مبكى اليهود
(١) مبكى اليهود
أَلِفَ الناس من أهل بيت المقدس منظرًا تقع عليه أعينهم بعد ظهر الجمعة وصبح السبت من كل أسبوع على مدار السنة، منظر فذ لا مثيل له في العالم كله، هو لذلك مثار طلعة الغريب النازل بيت المقدس حاجًّا أو سائحًا، ففي هذين الموعدين من كل أسبوع تكتظ شوارع المدينة وطرقها بعدد عظيم من الرجال والنساء والأطفال، لبسوا أجمل ثيابهم على اختلاف صورها وألوانها، فمنهم لابس القفطان والقبعة، ومنهم لابس السروال والعمامة السوداء، والنساء في أزيائهن المتباينة قد لبسن أفخر ما عندهن، فقيرات كن أو ثريات، وألبسن أطفالهن أجمل ثيابهم. ويتأبط كلٌّ من هؤلاء كتابًا من كتب العبادة، ويتوجهون جميعًا وجهة واحدة، يتوجهون إلى ناحية حائط المبكى، فأولئك هم اليهود، ذاهبون يبكون.
فإذا اتبعتهم في طرق البلد المقدس بلغت معهم ذلك الحائط الغربي الباقي من الهيكل المقدس، ثم رأيتهم وقفوا جميعًا أمامه، يُقَبِّل بعضهم أحجاره ويتمسح بعضهم بها تبركًا وطلبًا للمثوبة. فإذا حان موعد البكاء رأيت ربانيهم وقف على رأسهم يحدوهم ويجيبونه. وقد صور غير واحد من السائحين الذين شهدوا هذا المنظر المثير للشجن صورة هؤلاء الباكين تسيل دموعهم على خدودهم، وتخنق العبرات بعضهم حتى يكاد يغص بها. وذكر هؤلاء السائحون حداء الرباني وجواب شعب إسرائيل، هذا الحداء وهذا الجواب اللذان لم يتغيرا من تسعة عشر قرنًا، واللذان لا يزالان يترددان كل أسبوع في أجواء بيت المقدس إلى وقتنا الحاضر.
صورة الحداء
وجدير بنا أن نروي صورة هذا الحداء وهذا الجواب للذين لم يقفوا من بعد عليهما، ليروا صورة من آلام شعب إسرائيل وآماله. وننبه قبل أن نبدأ الرواية إلى أن جواب الشعب لا يزيد في بدء النظر على هذه الكلمات: «نجلس في عزلتنا وننوح»، أما ما سوى هذه العبارة فحداء الرباني، والمنظر يجري كما يأتي:
– من أجل الجدران التي هُدمت.
– نجلس في عزلتنا وننوح.
– من أجل مجدنا الذي ذهب.
– نجلس في عزلتنا وننوح.
– من أجل الهيكل الذي صار أطلالًا.
– نجلس في عزلتنا وننوح.
– من أجل عظمائنا الذين ماتوا.
– نجلس في عزلتنا وننوح.
– من أجل رهباننا الذين قُتلوا.
– نجلس في عزلتنا وننوح.
– من أجل ملوكنا الذين امتُهنوا.
– نجلس في عزلتنا وننوح.
وقد ينقلب الحداء والجواب، في بعض هذه الاجتماعات، إلى دعاء يتبادله الرباني والشعب على النحو الآتي:
قد يختلف الحداء والجواب، وقد تختلف الأدعية في صورتها عما تقدم، لكنها جميعًا تدور حول هذه المعاني، وتعبر عن هذه الآلام والآمال. أليست هي آلام كل يهودي منذ غلبهم الرومان، وأدالوا دولتهم وهدموا هيكلهم، ثم شتتوهم في الأرض، فصاروا لا يعرفون لهم إلى اليوم وطنًا ولا مستقرًّا؟ وهم يحاولون بكل الوسائل، يرجون أن تعود لهم الدولة في أرض المعاد. وهذا النوح، وهذا الدعاء، وهذا الاستغفار، وهذا التوسل للبارئ جل وعلا، بعض تلك الوسائل، وإن كنا لا ندري بأي قدر يتعلق بهذه الوسيلة أملهم في عالمنا الحاضر.
