الإسلام والتحرر من الخوف
(١) عصبة الأمم ومخاوف الناس
لما أعلنت أمريكا الحرب على دول الوسط في الحرب العالمية الأولى، كان الرئيس ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة إذ ذاك، وكان رجل مبادئ يؤمن بها ويقررها عن عقيدة واقتناع، وكان من عباراته المأثورة عن تلك الحرب أنها أثيرت لإنهاء الحروب كلها، وأن الغرض منها أن يكون العالم آمنًا لاستقرار الديمقراطية فيه.
وكانت فكرة عصبة الأمم مما أريد به إنهاء المنازعات بين الدول بالتحكيم، فلما وضعت تلك الحرب أوزارها وانعقد مؤتمر السلام وألحق عهدة العصبة بمعاهدة فرساي، رأت أمريكا في هذه العهدة خروجًا بها على مبدأ منرو، وجرًّا إياها إلى المعترك الدولي، بمقدار لا مصلحة لها فيه، فرفضت العهدة ولم تنضم إلى العصبة.
مع ذلك تألف عصبة الأمم، وعلق الناس على تأليفها كبير الرجاء في أن تحل المنازعات الدولية بالتحكيم، وأن تفرض العقوبات على من يخالفها، بذلك اطمأنت مخاوفهم من وقوع حرب جديدة.
وزادهم اطمئنانًا أن الدول الكبرى أخذت تعمل على تحديد التسليح، تريد الوصول إلى الحد الأدنى منه، فانعقدت المؤتمرات المتعاقبة، واتخذت فيها قرارات زادت الناس أمنًا من الخوف، ومع أن موسوليني قام في إيطاليا منذ سنة ١٩٣٣، فألغى النظام الديمقراطي وأقام النظام الفاشستي على أنقاضه، لم يدُر بخاطر أحد يومئذ أن تهدد إيطاليا سلام العالم أو تخرج على ما تقرره عصبة الأمم.
فلما تولى هتلر أمر ألمانيا، وجعل يقوي فيها روح القومية الجرمانية، بدأت مخاوف بعض الساسة تثور، بينما بقي أكثرهم يرى فيه وفي عمله لرقي ألمانيا عنصرًا من عناصر السلام. ولم تمضِ سنوات حتى بدأت ألمانيا تعلن عن حاجتها لمجال أوسع من حدودها التي رُسمت في معاهدة فرساي، ثم بدأت تفكر في ضم الجنس الألماني في أوروبا تحت كنفها؛ فضمت إليها النمسا، ثم ضمت السوديت، ثم طالبت بدانزج وبالممر البولوني.
عند ذلك رأت إنجلترا أن الأمر لم يبقَ مقصورًا على طلب ألمانيا لمجال حيوي يظهر فيه نشاطها، وأنها تريد التحكم في أوروبا للتحكم بعد ذلك في العالم، فكانت الحرب العالمية الثانية نتيجة لتطور الحوادث في أوروبا بين سنة ١٩٣٥ وسنة ١٩٣٩.
(٢) التفكير في منع الحرب
ومنذ بدأت الحرب الثانية عاد الناس يفكرون في الوسيلة لاتقاء الحرب، ولذلك كان التحرر من الخوف رابع المبادئ التي وقعها الرئيسان روزفلت وتشرشل في ميثاق الأطلنطي. والتفكير في اتقاء الحرب في المستقبل يشغل بال الناس جميعًا إلى اليوم، ولذلك كثرت المؤلفات التي وضعت تصويرًا لهذا التفكير كثرةً تزيد على أضعاف مثلها في الحرب العالمية الأولى، وللناس عن التفكير في هذا الأمر أكبر العذر، فما تدمره الحرب من أموال وأرواح مزعج مروع، ولا يقاس الدمار الذي تم في حروب نابليون كلها بما وقع من الدمار في أي عام واحد من أعوام الحرب الأخيرة.
والعلم يكشف كل يوم عن جديد، هو في السلم نعمة وأداة رفه وخير، وهو في الحرب نقمة وأداة دمار وموت. فإذا اطرد تقدم العلم ووقعت حرب كبرى ثالثة فلن يقف تدميرها عند حد، ولن تودي بالحضارة الأوروبية أو بالحضارة الغربية وكفى، بل ستودي بكل ما في العالم من مظاهر التقدم وآثار الإنسانية، لا عجب وذلك هو الشأن أن يعظم التفكير في اتقاء الحرب في المستقبل.
