سيرة الفيلسوف
(١) نشأة مجهولة
ولد ديفد هيوم في إدنبره — باسكتلندا — في السادس والعشرين من أبريل عام ١٧١١م من أسرة وسط بين الفقر والغنى، وكان هو ثالث إخوته، يكبره أخ وأخت، ومات أبوه و«ديفد» لم يزل بعدُ رضيعًا، فأُلقِي على الأم عبء تربية أبنائها، مستمدة أسباب الرزق من ضيعة صغيرة كانت لزوجها في الريف.
ولسنا ندري كيف تلقى «ديفد» تعليمه ولا أين؛ فكل ما يرويه في هذا الصدد في كتابه «حياتي» هو هذه العبارة الموجزة: «لقد اجتزت بالتوفيق شوط التعليم المعتاد.» وهي عبارة لا تكاد تدلنا على شيء؛ لكننا نستطيع أن نجمع شذرات عنه من هنا وهناك، فنعلم منها أنه قد أكمل دراسته وهو في الرابعة عشرة من عمره، ولم يظفر من كليته بشهادة، لا عن تقصير، ولكنه العرف إذ ذاك لم يكن يلقي بالًا للشهادات العلمية في كثير أو قليل؛ وكذلك نعلم عنه وهو في سني دراسته أنه تأثر بعلم «نيوتن»، لكننا لا ندري إن كان ذلك قد وقع له في الفصل الدراسي أم في قراءته الخاصة؛ ثم نعلم عنه كذلك أنه أُغرم منذ سنه الباكرة بالأدب، وهو غرام لم يتحوَّل عنه طيلة عمره، فحتى حين شغلته الفلسفة لم يكن ذلك داعيًا إلى هجران الأدب، بل قسم العاشق عندئذٍ وقته بين معشوقتَيه قسمة عدل وإنصاف.
لكن ضرورة العيش نادتْ، فلا الأدب ولا الفلسفة مما يأتيه بقوت يومه، وكان لا بد له من سبيل إلى ذلك القوت، لأن أخاه الأكبر قد استأثر بضيعة أبيه كما هو العرف في الوراثة عندهم؛ فأي سبيل يختار كسبًا لرزقه؟ يقول إنه اختار المحاماة مهنة، وأخذ يدرس القانون استعدادًا لذلك، ولا نعلم كيف كانت تلك الدراسة، وعلى كل حال لم يطل مقام الغريب في أرض الغربة، فما أسرع ما دبَّ الملل في نفسه دبيبًا، فأسرع عائدًا إلى وطنه العقلي الأصلي، وما ذلك الوطن عنده إلا الفلسفة والأدب؛ عاد إليهما يعب منهما عبًّا كأنما أراد أن ينتقم للفترة القصيرة التي قضاها على أرض غير أرضه؛ وراح ينفق أيامه في قراءة شيشرون وفرجيل.
ولكن لقمة العيش ما زالت تلح عليه بالعمل في سبيل تحصيلها، وكذلك أمه ما زالت به تملأ أذنَيه بالنصح أن يقلع عما لا يفيد إلى ما يفيد؛ كانت الأم عملية المزاج تنظر بكلتا عينَيها إلى الحياة في مجراها السائر يومًا بعد يوم، فيأخذها القلق الشديد على ابنها؛ إذ ماذا يجدي عليه الأدب وماذا تجدي عليه الفلسفة حتى إن بلغ منهما الذروة العليا؟ لم يكن مألوفًا في بلاده — اسكتلندا — عندئذٍ أن تهيئ الفلسفة أو أن يهيئ الأدب من أسباب الرزق شيئًا يغني من جوع.