وهذا الحائط الغربي الذي ينوحون عنده لا يزيد عن أنه بقية من جدران الحرم الذي أقامه سليمان لهيكل بيت المقدس، هذا الحرم الذي بُنيت كنيسة القيامة فوق جانب منه، وبُني المسجد الأقصى فوق جانب آخر، وبُنيت قبة الصخرة في المكان الذي كان يقوم قدس الهيكل عليه، هذه البقية الباقية من هيكل سليمان، هي الأثر الذي يحدث شعب إسرائيل عن ذلك المجد الغابر، الأثر المحطم اليوم، والذي كان شامخًا رفيع العماد في عهد مضى حين عز اليهودية وعظمة بني إسرائيل. وهذا الأثر هو الذي يريد بنو إسرائيل أن يعيدوا إليه مجده، ويلتمسون لذلك كل الوسائل.
وأنت تستطيع أن تقدِّر حزن هؤلاء الفاتحين ومبلغ عمقه، حين تذكر المجد الغابر الذي كان لهم، والذلة التي ضُربت منذ عشرين قرنًا عليهم، فبنو إسرائيل هم سلالة إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهم الذين أرسل الله إليهم موسى بكلمة التوحيد، يوم كانت الوثنية هي الدين القائم في الأمم المحيطة بهم.
(٢) الشعب المختار
كان فرعون يقول لأهل مصر: «أنا ربكم الأعلى» وكان المصريون يرون الطبيعة آلهة، فيخلعون مجالي الألوهية على كل مظاهرها، فالشمس إله، والسماء إله، والأرض إله، والليل إله. وكانت وثنية اليونان ما تزال في بدائيتها، وكانت آلهتها تتطور إلى مظاهر الطبيعة كذلك لتصبح أبولون وفينوس وسكان الأولمب جميعًا. وكانت مجوسية الفرس ترى في النار والنور مصدر الحياة، وتخصهما لذلك بالألوهية.
في هذا العالم الوثني الذي لم يتخط الشعور فيه آثار الحس المباشر، سما بنو إسرائيل إلى مراتب التجريد وألهموا سر الوجود، وهداهم خالق الكون إلى وحدانيته وصمدانيته وبذلك كانوا شعبه المختار.
وفي هذا العالم الذي كانت المعابد تقوم فيه، يُذكر فيها آمون رع بمصر، ويُذكر أبولون باليونان، وتُذكر فيها نار المجوس بفارس؛ ذهب إبراهيم موغلًا في الصحراء حتى بلغ مكة، فوضع فيها القواعد لأول بيت رفع للناس يُذكر فيه اسم الله وحده لا شريك له.
في هذه الفلاة الموحشة أقام إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت بعيدًا عن غزو الغزاة وعبث الطامعين، فلما قويت شوكة إسرائيل بعث الله كليمه موسى، فسار بمن كان منهم بمصر إلى وطن إسرائيل بكنعان من أرض فلسطين، داعيًا إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما يدعو المصريون واليونان والفرس إليه من عبادة مظاهر الطبيعة، فالطبيعة ومظاهرها ليست إلا بعض ما خلقه الله جل شأنه وتعالت أسماؤه.
•••
ولقي موسى وأهله عنتًا من فرعون وقومه، وكانت فلسطين خاضعة يومئذ لحكم مصر، فاستقلت من بعد، وتولى أمرها داود، ثم ابنه سليمان، فأقام داود النواة الأولى للهيكل المقدس، وأقام سليمان الهيكل كله في بهائه وفخامته وجلاله، أُقيم هذا الهيكل يُذكر فيه اسم الله وحده لا شريك له، وأُقيم في فخامة تضارع فخامة المعابد المصرية التي تؤلَّه فيها مظاهر الطبيعة.
