الأماكن المسيحية المقدسة
(١) كنيسة المهد
تناولت الفصول السابقة عن الأماكن المقدسة بالشرق الأوسط إلمامات عن بيت الله الحرام وعن المسجد الحرام بمكة، وعن المسجد النبوي بالمدينة، وعن المسجد الأقصى ببيت المقدس، وهذه الأماكن المقدسة إسلامية كلها.
فلننتقل بالحديث الآن إلى الأماكن المسيحية المقدسة بفلسطين، وسنكتفي بأن نتناول مكانين اثنين منها: كنيسة المهد ببيت لحم، وكنيسة القيامة ببيت المقدس.
كان في وسعنا أن نتحدث عن أماكن أخرى بفلسطين لها قدسيتها عند المسيحيين، لكننا قصرنا حديثنا حتى الآن على الأماكن المقدسة التي لقيت على تعاقب الأجيال من العناية بعمارتها ما رأيت. ولم يلقَ أثر مسيحي من هذه العناية بفلسطين ما لقيت كنيسة المهد، وكنيسة القيامة.
ولا عجب أن يلقيا كل هذه العناية، وإحداهما تقوم ذكرًا لمولد عيسى، والأخرى تقوم ذكرًا لدفنه قبل الصعود، ومولد عيسى وقصة صلبه ودفنه وصعوده معجزتان على التاريخ، من أروع ما قص التاريخ.
مولد عيسى
فمولد عيسى معجزة في الإسلام، كما أنه معجزة في المسيحية، فقد نفخ الله من روحه في مريم، فحملت فولدت عيسى، فكان ذلك آية من آيات الله. وفي ذلك يقول تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا.
والرواية المسيحية تجري بأن مريم وضعت عيسى، لما أحست قر الشتاء عقب وضعه حملته إلى مزود قريب منها كانت الأبقار تأكل فيه، أرادت بذلك أن يبعث إليه تنفس الأبقار من الدفء ما يقيه قارس البرد في ذلك الفصل القرير. أما رواية القرآن لمولد عيسى فهي: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا. تُرَى هل حملت مريم طفلها بعد ذلك إلى مزود الأبقار لينال ما ابتغت له من الدفء؟ ذلك ما لا محل الآن للكلام فيه.
هيرودس يقتل الأطفال
ذكروا أن هيرودس — حاكم فلسطين من قِبل روما في ذلك العهد — رأى في منامه رؤيا أفزعته، فطلب إلى أهل العلم بالأحلام أن يفسروا له ما رأى، فذكروا له أن من بين الأطفال الذين ولدوا في الأعوام الخمسة الأخيرة طفلًا سيكون له شأن يقض مضجع الإمبراطورية ويسوء أثره فيها. ورأى هيرودس أن الخير في قتل الأطفال الذين ولدوا في هذه الفترة جميعًا، وقتلهم ودفنهم في مغارة ببيت لحم. وكان عيسى قد ولد في هذه الفترة، ففرت به مريم إلى غار أقامت به حتى فرغ هيرودس من ارتكاب جريمته وقتل من قتل من الأطفال، ثم إنها تحملت بابنها ممتطية حمارًا وسارت به ومعها يوسف النجار حتى بلغت مصر، وهناك أقامت ثلاث سنوات في رواية، واثنتي عشرة سنة في رواية أخرى، ثم عادوا بعد ذلك إلى مسقط رأسه ومقر آبائها وأهلها بفلسطين.
أين ولد عيسى؟
أين ولد عيسى؟ المقرر أنه ولد ببيت لحم، على مقربة من بيت المقدس، وسترى خلال هذا الحديث تحديد المكان الذي ولد فيه، لكنَّ قومًا يذهبون إلى أنه ولد بالناصرة، ويستدلون على ذلك بنسبته إليها. أليس هو عيسى الناصري؟ لكن أصحاب الرأي المقرر لا يترددون في القول بأن تسميته عيسى الناصري لا ترجع إلى مولده بالناصرة، وإنما ترجع إلى مقامه بها، وقيامه بتعاليمه فيها، وإلى ما نُسب إليه من المعجزات في بحيرة طبرية التي تقع الناصرة عليها.