غير أن صاحبنا إذا ما قالت له أمه أو قال له صديق إن الفلسفة التي اختارها مَشْغَلة حياته شيء لا يفيد من الناحية العملية، أجاب: بل هي نافعة من هذه الناحية العملية نفعًا ليس وراءه نفع؛ لأنه يمارس قواعدها في ضبط شهواته، فأي شيء أكثر إيغالًا في الحياة العملية من ضبط الشهوات؟ أيكون تفكيرًا نظريًّا ذلك التفكير الذي يعلو بصاحبه على مجرى الحوادث العابرة بما فيها من تفاهة وصغار؟ أيكون سابحًا في أحلامٍ ذلك الرجلُ الذي يستعين بفكره على كوارث الزمن، فينعم في حياته بالسكينة والحرية وعزة النفس واستقلالها، بما أوتيه من قدرة على ازدراء الثراء والقوة والجاه؟
تمكنت فكرته الجديدة هذه من عقله وتشبثت به حتى لم يعد في مقدوره أن يترك التفكير فيها لحظة واحدة، ودفعته النشوة — نشوة خلق فكر جديد — إلى الانغماس في أغوار التأمل حتى غُصَّ به وأقعده المرض؛ فلم يكن له بد من الراحة والعناية ببدنه وعافيته، حتى إذا ما استرد قليلًا من قواه الذاوية، اقتضته الحكمة أن يغيِّر من حياته بما يناسب حاله الطارئة؛ وهو في ذلك يقول إنه في أعوامه الماضية قد عاش حياة تتناوبها الدراسة حينًا والاسترخاء حينًا، فكان لهذا المركَّب أثره في هدم صحته، فكان لا بد له من تجربة مركَّب آخر لحياة يتناوبها النشاط العملي حينًا والتنزه حينًا … ومِن ثَم جاءت عزيمته على أن يبدأ شوطًا جديدًا من حياته يُنفقه في ميدان عملي كالتجارة، فقصد من فوره إلى أحد البيوت التجارية في مدينة «برسْتُل».
(٢) هيوم الفيلسوف
لم يطل مقامه في «برستل»، فلا المدينة صادفت منه هوًى ولا العمل التجاري وقع في نفسه موقعًا حسنًا؛ فشد الرحال إلى فرنسا، وصمم أن يكتفي بدخله الضئيل مهما اقتضاه ذلك من شظف وضيق، وذلك لينصرف بجهده كله إلى دراسته وتأمله؛ وانتهى به المطاف في فرنسا بمدينة «لافليش» التي أذاع شهرتها أن ديكارت كان قد تلقَّى فيها علومه بكلية الجزويت، وقد كان خليقًا بهيوم أن يذكر هذه الحقيقة في حياته، لكنه لم يفعل، كأنما مقامه في بلد أنشأ ديكارت من قبله ليس من الحوادث التي تستوقف النظر؛ فما الذي أغراه — إذن — باختيار «لافليش» يقيم فيها ليكتب رسالته الرئيسية؟ لعله هدوء المكان أو عيشه الرخيص، أو لعلها كلية الجزويت هناك وما فيها من مُعِينات على القراءة والدرس، ففي أبهاء ذلك المعهد الهادئ كان فيلسوفنا الشاب يتمشى يومًا مع أحد القساوسة يتبادلان الحديث في «المعجزات»، فكان هذا الحديث بداية تفكيره الذي انتهى فيما بعد إلى مقالته المشهورة في هذا الموضوع.
أما وقد أتم هيوم «رسالته» فلم يعد هنالك ما يدعوه إلى إطالة الإقامة في «لافليش»، ولهذا غادرها مقيمًا في فرنسا نحو العامين قضاهما هنا وهناك، ثم عاد إلى لندن في سبتمبر من عام ١٧٣٧م، وهنالك أخذ يسعى عند الناشرين، حتى نُشر له الجزءان الأول والثاني من «الرسالة» عام ١٧٣٩م، ثم نُشر الجزء الثالث عام ١٧٤٠م؛ وكان وهو في انتظار النشر لا ينفك مراجعًا لما كتب، ليخفف من الآراء الدينية والأخلاقية، وليصقل الأسلوب ويصلح العبارة؛ ومع ذلك الحرص كله فقد أسف فيما بعد أسفًا شديدًا على تسرعه في النشر؛ لأنه رغم هذا الحرص وهذه العناية، فقد صدرت «الرسالة» وفيها كثير جدًّا من فجاجة الشباب وسذاجته … يقول في ذلك: «لقد عاودني الندم مئات المرات ومئاتها على تسرعي بالنشر.» قال ذلك في إحدى رسائله، وفي رسالة أخرى يقول إنه نادم على نشر «الرسالة» إطلاقًا، فلم يعد موضع الندم منصبًّا على مجرد التسرع، وأن التمهُّل كان أَولى، بل إنه ود فيما بعد لو لم ينشر هذا المؤلَّف قط؛ وهو يعلل إقدامه على النشر تارة بأنه خشي أن يسبقه سابق إلى نشر أفكار شبيهة بأفكاره، وكان يريد لنفسه أن يكون المعلن الأول لهذا الطريق الفلسفي الجديد، وتارة أخرى بأنه خجل أن يظهر أمام أهله وأصدقائه بمظهر من أضاع وقته سدًى، فلا أقلَّ من تبرير غيابه وانقطاعه عن العمل بكتاب يقدمه لهم حجةً على أن وقته لم يضع هباءً.