(٣) حضارة إسرائيل
وآن لبني إسرائيل أن يقيموا حضارة، وأن يذكروا في الأرض اسم الله وحكمه وشريعته. بذلك أثاروا عليهم ثائرة الفراعنة وثائرة الفرس، وغزا الفراعنة فلسطين، فوجدوا في دين موسى من أثر عباداتهم ما صدهم عن محاربة هذا الدين وعن التعرض لهيكله الأقدس. وغزا الفرس فلسطين من بعد ذلك، فإذا دين إسرائيل ينكر دينهم ويتجافى عنه، لهذا أحرقوا هيكل سليمان وتركوه يبابًا.
على أن الهيكل أقيم بعد هذه الغزوات التي قام بها نبوخذ نصر، أقيم بادئ الأمر على صورة دون صورته الأولى جلالًا وفخامة، لكنَّ بناءه أعيد حين تولى هيرودس الأول حكم فلسطين باسم روما، وأعيد أفخم مما كان في أبهى عصوره وأكثرها عزًّا وأسماها مكانة.
•••
تقلبت إسرائيل — بحكم هذه الأحداث التي تعاقبت على القرون — بين عزة الجاه العريض، ومضطرب الثورة على الحكام الذين غزوها، والعمل على دفع الغزاة عن أرضهم واستعادة سلطانهم عليها ودولتهم فيها، لكنهم أبوا خلال هذه الأحداث جميعًا أن ينشروا بين الناس عقيدتهم، أو يذيعوا كلمة التوحيد في غير شعبهم، حرصًا منهم على أن يظلوا شعب الله المختار، أو سموا بفكرتهم على أن يتناولها أولئك الذين يعبدون من دون الله بعض ما خلق الله؛ لذلك ظلت اليهودية مقصورة عليهم لا تتعدى حدودهم، ثم اندس إليها من عوامل الانحلال الروحي ما يترتب حتمًا على الانحلال الاجتماعي الذي يجره الاستعمار في ذيوله؛ لذلك انصرف شعب إسرائيل عن المعاني الروحية السامية إلى هذه الحياة الدنيا، وإن بقي من أحباره ورهبانه من أقاموا على حكم التوراة، ومن احتفظوا بمميزات هذا الشعب، مميزات المثابرة، ودقة المنطق، وصفاء الذهن.
•••
كان انصراف بني إسرائيل عن شرعة التوراة في أسمى معانيها يدعو بعض هؤلاء الأحبار والرهبان ليتوقعوا قيام نبي من قومهم يبعثه الله ليعيد إليهم مجدهم ويرد السلطان لدولتهم. وكانت الإمبراطورية الرومانية إذ ذاك قد عظم أمرها في أوروبا، وآن لها أن تستقر على ضفاف بحر الروم من ناحية الشرق، بعد أن كانت يدها تمتد إليه، ثم تنقبض عنه.
وتم ذلك حين غزا بومبي فلسطين في السنة الثالثة والستين قبل الميلاد، لقد قاومت بيت المقدس وقاومت حصونُ الهيكل المقدس جيوشَ الروم مقاومة عنيفة، لكن هذه الجيوش انتهت إلى التغلب عليها، وإقرار حكم الإمبراطورية في ربوعها، على أن الروم لم يتعرضوا يومئذ للهيكل، ولم يحالوا دك قواعده، بل تركوه قائمًا واستأمنوا أهله الذين أعلنوا الخضوع والطاعة، ورضوا أن تستقر روما في أرض إسرائيل.