ولسنا نأخذ بنصيب في هذا الجدل الذي ثار حول مولد عيسى، كما ثار حول مولد الأنبياء والعظماء في مختلف العصور، وغاية ما نذكره أن المدة التي انقضت بين مولد المسيح — عليه السلام — وبين إقامة الهيكل الذي شاده الإمبراطور قسطنطين تذكارًا لهذا المولد، هذه المدة تزيد على ثلاثمائة سنة.
هيكل قسطنطين
والهيكل الذي شاده قسطنطين هو النواة التي شُيدت حولها كنيسة المهد على ما نراها اليوم، وكنيسة المهد هي الأثر الذي يذكر مولد السيد المسيح كما تقدم، وعلى مقربة منها تقوم مغارة أطلق عليها اسم مغارة الحليب، يذكرون أنها هي التي أوت إليها مريم، وأقامت بها مع ابنها، بينما كان هيرودس يقتل الأطفال الذين ولدوا في الفترة التي ولد فيها المسيح. وهذه المغارة جديرة بأن نقف بالقارئ وقفة قصيرة عندها، بعد أن نتم حديثنا عن كنيسة المهد.
قدمنا أن هذه الكنيسة أُنشئت حول الهيكل الذي أقامه الإمبراطور قسطنطين بعد ثلاثة قرون من مولد السيد المسيح ذكرًا لهذا المولد، ولم يكن الموضع الذي أقيمت به خلاءً يوم أقام قسطنطين الهيكل، بل كان به معبد لادونيس — أقيم في عهد الإمبراطور هادريان — فأمر به قسطنطين فهُدم، وقام الهيكل المسيحي مكانه. وسنرى حين الكلام عن كنيسة القيامة التي أقامها قسطنطين كذلك أنها قامت على أطلال معبد أقامه هادريان ببيت المقدس لعبادة الزهرة، أمصادفة هذه؟ أم هي دليل على أن هادريان كان يتعقب آثار المسيحية ويقيم فيها المعابد الوثنية، ليعفي على الدين الجديد قبل أن يستفحل أمره؟
كان الهيكل الذي أقامه قسطنطين جميلًا، ولكنه لم يكن فسيح الجنبات، فلما آل أمر الإمبراطورية إلى جوستنيان، أقام مكان الهيكل معبدًا أفسح رقعة وأكثر بهاء. ولما انشعبت المسيحية إلى شعبها المختلفة، بدأت كل شعبة تبني في هذا المكان المقدس، وحول الكنيسة الأولى، ما طاب لها البناء. ومباني طوائف الروم واللاتين والسريان ما تزال قائمة إلى اليوم، وما يزال لاختلاف هذه الطوائف أثره في شعائر كنيسة المهد.
مغارات الكنيسة
وكنيسة المهد اليوم فسيحة الجنبات مترامية الأطراف، وأفنيتها تقوم فوق مغارات كثيرة، يروي لك الموكلون بها شيئًا كثيرًا من القصص المنسوب لها. فواحدة من هذه المغارات يطلق عليها اسم مغارة الأطفال، وتذكر قصتها أنها المغارة التي دفن هيرودس فيها من أمر بقتلهم من الأطفال تفسيرًا للحلم الذي أسلفنا أنه رآه. ومغارة أخرى بها صورة زيتية لقديس قيل إنه القديس جيروم الذي قضى بهذه المغارة ثلاثًا وعشرين سنة يترجم الإنجيل. وبين هاتين المغارتين وحولهما مغارات أخرى زُيِّنت كل واحدة منها بصورة زيتية تمثل المشهد الذي تخلد المغارة ذكره.
تقع مغارة المهد على مقربة من مغارة الأطفال، ومغارة المهد قبو ضيق يهبط إليه الإنسان على دَرَج نُقر في الصخر، وهذا الدرج يصل بين المغارة وبين مذبح كنيسة المهد وهيكلها، وقد نقرت في الصخر إلى جانب هذا القبو فجوة ترتفع إلى قامة الإنسان وُضعت فيها صورة العذراء، وثبتت في مكان منها نجمة من الفضة تحدد المكان الذي قررت الطوائف المسيحية أنه مكان مولد المسيح، وهو لذلك مكان مبارك عند الطوائف كلها. وكثيرًا ما كانت بركته سبب منازعات دامية بين الطوائف المختلفة، ابتغاء الاستئثار بهذه البركة.