ومهما يكن من أمر، فقد اشتد به القلق على قيمة عمله؛ إذ هو في انتظار نشره فلم يدخر وسعًا في تعديله هنا وتحويره هناك، وحذْفٍ هنا وإضافة هناك؛ وكلما اقترب وقت الصدور اشتد به الهلع حتى وصف نفسه بالجبن، كأنما هو لا يقوى على مواجهة الناس برسالته؛ ولكنه مضى في إصلاح عمله مسرعًا قبل أن تتناوله المطبعة، قائلًا لنفسه إنه لا ينبغي أن يأخذه الزهو بعمله بحيث يتركه معيبًا، فلئن كان يزدري مثل هذا الطيش في الآخرين فما أحراه أن يزدريه في نفسه؛ وكتب في خطاب لصديق عندئذٍ يعبر عن خواطره فقال إن «رسالته» هذه ترفعه آنًا فوق السحاب زهوًا وشموخًا، لكنها آنًا آخر تقبضه من الخناق وتملؤه بالشكوك والمخاوف.
وحفزه الحرص والخوف معًا أن يستطلع رأي «بتلر» — القسيس والفيلسوف الأخلاقي المعروف في تاريخ الفكر الإنجليزي — فاعجبْ لهذا الثائر على الفلسفة الدينية والأخلاقية الشائعة في عصره يستشير قسيسًا أخلاقيًّا في قيمة مبادئه! لكنه فعل، وأعجب من ذلك أنه لم يتردد في تغيير ما اقتنع بأنه واجب التغيير.
لكن الكتاب لم يلقَ رواجًا عند صدور جزأيه الأَوَّلَين، وكان الرواج والنجاح — عند هيوم — أمرَين مرتبط أحدهما بالآخر، فلا نجاح لمذهبه بغير رواج كتابه؛ وقل ما شئت عمَّا أخذه من ضيق نفسي لهذه الهزيمة التي لم يكن يتوقعها، ومع ذلك فقد مضى يُعِدُّ جزأه الثالث، غير أنه هذه المرة آثر أن يلجأ إلى ناشر آخر، مستعينًا في ذلك ﺑ «هَتْشِسُن» الذي كان أستاذًا للفلسفة في جامعة جلاسجو، وهو الفيلسوف المعروف بمذهبه في الأخلاق.
لا، بل إن الأمر لم يقف عند حد امتناع الرواج، فجاوزه إلى اضطهاد من يقرأ هذا الكتاب من أبناء الجامعات! وإنه ليروي في هذا الصدد أن آدم سمث (صاحب الكتاب المشهور في الاقتصاد) كان تلميذًا ﻟ «هتشسن»، فأوصاه أستاذه هذا أن يقرأ «رسالة» هيوم، ففعل، ثم حدث له بعدئذٍ أن انتقل إلى جامعة أكسفورد، فرآه المشرف عليه هناك يطالع «الرسالة» فوجَّه إليه أشد اللوم وألذع التقريع؛ لأنه يقرأ كتابًا بعيدًا عن العرف الجامعي في طريقة البحث وأسلوب التفكير.
أوى هيوم إلى الريف لائذًا بهدوئه من الخيبة التي أصابته في كتابه، وجعل يكتب «مقالات في الأخلاق» والسياسة حتى أعد منها ما يصلح كتابًا، ودفعه إلى النشر فلقي من الرواج ما لم يكن لكاتبه في حساب! فحفزه ذلك إلى كتابة جزء ثانٍ من هذه «المقالات»، وتحرك الأمل في صدر هيوم من جديد، راجيًا أن يكون رواج «المقالات في الأخلاق والسياسة» سببًا في لفت الأنظار إلى «الرسالة» التي أُهمِلت ظلمًا من أئمة الفكر وقادته؛ وعلى كل حال فقد كانت هذه «المقالات» من سمو الفكرة وطلاوة الأسلوب ما استحقت به البقاء؛ ولعلها كانت أول إنتاج أدبي ينتجه كاتب اسكتلندي فيجاوز به حدود إقليمه ليتحدث عنه القراء في سائر أجزاء إنجلترا، بل وفي فرنسا مركز الثقافة في ذلك الحين.