وليس من غرضي أن أشير إلى ما أُبدي من الآراء لضمان السلام في المستقبل، فالإشارة إلى هذه الآراء لا يكفيها مثل هذه الدراسة ولا تكفيها عدة دراسات. فهل تتفق مقررات الإسلام ومبدأ التحرر من الخوف اتفاقًا يطوع للأمم الإسلامية أن تشترك في المجهودات التي تُبذل في سبيل هذا الغرض من جانب الأمم التي تدين بغير الإسلام؟
وليس يكفي في الإجابة عن هذا السؤال أن أقول إن مقررات الإسلام لن تتنافى مع هذا المبدأ ولا تحول بين الدول الإسلامية والاشتراك في المجهود الذي يُبذل لتحقيق هذا الغرض الإنساني العظيم، بل أقول في صراحة وقوة إن مقررات الدين الإسلامي تفرض على الدول الإسلامية الحريصة على حريتها وحرية الشعوب جميعًا أن تشترك في كل مجهود يُبذل في تحقيق هذه الغاية حماية لشعوب الأرض كلها من أن تكتوي بنار الحرب وأن تنزل بها ويلاتها كرةً أخرى.
(٣) الإسلام دين سلام
فالإسلام دين سلام ودعوة للسلام، والقرآن صريح في إنكار حرب الاعتداء صراحته في الدعوة إلى الجهاد لدفع الاعتداء.
فإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فالإسلام صريح في وجوب دعوتهما إلى السلم، فإن فاءتا فبها، وإلا وجب مقاتلة الطائفة التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت وجب الإصلاح والصلح خير. فإذا أمكن اتقاء الاعتداء قبل وقوعه، وأمكن تنظيم هذا الاتقاء، كان واجبًا أن تشارك الأمم الإسلامية فيه، وألا تتردد لحظة في النهوض بنصيبها العدل من أعبائه.
ولا يُعتَرَض على هذا بأن خطاب القرآن وجه فيه للمؤمنين، فللمسلمين صلات بسائر الأمم يجب أن تنظم، وقد عُقدت معاهدات صلح كثيرة في العصور المختلفة بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول، وفي بعض هذه المعاهدات أقرت بعض الدول الإسلامية امتيازات للأجانب الذين يعيشون في أرضها، مبالغة منها في إظهار محبتها للسلم وحرصها عليه.
والواقع أن هذه الحرية الرابعة والتي يُراد بها تحرير الناس من الخوف، هي وحدها التي تكفل طمأنينة الناس في أرجاء العالم كله إلى تلافي الحرب من الثلاث الأخرى السابقة التي تحدثنا عن اتفاقها مع مقررات الإسلام.
فالاعتداء والتأهب له والخوف منه هو وحده الذي يحتج به من يشاء للحد من حرية العقيدة ومن حرية الرأي، وهو الذريعة التي يطالب الناس باسمها أن ينزلوا عن الحد الأدنى لمستوى المعيشة الإنساني، وإنما ازدهرت الحرية العقلية والحرية الروحية في القرن التاسع عشر لأن الناس اطمأنوا إلى ما تؤدي إليه سياسة توازن القوى من منع الحرب.
وقد تبين أن سياسة التوازن هذه إنما تؤجل الحرب ولا تمنعها، ولذلك أدت إلى الحربين العالميتين اللتين أقضتا مضجع الإنسانية في هذا القرن العشرين.
ومن يوم نشبت الحرب العالمية الأولى، بدأت الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية، فلم يستقر لحرية في العالم قرار، ولهذا اتجه الناس في مختلف الأمم يلتمسون الوسيلة لمنع الحرب وإقرار السلام.
مع ذلك نشبت الحرب الأخيرة، فجرَّت على العالم ما جرَّت من ويلات ودمار وموت، وجعلت الناس يعيشون في جو مكهرب لا قرار فيه لشيء، ولا يعرف أحد فيه ما كُتب له في غده. وليس مما يسيغ العقل أن يخرج الناس من نكبة ليقعوا في نكبة شر منها، إلا أن يكون صوابهم قد طاش وهواهم قد ضل، ولهذا كان التفكير من جديد في منع الحرب أعظم ما يشغل بال الناس جميعًا في كل الأمم. فإذا لم يكن منع الحرب بتاتًا أمرًا تطيقه الطبيعة البشرية، فلا أقل من تأجيلها أجيالًا متعاقبة تتقدم أثناءها الإنسانية وينضج خلالها ضميرها، حتى يكون أحفادنا أسعد حالًا منا.