المزود
يقابل نجمة الميلاد حوض من الحجر موضوع في الأرض، يذكرون أنه المزود الذي كانت الأبقار تأكل فيه، حين وضعت مريم طفلها ثم نقلته إلى المزود اتقاء البرد القارس. ولا أظن أحدًا يذهب إلى أن هذا الحوض من الحجر، هو المزود الذي وُضع المسيح فيه بالفعل؛ فقد رأيت أن أول صورة لكنيسة المهد لم تكن إلا بعد ثلاثة قرون من وفاة السيد المسيح، وأن معبدًا أقامه أدونيس في هذا المكان، قبل بناء الكنيسة المسيحية لأول مرة.
وهذا الحوض من الحجر الذي يمثل المزود، ينحدر دون نجمة الميلاد قرابة مترين، ويبعد عنها نحو ثلاثة أمتار. أفيكون هذا لأن مريم كانت فوق أكمة ساعة الوضع، وأن الأبقار ومزودها كانت في سفح هذه الأكمة؟ أم أن مريم كانت في مغارة هي محرابها الذي أشار إليه القرآن، وأن الأبقار كانت في بطن من الجبل دون المغارة؟ هنا يجب أن أقول: الله أعلم!
فجوتان عجيبتان
ليست كثرة المغارات في هذا الموضع مثارًا لعجبٍ، فهو جبل منبسط السطح، يرتفع ثمانمائة متر فوق سطح البحر، وتقوم بيت لحم على سطحه، ولعل مغاراته الكثيرة تفسر لنا أمرًا يحار الإنسان أول الأمر في تفسيره، فأنت إذ تدخل من باب الكنيسة إلى البهو الذي يفصل بين الباب ومذبح الكنيسة وهيكلها، ترى في أرض البهو بابين يستوقفان نظرك، فإذا فُتِح أيٌّ من هذين البابين ألفيته يغطي فجوة أشبه شيء بالمغارة أو الجب، فإذا أضيئت هذه الفجوات رأيت أرضها من الفسيفساء المنقوشة نقشًا بديعًا يمثل الفاكهة والنبات والطير وما إليها.
وقد كشف هاتين الفجوتين — منذ أمد بعيد — مهندس فرنسي كان يقوم بترميم بعض الأجزاء في أعلى الكنيسة، ويظهر أنه كان قد وقع في قراءاته على ما هداه إلى أن هذه الكنيسة تقوم فوق آثار كنيسة سبقتها، كما هداه إلى موضع هذه الفسيفساء. وقد حفر في هذين المكانين اللذين تقوم الأبواب فوقهما فصدق ظنه، ولم يحفر في غيرهما لأن قراءاته دلته على أن ليس في غيرهما ما يهدي الحفر إليه.
قلت إن الفجوتين تقعان في البهو، بين باب الكنيسة ومذبحها وهيكلها. والمذبح والمعبد لكنيسة المهد آية في الإبداع والروعة الفنية، فضلًا عن قيمتهما لما يحتويان عليه من تماثيل وآنية من الذهب أهداها المؤمنون الذين بسط الله لهم في الرزق طلبًا للمثوبة، وابتغاء المزيد من سعة الرزق.
باب الكنيسة
أما باب هذه الكنيسة، فأمره عجب، لقد ألف الناس في أبواب الكنائس بهاء وعظمة وجلالًا، وألفوا فيها دقة في الفن توازي سائر أجزاء الكنيسة أو تزيد عليها. وكنيسة المهد من أفخم الكنائس وأفسحها رقعة وأكثرها مهابة، أما بابها فأعجوبة من الأعاجيب، فهذا الباب أدنى لأن يكون فجوة ضيقة لا يمكن أن تكون بابًا لمعبد من المعابد بالغًا ما بلغ صغره، وأنت حين ترى هذا الباب لا يذهب بك الظن إلى أنه أكثر من مدخل لصومعة راهب من الرهبان نذر الرواقية والتقشف. وكيف يزيد على ذلك، وهو دون قامة الإنسان ارتفاعًا، ولا يمكن لأكثر من رجل واحد أن يدخل منه حانيًا رأسه؟!
