من القحط يصيب أمة من الأمم، أو طائفة من الأمم، أما اليوم فأكثر ما يشكو الاقتصاديون منه زيادة الإنتاج على حاجات الناس زيادة تؤدي إلى العطلة، وتؤدي إلى الاضطراب الاقتصادي، وإذا قلت الناس، قصدت بني الإنسان في مختلف أقطار الأرض؛ فقد يسرت وسائل النقل تداول الحاصلات والمنتجات الزراعية والصناعية، ولم يبقَ الخوف من القحط يساور أحدًا في أيام السلم.
أما وزيادة الإنتاج خطر يهدد العالم الحين بعد الحين، فرفع مستوى العيش وتعيين حد أدنى لحاجات الإنسان أُدخل في باب العلاج الاقتصادي، وهو في نفس الوقت علاج للأحوال الاجتماعية التي تثير الطوائف بعضها ببعض، كما أنه يتفق مع ما يجب للإنسان من كرامة ترتبط بوجوده كقوة عاملة، ينتج عملها الخير الوفير للجماعة الإنسانية كلها.
(٣) الطمأنينة وزيادة الإنتاج
والوقع أن ما في العالم من خيرات تتزايد كل يوم بفضل العلم، وما يمكن للإنسان من التحكم في قوى الطبيعة تحكمًا يكفل للناس أن يعيشوا جميعًا عيشًا إنسانيًّا معقولًا، فإذا كان أكثرهم لا يزالون في عوز فمرجع ذلك إلى سوء التوزيع.
وقد عالج الاشتراكيون مشكلة سوء التوزيع بين رأس المال والعمل واقترحوا لها شتى ألوان العلاج، وغير الاشتراكيين يرون في المقترحات الاشتراكية، أو المتطرف منها بخاصة، ما لا يتفق وما في الطبيعة الإنسانية من عوامل هي التي تدفعها لزيادة الإنتاج كمًّا ونوعًا، فإذا كان تحرير الناس من العوز يعالج مشكلة التوزيع، ويزيد الجماعات الإنسانية تمتعًا بالخيرات الكثيرة الموجودة في العالم، فواجب على الأمم الإسلامية أن تشترك في تنظيم هذا التحرير، وقد أصبح جوهريًّا لحياة العالم وطمأنينته والنتائج التي يصل إليها الساسة وأولو الرأي فيه، تمس كل واحدة من هذه الأمم كما تمس سلام العالم مساسًا مباشرًا.
فإذا استطاع الساسة وأولو الرأي أن يبلغوا من هذا التحرير غاية محمودة، أدى ذلك إلى تقدم العالم خطوة جديدة في سبيل الكمال، فمن شأن الطمأنينة إلى العيش أن تزيد مستوى الإنتاج، وليس قصدي من الإنتاج ما تثمره الزراعة والصناعة وكفى، بل أقصد كذلك إلى ثمرات العلم والفن، فكم قتل العوز من ملكات، وكم قضى على مواهب كانت — لولاه — متحفزة لأن تنتج للإنسان في حياته العقلية وفي حياته المعنوية وافر الخير!
وإذا صحت شكوى الاقتصاديين من وفرة الإنتاج المادي، فلا يزال العالم يشكو الفقر المعنوي، ولا يزال يطمح للرقي بالنفس الإنسانية إلى مستوى تعرف فيه معنى الرضا، وتطمئن إلى قيم خلقية يتواضع الناس في الحياة الخاصة وفي الحياة العامة عليها، وتكون مرجعهم في حسم كل نزاع يقع بينهم في الحياة القومية أو في الحياة الدولية.
وهذا الطموح فأل خير لا ريب، فاليوم الذي يتفق الناس فيه على هذه القيم هو اليوم الذي يتحررون فيه من الخوف من غير حاجة إلى قوة قاهرة تكفل لهم هذا التحرير، وإلى أن يجيء اليوم الذي يصبح فيه الإيمان العالمي بالقيم الخلقية كفيلًا وحده بتحرير الناس من الخوف يجب أن نرد هذه الكفالة إلى أسباب وقوى أساسها التعاون الدولي على هذا التحرير.