(٤) السيد المسيح
لم ينقضِ القرن على غزو بومبي أرض فلسطين، حتى أذن الله للسيد المسيح، فقام يدعو قومه من بني إسرائيل ليعودوا إلى الله وليدخلوا على ملكوته. وكانت دعوته بطبيعتها ثورة على انحراف اليهودية عن شرعة التوراة، كما كانت ثورة على الغزاة الظالمين. وقد لقيت هذه الدعوة مقاومة من بني قومه، ومن الحاكم باسم روما، وبلغت هذه المقاومة شدة العنف حين دخل المسيح بيت المقدس.
لكن الله كان قد أتم يومئذ كلمته على لسان عيسى، وكان قد أعد حوارييه ليذيعوا هذه الكلمة في الأرض، لا يحتفظون بها لأنفسهم كما فعل أسلافهم من قبل. فلما توفى الله عيسى ورفعه إليه، خُيِّل لقومه من بني إسرائيل أنهم قد آن لهم أن يطمئنوا إلى عقائدهم، لكن بذور الثورة التي بثتها كلمة عيسى في الناس دفعت بني إسرائيل أنفسهم لينتقضوا على حكم روما وليثوروا بها.
•••
وبلغ الانتقاض أَوْجَهُ بعد أربعين سنة من وفاة عيسى، عند ذلك ذهب تيطس فسبازيان من روما إلى فلسطين، وأقسم ليخضعن بني إسرائيل وليضربنهم بيد من حديد. وقاومت فلسطين جيوشه مقاومة عنيفة، يقول جوريفومل مؤرخ ذلك العصر، وكان يعيش فيه: «الآن ولم يبق أمل في الخلاص، فذلك أوان القتال حتى الموت، فمن الشجاعة أن يقدم الإنسان المجد على الحياة، وأن ينهض إلى عمل نبيل تذكره الأجيال من بعده.»
قال المؤرخ هذه الكلمة البالغة في سموها يوم كان أنين شعب إسرائيل، لمظالم الرومان وقسوتهم، قد بلغ غاية مداه، لكن جيوش روما التي ألِفت الظفر لم تصدها المقاومة، بل سارت من مدينة إلى مدينة تقتل الناس وتحرق البلاد وتشيع في الأرض الفساد، فلم يكن لصدها سبيل. وحاصر الروم بيت المقدس، فقاومتهم وطالت مقاومتها حتى تفشَّى بين أهلها المرض بسبب الجوع، ثم أسلمت مفاتيحها إلى الفاتحين.
(٥) هدم الهيكل
دخلت جيوش روما بيت المقدس، فهدمت الهيكل وأعملت السيف في رقاب أهلها، وأسرت من بني إسرائيل كل من لم يَمُت وأَجْلَتهم عن المدينة، بل أجلتهم عن فلسطين كلها، فتشتتوا في البلاد المجاورة.
ذهب منهم من ذهب إلى العراق، وانحدر منهم من انحدر إلى شبه جزيرة العرب، وعاد منهم من عاد إلى مصر، وانحل عنهم ذلك السلطان الذي كانوا يعتزون به، وأصبحوا لا يعرفون لهم وطنًا ولا مستقرًّا.
•••
أجلاهم المسلمون عن شبه جزيرة العرب في العهد الأول للدين الحنيف، بعد منازعات وحروب بين هؤلاء وأولئك، ونظر إليهم المسيحيون في مختلف بقاع الأرض نظرة متأثرة بما كان بين اليهود والمسيح، مما انتهى إلى قصة الصلب في كتب المسيحية المقدسة. وأبى عليهم الناس جميعًا أن يستقروا في بقعة من الأرض تكون وطنًا لهم، ذلك شأنهم منذ ألف وتسعمائة سنة، وذلك شأنهم إلى يومنا الحاضر، وبنو إسرائيل خلال هذه المحن لا يزال حنينهم إلى أرض المعاد كحنين أجدادهم الأولين، ولا يزال رجاؤهم متصلًا في أن تعود إليهم دولتهم، وأن يكونوا في الأرض الحاكمين.