وإنما دعا لبناء الباب بهذا الضيق، ما ذكرنا من أن طوائف الروم واللاتين والسريان قد اشتركت على الأجيال في بناء هذه الكنيسة والمنازل المحيطة بها، وأن بين هذه الطوائف من الخلاف ما تخشى مغبته إذا ثار، فلكل طائفة من هذه الطوائف حقوق في الكنيسة، إذا اعتدت طائفة أخرى عليها كانت الثورة الدامية؛ لذلك تحرص الحكومة على ألا تدع لأسباب الخلاف أن تثور، وعلى ألا يدخل الكنيسة إلا من تريده أن يدخل.
صورتان من الخلاف الطائفي
ولتتبين لك صورة من هذا الخلاف، أعود بك إلى ذِكر نجمة الميلاد، فهذه النجمة كثيرًا ما كانت تُنزع من مكانها حين كانت تتقرب طائفة بنجمة أخرى مصنوعة من الذهب أو مرصعة بالماس، وعند ذلك كانت الطوائف تختلف على ملكية النجمة؛ لذا وضعت السلطات هذه النجمة من الفضة حتى لا تدعي طائفة ملكيتها.
وصورة أخرى لخلاف الطوائف، بساط ممدود إلى جانب أول عماد من عمد الكنيسة، قائم إلى يسارك بعد دخولك من بابها الضيق، هذا البساط لا يستطيع أحد تقديمه أو تأخيره عن المكان الذي هو به، أو تلتحم الطوائف التحامًا داميًا، فلكل طائفة موضع من البساط أو حوله، إن تقدمت أو تأخرت عنه مست حقًّا لطائفة أخرى. وتنظيف البساط وكنس ما حوله مقررة فيه حقوق الطوائف، كالبساط نفسه، فلا يجوز لطائفة أن تكنس التراب من موضع ليس لها، أو تُتهم بأنها تسعى إلى حق تغصبه غيرها. وتحافظ الحكومات على حقوق الطوائف محافظة دقيقة، مخافة ما يجره التفريط فيها أو الاعتداء عليها من نتائج وخيمة العاقبة.
مغارة الحليب
تقع مغارة الحليب قريبة من كنيسة المهد، وهي أكثر سعة من المغارات القائمة تحت الكنيسة المذكورة. وتختلف المغارة في تنسيقها الحالي عن سائر مغارات الكنيسة، وإن تشابهت جميعًا في طبيعتها، ففي أول مغارة الحليب — بعد المدخل — تمثال صغير للعذراء والمسيح ممتطيين حمارًا يسير بهما إلى مصر، ويسير إلى جانبه رجل لعله يوسف النجار، وينحدر الإنسان إلى كنيسة صغيرة يخال أنها منقورة في الصخر، وإن هبط إليها ضوء النهار من أعلاها، وإلى جانب الكنيسة الأيمن صورة كبيرة للعذراء. وهذه الآثار كلها تضيئها الكهرباء مختلف ألوانها، فتلقي عليها بهاء لا مثيل له في مغارات الكنيسة الكبرى.
ليس لمغارة الحليب من القدسية ما لكنيسة المهد بطبيعة الحال، وليس في كنيسة المهد مكان أكثر قدسية من مكان المهد نفسه، وليس يزيد على كنيسة المهد في القدسية غير كنيسة القيامة ببيت المقدس.
(٢) كنيسة القيامة
أشرنا إلى معجزة الله في مولد عيسى، وكنيسة المهد تقوم ببيت لحم ذكرًا لهذا المولد ولهذه المعجزة، أما كنيسة القيامة، فإنها تقوم ذكرًا للرواية المسيحية عن صلب المسيح وصعدوه إلى السماء، وقصة الصلب والصعود معجزة — هي الأخرى — جديرة بالذكر، وبأن يقام لها هذا الأثر الفخم الذي يحج إليه المسيحيون من أقطار الأرض جميعها، والذي كان مثارًا للحروب الصليبية التي امتدت على القرون.
والإسلام والمسيحية يختلفان في صلب المسيح، وإن أمكن التوفيق بينهما في قصة الصعود، وليس يرجع الخلاف على قصة الصلب إلى خلاف على مقدماتها وما سبقها، ولا إلى خلاف على واقعتها، بل يرجع إلى وقوع الصلب على شخص المسيح نفسه. أما الصعود، فقد ورد ذكره في القرآن في غير موضع، إذ يقول تعالى يخاطب المسيح: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ويقول: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.
قصة الصلب
لا يقع الخلاف في قصة الصلب على مقدماتها، فالمسيح كلمة الله ورسوله، عند المسلمين وعند المسيحيين، أرسله الله إلى قومه بفلسطين حين حكمتهم روما حكم بطش واستبداد، وحين فرقت كلمتهم، وجعلت للأغنياء وذوي المكانة سلطانًا على الفقراء وعلى الشعب يسومونه سوء العذاب. ولم يكن شعب فلسطين يومئذ قد استسلم إلى المذلة ورضي حكم الرومان، بل كانت أسباب الثورة تضطرب بها أحشاء البلاد كلها، وكان الناس هناك يؤمنون بأنهم سيتحررون من نير روما، بل سيحكمون العالم بدورهم عما قريب.
فلما قام المسيح بينهم وجعل يذيع تعاليمه فيهم، بدأت السلطات تخاف أثره، وبدأ الأغنياء وذوو المكانة ورجال الدين من اليهود يناوئونه، على أن سخطهم عليه وثورتهم به لم يبلغا ذروتهما حتى جاء بيت المقدس. أما حين كان يلقي تعاليمه على أتباعه متنقلًا من الناصرة إلى الجليل إلى غيرهما من البلاد، فيتناقلها الناس ويذيعون بينهم معجزاته، فقد كان البرم به محصورًا في دائرة ضيقة، فلما دخل بيت المقدس بعد أن ذاعت في الناس معجزاته وتعاليمه، خشي اليهود مغبة ما يصيبهم إذا استفحل أمره، وزينوا للحاكم من قِبَل روما ما جعله يعتقد أن المسيح يضلل الناس بما يزعم من إحياء الموتى وإبراء المرضى وإعادة الصواب إلى ذي الجِنَّة، وجيء بعيسى، وحوكم فحُكِم عليه بالموت. وكانت عقوبة الإعدام تُنفذ بالصلب في مصر وروما وفلسطين، وغيرها من البلاد المجاورة لها، وصُلب عيسى، ودُقت المسامير إلى يديه وساقيه، فسال دمه، فافتدى به خطايا الخلق. فلما مات ورُفع من فوق الصليب أُودِعَ قبرًا هو الذي تقوم كنيسة القيامة اليوم ذكرًا له. وبعد ثلاثة أيام من دفنه عاد إلى أصحابه حيًّا، فأمرهم أن يتفرقوا في الأرض فيذيعوا في الناس تعاليمه. وتفرق الحواريون، واتبعهم من اتبعهم، وظلوا يُسَامون في روما وفي غير روما ألوان العذاب، حتى لان قلب العاهل الروماني قسطنطين إلى المسيحية فاعتنقها، وكان أول من أمر ببناء كنيسة المهد وكنيسة القيامة.
هذه إلمامة سريعة عن صلب المسيح، كما يصور في الأناجيل وفي التواريخ المسيحية. أما الروايات الإسلامية، فتنفي أنه صُلب وإن لم تنفِ ما سبق الصلب، وهي تنفي الصلب بقوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.
ويقول المؤرخون المسلمون إن اليهود ضاقوا ذرعًا بالمسيح، فشكوه إلى الحاكم الروماني، فأمر بالقبض عليه، فلم يعثر به الباحثون عنه، وإنما عثروا برجل يشبهه، فساقوه إلى المحاكمة مربوطًا في حبل، وجعل اليهود يقولون له: «إن كنت تحيي الموتى أفلا تخلص نفسك من هذا الحبل؟» ثم يوجهون إليه ألوان الأذى والإساءة، فلما صُلب ومات استوهبه يوسف النجار من الحاكم الروماني فيلاخوس ودفنه في قبر كان يوسف أعده لنفسه.
ليس المقام هنا مقام تفصيل لصعود عيسى، أكان بجسده أم بروحه، وما وقع على ذلك من خلاف، فنحن إنما سقنا ما تقدم تمهيدًا للحديث عن كنيسة القيامة التي أقيمت ذكرًا لدفن عيسى في القبر الذي رُفع منه إلى الله بعد أن توفاه.
هيكل لادونيس
سبقنا إلى القول — حين حديثنا عن كنيسة المهد ببيت لحم — إن قسطنطين بنى المعبد الأول لذكر الميلاد ببيت لحم بعد وفاة عيسى بثلاثمائة سنة، وإنه بنى هذا المعبد في المكان الذي كان يقوم فيه هيكل لادونيس بناه هادريان، ومثل ما حدث ببيت لحم لكنيسة المهد حدث ببيت المقدس لكنيسة القيامة؛ فقد بنى هادريان عدة مساجد وثنية أثناء حكمه، ومن بين هذه المعابد معبد لأفروديت أو الزهرة ببيت المقدس، وكان بناء هذا المعبد الوثني في سنة ١٣٥ ميلادية، فلما تولى قسطنطين إمبراطورية روما، واعتنق المسيحية بعد ست سنوات من إمبراطوريته، شن حروبًا عدة حالفه النصر فيها، وكان يعتقد أن الصليب سبب انتصاره؛ ولذلك عول أن يبحث عن مكان صلب المسيح وعن مكان مولده، واهتدى الباحثون إلى أن مكان المولد كان حيث يقوم هيكل لادونيس، وأن مكان الصلب كان حيث يقوم هيكل أفروديت. أترانا نستنتج من هذا أن هادريان عرف مكان مولد المسيح ومكان صلبه ودفنه، فأقام فيهما هذين الهيكلين ليعفي على آثار المسيحية الناشئة، أم أن الأمر يرجع إلى محض المصادفة؟ يقول الباحثون إنه محال القطع في هذا الأمر برأي يستند إلى سند علمي.
مكان الصلب والدفن
قرر الإمبراطور قسطنطين أن يقيم كنيسة حيث صلب المسيح، ومن حيث صعد إلى السماء، فعهد بالبحث عن مكان الصلب والدفن والصعود إلى القس مكاريوس. وقرر هذا القس أن المكان الذي كُلف بالبحث عنه يوجد تحت الهيكل الذي أقامه هادريان للزهرة. وأمر الإمبراطور فهدم الهيكل، فوجد قبرًا منقورًا في الصخر، وعلى مقربة من هذا القبر إلى ناحية الشرق وجدت صلبان ثلاثة لوحظ أن أحدها يشفي المرضى، فلم يبقَ شك في أنه هو الذي صُلب عليه المسيح، وأن القبر المنحوت في الصخر هو الذي دُفن فيه بعد صلبه. وأُبلِغ هذا الاكتشاف إلى الإمبراطور قسطنطين، فأمر مكاريوس أن يقيم عمائر فخمة في هذا المكان المقدس.
نقف هنيهة قبل الكلام عن عمارة كنيسة القيامة من ذلك العهد، فنذكر أن كثيرين أبدوا الريبة في صحة هذا الاكتشاف الذي أعلنه مكاريوس إلى الإمبراطور، وأن كتبًا وبحوثًا نشرت للتدليل على هذا الرأي، وليس في إبداء هذا الرأي ولا في نشر تلك البحوث عجب، وقد نشر مثلها في أمر كثير من الأماكن المقدسة في أديان مختلفة، ونشر مثلها في أمر كثيرين من العظماء، ومن يذكر التاريخ أنهم وجهوا العالم في عصرهم وجهة جديدة. فإذا ذكرنا أن مكاريوس بدأ بحثه عن مكان الصلب ومكان الصعود بعد وفاة المسيح بثلاثة قرون، وأن الحرص على تحديد هذين المكانين كالحرص على تحديد مكان مولده عليه السلام، كان أقوى في نفسه من الحرص على الأسانيد العلمية في البحث، التمسنا له ولأمثاله من العذر حسن نيتهم من ناحية، وشدة توقهم لقيام معبد يذكر الناس بهذه الأحداث الجليلة في حياة العالم الروحية من الناحية الأخرى.
أبلغ مكاريوس اكتشافه إلى الإمبراطور قسطنطين، فأمره الإمبراطور أن يقيم عمائر فخمة ذكرًا لصلب المسيح وصعوده، وشيدت يومئذ كنيستان: إحداهما فوق القبر، والأخرى حيث وجدت الصلبان الثلاثة، وكانت هذه الثانية أكبر وأفخم. وبين الكنيستين قام مرتفع قيل إنه مرتفع الجلجنة، وسويت الأرض المحيطة بالكنيستين وأحيطت بالأبواب والعمد.
وكانت كنيسة القبر — كما بُنيت في ذلك العهد — مستديرة قامت فوقها قبة جميلة. أما كنيسة الفداء أو كنيسة الصلب، فكانت مستطيلة شُيدت فوقها قبة هي الأخرى، وأقيم الصليب الذي قيل إن المسيح افتدى عليه خطايا الخلق في المرتفع القائم بين الكنيستين.
•••
تم بناء الكنيستين سنة ٣٣٦ للميلاد، وظلتا قائمتين إلى سنة ٦١٤، إذ أصابهما الفرس بتلف جسيم، ونقلوا الصليب الأعظم إلى بلادهم، وذلك حين دخلوا بيت المقدس في حكم كسرى، على أن هذا الحكم لم يطل عهده؛ فقد انتصر هرقل على الفرس في سنة ٦٢٥، فأصلح عامله على بيت المقدس ما تلف من الكنيستين استعدادًا لدخول هرقل المدينة المقدسة ورده الصليب الأعظم إلى مكانه.
ودخل العرب فلسطين في عهد أبي بكر الصديق، ثم فتحوا بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب، فلم يتعرضوا للمعابد المسيحية بأذى، وبقيت كنائس بيت المقدس في عزها وكرامتها.
أفكانت الكنيستان قائمتين حين فتح عمر بيت المقدس، أم أنهما كانتا أدمجتا في كنيسة واحدة؟ ليس من اليسير القطع في الأمر برأي، فمنذ القرن الثامن الميلادي، لم يذكر أحد ممن حجوا بيت المقدس كنيسة الصليب، وإنما كانوا يذكرون جميعًا كنيسة القيامة، أترى هُدمت كنيسة الصليب قبل الفتح العربي أو بعده بقليل؟ أم أن كنيسة القيامة أصبحت ذات مكانة خاصة أنست الحجيج من المسيحيين الكنيسة الأخرى؟ لست أبدي في الأمر رأيًا.
•••
وفي أوائل القرن الحادي عشر أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، فهُدمت كنيسة القيامة حتى لم يبقَ منها إلا أطلال، لكن ما أصاب الكنيسة المسيحية المقدسة من هذا الشر لم يدم طويلًا، فقد استولى الصليبيون على بيت المقدس في أواخر ذلك القرن الحادي عشر، وأعادوا بناء الكنيسة على نحو من الفخامة ووسعوا رقعتها، ثم جعل المسيحيون من بعدهم يضيفون إليها على الأجيال، حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم من فسحة وفخامة وجلال.
أكثر المواضع قدسية في كنيسة القيامة موضع القبر الذي دُفن فيه السيد المسيح بين وفاته وصعوده، وهو يقع إلى يسار الداخل إلى الكنيسة، بعد خطوات من بابها. وقد بولغ في تجميل عمارته وفي تزيينه وترصيعه مبالغة تدعونا لنذكر بساطة المسيح في حياته، ولنعجب كيف تؤدي هذه البساطة إلى كل تلك الزينة، وإلى هذا التأنق الفني في نحت القبر من أبدع الرخام، وفي إضاءته على نحو لم يدر بخاطر صاحب القبر، ولا بخاطر أحد من حوارييه! ولكن فيم العجب وليست كنيسة القديس بطرس بروما دون كنيسة القيامة جلالًا وبهاء وروعة؟ وفيم العجب والمسجد النبوي بالمدينة لا يتفق جمال عمارته في شيء مع بساطته يوم شاده النبي من اللَّبِن، وجعل سقفه وعمده من جذوع النخل؟!
•••
وكنيسة القيامة — فيما وراء قبر السيد المسيح — مضرب للمثل في الفخامة والمهابة والجلال، وليست مبالغة المسيحيين في إكبارها وتعظيم عمارتها مما يوجب أية دهشة، ولا يرجع ذلك إلى مكانتها المقدسة من نفوسهم فحسب، بل يرجع كذلك إلى ما احتملوه خلال الحروب الصليبية من تضحيات جسام، جعلتهم يودعون فيها ذكر هذه التضحيات التي بُذلت نداء للعقيدة، كما ضحى المسيح بنفسه — في اعتقادهم — ليفتدي بدمه خطايا الناس جميعًا.
تمتاز كنيسة القيامة على غيرها من الكنائس بأنها لا تقتصر على الفناء والمذبح والهيكل، بل لقد أقيم بجوارها بناء متصل بها يرتفع سطحه عن سطحها. ويذكر بعض القائمين بشئونها أنه أقيم حيث المرتفع الذي صُلب عليه السيد المسيح، والذي كان يُصلب عليه من حُكم عليهم في عهده، وهذه الرواية موضع ريبة في نظر كثيرين من المسيحيين الذين يؤمون بيت المقدس، ويحاولون تحقيق مواضع الأماكن المقدسة فيها تحقيقًا علميًّا، فهؤلاء لا يذهبون مذهب من يرتاب في صحة مكان القبر، ولكنهم يقطعون بأن هذا البناء المرتفع المتصل بالكنيسة، لا يذكر مكان الصلب في كثير ولا في قليل.
وتقع إلى جوار الكنيسة كنيسة أخرى صغيرة حُفظت بها بعض آثار تُنسب إلى عهد المسيح والحواريين، وباب هذه الكنيسة يفتح إلى الفضاء الواقع أمام باب القيامة. وليس شيء من الآثار المحفوظة بهذه الكنيسة الصغيرة ثابت النسب ثبوتًا تاريخيًّا ذا قيمة، وما يرويه سدنة الكنيسة من ذلك، لا يعدو أن يكون من نوع القصص الذي يرويه سدنة كل معبد، يجذبون به قلوب المؤمنين ممن مَنَّ الله عليهم بإيمان العجائز، أو بإيمان كإيمانهم.
•••
هذان الأثران المسيحيان اللذان ذكرتهما — كنيسة القيامة وكنيسة المهد — هما اللذان يضارعان ما تحدثت عنه من الآثار الإسلامية بالحجاز وفلسطين في فن العمارة، وكما أن بالحجاز أماكن إسلامية لها من القدسية ما يستهوي إليها قلوب المسلمين الذين يؤدون فريضة الحج، فإن بفلسطين وحول بيت المقدس نفسها أماكن لها في قلوب المسيحيين قدسية كبرى.
وحسبي أن أشير من هذه الأماكن المتصلة ببيت المقدس إلى جبل الزيتون وطريق الآلام، على أنني لا أريد الوقوف عند هذه الأماكن المسيحية أو تلك الأماكن الإسلامية؛ لأنني — كما ذكرت من قبل — إنما وقفت عند الأماكن التي نالت — بحكم قدسيتها — من العناية الخاصة ما سنفسره في الفصل الأخير عن الأماكن المقدسة في الشرق الأوسط، لنستشف منه الدوافع التي حركت الوجدان الإنساني للعناية بتلك الأماكن المقدسة.
لكني أحرص قبل الحديث عن هذه الدوافع على أن أتحدث عن حائط المبكى، فهو المكان المقدس لليهود في أرض المعاد، واليهودية هي أولى الأديان السماوية الثلاثة التي نزلت بالشرق الأوسط. صحيح أن حائط المبكى لم يعمره اليهود، وما كان لهم أن يعمروه، لكنه يحدث عن معنى له من القدسية في نفوسهم ما للأماكن المقدسة التي تحدثنا عنها في نفوس المسلمين، وفي نفوس النصارى.