بهذا النجاح الجزئي اكتسب هيوم ثقة بنفسه، ولم يعد يتوارى عن الناس كما كان يفعل؛ وعلى أساس هذه الثقة تقدم إلى كرسي الأستاذية في الفلسفة حين خلا في جامعة إدنبره؛ لكن الجامعة رفضته بسبب آرائه التي وردت في «رسالته»، وعينت «هتشسن» لولا أنه اعتذر بضعف صحته؛ والعجيب الذي يستحق الذكر هنا هو أن «هتشسن» هذا كان بين من أوصى جامعة إدنبره ألَّا تعين هيوم في كرسي الأستاذية، على الرغم من أنه كان بين الأساتذة القلائل الذين قرءوا «الرسالة» وأُعجِبوا بها وشجعوا مؤلفها على المضي في بقية أجزائها، لكنه — فيما يظهر — لم يُردْ أن يشغل الأستاذية من جاءهم من خارج «المهنة» بالرأي الجديد.
كان هيوم في «الرسالة» طموحًا مسرفًا في طموحه؛ إذ أراد أن يطبق مبدأه الجديد على شتى نواحي الطبيعة البشرية من عقل وعاطفة وسلوك؛ لكنه أراد الآن أن يخرج كل موضوع من هذه الموضوعات الثلاثة — وهي التي تكوِّن على التوالي أجزاء «الرسالة» الثلاثة — في بحث خاص مستقل، فقد يجد أن المبدأ الذي ينطبق على المجال العقلي لا ينطبق على العواطف، وأن ما ينطبق على هذه قد لا ينطبق على مجال الأخلاق، وإذن فليختصَّ كلَّ موضوع بكتاب.
وبدأ تنفيذ مشروعه الجديد ﺑ «البحث في العقل البشري» الذي كانت مادته في أساسها هي نفسها مادة الجزء الأول من «الرسالة في الطبيعة البشرية» لكنه كان يختلف من حيث الأسلوب وجودة العرض، حتى إن هيوم مع اعترافه بألا اختلاف في المادة بين «البحث» و«الرسالة» إلا أنه كان يحرص أشد الحرص على أن يقرأه القارئ في الأولى دون الثانية، وكان يريد للنقاد أن يتناولوه في «البحث» لا في «الرسالة» اعتقادًا منه بأن ما جاء في «الرسالة» فِجًّا ملتويًا قد ورد في «البحث» ناضجًا مستقيمًا.
ومع ذلك فقد ورد في «البحث» موضوعان لم يكونا في «الرسالة»، وهما موضوع «المعجزات» وموضوع «النتائج العملية للديانة الطبيعية»؛ وقد أثارت آراؤه في «المعجزات» ضجة شديدة، ولعله أراد لهذه الضجة أن تثور حتى يستيقظ له من لم يكن قد أيقظته «الرسالة»، أو لعله لم يُرِدْ شيئًا أكثر من إثبات رأيه مهما يكن متعارضًا مع الرأي السائد.
وكما كانت الحال في الموازنة بين «بحث في العقل البشري» وما يقابله من أجزاء «الرسالة»، فكذلك الحال في الموازنة بين «البحث في مبادئ الأخلاق» وما يقابله من أجزاء «الرسالة»، من حيث إن «البحث» أوضح رأيًا وأجود أسلوبًا وأحسن عرضًا من جميع الوجوه؛ فها هنا قد أوجز القول وركَّزه في المهم، وهو فكرة المنفعة التي كانت المحور الذي تدور حوله نظريته الأخلاقية كلها، ركز القول في هذه الفكرة تركيزًا أوضحها وبيَّنها حتى لا يختلط الأمر في أفهام القارئين.
(٣) هيوم المؤرخ
كان هيوم في الريف إذ كان يكتب «مناقشات سياسية» و«محاورات في الديانة الطبيعية»، حتى إذا ما فرغ منهما قصد إلى إدنبره، وهناك وصلته الصلات برجال الكنيسة «المعتدلين» الذين ألَّفوا جماعة تعمل على رفع رجال الدين في الثقافة وفي مراتب المجتمع؛ كما أرادوا أن يقربوا مسافة الخلاف بين الدولة والكنيسة على أن يكون للقانون المدني الكلمة الأولى.
ها هنا خلا في جامعة إدنبره كرسي «المنطق» الذي كان يشغله آدم سمث (المعروف بكتابه في الاقتصاد) حين انتقل هذا إلى كرسي «الأخلاق»؛ فحاول هيوم للمرة الثانية أن يكون له نصيب في أستاذية الجامعة، وتقدم ليشغل المنصب الذي خلا، وكان صديقه آدم سمث يتمنى أن يراه زميلًا له في الجامعة، ومع ذلك فلم يتقدم إلى تزكيته خوفًا على نفسه من قالة الناس؛ والحق أننا لا نعلم إن كانت الفلسفة قد خسرت بهذا الرفض أم كسبت؟ أكان خيرًا للفلسفة أم شرًّا عليها أن يوفَّق فيلسوفنا إلى الأستاذية الجامعية التي كان يصبو إليها؟ أحسبها قد خسرت كثيرًا، لأن صاحبنا منذ ذلك الحين حتى ختام حياته لم يكد يكتب في الفلسفة شيئًا جديدًا يضيفه إلى ما كان قد كتبه فيها من قبل ذلك، فعلى فرض أن التحاقه بالمنصب الجامعي لم يكن ليحفزه إلى إضافة جديدة، فلا أقلَّ من أن يتيح له الفرصة للتهذيب والشرح والتوضيح … على كل حال قد انصرف هيوم منذ ذلك الحين (١٧٥١م) إلى كتابة التاريخ.
كتب هيوم تاريخ إنجلترا راجعًا به من نهايته إلى بدايته، فأخرج أول ما أخرج منه «تاريخ بريطانيا العظمى» في جزأين يؤرخ بهما للعصر الممتد بين جيمس الأول حتى عهد الثورة في عهد شارل الأول، ثم عقَّب عليه بكتاب يؤرخ به الفترة السابقة على تلك، وعنوانه «تاريخ إنجلترا في حكم أسرة تيودر»، وأخيرًا أصدر كتابًا ثالثًا يؤرخ به للفترة التي تقع بين غزوة يوليوس قيصر واعتلاء هنري السابع عرش البلاد … وبهذه الكتب الثلاثة التي ظل يكتبها في السنوات الخمس ١٧٥٦–١٧٦١م كمل له تاريخ إنجلترا، كما أخذت الشهرة والثروة تسعيان إليه، وإن يكن سعيهما هذا قد سار بخطوات وئيدة لم ترضِ رغبته في النجاح السريع … فكتبه في التاريخ، شأنها شأن كتابه الرئيسي في الفلسفة «رسالة في الطبيعة البشرية» لم تقع من الناس بادئ ذي بدء بما كان يتوقعه لها؛ وكان يأخذه العجب وتأخذه الحسرة؛ فلماذا لا تستوقف كتبه هذه أنظار الناس ما دام قد جاءهم فيها بالجديد المبتكر؟ إنه لم يكتب التاريخ كما كان يكتبه المؤرخون من قبله؛ إذ لم يكتبه من وجهة نظر متحزبة متعصبة، وكان المألوف قبله أن يكتب المؤرخ تاريخه ليزهى ويفخر؛ إنه كتبه محايدًا، فما للناس يهملونه كما أهملوه حين أخرج لهم فلسفة جديدة في «الرسالة»؟ لكنه نسي أن الجدَّة قد تكون سببًا في لفت الأنظار لفتًا سريعًا كما تكون سببًا في انصراف الناس عن هذا الجديد؛ فلئن كان الناس يتوقعون فلسفة من صنف معين، ثم تقدمت إليهم بما ليس يجري هذا المجرى لم تكن بضاعتك مما يُقبل عليه الشارون؛ وكذلك إذا كان الناس يتوقعون من التاريخ أن يكون ذا صبغة أدبية، فيه تعبير ذاتي عن نزعة وطنية أو دينية أو غير ذلك، ثم جئتهم بتاريخ «علمي» محايد لا يعبر لهم عن مشاعرهم انصرفوا عنك إلى سواك.
كتب هيوم كتبه التاريخية الثلاثة في خمس سنوات، كما ذكرنا، كان يتعاوره خلالها اليأس والأمل كلما أخرج من تلك الكتب كتابًا أو همَّ بكتابة آخر؛ فلما أن صدر الجزء الأول ولم يأبه له الناس، أخذه الغم حتى فكر في مغادرة بلاده ليأوي إلى قرية هادئة في فرنسا حيث يستتر فلا يرى أحدًا ولا يراه أحد؛ لكن الرجاء يعود فيملؤه فيَهمُّ بكتابة الجزء الثاني؛ فلا يجد حظًّا أوفر من سابقه، فيغوص في اليأس من جديد، ويكتب إلى زميل له في لندن يطلب إليه أن يبحث له عن غرفة متواضعة هناك، لأنه صمم أن يترك اسكتلندا ليعيش مغمورًا في لندن، فلم يعد به أمل يحفزه إلى نشاط أدبي جديد، ويريد الآن أن ينعم ما بقي له في الحياة من بقية، فيقرأ ويتحدث في استرخاء من لا يرقب شيئًا؛ لكن الأمل عاد فعاوده وكتب الجزء الثالث من التاريخ …
ومهما يكن من إهمال الناس لإنتاجه أول صدوره، سواء كان ذلك في الفلسفة أو في التاريخ، فإن ما ينفع الناس مصيره أن يمكث في الأرض، ولا بد أن يأتي يوم يتداركون فيه ما قد أهملوه بالأمس عامدين أو غافلين، فقد أخذ النقاد والعلماء يتنبهون شيئًا فشيئًا إلى هذا الفكر الجديد.
(٤) هيوم وروسو
أرسل السفير البريطاني في باريس إلى هيوم يعرض عليه أن يكون سكرتيرًا للسفارة هناك؛ فتردد صاحبنا أول الأمر في القبول، لأنه تصور أن ذلك المنصب سيغمسه في مجتمع فيه العظماء وفيه حياة الظهور وأسباب المرح، فظن أن مثل هذه الحياة لم تعد تصلح — كما قال — لمن هو في مثل سنِّه ومزاجه، وأولى له أن يأوي إلى الريف مرة أخرى لينصرف إلى نفسه هادئًا لا يزعجه أحد ولا يزعج أحدًا، كما كان يدور في خلده في اللحظة التي جاءته فيها دعوة السفارة.
لكنه عاد فقبل الدعوة وقصد إلى باريس ليجد عجبًا؛ إذ ما كان أشد دهشته حين وجد اسمه هناك يملأ الأسماع، وهو الذي ضاق نفسًا بما لحظه من إهمال الناس له في بلده، لا يكادون يعبئون بما يكتب على جودة ما يكتبه وجِدَّته؛ نعم أدهشه في باريس أن يرى الجو الفكري هناك مشبعًا بذكره وبالإشادة بنبوغه خصوصًا في كتبه عن السياسة والدين والتاريخ.
لم يكد هيوم يصل إلى باريس (١٧٦٣م) حتى أسرع إليه سيدات المجتمع الأدبي، كل واحدة منهنَّ تنافس زميلاتها في أن يكون لها دونهن شرف إقامة الحفل الذي تقدم فيه هذا الفيلسوف الإنجليزي إلى ذوي المكانة الأدبية في فرنسا، إنه مهما بلغ به الظن بنفسه وهو في وطنه، لم يكن قد بلغ به هذا المدى كله، فمن هو حتى يرى نفسه بين يوم وليلة محاطًا بهذا التكريم كله من عِلية القوم في موطن الثقافة الرفيعة؟ ولئن دهش لذلك مرة، فقد دهش كبار موظفي السفارة البريطانية مائة مرة أن يروه وهو الموظف الصغير في سفارتهم قد أصاب من اهتمام القوم، بل من اهتمام القصر الملكي نفسه، بما لم يظفر به أعلام سفرائهم؟ إن كبار رجال السفارة البريطانية في باريس لم يكونوا قد سمعوا به فيلسوفًا ولا مؤرخًا ولا كاتبًا سياسيًّا؛ ولم يسع هيوم سوى أن يكتب الرسائل إلى أصدقائه في وطنه يعجب لهم فيها كيف يختلف تقدير رجال العلم والأدب في فرنسا عنه في بريطانيا.
لكن هذا التقدير الذي غمره وأسكره سرعان ما ذهبت طلاوته وجدته، وعاد صاحبنا من جديد يتمنى العودة إلى اسكتلندا ليعيش الحياة الهادئة في ريفها كما كان معتزمًا أن يفعل حين جاءته الدعوة من السفارة البريطانية بباريس؛ ومع ذلك فقد جاءت رحلته هذه مليئة بالخبرة الجديدة التي لم تكن تطوف له ببال؛ فهؤلاء هن سيدات الطبقة الرفيعة في العاصمة الفرنسية يسعين إليه وهو ثابت على كبريائه وصدوده؛ وقد جعل هذه العلاقات موضوع تفكُّه في رسائله إلى أصدقائه حينئذٍ؛ وكانت تأتيه الخطابات من كثيرات فيحرص — كما يقول — ألا يرد على من تكون سنها دون الثلاثين؛ على أن واحدة من هؤلاء السيدات قد استدعت منه الحذر والحرص بدرجة تستلفت النظر، وهي «الكونتيسة بوفليه» التي كانت قد بدأت علاقتها به حتى قبل قدومه إلى فرنسا؛ إذ أخذت تراسله وهو في بريطانيا، فلما جاء إلى فرنسا زادت من صلاتها به زيادة أثارت في نفسه الخوف من جهة، كما أشاعت الشائعات من جهة أخرى؛ وهو يذكر لنا كيف كان يحرص كل الحرص إذا ما أرسل إليها خطابًا أو إذا ما حدثها حديثًا مباشرًا، ألا تفلت منه عبارة تدل على أنه ربما كان يحمل إزاءها عاطفة خاصة؛ وكانت «الكونتيسة بوفليه» هذه هي التي وصلت حبل التعارف بينه وبين كثيرين من أئمة الفكر في فرنسا إذ ذاك، وبخاصة جان جاك روسو الذي لم يكن عندئذٍ في باريس، فتعارفا بالرسائل أول الأمر … وكان بين من عرفهم في باريس من رجال العلم والأدب «هلفتيوس» و«بيفون» و«هلباخ» و«ديدرو»؛ أما «مونتسكييه» فقد عرفه قبل قدومه إلى فرنسا.
لم يألف هيوم قبل قدومه إلى فرنسا أن يسمع الثناء عليه من حيث صفاته الشخصية؛ فقد كان القليلون الذين اعترفوا به في وطنه يقدرونه أديبًا ومفكِّرًا وفيلسوفًا، أما أن يجد من يمتدح فيه صفاته الخلقية من تواضع وبساطة فذلك شيء لم يعرفه إلا في فرنسا؛ فلا عجب أن يزداد كراهية ومقتًا لإنجلترا والإنجليز مع أنهم بنو وطنه، لأنهم تنكروا له وبخسوه حقه حتى أوشك أن يفقد الثقة في نفسه لولا هذه الرحلة إلى باريس.
وفي الرابع من يناير عام ١٧٦٦م عاد هيوم إلى بلاده وفي صحبته روسو! ذلك أنه لبث يراسل روسو وهو في فرنسا مدى عامين من الأعوام الأربعة التي أقامها هيوم هناك، وحتى حين انقطعت بينهما الرسائل، فقد ظل الود بينهما قائمًا، على الرغم من أنهما لم يلتقيا؛ فلما سمع هيوم عن روسو أنه يود لو ارتحل إلى إنجلترا ليقيم بها حينًا، كتب له من فوره يبدي له استعداده أن يهيئ له وسيلة السفر والإقامة، وقد كان أن أعدَّ له هيوم غرفة في لندن عن طريق أحد أصدقائه هناك، واتفقا على موعد يلتقيان فيه في باريس ليغادراها معًا في طريقهما إلى لندن؛ وتم اللقاء وتم السفر، وازداد هيوم بزميله الفرنسي إعجابًا، كان بعض الأصدقاء في فرنسا قد حذر هيوم من روسو وشذوذه في معاملة الناس، كما كان يعلم عنه كذلك أنه عليل البدن؛ لكنه — بادئ الأمر — لم يجد منه إلا ما يزيده تقديرًا له، ولقد أدهشه أن يرى هذا «العليل» — إذ هما في السفينة من فرنسا إلى إنجلترا — يصعد إلى ظهر السفينة ليقضي الليلة العاصفة الباردة في العراء دون أن يصيبه أذًى.
بلغ الزميلان مدينة لندن، فبدت في عيني هيوم مدينة راكدة هامدة بالقياس إلى باريس التي كانت تعج بالحياة وبالثقافة عجيجًا؛ وزاد من همِّه أن عاد فوجد نفسه من جديد نكرة مغمورة لا يحس بوجوده أحد ولا يهتم له أحد، فأين ذلك من باريس التي وضعته في أعلى مكان؟ لكن عزاءه عندئذٍ كان أن روسو لم يزل في صحبته، وأنه قد أخذ على نفسه أن يكون له في إنجلترا مرشدًا ورائدًا، لكن حتى هذا العزاء سرعان ما حال ثم زال، ذلك أن روسو لم يشعر بالطمأنينة في لندن، وظل قلقًا لا يسلس لرائده القياد في تقديمه للناس، حتى لقد اضطر آخر الأمر أن يغادر لندن إلى مكان في الريف أعده له هيوم بمعونة صديق؛ وبذلك افترقا، بل أخذت الفرقة بين قلبيهما تدب دبيبًا سريعًا.
كان روسو منطويًا على نفسه بطبعه، وجاءت الحياة المنعزلة في إنجلترا فزادته انطواءً على انطواء، وهنا أخذ يتوهم الأوهام وتوسوس في نفسه الوساوس؛ فصور له خياله أن هنالك مؤامرة يدبرها له هيوم مع آخرين؛ وكلما حدث بعد ذلك حادث، جعل منه روسو دليلًا جديدًا يؤيد له صدق ما توهم، فمثلًا، لماذا يهتم هيوم — رغم سوء الظن به — بأن يظفر لروسو براتب من حكومة إنجلترا؟ هكذا أخذت أوهامه توهمه حتى بات الوهم عنده يقينًا، فأرسل إلى هيوم في ٢٣ يونيو عام ١٧٦٦م رسالة يقطع بها كل علاقة بينهما، ويرفض أي معونة تجيء إليه عن طريقه.
رُوِّع هيوم لهذا الانقلاب العجيب الذي لم يكن عنده قط ما يبرره؛ إنه أسدى إلى روسو جميلًا إثر جميل، ففيمَ هذا النكران؟ وفكر هيوم أن يدافع عن نفسه علنًا، وأعد دفاعه، لكنه عاد فآثر الصمت خشية أن يجيء الدفاع عن نفسه مؤيِّدًا للاتهام في أذهان الناس؛ لكن روسو من ناحيته لم يختر الصمت وأرسل إلى ناشر بباريس مقالًا عنيفًا يهجم به على صديقه القديم وعدوه الجديد اللدود؛ ونشر الناشر هذا المقال نشرًا واسعًا حتى طرق الأسماع كلها، فلم يجد هيوم عندئذٍ بدًّا من نشر دفاعه الذي كان قد أعدَّه وأمسك عن نشره؛ وفرح الناشر بهذا الرد لأنه ألحقه بمقالة روسو في كتيب صغير كان له ذيوع كبير بين القراء، وإن قراءة هذا الكتيب لتمتع من يريد أن يقارن رجلين من معدنين مختلفين التقيا على صعيد واحد، فأما روسو فأبرع في عبارته الأدبية وأحمى في مشاعره، وأما زميله هيوم فأقوى حجة وأعمق نظرًا؛ ولا غرابة، ففي هذا الكتيب الصغير التقت العاطفة الملتهبة بالعقل النافذ.
(٥) الختام في إدنبره
لبثت صديقته الفرنسية «الكونتيسة بوفليه» ترسل إليه الرسائل مغرية إياه بالعودة إلى باريس، لكنه أبى؛ واتصلت الخطابات بينه وبين «إدوارد جِبُن» — المؤرخ المشهور الذي أرخ لتدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها — وألحَّ عليه «جِبُن» وغيره من الأصدقاء أن يعود إلى كتابة التاريخ، لكنه كذلك أبى؛ لأنه آثر لنفسه أن يركن إلى حياة الدعة والراحة يختم بها حياته.
وعاد إلى وطنه الأصلي وهو اسكتلندا، حيث أقام في إدنبره، يحيا الحياة التي أرادها، حياة الرغد والتراخي، يشرف بنفسه على طهو ما يشتهيه من ألوان الطعام التي عرفها وأحبها في فرنسا؛ يلقى الناس ويلقاه الناس في سمر وتسلية؛ ولم يكن هيوم قد تزوج، فأخذ على نفسه أن يكفل ابني أخته، وترك داره الصغيرة ليستأجر بدلها دارًا أكبر؛ وإنما أقول ذلك لأضيف أن «بوزْوِل» — وهو الذي كتب السيرة المشهورة في آداب العالم أجمع، سيرة صديقه صموئيل جونسن — استأجر «بوزْوِل» هذا تلك الدار الصغيرة التي تركها هيوم، واستضاف بها صديقه وإمام الأدب الإنجليزي إذ ذاك صموئيل جونسن.
ففي هذا المكان الذي كان يزخر بأعلام الأدب والفلسفة وغيرهما من فروع الثقافة، عاش هيوم أخريات سنيه، حتى أخذته العلة المستعصية؛ إذ أصيب في أمعائه بالسرطان، وعلم علم اليقين أن لم يعد بينه وبين ختام الأجل إلا أمد قصير، فكتب سيرته في كتاب «حياتي»، ومات في الخامس والعشرين من أغسطس عام ١٧٧٦م، وكان قد أوصى بمكان دفنه وبالعبارة القصيرة التي تكتب على شاهد قبره، فلم يشأ أن يكتب على الشاهد إلا اسمه وتاريخ مولده وتاريخ وفاته.