(٤) دعوة الإسلام إلى حياة أفضل
وهذه الغاية هي بذاتها غاية الإسلام وغاية المصلحين الذين قاموا خلال العصور في مختلف الأمم، يدعون الناس إلى حياة خيرٍ من حياتهم وإلى فضائل خيرٍ من فضائلهم. وقد كان الجهد الذي بُذل في هذا السبيل مقصورًا في الماضي على أمة أو طائفة من الأمم؛ لأن أسباب الاتصال العالمي لم تكن ميسورة، ولأن أجزاء غير قليلة من أرضنا كانت مجهولة لآبائنا وأجدادنا.
أما اليوم، وقد جمعت أسباب الاتصال أجزاء العالم، ويسرت سُبُل التفاهم، فمن حقنا أن يعظم أملنا في أن يكون الناس أسعد غدًا مما كانوا بالأمس، وأن يكونوا أشد حرصًا على استدامة هذه السعادة فلا يسمحون لرجل أو لأمة أن تهددها أو تهدرها بحرب جديدة.
وكيف لا يحرص الناس على استدامة سعادة قوامها حرية الرأي والتعبير عنه، وحرية العقيدة وإقامة شعائرها والتحرر من العوز، والتحرر من الخوف؟!
لقد جاهد العالم منذ مئات السنين وألوفها ليحقق لبنيه شيئًا فشيئًا هذه الحريات، وقد بذل من الجهد والدماء في هذا الجهاد العنيف الطويل ما يسجله تاريخ الإنسانية من مبتداه إلى وقتنا الحاضر.
وقد ثبت في صحف هذا التاريخ أن كل نكسة كانت تصيب العالم فيما كسب من جهاده، كانت تؤدي إلى أعظم الويل، وكان الناس يدفعون ثمنها غاليًا، ثم إن هذه النكسات كانت تحدث لأن بعض الشعوب كانت تتمتع بهذه الحريات وكان بعضها لا يجد الوسيلة إليها.
أما وقد أقر الناس جميعًا في كل الأمم بما لكل إنسان من حق في أن يتعلم وأن يُقدِّر ما له وما عليه، فإن هذه الحريات الأربع ستسرع إلى الانتشار، وسيؤمن بها كل إنسان أينما وُجد من أرجاء الأرض، وسيرى واجبًا عليه أن يدافع عنها إذا حدَّثت معتديًا نفسُه أن يعتدي عليها.
فإذا استقر هذا الشعور في النفوس، وبلغ منها مبلغ الإيمان، قضى هذا الإيمان وحده على فكرة الاعتداء، وقرب بين بني الإنسان في أرجاء العالم كله، فعاش الناس بفضل من الله إخوانًا.
ألمح في خاطري هذا اليوم السعيد يبزغ فجره، ويعم نوره، ويستمتع أبناؤنا وحفدتنا بنعمته، فتمتلئ نفسي ابتهاجًا وغبطة. ولعل هؤلاء الأبناء والحفدة يحدث بعضهم يومئذ بعضًا فيقول أحدهم لأصحابه: «ما أكثر ما في العالم من خير يكفي أبناءه جميعًا ليعيشوا في أمن ورغد، سعداء بعلمهم وبثمرات هذا العمل، فما بال آبائنا كانوا يتناحرون ويقتتلون، فيقتل بعضهم بعضا؟»
ولعل منهم يومئذ من يقسو في الحكم علينا ويتهمنا في منطقنا وفي رأينا، ولو أنصفونا لذكروا أن ما ينعمون به من سعادة إنما هو ثمرة هذا التناحر وهذا القتال، وما ابتلينا به خلال القرون من ألوان الشقاء والبؤس، ولقال حكيمهم: «ما أشبه ما ناء به آباؤنا من ألم بمخاض الأم حين تضع وليدها، فإذا أثمر هذا المخاض وليدًا جميلًا نما وترعرع، وسعدت الأم به وبآلامها في سبيل وضعه! ويقدِّر هذا الحكيم من حفدتنا سعادة أرواحنا يومئذ في ظل الله.»
فليثمر ما تنوء به الإنسانية، وما ناءت به خلال الأجيال من آلام، هذا العالم السعيد يقول فيه أبناؤنا: «ربنا أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام».