فلسفته
(١) طبيعة المعرفة وتحليلها
(١-١) مصدر الأفكار
•••
ذلك هو الأساس الأول الذي يبني عليه هيوم مذهبه الفلسفي، وهو أن كل فكرة صحيحة يمكن ردها إلى انطباعاتنا المباشرة التي كانت بمثابة النوافذ التي دخلت منها الخبرة التي كونت تلك الفكرة، وما ليس يمكن رده من أفكارنا إلى انطباعاته الأولية فليس هو من الأفكار التي يركن إليها على أنها صواب؛ على أن أفكارنا إما أن تكون بسيطة أو مركبة، ونعني بالبسيط ما لا يمكن تحليله، وبالمركب ما يمكن تحليله إلى عناصر أبسط منه؛ فإن كانت الفكرة بسيطة كانت صورة لانطباع معين، كفكرتي — مثلًا — عن لون البرتقالة أو عن طعمها، وأما إن كانت الفكرة مركبة فينبغي أولًا تحليلها إلى عناصرها، لنرد كل عنصر على حدة إلى انطباعه الذي هو صورة له، كفكرتي عن البرتقالة في مجموعها، فهي فكرة مؤلفة من لون وطعم ورائحة وشكل … إلخ، فلا بد — إذن — أن أحلل الفكرة إلى هذه العناصر، ليسهل رد كل واحد منها إلى أصله الحسي.
وإن هيوم ليتحدى معارضيه أن يأتوا له بفكرة لا يمكن إرجاعها على هذا النحو إلى أصولها الحسية التي جاءت منها؛ ومن هم معارضوه؟ هم أولئك الذين كانوا يزعمون أن لبعض الأفكار مصدرًا غير الانطباعات المباشرة؛ إذ يزعمون أن الأفكار قد تخرج من باطن العقل بغير حاجة منها إلى أصول تأتي من الخارج، وذلك هو مذهب «الأفكار الفطرية» المشهور في الفلسفة؛ فمنذ أفلاطون لم ينفك الفلاسفة عن القول بوجود أفكار تنبع من فطرة الإنسان لا تستند إلى خبرة حسية، بل هي أفكار قد نجاوز بها حدود الخبرة الإنسانية كلها؛ فالأفكار الرياضية المجردة — مثلًا — لم تكن عند هؤلاء الفلاسفة مما يستمده العقل من خبرة، وكذلك قل في جواهر الأشياء، فهي أيضًا عند هؤلاء الفلاسفة لم تكن مما تجيء به الخبرة المباشرة، فالروح التي هي جوهر الإنسان — مثلًا — لا سبيل إلى إدراكها بالخبرة المباشرة، ومع ذلك ففكرتها — عندهم — قائمة في العقل، مستمدة من طبيعة العقل نفسها؛ والعالم الروحاني كله الذي كان يقول به رجال اللاهوت، لا نعرف ما نعرفه عنه بالخبرة المباشرة، فليس لديَّ «انطباع» مما جاء عن طريق البصر أو السمع أو اللمس، أعده أصلًا لما عندي من أفكار عن الكائنات الروحانية التي أظن أنني على علم بها؛ نعم إنه منذ أفلاطون والفلاسفة «العقليون» لا ينفكون يذكرون لنا أمثلة من الأفكار التي لا يستمدها الإنسان من خبرته الحسية؛ فمن ذا الذي رأى في خبرته الحسية نقطة أو خطًّا مستقيمًا يتحقق فيه التعريف الهندسي؟ أليست النقطة الهندسية هي كائن بغير أبعاد، أي إنها لا طول لها ولا عرض ولا عمق؟ فأين شهدت جزءًا من مكان بغير طول ولا عرض؟ ثم أليس الخط المستقيم في تعريف الهندسة هو ما له طول بغير عرض — إذ لو كان له عرض لأصبح سطحًا لا خطًّا مستقيمًا — فأين شهدت مثل هذا الخط المستقيم؟ وقل هذا في الحقائق الرياضية المجردة كلها، دع عنك الكائنات الروحية من أنفس وعقول وملائكة وشياطين وآلهة … هذه كلها عند الفلاسفة العقليين حقائق لها عندنا أفكار لم تكن «الانطباعات» المباشرة مصدرًا لها.
فإذا ما جاء هيوم يقضي ببطلان كل فكرة لا تستند في أصلها إلى انطباع فإنما جاء يقول شيئًا يهدم للفلاسفة كثيرًا جدًّا مما ظنوه «أفكارًا» وما هو من «الفكر» في شيء، فإن هي إلا ألفاظ يرددونها بغير معنًى؛ وكيف يكون للكلمة معنًى دون أن تكون مشيرة إلى عنصر أو عناصر مما عسى أن يقع في خبرة الإنسان؟ ماذا «أعني» إذن بهذه الكلمة التي لا تشير إلى مسمًى؟
إن الوضعيين المعاصرين ليعدون هيوم أباهم الحقيقي، على الرغم من أنهم لا يتكلمون نفس اللغة التي كان يتكلمها عن «الانطباعات» و«الأفكار»، بل هم يحصرون جهدهم الفلسفي — لا في أبحاث نفسية معرفية كما فعل هيوم — بل في العبارات اللغوية والألفاظ، يحللونها إلى عناصرها، فالأساس بينهم وبين هيوم واحد، أما طبيعة ما يعملونه على هذا الأساس فمختلفة عن طبيعة ما كان يعمله؛ ذلك أن الوضعيين المعاصرين حين يتناولون كلمة بالتحليل، تراهم يلجئون إلى تعريفها، لكن التعريف سيتألف من عدة كلمات، ولذلك فهم يعودون إلى هذه الكلمات نفسها واحدة فواحدة يحاولون تعريفها بكلمات أخرى، وهكذا … فأين تنتهي سلسلة التعريف؟ أنظل نسير في ألفاظ بعد ألفاظ بعد ألفاظ؟ كلا، بل لا بد أن تنتهي إلى كلمات يكون تعريفها لا بكلمات أخرى بل بالإشارة إلى مسمياتها فيما تحتوي عليه خبرة الإنسان المباشرة؛ وإن شئت فسمِّ هذه الكلمات الأخيرة التي نعرفها بالإشارة إلى مسمياتها، باللامعرفات، أي هي الكلمات التي لا يكون تعريفها بكلمات سواها؛ وبذلك تنقسم الكلمات إلى «مُعَرَّفات» و«لا معرفات» وبالثانية نعرف الأولى.
فماذا لو صادفت كلمة وأردت تعريفها بكلمات، ثم هذه بأخرى، والأخرى بأخرى، وهكذا دون أن أجد نقطة أقف عندها لأخرج من نطاق الكلمات إلى دنيا الأشياء؟ أعني دون أن أجد النقطة التي أنتهي عندها مشيرًا إلى المسميات الواقعة؟ إنها عندئذٍ تكون كلمة منتحلة مختلقة ليست بذات معنًى حقيقي.
فالوضعيون المعاصرون يقابلون بين «اللامُعَرَّفات» و«المُعَرَّفات» كما كان هيوم يقابل بين «الانطباعات» و«الأفكار»، الأساس واحد لكن العمل مختلف؛ الأساس المشترك بينهما هو المعيار الذي أقيس به مشروعية «الفكرة» وصلاحيتها، فإن كانت الفكرة من أفكاري مشروعة تحتم أن ترتدَّ إلى مصدرها في الخبرة المباشرة وإلا فهي زائفة، هذا هو المبدأ بلغة هيوم، فإذا عبرت عنه بلغة المدرسة الوضعية المعاصرة قلت: إن كانت اللفظة التي أستخدمها مما يمكن تعريفه في النهاية بالإشارة إلى مسماها في عالم الأشياء الواقعة، فهي لفظة مشروعة وإلا فهي لفظة زائفة.
(١-٢) الألفاظ الكلية المجردة
لو كانت الفكرة من أفكارنا نسخة تطابق انطباعًا خِبريًّا صادفناه في حياتنا التجريبية، بحيث إذا وجدنا بين أفكارنا فكرة لا نجد لها الأصل الخِبْرِيَّ الذي هي نسخة منه، كانت فكرة زائفة، أقول إنه لو كان الأمر كذلك لنشأ إشكال عسير، هو: كيف — إذن — أفهم اللفظة الكلية المجردة؟ كيف أفهم — مثلًا — لفظ «إنسان»؟ ماذا يرد إلى ذهنك مما تعده «معنًى» لهذه الكلمة؟ إن من صادفتهم في حياتك من أفراد الإنسان مختلف بعضهم عن بعض في نواحٍ كثيرة، فلا هم ذوو طول واحد ولا لون واحد ولا جنس واحد ولا مجموعة واحدة من العادات السلوكية؛ لكن هؤلاء الأفراد أنفسهم هم الذين انطبعت بهم حواسك انطباعًا مباشرًا، فإذا كانت الفكرة الصائبة هي تلك التي ترتد إلى انطباع معين، فإلى مَنْ مِن هؤلاء الأفراد ترد فكرة «إنسان» لتقضي في أمرها إن كانت فكرة صحيحة أو لم تكن؟ أتردها إلى فلان؟ لكن فلانًا هذا ذو صفات خاصة به لا تتكرر في سواه، فلو جاز أن ترد إليه هو فكرة «إنسان»، فكيف إذن تطلق هذه الكلمة نفسها بعد ذلك على أفراد آخرين؟ إنها إن طابقته هو فلن تطابق أحدًا عداه، أي إن هذه الفكرة إن ارتكزت في مبررات وجودها على فلان هذا، فلا يجوز بعد ذلك أن ترتكز على غيره من الأفراد الذين يختلفون عنه.
قد تقول: ولكني أطلق هذه الكلمة «إنسان» على ما هو مشترك بين هؤلاء الأفراد جميعًا، بعد تجريدهم من الصفات التي هي فيهم موضع اختلاف، فلا أطلق الكلمة «إنسان» — مثلًا — على طول بعينه أو لون بعينه أو جنس بعينه، بل أطلقها على كذا وكذا من الصفات التي هي كائنة في كل فرد من الناس، كصفة التفكير العاقل مثلًا … قد تقول هذا — وقد قاله فيلسوف مثل أرسطو وغيره — لكنك عندئذٍ تقول ما يستحيل أداؤه؛ كيف تستبعد صفات وتستبقي صفات مع أن هذه وتلك مما يستحيل أن تكون إلا مجتمعة معًا؟ فهل رأيت فردًا من الناس بغير لون حتى يجوز لك أن تتصور «إنسانًا» بغير لون؟ هل رأيت فردًا بغير طول معين حتى تنشئ لنفسك فكرة «الإنسان» الذي لا طول له؟
وأعود فأسأل: أين المسمى الذي أطلق عليه اسم «إنسان»؟ ليس في عالم الأشياء شيء مجرد عام، كلها أشياء جزئية فردية، وكان يصح أن أطلق اسمًا خاصًّا على كل واحد من تلك الأشياء الجزئية الفردية وينتهي الإشكال، فإلى أي شيء أشير إذن بالكلمة المجردة العامة «إنسان»؟
هذا هو السؤال بعينه الذي انقسم الفلاسفة حياله ثلاثة مذاهب: ففريق يتبع أفلاطون في قوله إنه إذا كان اسم العَلَم يشير إلى فرد بعينه، فالاسم الكلي المجرد يشير إلى مسمًّى كلي مجرد، ولكن أين هذا المسمى ولست أرى حولي إلا أفرادًا جزئية؟ يجيبك هذا الفريق إنه ليس هنا في هذا العالم الأرضي، ولكنه في عالم آخر، عالم قوامه كائنات من نوع آخر، هي أفكار مجردة وليست هي بالأفراد الجزئية، فلفظ «إنسان» يشير إلى «شيء» حقيقي قائم بذاته في ذلك العالم، هو الفكرة المجردة، أو المثال العقلي الذي صُب على غراره هؤلاء الأفراد الذين نراهم هنا في دنيانا هذه؛ ولذلك سُمي هذا الفريق من الفلاسفة بفريق «الشيئيين» وكبير مذهبهم هو أفلاطون.
وفريق آخر يتبع أرسطو، يذهب إلى أن الكلمة العامة «إنسان» بالطبع لا تشير إلى زيد وحده أو إلى عمرو وحده من بني الإنسان، لكنها تشير إلى كائن مثلها فيه التعميم والتجريد، لكن هذا الكائن لا هو في دنيا الأفراد الجزئية ولا هو كذلك في عالم فوق هذا العالم كما زعم أفلاطون، إنما هو كائن في عقل أي فرد منَّا، فعند كل فرد منَّا فكرة أو تصور مجرد، أقامه في رأسه، هو الذي نشير إليه بالكلمة العامة «إنسان»؛ ولذلك سُمِّي هذا الفريق بالتصوريين.
وكان فيلسوفنا هيوم من فريق «الاسميين» بل كان زعيمًا من زعمائهم؛ وتلك بالطبع نتيجة تلزم حتمًا عن مذهبه في تحليل المعرفة إلى «انطباعات» و«أفكار»، فليست «الفكرة» عنده إلا «انطباعًا» بَهَتَ لونه، ليست «الفكرة» إلا نسخة من «انطباع» تأذنا به، لكن الانطباع محال أن يكون إلا لفرد جزئي معين، كيف تنطبع العين — مثلًا — إلا بهذا الفرد الجزئي أو ذاك؟ هل ترى العين «إنسانًا كليًّا» أو «مثلثًا كليًّا» أو «قطًّا كليًّا» أم ترى هذا الفرد أو ذاك من بني الإنسان، وهذا المثلث أو ذاك، وهذا القط أو ذاك؟ وإذا كانت العين لا ترى إلا أفرادًا جزئية أو مواقف جزئية، فالأفكار — بالتالي — لا تكون إلا صورًا ذهنية لأفراد جزئية أو مواقف جزئية … فكيف نفسر الدلالة الكلية التي تكون للفظ الكلي؟
وسنبدأ بدعوانا بأن «العقل يستحيل أن يكوِّن أية فكرة عن كم أو كيف إلا إذا كوَّن فكرة دقيقة عن الدرجة التي يكون عليها ذلك الكمُّ أو ذلك الكيف» فلنا على ذلك حجج ثلاث: أولاها هي أنه مما لا شك فيه أن الأشياء إذا اختلفت أمكن التمييز بينها، وأن ما يمكن التمييز بينه يمكن كذلك فصل بعضه عن بعض بالفكر والخيال؛ والعكس صحيح أيضًا، أي إنه إذا أمكننا أن نفصل بالفكر شيئًا عن شيء، تحتم أن يكون الشيئان متميزين أحدهما عن الآخر، وأن يكونا بالتالي مختلفين؛ إذ كيف يمكن أن نفصل شيئًا عن شيء إذا لم يكن ممكنًا أن أميز أحدهما من الآخر، ثم كيف أميز بينهما عل هذا النحو إذا لم يكن بينهما اختلاف؟
والحجة الثالثة هي أنه من المبادئ التي تقرها الفلسفة عامة أن كل شيء في الطبيعة فرد متميز بفرديته، فمن السخف أن تفترض وجود مثلث في الطبيعة دون أن تكون لأضلاعه وزواياه مقادير معلومة معينة بالنسبة بعضها إلى بعض، كأن يكون — مثلًا — مثلثًا متساوي الأضلاع أو مختلفها، متساوي الزوايا أو مختلفها، وأن أضلاعه أو زواياه إذا اختلفت فلا بد أن يكون اختلافها بنسبة معلومة متعينة فإذا كان افتراض وجود مثلث في دنيا الأشياء الواقعة لا تكون له أضلاع وزوايا ذوات مقادير معينة محددة، أقول إنه إذا كان هذا القول سخفًا، فسخف بالتالي أن تقول ذلك عن «فكرة» المثلث، ما دامت «الفكرة» نسخة من الانطباع الحسي، وما دام هذا الانطباع الحسي لا يكون إلا من شيء قائم فعلًا في دنيا الأشياء، شيء له جزئيته وفرديته ودرجته المعلومة المعينة من كيف وكم.
إنه لا فرق إطلاقًا بين قولك عن فكرة ما بأنها مجرد فكرة في الرأس، وقولك عنها إنها فكرة تشير إلى شيء في الخارج، لأن الفكرة كائنة ما كانت — ما دامت فكرة مشروعة — فلا بد بحكم طبيعة تكوينها أن يكون لها مقابل في الخارج؛ لأنه لولا وجود الشيء الخارجي لما كان «انطباع» ثم لما كانت فكرة؛ ولما كان محالًا على فكرة كائنة ما كانت أن تصور شيئًا بغير كم وكيف، فإنه محال عليها كذلك ألا يكون هذا الكم فيها وهذا الكيف ذوي درجة معينة تجعل منها فكرة فردة جزئية متميزة من سواها مهما كان بعد ذلك بينها وبين سواها من أوجه الشبه.
صفوة القول في تكوين الكلمات الكلية وطبيعتها، هي أننا إذا ما أردنا أن نطلق واحدة منها على مجموعة أفراد متشابهة من بعض الوجوه، كان علينا أن نستعرض عددًا من صنوف هؤلاء الأفراد لنمثل أوجه الخلاف بقدر المستطاع؛ وبعدئذٍ إذا ما ذُكرَتْ تلك الكلمة فربما أثارت فردًا واحدًا من هذه الأفراد على اختلاف الأفراد فيما بينها، لكننا نكون على استعداد أن نستثير فردًا آخر أو أفرادًا أخرى من الصور الكامنة، بقدر ما يتطلبه الموقف الذي نكون بصدده؛ على أنه لا ينبغي أن يغيب عنا أبدًا أن الفكرة التي يستثيرها اللفظ الكلي هي دائمًا فكرة جزئية في ذاتها، وإن تكن مستخدمة استخدامًا يجعلها فكرة عامة بسبب تمثيلها لبقية أفراد مجموعتها؛ إنه لا ينبغي أن يغيب عنَّا أن الفكرة الواحدة إنما تصبح «كلية» «عامة» «مجردة» لكونها ارتبطت ﺑ «كلمة كلية عامة»؛ الفكرة الواحدة قد تطلق عليها اسم عَلَم تنفرد به فتكون جزئية، وقد تطلق عليها هي نفسها اسمًا كليًّا لتستخدمها ممثلة لنوعها فتصبح فكرة كلية.
وقد يسأل سائل: إذا كانت كل فكرة في أذهاننا هي بحكم طبيعتها فكرة جزئية فردية، وأن الكليِّ المجرد منها لا يكون كذلك إلا بطريقة استعمالها؛ فكيف نفسر عمل العقل حين يجرد جانبًا واحدًا من فكرة معينة مطرحًا سائر الجوانب، كأن يجرد من الكرة استدارتها أو من البرتقالة لونها؟
(١-٣) ترابط الأفكار
تلك هي المبادئ الثلاثة التي تترابط الأفكار على أساسها؛ يذكرها هيوم ويقول إنه لا يدَّعي أنها هي المبادئ الوحيدة في هذا الصدد؛ فما على القارئ الذي يشك في ذلك سوى أن يستعرض لنفسه ما شاء من أمثلة لترابط الأفكار في رأسه وأن ينعم النظر فيها محلِّلا ما بينها من روابط، لعله يجد مبدأ آخر ينتظم طائفة أخرى من صنوف الارتباط؛ قد يجد مثلًا أن «التضاد» بين الفكرتين ربما يكون داعيًا لارتباطهما بحيث يستدعي الضد ضده كما يستدعي ذكر اللون الأبيض اللون الأسود؛ غير أن التضاد يظهر بالتحليل أنه مزيج من مبدأَي السببية والتشابه؛ لأنه إذا كان ثمة ضدان فإن الضد منهما يفني ضده، أي إنه يكون سببًا في فنائه، وفناء فكرة ما قد يستدعي في الذهن ما قد كانت عليه قبل فنائها؛ مثال ذلك الأبيض والأسود؛ فإذا ما وردت إلى خاطري فكرة الأبيض، أدركت على أساس السببية أن وروده إنما كان على حساب فناء فكرة الأسود، وعندئذٍ أذكر ما قد كان الأمر فأذكر اللون الأسود، وهكذا يتتابع الضدان في الذهن.
(٢) الإدراك الحسي والذاكرة
(٢-١) الانطباعات الحسية وأصولها الخارجية
سؤالان يريدان منَّا جوابًا؛ أولهما خاص باعتقادنا عن شيء ما ندركه بحواسنا أن لوجوده استمرارًا واتصالًا على الرغم من أنه قد يكون حاضرًا أمام الحواس آنًا وغائبًا عنها آنًا آخر، فما الذي يحملنا على مثل هذا الاعتقاد رغم أننا نجاوز به شهادة الحواس؟ فهذا المكتب الذي أكتب عليه الآن موجود بشهادة الرؤية واللمس، لكنني قد أخرج من الغرفة فلا أراه ولا ألمسه ولا أشهد وجوده بحاسة أخرى، ومع ذلك فإني إذا ما عدت إلى الغرفة وعدت إلى رؤيته ولمسه، ملكني الاعتقاد بأنه هو نفسه المكتب الذي كنت قبل ذلك أراه وألمسه، فأنى لي هذا الاعتقاد باستمرار وجوده، مع أنني لو ركنتُ إلى شهادة الحواس وحدها لقلت إنه مكتب آخر قد بدأتُ لتوي أدركه بحسي؟
والسؤال الثاني خاص باعتقادنا بوجود الشيء الذي ندركه بالحواس خارج حدودنا، أي إنني حين أنظر إلى هذا المكتب الذي أمامي، يملكني الاعتقاد بأنه ليس مجرد انطباع على شبكية عيني، بل هو كائن مستقل عني موجود خارج نطاقي؛ فما الذي يحملني على هذا الاعتقاد إذا كنت في حقيقة الأمر لا أعلم إلا أن انطباعًا حسيًّا واقع على جسدي؟ أفلا يجوز أن هذا الذي أراه إن هو إلا هذا الانطباع وحده دون أن يكون ثمة في الخارج ما يقابله، كما يحدث أحيانًا حين يتوهم الواهم أنه يرى أو يسمع وليس هنالك الشيء الذي يتوهم أنه يراه ويسمعه؟
والسؤالان مرتبطان أحدهما بالآخر، لأنني إذا ما اعتقدت عن شيء ما أنه موجود في لحظة لا يكون انطباعه فيها واقعًا على حسي، كأن أعتقد بوجود مكتبي هذا حتى في اللحظة التي أكون فيها جالسًا في غرفة أخرى لا أراه ولا ألمسه، على أساس أن له وجودًا متصلًا غير متقطِّع بتقطُّع إدراكاتي الحسية لوجوده، أقول إنني إذا ما اعتقدت ذلك عن هذا المكتب، فقد اعتقدت بالتالي أن وجوده مستقل عن وجودي، وأن وجوده لا يعتمد على إدراكي الحسي المباشر له وجودًا وعدمًا؛ والعكس صحيح أيضًا، بمعنى أنني ما دمت قد اعتقدت أن وجود هذا المكتب مستقل عن وجودي وعن إدراكي المباشر له، فقد اعتقدت بالتالي أن وجوده يظل قائمًا في حضوري أو غيابي على السواء … ذانك هما السؤالان اللذان نريد الإجابة عنهما لنعلم ما الذي يحملنا على الاعتقادين معًا: الاعتقاد باتصال وجود الشيء الخارجي، والاعتقاد بوجوده مستقلًّا عنا؛ أهي «الحواس» نفسها التي تحملنا على هذين الاعتقادين؛ أم هو «العقل» أم «الخيال»؟
أما «الحواس» نفسها فيستحيل أن تكون مصدرًا لأيٍّ من هذين الاعتقادين؛ إذ من الواضح أنني حين أكون غائبًا عن هذا المكتب بحيث لا أراه وحين أحكم — رغم غيابي عنه — أنه موجود، فليس هذا الحكم عندئذٍ مستمدًّا من حواسي؛ لأنني — بحكم الفرض الذي فرضته — غائب عنه، فليس هو على صلة ببصري أو بلمسي؛ وإلا فلو قلت إنني أرى المكتب حين لا أراه، وألمسه حين لا ألمسه، فذلك يكون مني تناقضًا صريحًا.
(٢-٢) مبدأ الذاتية
قلنا إن الإنسان إذا ما جاءته سلسلة انطباعات على لحظات من الزمن متتابعة شديدة الشبه بعضها ببعض، فإنه يميل بخياله إلى دمجها بحيث تصبح وكأنها انطباع واحد يدل على شيء واحد؛ فالشمس — مثلًا — أراها مرة بعد مرة، وفي كل مرة تطبع عيني بانطباع هو في الحقيقة مستقل عن الانطباع الذي تطبعني به في المرة التالية، لكن الانطباعين يكونان على تشابه شديد، فأدمجهما بحيث أجعلهما وكأنهما انطباع واحد مبعثه شيء واحد في الخارج هو الشمس؛ هذا التوحيد الذي أدمج به ما هو في الحقيقة متعدد، هو الذي يسمى في الفلسفة بمبدأ الهوية أو مبدأ الذاتية.
فلو كان ما أراه انطباعًا واحدًا في لحظة واحدة، لما كان ثمة داعٍ لهذا المبدأ، لأن المبدأ يقتضي أن تكون هنالك حالتان أو انطباعان على الأقل، يتلو أحدهما الآخر في لحظتين مختلفتين، ثم أقول عن الانطباع الثاني إنه هو هو بعينه الانطباع الأول؛ بعبارة أخرى لو كان هنالك وحدة واحدة لما كانت هنالك «ذاتية» أو «هُوِيَّة»، لأن الوحدة واحدة بحكم تعريفها، فليس فيها التعدد الذي نحكم على وحداته بأنها تكوِّن فردًا، وبالتالي فليس فيها الإشكال الذي يحاول الفلاسفة أن يفسروه بمبدأ الذاتية.
وكذلك لو كان هنالك عدة حالات أو عدة انطباعات، مهما يكن بينها من تشابه، دون أن أزعم لها أنها في الحقيقة ذاتٌ واحدة، لما نشأت مشكلة الذاتية، لأن هذه المشكلة — كما قلنا — لا تكون إلا بقيام الوجهين معًا: التعدد الذي يكوِّن وحدة.
فلننظر بعد ذلك إلى موقفنا إزاء الانطباعات المتشابهة التي تأتي إلينا على فترات قد تكون متباعدة، ومع ذلك نقضي بأنها ترتبط بذاتية واحدة؛ كأن أرى النهر — مثلًا — ثم أراه بعد حين يقصر أو يطول، فأحكم بأن الانطباع الذي انطبعتُ به أول مرة، والانطباع الذي انطبعتُ به في المرة الثانية، هما في الحقيقة انطباع واحد، أو قل هما انطباعان بينهما ذاتية تربط بينهما في وحدة تجعل النهر الذي رأيته في المرة الأولى هو بعينه النهر الذي رأيته في المرة الثانية؛ فحقيقة الأمر هنا هي أنني إزاء انطباعين لا انطباع واحد، وبالتالي فقد تكون لديَّ عن النهر فكرتان لا فكرة واحدة، ولأن أجعلهما فكرة واحدة فهو خطأ يجاوز الواقع كما وقع.
(٢-٣) الذاكرة والخيال
كنَّا حتى الآن نتحدث عن طرفين من أطراف الخبرة، أما أولهما فالانطباعات التي ينطبع بها الإنسان بما يُعْطاه من خارج، وأما الآخر فالأفكار التي هي الصور الذهنية لتلك الانطباعات بعد غياب بواعثها؛ فالفكرة هي انطباع فترت قوته وبهتت ألوانه، والانطباع هو فكرة في حالة نصوعها ووضوحها؛ ها أنا ذا أنظر إلى شجرة خلال نافذتي، فما عندي منها — طالما أشخصُ إليها ببصري — هو انطباع، ثم أحوِّل عنها البصر محتفظًا بصورتها في ذهني، فما يكون عندي منها عندئذٍ هو فكرة.
فإذا ما أردنا التمييز بين «الذاكرة» و«الخيال» فذلك لا يكون بالتفرقة بين ما يكوِّن كلًّا منهما من عناصر بسيطة، فلا نقول مثلًا إن الذاكرة قوامها كذا وكذا من العناصر، أما الخيال فقوامه كيت وكيت؛ وذلك لأن كليهما عناصره البسيطة واحدة، مستمدة من مصدر واحد هو الانطباعات التي تقع على الحواس؛ إذ ليس ثمة من مصدر آخر؛ فإن كانت الأفكار المستعادة بالذاكرة قوامها ألوان وطعوم وأشكال وما إلى ذلك مما تأتي به الحواس عن طريق انطباعاتها فكذلك الأفكار التي نقول عنها إنها خيال هي الأخرى قوامها ألوان وطعوم وأشكال وما إلى ذلك مما تأتي به الحواس عن طريق انطباعاتها أيضًا.
كلَّا ولا هو ترتيب تلك العناصر البسيطة ما يميز الذاكرة من الخيال، فليس من الصواب أن نقول إن الخيال يختلف عن الذاكرة في أنه يغير ويبدل من ترتيب العناصر كما قد جاءت بها الانطباعات أول الأمر؛ لأنه وإن يكن الخيال قد يختلف فعلًا عن الذاكرة في أن هذه الأخيرة تحتفظ بالترتيب الأصلي للأفكار سابقًا قبل لاحق، وأن الخيال يقدِّم في الأوضاع الأصلية أو يؤخر كيف شاء، إلا أن هذا الفرق وحده لا يكفي للتمييز بينهما؛ إذ كيف تستطيع استعادة الانطباعات الأولى بترتيبها بحيث تنظر إليها مقرونة إلى تذكُّرها، لتقول إن كانت قد احتفظت في الحالتين بترتيب واحد أو لم تحتفظ؟ ذلك محال، بل هو تناقض في القول، لأنك إذا ما استعدت الانطباعات الأولى فتلك ذاكرة فكأنما أنت تقرن ذاكرة إلى ذاكرة لتقيس الثانية بالأولى!
الذاكرة لا تختلف أساسًا عن الخيال إلا في أن فكرتها أوضح وأجلى، فإذا ما أراد مصور أن يصوِّر إنسانًا ذا عاطفة معينة أو انفعال معين، كأن يصوره غاضبًا أو خائفًا أو محبًّا أو حاقدًا، فخير له أن يتذكر شخصًا معينًا وهو في الحالة التي يريد المصور أن يصوِّرها، لأن ملامح العاطفة التي يراد رسمها تكون أمامه عندئذٍ أوضح جدًّا مما لو ترك نفسه للخيال وحده يحاول به أن يحدد تلك الملامح؛ نعم إنه حتى حين يترك نفسه لخياله، فلن يتقيد إلا بما كانت انطباعاته قد جاءته به من خبراته الحسية، لكن صور الخبرة الماضية في حالة الخيال تكون أشد غموضًا منها لو استعيدت بالذاكرة متمثلة في شخص معين أو موقف بذاته؛ وكلما كانت هذه الذاكرة أقرب زمنًا إلى وقت حدوث الانطباع كانت أكثر وضوحًا؛ ولكن اترك الأعوام تمضي، وسيمضي معها وضوح ما كنَّا خبرناه وذكرناه حيًّا نابضًا، إنه بمر الزمن سيمَّحي كثير من تفصيلاته ويغمض كثير من جوانبه، حتى ليحدث كثيرًا أن يختلط الأمر علينا عندئذٍ فلا ندري أتكون الصورة الماثلة في أذهاننا بهذا الفتور والضعف ذاكرة أم خيالًا.
على أن التفاوت في درجة الوضوح إن يكن هو المميز الأساسي فليس هو بالمميز الوحيد للذاكرة من الخيال؛ بل هنالك فارق آخر وهو أن الخيال لا يتقيد بنفس الترتيب الذي كانت الانطباعات قد جاءتنا به أول مرة، على حين تتقيد الذاكرة بذلك الترتيب؛ فمن الواضح أن الإنسان حين يتذكر ما قد خبره من حوادث، فإنما يتذكرها كما وقعت سابقًا فلاحقًا، فإن حدث أن خلط الأوضاع ولم يذكرها كما وقعت، كان ذلك نقصًا في ذاكرته وعيبًا؛ فالمؤرخ — مثلًا — له أن يقدم حادثة على أخرى في الوقت الذي يعلم فيه أن الحادثة التي قدمها في الترتيب قد وقعت مؤخرة، لكنه لا بد — لكي يكون مؤرخًا دقيقًا — أن يكون على وعي بما هو فاعل؛ وكذلك نفعل في خبراتنا الماضية حين نعود إلى ذكرها، فلا تكون الذاكرة سليمة إلا إذا أعيدت الخبرات بترتيبها الأصلي، ما لم نتعمد لسبب من الأسباب أن نقدم المتأخر ونؤخر المتقدم.
(٣) يقين المعرفة واحتمالها
(٣-١) علاقة السببية
القضية من قضايا الهندسة والجبر والحساب، كقولنا — مثلًا — إن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساوٍ لمجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرَين، أو أن خمسة مضروبة في ثلاثة تنتج عددًا هو نصف الثلاثين، هي قضية تحدد العلاقة بين أفكار، ولا شأن لها بالواقع كما هو واقع؛ ففي المثل الأول تحديد للعلاقة بين مربعات ثلاثة نتصورها بالفكر، وفي المثل الثاني تحديد للعلاقة بين أعداد معينة نحسبها ونتصورها بالفكر كذلك؛ فهذه وأمثالها قضايا نكشف عن صدقها بعمليات فكرية صرفة، دون الرجوع إلى شيء مما هو واقع في أرجاء الكون؛ فلو لم يكن في الطبيعة كلها مربع واحد ولا مثلث واحد ولا دائرة واحدة، لما نقصت درجة اليقين التي نحكم بها على النظريات التي أوردها إقليدس في هندسته.
وإذا كانت أحكامنا على وقائع العالم الطبيعي — على نحو ما أسلفنا — مما يمكن للعقل أن يتصور نقيضه، وأن التجربة وحدها هي التي تنبئنا بما يحدث، وأن ما قد يحدث غدًا ربما جاء مخالفًا لما حدث اليوم أو أمس، فلا استحالة — مثلًا — عند العقل ألا تشرق الشمس غدًا … أقول إنه إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يميل بنا كل هذا الميل نحو قبول أحكامنا على وقائع العالم الطبيعي كما لو كانت يقينًا ثابتًا؟ أيكون في الأمر شيء يجاوز حدود شهادة الحواس في اللحظة الراهنة، وشهادة الذاكرة بما كانت قد انطبعت به الحواس فيما مضى من خبرات؟
الخبرة الحسية وحدها — إذن — لا التفكير العقلي الخالص، هو المصدر الذي نستقي منه علمنا بعالم الواقع، ويستحيل علينا بغير تلك الخبرة أن نتوقع ما عساه أن يحدث من حوادث ذلك العالم؛ وإلا فكيف يمكن لإنسان بعقله البحث أن يحكم على قطعتين ملساوين من الرخام التصقت إحداهما بالأخرى أنهما لو جُذبتا في اتجاه عمودي لتنفصل إحداهما عن الأخرى فلا بد لهما من قوة عظيمة، على حين تكفي قوة يسيرة لانفصالهما إذا ما دُفعت الواحدة منهما دفعًا أفقيًّا لتنزلق على الأخرى؟ كيف يمكن للإنسان بغير خبرة حواسه أن يعلم شيئًا عن دوي البارود إذا ما تفجر، أو جذب المادة الممغطسة للمعادن. كيف يمكن بغير هذه الخبرة أن نعلم أن اللبن والخبز غذاء صالح للإنسان، وغير صالح للأسد أو النمر؟
ومع ذلك فهنالك من خصائص الوقائع الطبيعية ما يخيل إلينا أننا مدركوه بغير خبرة حسية، وأن العقل الصرف قادر وحده أن يدرك بعض العلاقات السببية بين الأشياء حتى ولو لم تقع لنا حالة واحدة من حالاتها في ماضي خبراتنا؛ مثال ذلك ما نتوهمه إزاء كرة البلياردو حين تتحرك حتى تصدم كرة أخرى فتحركها؛ فها هنا تُرانا نظن أن تحريك الكرة الأولى للكرة الثانية أمر كان يمكن الحكم بوقوعه بمجرد التفكير العقلي، وأن الضرورة لا تقتضي أن ننتظر حتى يحدث ذلك في خبراتنا لنحكم بعد ذلك بإمكان وقوعه؛ لكنها العادة هي التي تخدعنا عن حقيقة الموقف، بأن تجعل لنا الأمر على درجة من الإلف بحيث نتوهم أنه أمر ظاهر اليقين، وأن الإدراك الفطري وحده كافٍ للكشف عنه.
(٣-٢) الحكم على أساس الخبرة احتمالي لا يقيني
إنه لا مناص من التسليم بأن الطبيعة قد أخفت عنا سرها المكنون، وأنها لم تعلن لن إلا عن قليل من صفاتها الظاهرة، فهي تبدي لنا عن الشيء المعين بعض خصائصه المحسوسة من لون وطعم ورائحة وشكل … إلخ، أما القوى الخبيئة لذلك الشيء، والتي عليها يتوقف تأثير ذلك الشيء في غيره من الأشياء، فلا تفصح عنها؛ إننا نعرف عن الخبز — مثلًا — لونه وطعمه ووزنه؛ لكن ما الذي يجعل هذا الخبز صالحًا لتغذية الجسم البشري؟ ليس في وسع الخبرة الحسية ولا في وسع الفكر الخالص أن يجيب عن هذا السؤال؛ إن البصر واللمس يعطياننا فكرة عن الحركة الفعلية في الأجسام المتحركة، وأما تلك القوة العجيبة التي تحفظ للجسم المتحرك حركته إلى الأبد، على اختلاف الأماكن التي يمر خلالها، بحيث لا تزول عنه إلا إذا انتقلت منه إلى جسم آخر فحركته، فليس لنا إلى معرفتها من سبيل.
لكن جهلنا هذا بالقوة الخبيئة في طبائع الأشياء، لا يمنعنا من الحكم الصادق بأنه إذا تشابهت الخبرات الحسية الواردة إلينا من شيئين، كان الفعل المترتب على هذين الشيئين متشابهًا كذلك، فإذا ما رأيت — مثلًا — مادة معينة لها ما قد ألَفْتُه في خبراتي الماضية من صفات الخبز لونًا وتكوينًا، جاز لي أن أحكم في يقين بأن هذه المادة ستفعل في تغذية الجسم ما قد فعلته أشباهها في الماضي.
وها هنا ينشأ السؤال الآتي: على أي أساس عقلي أتوقع لخبرات الماضي أن تتكرر في المستقبل إذا ما تكررت ظروفها؟ كيف جاز لي أن أقرر في يقين أنه ما دام خبز اليوم له نفس المعطيات الحسية التي كانت لخبز الأمس، فسيكون له كذلك نفس القُوى الداخلية التي كانت لخبز الأمس؟ ألا يجوز أن يكون التشابه بينهما مقصورًا على الخصائص الظاهرة، أما طبائعهما الداخلية فمختلفة؟
واضح أن حكمنا على المستقبل بأنه سيجري على غرار الماضي، هو حكم لا تقضي به الضرورة العقلية؛ إذ لا تناقض عند العقل أن تتكرر الظواهر نفسها لشيء ما دون أن تتكرر معها الطبائع والقُوى؛ ومع ذلك ترانا نسير في حيواتنا على هذا المبدأ، وهو أن نتوقع المستقبل على غرار الماضي، فما علة ذلك في طبائعنا؟
وإذا لم تكن هنالك ضرورة عقلية تحتم أن تجيء خبرة المستقبل على غرار خبرة الماضي، فتوقعنا لخبرة المستقبل استنادًا إلى خبرة الماضي هو من قبيل الاحتمال لا من قبيل اليقين؛ ذلك أن استدلالاتنا نوعان: استدلال برهاني أو استنباطي واستدلال استقرائي أو احتمالي؛ أما الأول فيكون حين نحلل فكرة معينة لنستخرج منها أحد أجزائها المكونة لها، وأما الثاني فيكون حين نحكم بحكم معين على أمر من أمور الواقع؛ ولما كانت النتيجة في الاستدلال البرهاني متضمنة في المقدمة، وكل ما في الأمر أننا حللنا المقدمة وأبرزنا أحد عناصرها في النتيجة، كان حتمًا على هذه النتيجة ألا تناقض المقدمة التي عنها تولدت، وكان كذلك مستحيلًا علينا أن نتصور نقيض هذه النتيجة؛ وأما في الاستدلال الاستقرائي الذي يتعلق بأمور الواقع، فالنتيجة ليست مجرد إبراز لعنصر كان متضمنًا في المقدمة، بل هي إضافة جديدة، حكمنا بها على موضوعنا اعتمادًا على خبراتنا الحسية، ولذلك فلا استحالة في أن يكون الحكم نقيض ما هو الآن، لأنه لا استحالة في أن يتصور العقل أن تكون خصائص الأشياء على غير ما هي عليه، فلو قلت مثلًا إن المثلث سطح مستوٍ محوط بثلاثة خطوط مستقيمة، ثم انتزعت من هذه المقدمة نتيجة هي أن في المثلث زوايا ثلاثًا، كانت النتيجة لازمة عن المقدمة لزومًا يستحيل معه أن نتصور نقيضها؛ إذ لا يمكن أن يكون السطح المستوي محوطًا بثلاثة خطوط مستقيمة، ثم لا تكون فيه زوايا ثلاث؛ فالنتيجة هنا هي نفسها المقدمة (أو بعض عناصر المقدمة) موضوعة في عبارة أخرى، فلو تصورنا نقيض النتيجة كنا كمن يتصور الشيء ونقيضه معًا؛ أما إذا قلنا إن الخبز يغذي الإنسان ولا يغذي النمر، فهذا حكم استقيناه من التجربة، ولم يكن عند العقل ما يمنع أن يكون الأمر على خلاف ذلك؛ إذ لا استحالة في أن يكون الخبز غذاء النمر دون الإنسان؛ كلا الأمرين محتمل عقلًا، وإنما قضينا بواحد دون الآخر استنادًا إلى الخبرة وحدها.
(٣-٣) نوعان من الاحتمال
انتهى هيوم — بما أسلفناه لك من جوانب مذهبه — إلى نتيجة خطيرة، وهي أن كافة القضايا التي تدور حول العالم الطبيعي احتمالية لا يقينية، ولا يقين إلا إذا كانت القضية قائمة على تحليل العلاقة بين فكرة وفكرة أخرى، أعني أنه لا يقين إذا ما جاوز الإنسان دائرة أفكاره إلى حيث الخبرات الحسية؛ ولماذا يكون اليقين في دائرة الفكر ولا يكون في مجال الحس؟ لأننا في الحالة الأولى نحلل ما هنالك ولا نضيف علمًا جديدًا؛ إذ نحلل فكرة معينة كفكرة المثلث — مثلًا — لنبرز بعض عناصرها ثم نبين الرابطة بين هذه العناصر الفرعية والفكرة الرئيسية التي حللناها، فكأنما نحن نكرر ما قد أثبتناه في الفكرة الرئيسية، نكرره بذكرنا لبعض العناصر التي هي بين مقدماتها؛ وهذا هو التفكير الرياضي وما يدور مداره، فمثل هذا التفكير الرياضي لا يزيد على أن يحلل فروضًا أولية ليستخرج من جوفها ما هي مشتملة عليه من عناصر، فيكون هذا المستخرج المستنبط هو «النظريات» الرياضية التي يستحيل أن تكون موضع شك ما دمنا قد سلمنا بتلك الفروض الأولية التي هي أصل لها، ومِن ثَم كان صواب النظريات الرياضية لا شأن له البتة بما هو واقع في عالم الطبيعة الخارجي.
أما في العلوم الطبيعية، حيث تكون القضايا تقريرات عن خبراتنا الحسية المكسوبة من مسنا لظواهر العالم الطبيعي بهذه الحاسة من حواسنا أو تلك، فالأمر على خلاف ذلك؛ لأننا عندئذٍ لا يسعنا إلا أن نقرر عما قد خبرناه فعلًا؛ فإذا ما أردنا أن نتخذ من هذه الخبرات السابقة ذريعة للحكم على خبرات شبيهة بها ينتظر لها أن تحدث في مقبل الأيام، جاوزنا بذلك حدود المنطق؛ لأننا عندئذٍ سنكون بمثابة من يقضي بأن المستقبل ستأتي حوادثه على غرار الماضي، وهذا في ذاته زعم ليس لدينا ما يبرره من داخل الخبرة نفسها … وإذن، فلو حكمت على خبرة المستقبل بما حكمت به على خبرة الماضي، كان ذلك على سبيل الاحتمال لا اليقين.
ولقد سبق فلاسفةٌ آخرون هيوم في التنبه إلى هذه التفرقة بين ضربين من معارف الإنسان: أولهما يقيني لأنه نابع من المقارنة بين أفكارنا العقلية وحدها، والثاني احتمالي لأنه مستند إلى الحواس وانطباعاتها؛ وكان هؤلاء الفلاسفة يضنون باسم «المعرفة» على هذا الضرب الثاني، ويقصرون استعماله على الضرب الأول وحده؛ إذ إن المعرفة عندهم لا تكون كذلك إلا إذا كانت يقينًا لا يحتمل التغير أو الشك.
والمقصود باحتمال المصادفات احتمال يتعلق بالحوادث ووقوعها، حين تقع الحادثة بغير سبب معلوم، وحين يكون هنالك أكثر من سبيل واحدة لمجرى الحوادث، كلها سواء في إمكان الوقوع؛ إذ لا يكون لدينا أساس معلوم نستطيع أن نعتمد عليه في ترجيحنا لسبيل منها دون سائر السبل؛ ومن قبيل احتمال المصادفات أن تقذف بقطعة النقد فيظهر أحد وجهيها دون الآخر، أو أن تستخرج ورقة من بين أوراق اللعب فتخرج حمراء أو سوداء؛ ففي هذين المثالين ترى أن الحادثة التي وقعت لا ترجح الحادثة التي لم تقع، بل كانت الحادثتان أول الأمر على درجة سواء من احتمال الوقوع، ولم يكن لنا أساس معلوم يصح لنا أن نبني عليه رجحان حادثة منهما على أخرى.
على أن هذه الاحتمالات المتساوية من حيث توقع حدوثها، تأخذ في التفاوت (من الوجهة النفسية لا من الوجهة المنطقية) حين يزيد عدد الفُرَص في ناحية عنه في ناحية أخرى؛ فلو كان لدينا — مثلًا — زهرة من زهرات النرد، ذات ستة جوانب، نقش على أربع منها عدد معين، ونقش على الجانبين الآخرين عدد معين آخر، كان ظهور العدد الأول عند رمي الزهرة أرجح احتمالًا من ظهور العدد الثاني، على الرغم من أن كل جانب على حدة يساوي في درجة احتمال ظهوره أي جانب آخر.
نقول إن الأرجحية هنا ليست منطقية، لأن الأمر كله على أي حال مرجعه «التخمين» ولا برهان هناك؛ أعني أننا حين نحكم برجحان ظهور العدد المكرر على جوانب أربعة، لا نصدر في ذلك عن فكرة وعلاقتها بفكرة أخرى، بل نصدر عن الخبرة الحسية مباشرة، لنحكم بما سيقع بناء على ما قد وقع في حالات ماضية شبيهًا بالحالة التي نحن بصددها.
تلك هي خلاصة ما يقوله هيوم عن «احتمال المصادفات» وأما «احتمال الأسباب» فهو ذلك الذي يحكم به الإنسان بناء على اطرادات سابقة وقعت الحوادث على نسقها؛ فكلما اطرد وقوع الحوادث التي من نوع معين على نسق معين، تكونت لدى الإنسان «عادة» تميل به إلى توقع نفس هذا الاطراد من جديد؛ ولما كانت «العادة» — أيًّا كانت — تزداد مع التكرار رسوخًا وثباتًا، فإن الإنسان كلما ازداد مشاهدة للوقوع المطرد لحادثة معينة على نسق معين، ازداد مع التكرار يقينًا بأن الحادثة ستقع على نفس الاطراد في المستقبل كما حدث لها في الماضي؛ وبذلك ينتقل الإنسان بحكمه من مرحلة «التخمين» الدنيا، إلى مرحلة أعلى من مراحل الاحتمال، وهي ما أطلق عليه اسم الاحتمال «البرهاني»؛ ويتم هذا الانتقال متدرجًا في بطء بحيث لا يلحظ الإنسان خطواته إلا حين يمعن به السير من طرف إلى طرف.
والعلاقة السببية بين الحوادث هي من أهم ما يذكره هيوم في سياق حديثه عن الاحتمالات البرهانية؛ فعلى الرغم من أن الإنسان يبدأ — إذ يبدأ خبرات حياته — باحتمال المصادفات إلا أنه ينتقل منها إلى احتمال البرهان، بمعنى أنه يشاهد بادئ ذي بدء شيئًا يتبع شيئًا آخر في الحدوث، فتكون له هذه المشاهدة في حكم المصادفة التي تجيز أن يكون الشيء اللاحق غير الذي وقع بالفعل لاحقًا؛ لكن هذا التلاحق بين الشيئين يطرد على مر الأيام، فتدخل العلاقة بينهما في مجال آخر من مجالات المعرفة، هو مجال الاحتمال البرهاني، الذي إن لم يكن يقينًا من الوجهة المنطقية، فله ثبات اليقين من الوجهة التجريبية العملية.
ثم تتكون عند الإنسان «عادة» التلاحق السببي، بحيث يكفيه بعد ذلك أن يتلاحق الشيئان مرة واحدة، ليربط بينهما رباطًا سببيًّا، بحيث يتوقع النتيجة إذا وقع السبب، لا لأن الشيئين اللذين هما سبب ونتيجة قد تكرر وقوعهما مرات عدة، بل لأن «عادة» الحكم السببي قد تكونت في المراحل الأولى من حياة الإنسان؛ أو بعبارة أخرى، لقد «تعود» الإنسان اطراد الطبيعة في تتابع حوادثها، وعلى أساس هذا الاطراد يجيز لنفسه بعد ذلك أن يتوقع للمستقبل أن يجيء على صورة الماضي، فإذا ما حدثت حادثة ما، كانت قد حدثت في الماضي متبوعة بحادثة معينة، فعلى أساس اطراد الطبيعة الذي «تعوده» الإنسان من تجاربه، يستطيع أن يحكم على المستقبل بأنه إذا حدثت الحادثة الأولى، فستحدث في إثرها الحادثة الثانية.
(٤) بين الضرورة والعَرَض
(٤-١) فكرة «الضرورة» لا أصل لها
ولئن كانت الميتافيزيقا بصفة عامة متصفة بالغموض، فليس فيها ما هو أشد غموضًا وما هو أبعد عن اليقين من كلمات مثل «قوة» أو «طاقة» أو «رابطة ضرورية»، وهي كلمات لا غنى لنا عنها في هذا المجال؛ فلا بد لنا — إذن — أن نحاول تحديد هذه الألفاظ تحديدًا يزيل عنها الغموض.
إننا إذا ما تلفتنا حولنا متجهين بأنظارنا إلى الأشياء الخارجية، باحثين فيما نسميه من تلك الأشياء «أسبابًا» لنرى ما فعلها، فلن نجد في أية حالة من الحالات كلها ما يكشف لنا عن «قوة» أو «رابطة ضرورية» بين السبب ومسببه، إننا لن نجد أبدًا صفة تنطبع بها حواسنا، وتكون هي الصفة التي تربط المعلول بعلته رباطًا يجعل ذلك المعلول نتيجة محتومة لعلته، يتبعها دائمًا ولا يتخلف عنها؛ إن كل ما نراه هو أن النتيجة تتبع سببها فعلًا؛ فنرى — مثلًا — أن كرة البليارد المتحركة إذا ما صدمت كرة أخرى كانت ساكنة، فإن هذه الثانية تتحرك كذلك؛ إن الذي ينطبع على حواسنا «الظاهرة» هو كرة أولى تتحرك وكرة ثانية تعقبها في الحركة؛ وليس هنالك من الحواس «الباطنة» ما يطبع العقل بانطباع آخر له علاقة بتعاقب هاتين الحادثتين؛ وإذن فلا الحواس الظاهرة ولا الحواس الباطنة تأتينا بانطباع يوحي بفكرة «القوة» أو «العلاقة الضرورية».
إن الصورة التي يظهر فيها الشيء لنا لأول مرة، يستحيل أن تنبئنا بالحالة التالية التي سيكون عليها ذلك الشيء؛ إذ إن مظهر الشيء في حواسنا لا يكفي وحده أن يعيننا على معرفة ما سيعقبه بحيث يجوز لنا أن نقول إن هناك رابطة ضرورية تحتم أن يعقب الشيء الفلاني، على اعتبار أن ما يحدث منهما أولًا فيه من الطاقة الطبيعية ما ينتج الشيء الذي يحدث منهما ثانيًا؛ ولو كان في مستطاع العقل أن يكشف في «السبب» عن قوة أو طاقة، لاستطاع بالتالي أن يتنبأ ﺑ «النتيجة» قبل وقوعها دون أن يعتمد في ذلك على خبرة حسية؛ نعم كان يكفي العقل عندئذٍ أن يتأمل «فكرة السبب» ليستنتج منها استنتاجًا منطقيًّا صرفًا «فكرة المسبَّب».
قد يقال إن الرابطة الضرورية التي تصل بين الحوادث لاحقها بسابقها، وإن تكن غير بادية للحواس فيما يقع للحواس من انطباعات جزئية، يمكن لنا إدراكها إذا ما تأملنا عقولنا وهي في فاعليتها ونشاطها؛ نعم قد يقال ذلك، استنادًا إلى أن الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته الواعية مدرك لهذه القوة الباطنية وهي تفعل فعلها في ربط السبب بالمسبب؛ فانظر إلى نفسك وأنت تهم بتحريك ذراع أو قدم، أليست إرادتك تأمر، وأعضاء البدن تطيع؟ وإذن فها هنا قد أدركنا القوة التي تربط معلولًا بعلته، ومِن ثَمَّ استطعنا أن نعمم القول بأن بين كل سبب ومسببه مثل هذه الرابطة الخفية التي وعيناها في دخيلة أنفسنا حين وعينا الإرادة وهي تحرك جارحة في أبداننا أو تستثير فكرة في ذاكرتنا؛ فليس بنا حاجة إلى التماس «فكرة القوة» أو فكرة «الرابطة الضرورية» في انطباعاتنا الحسية، ما دمنا قد وجدناها عند التأمل في عقولنا وهي تعمل، وفي إرادتنا وهي تحدث الأحداث.
قد يقال هذا، وإذن فلا بد من وقفة نحلل فيها هذه القوى الباطنية المزعومة، كقوة الإرادة مثلًا، أعني قدرتها على تحريك أعضاء البدن؛ وأول ما نقرره في هذا الصدد هو أن تأثير الإرادة في هذا لا سبيل إلى إدراكه إلا إذا مارسناه بأنفسنا وأصبح بهذه الممارسة خبرة من خبراتنا، شأنه في ذلك شأن الحوادث الطبيعية كلها، التي لا سبيل إلى معرفتها إلا إذا باتت جزءًا من خبراتنا؛ أريد أن أقول إن الإرادة هنا باعتبارها سببًا يسبب تحريك هذا العضو أو ذاك من أعضاء الجسم، شأنها شأن أي حادثة أخرى من حوادث الطبيعة، ومما نعده سببًا لحادث يتلوه، لا بد لنا من تجربة تدلنا على هذا التتابع بين الحادثين لنقول عنهما إنهما سبب ومسبَّب، وليس في طبيعة الحادثة الأولى نفسها ما يدل على أن الحادثة الثانية ستتلوها، وكذلك قل في الفعل الإرادي، حين يكون هنالك إرادة من ناحية وجزء من الجسم يتحرك تبعًا لها من ناحية أخرى، فليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنه من الحتم أن تتبعها من حركة بدنية.
لا، ليس في مستطاع الإنسان أن يدرك في نفسه «قوة» كهذه، وكل ما يدركه إذ هو يقوم بفعل إرادي، هو عزمه الإرادي من ناحية، ثم الحركة الجسدية المترتبة على ذلك العزم من ناحية أخرى؛ وأعيد القول بأنه ليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنها لا بد أن تتبعها حركة الجسم تنفيذًا لعزمها؛ بدليل أننا لا نستطيع أن نحرك بالإرادة إلا بعض أجزاء الجسم دون بعضها الآخر؛ ولو سئلنا قبل الخبرة: أي أجزاء الجسم في مستطاع الإرادة تحريكه، وأيها تعجز الإرادة عن تحريكه؟ لما كان في وسعنا أن نجيب؛ إذ لا بد أن ننتظر الخبرة لتدلنا ماذا نستطيع تحريكه من أجزاء الجسم بالإرادة، وماذا لا نستطيع؛ لماذا يكون للإرادة قدرة تحريك اللسان والأصابع ولا يكون لها قدرة تحريك القلب والكبد؟ كنا نجيب عن هذا السؤال لو كان لنا علم بقوة معينة موجودة في الحالة الأولى وغائبة في الحالة الثانية، لكن ليس لدينا مثل هذا العلم؛ نعم، لو كان لنا علم بقوة باطنية معينة — كما يزعم الزاعمون — لعلمنا بالتالي، وقبل الخبرة، ماذا تستطيع تلك القوة وماذا لا تستطيعه.
وكما أن الإرادة في استحداثها لحركات الجسد محدود بحدود، بحيث يمكنها تحريك بعض الأعضاء دون بعضها الآخر لعلة لا ندريها سوى أن الخبرة هكذا تدلنا على الإرادة وحدود فعلها؛ فكذلك الإرادة في استحضارها للأفكار في الذهن محدودة أيضًا بحدود، فيمكنها أن تستحضر هذه الفكرة ولا يمكنها أن تستحضر تلك، لعلة لا ندريها، سوى أن هذه هي خبرتنا وما تدل عليه، إننا لنلاحظ عن أنفسنا أننا أقدر على استحضار الأفكار في أذهاننا في بعض الحالات دون بعضها، فنحن أقدر في حالة الصحة منا في حالة المرض، وأقدر في حالة هضم الطعام منا في حالة التخمة، فهل يستطيع أحد أن يدلنا على علة هذا كله غير معتمد على خبرته؟ هل يستطيع أحد أن يسبق الخبرة بحيث يقرر بادئ ذي بدء أنه أقدر على استحضار أفكاره في حالة الجوع منه في حالة الشبع؟ أم لا بد له أن ينتظر خبرته لنفسه وهو جائع ثم خبرته لنفسه وهو مليء، ليقول بعدئذٍ عما قد عرفه في نفسه بالخبرة … وإذن فالخبرة وحدها هي المصدر الذي نستقي منه العلم بأن كذا من الظواهر يتبع كيت، دون أن نعلم شيئًا قط عن علاقة ضرورية تربط بينهما ربطًا محتومًا يجعل الطرف الأول وحده كافيًا للدلالة على أن الطرف الثاني سيتبعه، سواء وقع لنا ذلك في الخبرة السابقة أو لم يقع.
ليس من العسير على الإنسان بصفة عامة أن يعلل الظواهر المألوفة له في الطبيعة، كسقوط الأجسام الثقيلة ونمو النبات وتوالد الحيوان وتغذية الأجسام بألوان الطعام؛ والناس في كل هذه الظواهر يألفون أن يتبع حدث حدثًا، حتى ليظنون أن ما يعدونه في الظاهرة المعينة سببًا إنما يستتبع حتمًا ما يعدونه فيها مسببًا؛ فإذا ما ظهر لهم السبب قطعوا بالحكم قطعًا جازمًا حاسمًا بأن المسبب سيكون في إثره، ولا يكاد يطوف بعقولهم أدنى الشك بأن ذلك السبب سيستتبع مسببًا غير الذي ألفوه فيما مضى … ولكن قد يحدث أحيانًا أن يقع ما لم يتوقعوه من الظواهر الشاذة غير المألوفة، كأن تزلزل الأرض تحت أقدامهم وقد ألفوها ثابتة، أو أن ينتشر فيهم وباء بغير علة معلومة أو أن تلد الأمهات أمساخًا، وعندئذٍ تأخذهم الحيرة في تعليل ما وقع؛ إن الحيرة لم تأخذهم في مألوف الظواهر لأنهم «اعتادوا» أن يروا حوادث الطبيعة تجري هذا المجرى، أما أن تجري على غير مألوفهم، فذلك هو مدعاتهم إلى الحيرة في التعليل، فلماذا يا ترى حدثت هذه الأحداث الشاذة، وماذا عسى أن تكون الأسباب التي سبقتها فأحدثتها؟ إنهم ها هنا سرعان ما يلتمسون التعليل في سبب خفي يدبر الأمور بعقله تدبيرًا على غير مألوف الطبيعة كما عهدوها؛ فكأنما الكثرة العظمى من الناس تقسم الظواهر قسمين: قسم لا يتعذر فيه إدراك الأسباب لأنه مألوف، وقسم يتعذر فيه ذلك لأنه شاذ يستوقف الفكر ويستدعي التأمل والنظر — أما الفيلسوف فشأنه آخر، لأنه بإمعان النظر في ظواهر القسم الأول، لا يراها مختلفة عن ظواهر القسم الثاني؛ لأنه لولا العادة التي أغمضت أعيننا لرأينا في كل ظاهرة — مهما تكن مألوفة لدينا — ما يستدعي التفكير: لماذا تتبع النتيجة سببها؟ ولا جواب عن هذا السؤال من طبيعة السبب نفسها، وإنما الجواب يلتمس في الخبرة السابقة، فهكذا جاءتنا خبراتنا السابقة بتتابع الحوادث والظواهر حتى أصبح تتابعها على هذا النحو دون سواه عادةً مألوفة لنا؛ فلئن كانت الظاهرة الشاذة خلوًّا من علاقة ضرورية تربط بين مقدماتها ونتائجها، فهكذا الحال في كل ظاهرة من الظواهر المألوفة نفسها؛ لأن الخبرة السابقة لهذه الظواهر المألوفة إنما دلت على «تجاور» بين ما أسميناه سببًا وما أسميناه مسبَّبًا، لكنها لم تدل على «رباط» ضروري ينبع من طبيعة السبب نفسه ويستلزم أن يتبعه المسبب على النحو الذي نرى.
(٤-٢) الجبر والاختيار
ومن المشكلات التي طال قيامها بين الناس واتصل نقاشهم فيها بسبب غموض المعاني المقصودة بالألفاظ المستخدمة في بحثها، مشكلة الحرية والجبر؛ فتلك مشكلة لو كانت ألفاظها قد تحددت معانيها بتعريفات حاسمة، لزال منها موضع الإشكال؛ وفيما يلي عرض جديد للمشكلة يتبين منه القارئ كم كان الأمر كله يدور حول ألفاظ، وأما الموضوع نفسه فلا خلاف عليه، ولنبدأ بفكرة «الجبر» ثم نعقب عليها بالفكرة الأخرى، فكرة «الحرية».
ليس بين الناس من لا يعترف بأن المادة في كل عملياتها إنما تتأثر بفعل قوة ضرورية، بحيث تجيء الظاهرة من ظواهر الطبيعة متعينة محددة الصورة معلومة الدرجة، بحكم فاعلية سببها، حتى ليستحيل لهذا السبب نفسه أن يستتبع نتيجة غير النتيجة المتعينة المحددة المعلومة؛ فالجسم المتحرك — مثلًا — إنما يتحرك في اتجاه معين وبسرعة معينة، حتى لتأخذنا الدهشة إذا ما وجدناه يتحرك في اتجاه آخر وبسرعة أخرى غير ما نتوقع له بحكم السبب الذي أحدث الحركة فيه؛ وإذن فلو أردنا أن نكوِّن لأنفسنا فكرة مضبوطة دقيقة عن «الضرورة» أو «الجبر» كان حتمًا علينا أن نتعقب المسالك التي منها تسللت إلينا فكرتنا عن الأجسام المادية بحيث أصبحنا نتوقع لها سلوكًا معينًا في ظروف معينة.
إنه لو كانت ظواهر الطبيعة من التغير والتباين بحيث لا تتشابه فيها حادثتان وبحيث تجيء كل ظاهرة فريدة في نوعها، ليس بينها وبين سابقة لها أدنى شبه، بل تكون جديدة كل الجدَّة، لاستحال علينا — في مثل هذه الحالة — أن نكوِّن لأنفسنا أقل فكرة عن «الضرورة» أو عن الرابطة المحتومة التي نفرض وجودها بين الأشياء والظواهر؛ إننا في مثل هذه الحالة ما كنَّا لنقول عن أي شيء مما يحدث أو أية حادثة مما يقع إنها جاءت لاحقة لكذا وكذا من الأشياء أو الحوادث السابقة، دون أن نفرض البتة أن الحادثة السابقة قد «أحدثت» أو «أنتجت» الحادثة اللاحقة؛ أو بعبارة أخرى، لو كانت هذا هي الحال، لما عرف الإنسان شيئًا عن سبب ومسبَّب أو علة ومعلول، لأنه لم يكن ليربط الحوادث المتتابعة بمثل هذه العلاقة؛ وبالتالي لم يكن ليستطيع الإنسان أبدًا أن يستنتج شيئًا عن مجرى الحوادث في الطبيعة، وكانت الحواس والذاكرة وحدهما لتصبحا معين معرفته الوحيد؛ فلا وجود إلا لما يطبع حواسه في اللحظة الراهنة أو ما تدله الذاكرة على أنه قد طبع حواسه في لحظة سابقة؛ أما أن «يتوقع» حدوث شيء في المستقبل على أساس ما قد وقع في الماضي، فذلك لم يكن ليدخل في حدود مستطاعه؛ وإذن ففكرتنا عن ضرورة الحدوث أو السببية قد نشأت بحذافيرها من الاطراد الذي لاحظناه في وقوع الحوادث في الطبيعة؛ إذ لاحظنا أن الظواهر المتشابهة تكون دائمًا مرتبطة بغيرها على نحو واحد، وبهذا نشأت للعقل عادة الحكم بتوقع ظهور اللاحق إذا رأى السابق قد حدث؛ فلو لاحظنا — مثلًا — أن الظاهرة «س» تحدث دائمًا متبوعة بالظاهرة «ص»، اعتدنا هذا الرباط بينهما حتى إذا ما حدثت بعد ذلك «س» توقعنا بعدها «ص»؛ فإذا ما قلنا إن حدوث «ص» بعد حدوث «س» أمر ضروري، كان المعنى المراد ﺑ «الضرورة» هنا هو أن الاطراد بينهما قد لوحظ فيما مضى، وأن عادة عقلية قد نشأت لدينا من هذا الاطراد الملحوظ بينهما؛ أعني أن «ضرورة» الحدوث ليست ناجمة من طبيعة «س» ولا من طبيعة «ص» بل من طبيعة الإنسان في تكوين عاداته فلا ينبغي لنا — إذن — أن نفهم من لفظ «الضرورة» أو لفظ «الحتم» أو لفظ «الجبر» أو ما في معناها، أي شيء أكثر من أن الاطراد بين الحادثتين اللتين نقول عنهما إن بينهما ضرورة ارتباط، قد كان دائم الوقوع ولم يشذ، وأن العادة التي تكونت عند الإنسان من ملاحظته لهذا التتابع المطرد بينهما قد مكنته من أن يتوقع أو «يستدل» حدوث الحادثة اللاحقة إذا ما حدثت الحادثة السابقة.
غير أنه لا يجوز لنا أن نفترض بأن هذا الاطراد في أفعال الإنسان عندما تتشابه الظروف اطراد شامل كامل لا ينحرف قيد أنملة عن خطه المرسوم؛ دون أن نحسب حسابًا لتنوع الشخصيات الإنسانية في ردها على مؤثرات البيئة؛ فمثل هذا الاطراد الذي لا ينحرف قيد شعرة في أية تفصيلة من التفصيلات، لا وجود له في الطبيعة بأسرها؛ فنحن إذ نلاحظ سلوك الناس، إنما نلاحظ تنوعًا في سلوكهم حتى في الظروف المتشابهة، فننتهي من ذلك إلى مجموعة من مبادئ تجرى على نسقها أفعال الناس، بدل أن ننتهي إلى مبدأ واحد؛ لكن هذه المبادئ الكثيرة المنوعة التي ننتهي إليها، هي في حد ذاتها دليل على أن الطبائع البشرية على درجة من الاطراد تسمح لنا باستخراج تلك المبادئ، ولو كانت تلك الطبائع من التنوع بحيث تخلو من كل اطراد، لاستحال علينا أن نفهم حالة على أساس فهمنا لحالة أخرى.
إننا — مثلًا — نلاحظ اختلافًا في سلوك الناس باختلاف عصورهم وبلادهم فهل نستنتج من ذلك ألَّا اطراد؟ كلا، بل نستنتج قاعدة عامة عن أثر العادة والتربية في تشكيل سلوك الإنسان؛ وكذلك لو لاحظنا اختلافًا بين سلوك الرجل وسلوك المرأة في الظروف المتشابهة، أو لاحظنا اختلافًا في سلوك الفرد الواحد في مراحل عمره المختلفة، فذلك كله أدعى إلى استخراج القواعد العامة منه إلى الظن بأن الأمر فوضى يجري على غير قاعدة؛ وإذا لم يكن في شخصية الفرد الواحد اطراد، لتعذر علينا أن نعامل الناس، فأنت في تعاملك مع زيد من الناس أو عمرو، ترجِّح لمن تعامله صورة معينة في سلوكه تتصرف معه على أساسها، فإن كان بخيلًا أو كريمًا، شجاعًا أو جبانًا، علمت أنه سيظل على بخله أو كرمه، وعلى شجاعته أو جبنه، لأنك تفرض فيه ما تفرضه في ظواهر الطبيعة نفسها من ثبات على طبيعة واحدة.
نعم إنه لا شك في أن بعض أفعال الإنسان يجيء وكأنما هو مقطوع الصلة بكل ما قد عهدناه من الأفعال التي تصدر عن دوافع معلومة لنا، حتى لنحكم عليها بالشذوذ عن المألوف والخروج على الاطراد المعروف؛ لكنها في حقيقة أمرها شبيهة بحوادث الطبيعة التي تختلف عن المجرى المعتاد لوقوع الحوادث حتى لنحكم عليها بالشذوذ عن قوانين الطبيعة، فإذا ما بحثنا الأمر بدقة وجدناها تندرج تحت قوانين أخرى غير القوانين التي تندرج تحتها الحوادث المألوفة.
إن أصحاب النظر السطحي كثيرًا ما يرجعون الحوادث التي تبدو شاذة في ظاهرها إلى عدم اطراد القوانين الطبيعية اطرادًا شاملًا؛ أما عند النظرة الفلسفية فهذه «الشواذ» هي نفسها كالحوادث المألوفة سواءً بسواء في كونها تجري وفق قوانين أخرى خاصة بها، وإن تكن هذه القوانين من الدقة بحيث يخطئ الإنسان إدراكها إلا إذا دقق البحث وأمعن في النظر؛ فالطبيعة ملأى بمصادر السلوك، ندرك بعضها ولا ندرك بعضها الآخر، فإن رأينا سلوكًا معيَّنًا لظاهرة معينة دون أن نرى مصدره، كان واجبنا أن نبحث عن مصدره الخبيء، بدل أن نزعم متعجلين بأنه سلوك سائب بغير مبدأ يصدر عنه أو قانون ينظمه؛ ولنضرب مثلًا لذلك قرويًّا ساذجًا وقفت ساعته فيصف هذه الظاهرة بأن الساعة لا يستقيم سيرها، فآنًا تخطيء وآنًا تصيب؛ كأنما يفترض فيها أنها تتحرك بغير قانون؛ أما صانع الساعات الذي يعرف لماذا تقف تروس الساعة ولماذا تسير، فحكمه آخر؛ إذ هو يدرك أن عدة الساعة من زنبرك وبندول وغيرهما إن سارت منتظمة، فعلت ذلك وفق قوانين مطردة، وكذلك إن وقفت عن السير، وقفت وفق تلك القوانين المطردة نفسها؛ فقد تكون هنالك ذرة من غبار — مثلًا — تقف دون حركة السير؛ وهكذا الأمر في كل ظواهر الطبيعة، ما يبدو منها سويًّا وما يبدو شاذًّا، كلها تجري على روابط مطردة بين أسباب ومسبباتها.
فيبدو لنا — إذن — أن الرابطة بين الأفعال الإرادية وبين دوافعها هي من الاطراد والانتظام بنفس الدرجة التي تكون عليها الرابطة بين السبب والمسبب في أي جزء من أجزاء الطبيعة؛ لا، بل إنَّا لنضيف إلى هذه الحقيقة حقيقة أخرى، وهى أن هذا الاطراد في الرابطة بين الأفعال الإرادية ودوافعها أمر مسلم به من أفراد البشر جميعًا، ولم يكن قط موضع نزاع لا في مجال التفكير الفلسفي ولا في مجال الحياة الجارية؛ فكما أننا في شتى خبراتنا الماضية نستدل ما عساه أن يحدث في المستقبل، فنحكم على الحوادث التي شهدناها دائمًا مرتبطة على نحو معين، بأنها ستحدث في المستقبل — إن حدثت — مرتبطة على تلك الصورة بعينها؛ فكذلك نحكم على الناس في سلوكهم كيف سيكون فيما هو آتٍ بناء على خبرتنا الماضية؛ ولولا أن الناس يفرضون في السلوك البشري نفس الاطراد الذي يفرضونه في الظواهر الطبيعية لاستحال أن يركن بعضهم إلى بعض في معاملاتهم ومبادلاتهم واتصالاتهم؛ إن صاحب المصنع ليكاد يتوقع الاطراد في سلوك عمَّاله كما يتوقعه في سلوك آلاته، وإن وقع من الأولين ما يختلف عما توقعه، فكذلك قد يحدث في الآلات؛ إنني قد أستقبل الصديق الأمين في داري فأثق بأنه لن تمتد يده إلى قتلي كما أثق بأن جدران داري لن تُهدم إبَّان زيارته، ولو قيل إن ذلك الصديق قد تصيبه لوثة مفاجئة فيفعل ما لم نكن نتوقعه منه، قلنا إنه كذلك قد تحدث هزة أرضية مفاجئة فتنهدم جدران المنزل على نحو لم نتوقعه.
هكذا تطرد أفعال الإنسان اطرادًا نركن إليه في حياتنا العملية، وليس هناك بين الفلاسفة أنفسهم من لم يركن إليها كأي رجل عادي في غمار الناس؛ إذن فلماذا نركن من الوجهة العملية إلى اطراد السلوك الإنساني، ثم نأبى الاعتراف بذلك من الوجهة النظرية؟ لماذا نتصرف دائمًا على أساس أن أفعال الإنسان تجري مجرى الضرورة كبقية حوادث الطبيعة، ثم نرفض الاعتراف النظري بأن إرادة الإنسان مقيدة بهذه الضرورة؟ لماذا نسلك طريقًا في أفعالنا غير الطريق التي نسلكها في نظرياتنا؟ أظن أن تعليل ذلك هو كما يلي:
(٥) المكان والزمان
مهما يكن الموضوع الخاص الذي يضعه هيوم موضع البحث والتحليل، فهو دائمًا يرتد إلى الأساس العام الذي جعله مبدأً لفلسفته كلها، والذي بسطَّناه للقارئ في الفصل الأول من هذا الكتاب، ومؤدَّاه أن معرفة الإنسان مستمدة كلها من الانطباعات التي تنطبع بها حواسه الخارجية وحواسه الداخلية، فطالما كان مصدر الانطباع قائمًا أمام الحس، لبثت الحاسة منطبعة بأثره عليها، حتى إذا ما توارى ذلك المصدر ولم يعد قائمًا أمام الحس؛ بقيت صورة الانطباع في الذهن نسخة من أصلها، لا تختلف عنه إلا في درجة الوضوح، وهذه الصورة الذهنية التي تتخلَّف من الانطباع الحسي المباشر هي ما يسمى ﺑ «الفكرة»؛ وإذن فكل أفكارنا ينبغي أن تكون صورًا لأصول حسية، غير أن هذه الأفكار لا تظل في رءُوسنا بسيطة فرادى كما جاءت أول الأمر، بل يمتزج بعضها ببعض ويتألف منها أفكار مركبة، فإذا أردنا أن نختبر أية فكرة من هذه الأفكار المركبة لنرى مدى مشروعيتها، كان لزامًا علينا أن نحلها إلى الأفكار البسيطة التي منها تركَّبت، ثم نرى إن كانت هذه الأفكار البسيطة كلها مُصَوِّرات لانطباعات حسية انطبعت بها حواسنا أم أن بينها أفكارًا بغير أصل حسي، فإن استطعنا ردها جميعًا إلى أصولها الحسية كانت فكرة مشروعة ذات معنًى، وإلا فهي مختلقة لا تقوم على أساس سليم … وإذن فلنطبق هذا المبدأ نفسه على فكرتَي المكان والزمان.
يحلل هيوم فكرتي المكان والزمان، فينتهي به التحليل إلى أنهما لا يشيران إلى انطباعات حسية مستقلة بذاتها، أي إنه ليس بين انطباعاتنا الحسية انطباع تلقته الحواس عن شيء اسمه «مكان» أو انطباع تلقته الحواس عن شيء اسمه «زمان»، لكن كلمتي «المكان» و«الزمان» تشيران إلى طريقة ترتيب الانطباعات الأخرى، و«طريقة الترتيب» ليست بالطبع واحدة من الانطباعات التي تخضع لهذا الترتيب، فكما ترتب مجموعة من الكتب — مثلًا — على «طريقة» معلومة دون أن تكون «طريقة ترتيب» الكتب كتابًا آخر يضاف إلى الكتب المرتبة، فكذلك «المكان» و«الزمان» طريقتان لترتيب انطباعاتنا الحسية؛ أما «المكان» فهو اسم نطلقه على طريقة ترتيبنا لانطباعاتنا التي انطبعت بها حاستا الرؤية واللمس؛ وأما «الزمان» فهو كذلك اسم نطلقه على طريقة ترتيبنا لانطباعاتنا الحسية، ولا يقتصر الأمر هذه المرة على نوعين فقط، هما انطباعات الرؤية وانطباعات اللمس، كما هي الحال في «المكان»، بل يجاوز ذلك ليشمل جميع انطباعاتنا الحسية، سواء كانت الحاسة المنطبعة خارجية أو داخلية.
إنني إذا ما فتحت عينيَّ ووجهتما نحو الأشياء المحيطة بي، أدركتُ بهما مرئيات كثيرة، فإذا ما أقفلتهما وتأملت المسافة التي تفصل هذه المرئيات حصلتُ على فكرة الامتداد؛ ولما كانت كل فكرة مستمدة من انطباع معين على الحس بحيث تكون الفكرة على أتم شبه بالانطباع الذي منه استُمدت، كان لزامًا أن تكون الانطباعات المشابهة لفكرة الامتداد إما إحساسات جاءتنا عن طريق البصر، أو انطباعات داخلية نشأت عن تلك الإحساسات.
وما انطباعاتنا الداخلية إلا عواطفنا وانفعالاتنا ورغباتنا أو نفورنا؛ ولست أظن أن أية واحدة من هذه الانطباعات الداخلية يمكن أن يقال عنها إنها النموذج الذي جاءت فكرة «المكان» على غراره؛ وإذن فلا يبقى أمامنا إلا انطباعات الحواس الظاهرة، فهي التي يمكن أن تمدنا بفكرة «المكان»؛ فأي الانطباعات الحسية يصلح أن يكون مصدرًا لهذه الفكرة؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي إذا أجبنا عنه جوابًا صحيحًا، جاء الجواب حلًّا حاسمًا يوضح طبيعة فكرة «المكان».
وحسبي أن أتخير شيئًا واحدًا مما تقع عليه عيناي، وليكن هذه المنضدة التي أراها أمام بصري، فهي وحدها كفيلة أن تمدني بفكرة «المكان»؛ وإذن فهذه الفكرة لا مصدر لها سوى الانطباعات التي تطبعها المنضدة على حاسة البصر؛ لكن حاسة البصر لا تنقل إليَّ من المنضدة إلا انطباعات عن نقط ملونة رُتِّبت على نحو معين؛ ولو زعم لي زاعم بأن العين ترى من المنضدة غير هذه النقط الملونة كما تنطبع عليها، فعليه أن يهديني إليه؛ أما إذا عجز الزاعم عن الإشارة إلى شيء يجاوز هذه الانطباعات كان لنا أن نستنتج نتيجة يقينية هي أن فكرة الامتداد ليست إلا صورة لهذه النقط الملونة بالترتيب الذي ظهرت به لعيني.
وإذا فرضنا أن الشيء الممتد، أو قل التركيبة المؤلفة من مجموعة النقط الملونة — فالعبارتان بمعنًى واحد — إذا فرضنا أن هذه النقط الملونة التي استقينا منها بادئ ذي بدء فكرة الامتداد، كانت أرجوانية، فإنه يتحتم بعدئذٍ كلما أعدنا إلى أذهاننا فكرة الامتداد كما جاءتنا من تلك النقط، ألا نعيدها بنفس الترتيب الذي جاءتنا به عندما وقعت أبصارنا على الجسم الممتد فحسب، بل إنه لن يسعنا بالإضافة إلى ذلك إلا أن نعيدها إلى أذهاننا بنفس لونها الذي رأيناها به، وهو الأرجواني؛ لكن خبراتنا لن تقف بعد ذلك عند حد هذا الشيء الممتد ذي اللون الأرجواني، بل سيقع لنا في خبراتنا من مجموعات النقط الملونة ما هو بنفسجي أو أخضر أو أحمر أو أبيض أو أسود إلى آخر صنوف اللون؛ وعندئذٍ سنلحظ تشابهًا في تكوين النقط من حيث علاقاتها بعضها ببعض، رغم اختلاف ألوانها، فنحذف بقدر مستطاعنا صفة اللون من هذه التركيبات الامتدادية، ونُبقي فكرة مجردة عن طريقة التركيب وحدها بعد تخليصها من لون نقاطها، وطريقة التركيب متشابهة فيها جميعًا، فتخلص لنا بذلك فكرة الامتداد المكاني، ثم لا نكتفي في تجريدنا لفكرة الامتداد المكاني بحاسة البصر وحدها، بل نضيف إليها حاسة اللمس، فنلمس نفس الشيء الذي رأينا نقاطه الملونة مرتبة على نحو معين، نلمسه بأيدينا، فندرك أن انطباعنا اللمسي شبيه — من حيث ترتيب الأجزاء — بانطباعنا البصري؛ ومن أجل هذا الشبه بينهما تصبح الفكرة المجردة عن الامتداد صالحة لتمثيل الانطباعين معًا في آنٍ واحد: الانطباع البصري، والانطباع اللمسي للشيء الممتد؛ وها هنا نعيد ما قد أسلفناه عند حديثنا عن الأفكار المجردة (راجع الفصل الأول من هذا الكتاب) من أن الفكرة المجردة، كائنة ما كانت، هي على كل حال صورة جزئية لفرد واحد من أفراد المجموعة التي نمثلها بالفكرة المجردة، وغاية ما في الأمر أننا نطلق على هذه الصورة دون زميلاتها وشبيهاتها اسمًا كليًّا، فتصبح بفضل هذا الاسم الكلي بمثابة الفكرة الكلية التي لا تمثل نفسها فقط بل تنوب كذلك عن سائر أفراد نوعها؛ وعلى ذلك ففكرة الامتداد التي نستخرجها من رؤية هذه المنضدة وحدها كافية لتمثيل الامتداد المكاني أيًّا كان الجسم الممتد.
وهكذا تكون فكرة «المكان» عند هيوم مستمدة من الانطباعات البصرية واللمسية التي تطبعها الأشياء على حاستي البصر واللمس، وأما فكرة «الزمان» فهي كذلك مستمدة من تينك الحاستين مضافًا إليهما كل أنواع الإدراك الأخرى أفكارًا كانت أو انطباعات، وسواء كانت هذه الانطباعات على الحواس الظاهرة أو الحواس الباطنة … فكرة «الزمان» مستمدة من تتابع إدراكاتنا، مهما يكن نوعها؛ وهي كأية فكرة مجردة أخرى تتمثل في أذهاننا بفكرة جزئية لشيء محدد متعين الكم والكيف، والذي يجعلها كلية هو إطلاقنا اسمًا كليًّا عليها لتقوم بتمثيل زميلاتها وشبيهاتها.
وكما أن فكرة المكان مستمدة من الطريقة التي رُتِّبت بها الأشياء المرئية والملموسة، أعني أنه ليس ثمة شيء قائم بذاته اسمه «مكان» يطبع حواسنا كما تطبعها — مثلًا — هذه المنضدة، بل «المكان» طريقة ترتيب الأشياء التي نحسها بالبصر واللمس، فكذلك فكرة الزمان مستمدة، لا من شيء مستقل قائم بذاته اسمه «زمان» تنطبع به حواسنا، بل هي مستمدة من تتابع المحسوسات، فترانا ندرك بالحس انطباعًا إثر انطباع، أو ترد على أذهاننا الأفكار فكرة بعد فكرة، فمن هذا التتابع تتكون فكرة الزمن.
وإثباتًا لهذا الذي قلناه عن حقيقة «الزمن» نضيف الدليل الآتي، وهو أن الامتداد الزمني مهما قصر أمده مؤلَّف من لحظات، أي من أجزاء، لأنه لولا ذلك لما كان في إمكاننا التفرقة بين فترتين زمنيتين من حيث الطول، فنقول عن إحداهما إنها أطول أو أقصر من الأخرى؛ وبديهي ألا تكون هذه الأجزاء متآنية بعضها مع بعض، أعني أنها لا تتعاصر بحيث تقع كلها معًا في آنٍ واحد، لأن تعاصر الأجزاء، أو قل قيامها معًا في آنٍ واحد، هو من خصائص أجزاء المكان لا أجزاء الزمان؛ وإذن فمن هاتين المقدمتين (وهما: أن الامتداد الزمني مؤلف من أجزاء، وأن هذه الأجزاء لا تكون متآنية) نخلص إلى نتيجة وهي أن الشيء الذي لا يتغير يستحيل أن يمدنا بفكرة الزمن؛ إذ لو كان هنالك شيء ثابت، كان معنى ثباته أن أجزاءه متآنية، لا يتلو بعضها بعضًا، أي إنه لا يكون ثمة تعاقب في حالاته، وبالتالي فلا تكون لدينا منه فكرة «الزمن»؛ إن هذه الفكرة — كما قلنا — لا بد لها من تعاقب وتتابع، أي لا بد لها من تغير يصيب الأشياء بحيث تجيء حالة وتذهب حالة؛ إنه لو أصيب العالم بسكون تام يجعله ذا حالة واحدة قائمة دائمة، لما كانت فكرة «الزمن» بين مدركاتنا.
(٦) حقيقة الاعتقاد
الفرق واضح بين مجرد تصورنا لفكرة معينة، وبين أن نحكم بوجود الشيء الذي تمثله هذه الفكرة، فتستطيع — مثلًا — أن تتصور فكرة عن كائن ذي صفات محددة معلومة، دون أن تضيف إلى هذا التصور اعتقادًا في وجود ذلك الكائن وجودًا عينيًّا في عالم الأشياء؛ ومع هذا الفرق الواضح بين الحالتين، فليس الفرق هو في إضافة عناصر جديدة في الحالة الثانية إلى ما كانت عليه الفكرة في الحالة الأولى، بحيث تصبح الفكرة اعتقادًا؛ ذلك أن فكرة «الوجود» لا تختلف في شيء قط عن فكرة الشيء الذي ننعته بالوجود؛ تصور شيئًا ما، ثم تصور أن ذلك الشيء موجود وجودًا حقيقيًّا، فلن تجد فرقًا بين الحالتين، أي إن تصورك لذلك الشيء باعتباره موجودًا وجودًا عينيًّا، لا يزيد ولا ينقص ولا يختلف عن مجرد تصورك له تصورًا عقليَّا؛ وتطبيقًا لهذا نقول إننا حين نقرر أن «الله» موجود فلسنا نضيف شيئًا ولا ننقص شيئًا ولا نغير شيئًا من مجرد تصورنا لفكرة «الله»؛ بعبارة أخرى، إن «الوجود» ليس صفة تضاف إلى سائر صفاته التي منها تتكون فكرتنا عنه، فلو فرضنا مثلًا أن فكرتنا عنه قوامها هذه العناصر: ا، ب، ج؛ فإن اعتقادنا في وجوده لا يزيد من هذه العناصر شيئًا، فستظل الفكرة — بعد الاعتقاد في وجوده كما كانت قبل الاعتقاد في وجوده — مكونة من العناصر ا، ب، ج؛ وإذن ﻓ «الوجود» ليس له فكرة خاصة به، تضاف أو تحذف من فكرتنا عن شيء معين نقول عنه إنه موجود، ومع ذلك كله فلا نزال نقرر أن ثمة فرقًا واضحًا بين أن أتصور فكرة معينة لكائن معين، وبين أن أعتقد في أن ذلك الكائن الذي تصورت فكرته في ذهني موجود؛ ولما كان هذا الفرق — كما أوضحنا — ليس في مقومات الفكرة نفسها، إذن فلا بد أن يكون ناتجًا عن «الطريقة» التي نتصور بها الفكرة؛ أي إن صورة الفكرة ترتسم في أذهاننا على نحو ما فتكون مجرد فكرة، ثم ترتسم على نحو آخر فتصبح اعتقادًا في وجود الشيء الذي تمثله تلك الفكرة.
إذا زعم لي زاعم من القضايا ما لست أعتقد في صوابه، فقال لي — مثلًا — إن قيصر مات في مخدعه، أو أن الفضة أكثر قابلية للانصهار من الرصاص، أو أن الزئبق أثقل من الذهب، فعدم اعتقادي في صدق هذه الأفكار لا يغير من قوامها في ذهني، فمن الممكن أن أتصورها كما يتصورها زميلي الذي زعمها لي، بحيث لا يكون ثمة فرق بين صورها في ذهني وصورها في ذهنه؛ وإذن فالاعتقاد أو عدم الاعتقاد لا شأن له بعناصر الفكرة ذاتها، فليست الأفكار في ذهن المعتقد في صوابها بأكثر في عناصرها منها في ذهن غير المعتقد؛ لكنه لا مِراء في أن ثمة فرقًا بين الفكرة في حالة الاعتقاد وحالة عدم الاعتقاد في صوابها، وأعود فأسأل: ماذا عسى أن يكون الفرق بين الحالتين؟ والجواب عن هذا السؤال يسير حين يكون اعتقادنا في صدق الفكرة، أو صدق القضية التي نتصورها، مستمدًّا إما من الحدس أو من البرهان الاستنباطي، لكنه يحتاج إلى شيء من التوضيح حين يكون اعتقادنا ذاك مستمدًّا من علاقة السبب بمسببه أي حين يكون اعتقادنا خاصًّا بأمور الواقع، وليس محصورًا في عالم الأفكار وحدها يستدل فكرة من فكرة.
ذلك أن هيوم يقسِّم القضايا — صادقها وكاذبها على السواء — قسمين: فقضايا تقرر عن شيء معين أنه موجود الآن، أو كان موجودًا ذات يوم أو سيظهر في حيز الوجود بعد حين؛ وقضايا لا تقرر الوجود عن شيء، ومن القضايا التي ليس من شأنها أن تقرر وجود الشيء الذي تتحدث عنه قضايا الرياضة كقولنا إن ٢ + ٢ = ٤، أو إن زوايا المثلث تساوي قائمتين، ومنها كذلك القضايا التي لا تخرج عن كونها إثباتًا لمعاني الألفاظ التي نتحدث عنها، كقولنا مثلًا إن الأسود والأبيض ليسا متشابهَين، ويرى هيوم أن الشروط اللازمة للحكم على أمثال هذه القضايا التي لا تتحدث عن وجود شيء مختلفة عن الشروط اللازمة للحكم على النوع الآخر من القضايا التي تقرر أن شيئًا ما ذو وجود فعلي حقيقي.
أما القضايا اللاوجودية (أي التي لا يقتضي صدقها أن يكون الشيء الذي تتحدث عنه موجودًا وجودًا فعليًّا) فنحكم عليها بالصدق بإحدى وسيلتين: فنحكم بالصدق على بعضها بالحدس (أي العيان العقلي المباشر) ونحكم بالصدق على بعضها الآخر بالبرهان الاستنباطي الذي يبرهن على صدق النتيجة بالإشارة إلى المقدمة التي لزمت عنها تلك النتيجة لزومًا ضروريًّا، كما نفعل في الرياضة مثلًا … فاعتقادنا في صواب القضية اللاوجودية — عند هيوم — ينبني على إدراكنا الحدسي أو على إقامة البرهان الاستنباطي؛ وهو ينبني على الإدراك الحدسي، حين لا يقتضي منك الأمر إزاء القضية التي تحكم بصوابها سوى أن تفهم ألفاظها، وهذا وحده كافٍ لتدرك من فورك أنها صادقة أو غير صادقة كأنما أنت عندئذٍ ترى بعين عقلك رؤية مباشرة؛ ومن قبيل ذلك ما يسمى في الرياضة — مثلًا — بالبديهيات، كأن نقول مثلًا إن الأشياء التي يتساوى كل منها مع شيء معين، تكون بالتالي مساوية بعضها لبعض؛ فحسبك هنا أن تدرك معنى «التساوي» لتدرك على الفور أن الجملة صواب، لأن صوابها واضح بذاته كما يقولون؛ وأما الصواب المنبني حكمه على البرهان الاستنباطي فهو — كما أسلفنا — أن تقدِّم مقدمة صدقها مفروض، ثم تستخرج منها حقيقة كامنة فيها، فتكون هذه النتيجة المستخرجة صوابًا ما دامت مقدمتها صحيحة.
هكذا يقول هيوم عن القضية اللاوجودية إن طريقة الاعتقاد في صوابها يسيرٌ هينٌ، ولكن الأمر يحتاج إلى توضيح وشرح بالنسبة إلى النوع الآخر من القضايا، القضايا الوجودية التي تقرر الواحدة منها عن شيء ما معين أنه موجود وجودًا فعليًّا، أو أنه — إذا لم يكن موجودًا هذه اللحظة الراهنة — فقد كان موجودًا في لحظة مضت أو سيكون موجودًا في لحظة آتية؛ فما سبيلنا إلى الاعتقاد في أمثال هذه القضايا؟
إننا نبحث الآن عن حقيقة «الاعتقاد» وطبيعته، حين تكون في رءُوسنا فكرة معينة «نعتقد» أنها صواب؛ وقد قلنا بادئ ذي بدء ألا فرق من حيث عناصر الفكرة ومقوماتها بين مجرد تصور الفكرة على أنها فكرة وكفى، وبين «الاعتقاد» بأنها فكرة صائبة؛ ولكن هنالك بالبداهة فرقًا بين الحالتين، فماذا عسى أن يكون هذا الفرق إذا لم يكن فرقًا في عناصر الفكرة ومقوماتها؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال قلنا إن الفرق كائن في «طريقة» التصور، لا في مادته ومضمونه؛ لكن هذه التفرقة وحدها لا تكفي لتوضيح «الاعتقاد» وطبيعته، فلنمضِ في محاولتنا تحديد الموقف وحقيقته حين يحكم الإنسان على فكرة معينة لديه بأنها صادقة.
هذه نقطة بالغة الأهمية في فلسفة هيوم، وهي من الأسس التي تجعله رائدًا للمدرسة التجريبية العلمية المعاصرة لنا اليوم، نعيدها ونوضحها للقارئ، فنقول إنه إذا كان الإنسان إزاء قضية تتصل بالوجود الفعلي الواقعي لشيء ما (أي إنها ليست مجرد قضية تحليلية تكرارية كقضايا الرياضة مثلًا) فلا بد من اتصالها على وجه من الوجوه بانطباعاتنا الحسية، فهي إما تتصل بتلك الانطباعات اتصالًا مباشرًا، بمعنى أنها عندئذٍ تكون صورة أو نسخة لانطباع حسي أو أكثر، وإما أن تكون مرتبطة بفكرة أخرى مما يقوم مباشرة على انطباع حسي أو أكثر؛ بعبارة موجزة نقول: إنه لا مناص من الرجوع إلى خبراتنا الحسية على نحو ما إذا ما أردنا إثبات الصدق لقضية تنبئ عن إحدى الموجودات الفعلية الواقعية، ولا يجوز لأحد أن يتحدث عن كائن ما، يزعم له الوجود الفعلي، دون أن يكون في مستطاعه إسناد حديثه هذا إلى خبرة حسية، من بصر أو سمع أو لمس … إلخ، أما أن تدعي الوجود الفعلي لكائن معين، ثم تعجز عن هدايتنا إلى الحاسة التي جاءنا العلم به عن طريقها، فذلك تناقض صريح، كأنك بمثابة من يقول: إني أرى ولا أرى، أو إني أسمع ولا أسمع.
إذا استنتجت وجود شيء ما من وجود شيء آخر، فلا بد أن يكون هنالك سند لهذا الاستنتاج مما يقع الآن على حواسنا، أو مما وقع على حواسنا في لحظة ماضية لكن صورته الذهنية لا تزال قائمة في الذاكرة؛ أما أن تستنج شيئًا من شيء آخر، وهذا الآخر من شيء ثالث، وهذا الثالث من شيء رابع، وهكذا إلى ما لا نهاية، دون أن تقف هذه السلسلة الاستنتاجية بخطوة ترتد بها إلى خبرتك الحسية، فذلك تسلسل في الاستنباط لا يعرف نهاية معلومة يقف عندها، وبالتالي لا يجد الحلقة الرابطة التي تصله بمجرى الوجود الواقعي.
والحق أن العقل الخالص — الذي لا يستند إلى خبرة حسية — محال عليه أن يستنتج وجود شيء معين من وجود شيء آخر؛ إنه لا يستطيع — مثلًا — أن يستنج لون البرتقالة من شكلها، فإذا ما رأينا أنفسنا نستنج شيئًا كهذا، فليس هو «العقل» الذي يهدينا، لكنها «العادة» أو «الترابط»؛ إذ اعتدنا أن نرى لون البرتقالة الأصفر مرتبطًا بشكلها المستدير، بحيث يكفي بعد ذلك أن تنطبع حواسنا بأحد الجانبين لننتقل إلى الآخر استنتاجًا؛ وترانا «نعتقد» في صواب النتيجة التي استنتجناها على أساس وضوحها في الذهن لارتباطها بانطباع حسي ذي وضوح؛ وهكذا نعود إلى تعريفنا الذي أسلفناه لاعتقاد، بأنه «فكرة ناصعة متصلة أو مرتبطة بانطباع حسي راهن».
ولنضرب لك بعض الأمثلة التي توضح مبدأ هيوم في طبيعة الاعتقاد وحقيقته، حين يكون الشيء الذي أعتقد في وجوده وجودًا فعليًّا ليس قائمًا أمام حواسي قيامًا مباشرًا:
إنني «أعتقد» أن في رأسي مجموعة عصبية ذات صورة معينة ووظائف معلومة، هي التي نطلق عليها كلمة «مخ»؛ فعلى أي أساس بنيت هذا الاعتقاد، ما دمت لا أرى مخي ولا أحسه إحساسًا مباشرًا بأية حاسة من حواسي؟ بنيت هذا الاعتقاد على أساس أن هذه الفكرة التي أعتقد في صوابها مرتبطة بشيء آخر تنطبع به حواسي الآن، وهو — مثلًا — هذه الحركات التي تتحركها يدي ممسكة بالقلم إذ أكتب هذا الذي أكتبه؛ هذا إدراك حسي مباشر، وعلمت بالخبرة الماضية أنه ما كانت لتحدث مثل هذه الحركات اليدوية وهذه الكتابة التي أكتبها إلا إذا كان هنالك جهاز عصبي من نوع معين؛ علمتني الخبرة الماضية أن هنالك شيئين مرتبطين دائمًا، وهما: أمثال هذه الحركات التي تتحركها يدي، ووجود مخ في الرأس، فربطت بينهما ربطًا يتيح لي الآن أن أستنتج الجانب الذي لا أراه من الجانب الآخر الذي أراه؛ وبهذا يكون الاستنتاج قائمًا على خبرة حسية مباشرة، ويكون «اعتقادي» في صوابه مستندًا إلى وضوح هذا الذي أراه الآن رؤية مباشرة.
(٧) ذاتية النفس
إذا كان علم الإنسان بأي شيء — كائن ما كان — قوامه انطباعات وأفكار، ثم إذا كانت هذه الانطباعات والأفكار هي كحلقات السلسلة تتوالى بحيث لا يكون حاضرًا منها إلا حلقة واحدة في كل لحظة واحدة، فعلمنا ﺑ «النفس» — كعلمنا بأي شيء آخر — هو كذلك مؤلف من انطباعات وأفكار تتوالي دون أن يكون هناك «ذات» قائمة دائمًا إلى جانب تلك الحالات المتوالية؛ وبهذا تكون «النفس» الإنسانية مجموعة من حالات، واحدة تعقب واحدة، وليست هي بالكائن الذاتي الواحد الذي ننطبع به كما ننطبع بهذه المنضدة مثلًا، أو كما ننطبع بإحدى عواطفنا الداخلية؛ إنني قد أحس إحساسًا مباشرًا حالة «الغضب» أو حالة «العزيمة الإرادية» أو حالة «الحب» أو «الكراهية» كما قد أحس إحساسًا مباشرًا لون الورقة التي أمامي ولمسة القلم بين أصابعي، ولذلك فهذه كلها «كائنات» موجودة وجودًا فعليًّا، أحسست بعضها بحواسي الظاهرة وأحسست الأخرى بحواسي الباطنة؛ لكنني لا أحس «النفس» إحساسًا مباشرًا، لا بحاسة ظاهرة ولا بحاسة باطنة.
لكن هيوم يأسف لهذا الموقف من أمثال هؤلاء، ويسألهم: أي انطباع حسي كان مصدر هذه الفكرة — فكرة «النفس» — عندكم؟ إن أية فكرة لا تكون إلا نسخة من انطباع حسي سبق وقوعه على إحدى الحواس — ظاهرة كانت تلك الحواس أو باطنة — فأي انطباع تكون فكرة «النفس» صورته؟ إنه لا بد من الإجابة عن هذا السؤال إذا أردنا أن تكون فكرة «النفس» واضحة مفهومة؛ إنه لا مناص لأية فكرة — كائنة ما كانت — من أن يكون لها أصل بين انطباعات حواسنا، ذلك لو كانت الفكرة جديرة باسمها هذا، ولم تكن مجرد لفظ نقوله ولا نعني به شيئًا محددًا واضحًا؛ ولو كانت «النفس» كائنًا دائم الوجود ما دام صاحبها موجودًا، لزم أن يكون هنالك انطباع حسي دائم التأثير على هذه الحاسة أو تلك، بحيث يكون لفظ «النفس» اسمًا نطلقه على ذلك الأثر الحسي، لكننا لا نجد بين انطباعاتنا الحسية انطباعًا يدوم على حالة واحدة لا يتخلف ولا تصيبه زيادة ولا نقصان، فنجعله أصلًا لهذه «النفس» المزعومة التي نزعم لها الدوام وعدم التغير؛ إن حياتنا الإدراكية سلسلة من حالات لا تتجمع كلها معًا في لحظة واحدة، فالألم واللذة والحزن والسرور وشتى العواطف والإحساسات تتعاقب واحدة في إثر واحدة، ولا يمكن أن تكون فكرة «النفس» مستمدة من واحدة وحدها من هذه الحالات، وإذن فالفكرة نفسها من خلق الوهم وليس لها وجود.
فإذا كان الإنسان حلقات متتابعة من إدراكات لا تربطها وحدة، فما الذي أوحى إليه بهذا الوهم العجيب، وهو أن هذه الإدراكات المتتابعة إنما تنتمي كلها إلى «ذات» واحدة يستمر وجودها ويتصل من أول الحياة إلى آخرها، ما الذي أوهم الإنسان أن له «نفسًا» أو «روحًا» أو «ذاتًا» لا تنفك قائمة منذ لحظة ميلاده إلى لحظة موته، مع أنه إذا ما نظر إلى باطنه ليلحظ ما هنالك، لم يجد إلا حالات فرادى يتلو بعضها بعضًا، وليس بينها خيط يربطها في ذات واحدة؟
إنه لما كان الشبه شديدًا بين الذاتية التي نخلعها على حياتنا الفكرية، والوحدانية التي نصوغ فيها مجموعة الحالات التي يتألف منها فرد من أفراد النبات أو الحيوان، بحيث نقول عن شجرة معينة أو عن كلب معين — مثلًا — إنها «شجرة واحدة» رغم اختلاف حالاتها، وإنه «كلب واحد» رغم تنوع حالاته، أقول إنه لما كان الشبه شديدًا بين الذاتية التي نخلعها على أنفسنا والذاتية التي نخلعها على فرد معين من أفراد النبات أو الحيوان، فلنتحدث عن النبات والحيوان أولًا على سبيل الشرح والتوضيح.
أوهام هي إذن هذه الأشياء الخفية التي نسميها بالذاتية أو بالنفس أو بالروح أو بالجوهر؛ وليس قوام الشيء الذي نعده شيئًا «واحدًا» إلا مجموعة كبيرة من حالات كثيرة منوعة، ارتبطت معًا فيما ظنناه شيئًا «واحدًا» بمبدأ من مبادئ الترابط، كالتشابه أو التجاور أو تلازم السبب والمسبب؛ وما مشكلة «الذاتية» أو «النفس» أو «الروح» أو «الجوهر» إلا مشكلة ألفاظ انتحلناها انتحالًا دون أن تكون لها مسميات مما يمكن أن نقع عليه بين انطباعاتنا أو أفكارنا.
الذاتية التي نخلعها على الشيء هي من خلق خيالنا وليست هي بذات وجود واقعي في الشيء نفسه؛ فحيث يسهل انتقال العقل من إحدى حالات الشيء إلى حالة أخرى، نزعم أن بين الحالتين ذاتية توحد بينهما، وأما حيث يتعذر على العقل مثل هذا الانتقال السهل فها هنا ترانا نتشكك في أن تكون بين الحالات المختلفة ذاتية توحد بينها؛ فانظر مثلًا إلى كتلة من الصخر، ثم افرض أن زيادة طفيفة أضيفت إليها بحيث يتعذر عليك إدراك الفرق بين الحالتين، قبل الزيادة وبعدها، فعنذئذٍ يسهل على العقل أن ينتقل من حالة الصخر الأولى إلى حالته الثانية، ولذلك نحكم بأن الصخرة التي نحن بصددها «واحدة» ذات وجود متصل؛ أما إذا أضيفت إلى الصخرة إضافة كبيرة ملحوظة، أو قطعت منها قطعة كبيرة ملحوظة، بحيث لا يسهل الانتقال بين الحالتين انتقالًا فيه انزلاق لا تعثُّر فيه، لما بين الحالتين من اختلاف ظاهر، فعندئذٍ نقول عن الصخرة إنها لم تعد هي هي، وإنها فقدت ذاتيتها واستمرار وجودها.
والأمر في الجزء المضاف أو الجزء المحذوف، هل هو كبير ملحوظ أم هو صغير غير ملحوظ، أمر نسبة، فقد تضيف جبلًا بأسره إلى كوكب ومع ذلك تقول إن الكوكب لم تتغير ذاتيته ولم ينقطع وجوده المستمر على حالة واحدة، بينما قد تضيف جزءًا صغيرًا أو تحذف جزءًا صغيرًا من جرم صغير فيظهر التغير ظهورًا واضحًا يحملنا على القول بأن ذلك الجرم لم يعد هو هو، بل أصبح شيئًا آخر … الأمر كله موكول إلى سهولة انتقال الفكر بين الحالة قبل حدوث التغير والحالة بعده، فإن كان انتقالًا سهلًا، حكمنا بأن الشيء ما يزال محتفظًا بذاتيته، وإن كان متعذرًا متعثرًا حكمنا بزوال ذاتيته.
يؤيد هذا أن التغير الطارئ، حتى إن كان تغيرًا جسيمًا في النهاية، لكنه حدث متدرجًا في بطء لم نتمكن معه أن نلحظ التغير إلا بعد أن تبعد الشقة بين الطرف الأول والطرف الأخير، فإننا خلال تغير كهذا نظل نحكم بأن الشيء محتفظ بذاتيته وذو وجود متصل؛ ذلك لأن انتقال الفكر من حالة إلى الحالة التي تليها سهل بحيث لا نتنبه عند كل مرحلة أنها مرحلة جديدة تختلف عن سابقتها؛ هكذا نظل خلال التغيرات المتدرجة، حتى إذا ما بعدت الشقة بين الحلقة الأولى والحلقة الأخيرة، فها هنا نستيقظ إلى ما قد حدث من اختلاف، ونأخذ في الارتياب والتشكك بأننا في الحقيقة قد أصبحنا إزاء شيء آخر مختلف عن الشيء الأول، وأنه لم تعد بين الشيئين ذاتية تمسكهما معًا في كائن واحد.
وكذلك مما يميل بخيالنا إلى توهم الذاتية في أجزاء الشيء الكثيرة، أن يكون لهذه الكثرة من الأجزاء هدف واحد، فافرض مثلًا أننا قد غيرنا بعض الأجزاء في سفينة، فإننا سنظل نقول عن السفينة إنها هي هي لم تتغير، لأن أجزاءها — قديمها وجديدها — ما زالت مجتمعة على هدف واحد، ومن ثم يسهل على الفكر أن ينتقل من حالة السفينة قبل إصلاحها إلى حالة السفينة بعد إصلاحها، فيحكم عليها بالتالي أن لها ذاتية واحدة لم تتغير.
مبدؤنا — إذن — هو أن الذاتية التي نخلعها على أي شيء لنجعل منه كائنًا واحدًا، على الرغم من أنه في حقيقته مجموعة كبيرة من حالات مختلفة، إنما تنشأ حينما يكون انزلاق الخيال خلال هذه الحالات سهلًا يسيرًا، فتوهمنا سهولة الانتقال من حالة إلى الحالة التي بعدها فالتي بعدها وهكذا، بأن هذه الحالات في حقيقتها كائن واحد ذو ذاتية واحدة؛ ولا نستيقظ إلى حقيقته المتكثرة إلا حين يعسر هذا الانتقال.
ولنضرب بعض الأمثلة الموضحة: إذا سمعت صوتًا متقطعًا تفصل أجزاءَه فتراتٌ من سكون، فهذه كثرة من أجزاء ولا شك، لكنك ستقول عن هذه الأجزاء المتعاقبة المتقطعة إنها صوت واحد، وذلك لما بين الأجزاء الصوتية من تشابه يسهل على خيالك الانتقال من جزء صوتي إلى الجزء الذي يليه؛ مع أن حقيقة الأمر هي أن الأجزاء الكثيرة لا تصبح خطًّا صوتيًّا واحدًا بسبب التشابه، بل تظل أجزاءً كثيرة كما هي، لكنه وهم الإنسان سرعان ما يحول ذاتية التشابه إلى ذاتية عددية، أي إنه سرعان ما يجعل من الأجزاء التي تربطها صلة الشبه جزءًا واحدًا متصلًا.
ومن هذا القبيل نفسه أن تقول عن كنيسة معينة — مثلًا — إنها لا تزال هي هي الكنيسة التي كانت بادئ ذي بدء، على الرغم مما قد يحدث من هدمها وإعادة بنائها؛ فقد تكون الكنيسة في حالتها الأولى مبنية بالطوب الأحمر، ثم تهدم ويعاد بناؤها بنوع آخر من الحجر، بل قد يعاد بناؤها على طراز آخر من فن البناء، ومع هذا الاختلاف بين حالتيها في مادة البناء وطرازه، لا بأس عندك في أن تقول عنها إنها هي هي الكنيسة هُدِمت وأُعيد بناؤها، لمجرد كونها تنتمي — مثلًا — إلى فئة معلومة من الناس، أو إلى إقليم كنسي معين؛ فإلى هذا الحد البعيد قد يتجاهل الإنسان وضع الأمور على حقيقتها، وهو أنهما كنيستان لا كنيسة واحدة، ليوحد بين الحالات المتعاقبة في ذات واحدة إن كان لخياله ما يبرر هذا التوحيد.
وننتقل بعد ذلك إلى موضوعنا الرئيسي، وهو الذاتية الشخصية التي ننسبها إلى الفرد الواحد من الإنسان، وسنرى أن الأمر لا يختلف هنا عنه في النبات والحيوان والأشياء الجوامد من طبيعيٍّ ومصنوع؛ فالذاتية التي نصف بها عقل الإنسان، بأن نقول عن ذلك العقل إنه كائن واحد ذو وجود متصل، هي الأخرى وهم كالذاتية التي ننسبها وهمًا لسفينة أو منزل أو شجرة أو نهر.
(٨) العاطفة وتحليلها
(٨-١) تقسيم العواطف
لعل البحث في العواطف أن يكون أضعف جانب في فلسفة هيوم، وربما أحسَّ بهذا الضعف هيوم نفسه؛ فقد كان اختصَّ موضوع العواطف بكتاب من الكتب الثلاثة التي كان يتألف منها مؤلفه الأول «رسالة في الطبيعة البشرية»، وكانت هذه الكتب الثلاثة على التوالي هي: الكتاب الأول في العقل البشري، والكتاب الثاني في العواطف، والكتاب الثالث في الأخلاق؛ ولكن «الرسالة» لم تُصِب نجاحًا عند القراء أو عند النقاد، فصمم هيوم على أن يعرض آراءَه نفسها التي في «الرسالة» عرضًا آخر، لعله يسترعي به الأنظار هذه المرة، فأخرج الجزء الخاص بالعقل البشري بادئ ذي بدء، أخرجه في كتاب مستقل جعل عنوانه «بحث في العقل البشري»، وذلك بعد أن لخص آراءَه وركزها وزادها توضيحًا؛ ثم عقب على ذلك بعد حين بالجزء الخاص بالأخلاق؛ إذ أخرجه كذلك في كتاب مستقل جعل عنوانه «بحث في مبادئ الأخلاق»، وترك الجزء الخاص بالعواطف، لم يفكر أول الأمر في إعادة نشره، حتى أصبح مسموع الصوت واسع الشهرة، فأخذ عندئذٍ يراجع الجزء الخاص بالعواطف من «رسالته» لعله مستطيع أن يخرجه هو الآخر في «بحث» مستقل كما فعل في «العقل» وفي «الأخلاق»، لكنه آخر الأمر اكتفى بأن يلخص آراءَه عن «العواطف» — لا في كتاب مستقل — بل في مقال يضيف إليه مقالات أخرى في موضوعات مختلفة، وهاك خلاصة موجزة لوجهة نظره في موضوع «العواطف».
ومجموعة ثالثة من العواطف تنشأ — كما تنشأ عواطف المجموعة الثانية — نتيجة لاستثارة خبرة ماضية خبرناها من حيث الشعور باللذة أو الألم، إلا إن هذا الشعور — في هذه الحالة — حين تستثار ذكراه، يجيء مصحوبًا بأفكار بينها وبين «النفس» صلة أو صلات؛ ومعنى ذلك أن العاطفة في هذه الحالة حين يترتب حدوثها على خبرة ماضية باللذة أو الألم، فإنها لا تجيء وحدها، بل تجيء مصحوبة بصفات أخرى، ويصف هيوم هذه المجموعة الثالثة من العواطف بأنها «العواطف غير المباشرة» وعددها أربعة: الزهو والضعة، والحب والكراهية، وسنعود بعد قليل إلى ذكرها وتحليلها.
تلك هي أقسام «العواطف» الأربعة في رأي هيوم، نلخص مميزاتها فيما يلي: فهي تنقسم بادئ ذي بدء إلى «أولية» و«ثانوية»، أما العواطف الأولية فهي التي تنشأ عن الفطرة الغُفْل، وعن الدوافع الغريزية، غير معتمدة على سابق خبرة من لذة أو ألم، وتلك هي شهوات البدن من جوع وما إليه؛ وأما العواطف الثانوية فهي التي وإن تكن ناتجة عن الدوافع الفطرية الغريزية، إلا أنها تعتمد أيضًا على خبرة سابقة من لذة أو ألم.
(٨-٢) الزهو والضعة، والحب والكراهية
الزهو والضعة — عند هيوم — هما بمثابة الانطباعات «البسيطة» ولذلك فهما لا يُعَرَّفان بشيء سواهما، بل لا بد من ممارستهما ممارسة مباشرة، وكل ما في مستطاعنا أن نقوله عنهما هو أن نصف بعض الظروف التي تحيط بهما، وتكون شرطًا لحدوثهما؛ وأول هذه الظروف وأبرزها وأوضحها هو علاقة هاتين العاطفتين بالنفس أو الذات؛ لأنه حيث لا تدخل ذات الإنسان المدرِك عنصرًا من عناصر الموقف، فلا يكون ثمة زهو أو ضعة، «فالذات في جميع الحالات هي طرف الغاية من الزهو أو الضعة» بمعنى أن الإنسان إذ يحس شعور الزهو أو شعور الضعة، فلا بد أن يكون الموقف مرتبطًا بذاته على نحو ما.
إن عاطفة الزهو في ذاتها، أو عاطفة الضعة في ذاتها، لا تحتوي بين مقوماتها نفس الإنسان صاحب هذه العاطفة أو تلك؛ إنك إذا ما حللت أيًّا من هاتين العاطفتين في حدود نفسها وفي داخل كيانها فلن تجد نفس الإنسان عنصرًا من عناصرها؛ لكن كلًّا من هاتين العاطفتين إذا ما استثيرت، فلا تلبث أن تلوي أبصارنا إلى فكرة النفس أو الذات، وتركز انتباهنا على تلك الفكرة؛ وليس معنى ذلك أن عاطفة الزهو أو عاطفة الضعة تخلق فكرة الذات خلقًا وتولدها توليدًا، بل إن هذه الفكرة قائمة أبدًا أمام عقولنا وكل ما في الأمر هو أننا بحاجة إلى ما يوجه التفاتنا إليها، ومثل هذا التوجيه هو ما تفعله هاتان العاطفتان.
وليس الطرف الذي هو مبعث العاطفة مؤلفًا من الصفة التي تعمل على توليد العاطفة فحسب، بل إن هيوم ليفرق بين هذه الصفة وبين «الموضوع» الذي تكون هذه الصفة قائمة فيه؛ ولا بد في جميع الحالات أن يكون هذا «الموضوع» مركبًا من عدة عناصر، تكون إحداها فكرة النفس؛ إذ ما الصفات التي تثير فينا عاطفة الزهو؟ إنها تكون واحدة من ثلاثة أنواع: فهي إما أن تكون صفة نفسية من صفات النفس ذاتها، كالفطنة والرأي الثاقب والعلم والشجاعة والعدل؛ وإما أن تكون موهبة جسدية تتصف بها النفس أيضًا، كالجمال والقوة وإجادة اللعب بالرمح وما إلى ذلك؛ أو أن تكون صفة تصف شيئًا أو شخصًا — ليس هو النفس ذاتها — ولكنه متصل بها على نحو ما، كالأبناء والأقرباء ومنازلنا وحدائقنا والوطن الذي ننتمي إليه وهكذا، في هذه الأنواع الثلاثة من الصفات التي تثير فينا عاطفة الزهو، نلاحظ أن «الصفة» التي هي مثار العاطفة تكون قائمة في «موضوع» مما يتصل بالنفس على صورة من الصور، كأن تكون النفس جزءًا منه، أو أن يكون هو في حيازة النفس أو على علاقة بها؛ مثال ذلك حين يشعر صاحب منزل بالزهو بمنزله، فالصفة التي تثير فيه هذا الزهو هي الجمال — مثلًا — لكن هذا الجمال لا بد أن يكون قائمًا في موضوع الزهو الذي هو المنزل في هذه الحالة، فما كل جمال في أي منزل يثير في الرائي زهوًا، بل يتحتم أن يكون «الموضوع» على صلة بالنفس، فالمنزل في هذا المثل ملْكٌ للنفس الشاعرة بالزهو، ولو لم تكن هنالك هذه العلاقة لاكتفى صاحب النفس بالتمتع بالجمال، ولم يكن في الموقف عاطفة الزهو بموضوع ذلك الجمال؛ فإذا أريد للشعور بالنشوة إزاء الشيء الجميل أن يقترن بالشعور بالزهو، فلا مناص من أن تكون نفس صاحب هذا الشعور جزءًا من الموضوع الباعث عليه.
ونقيض الصفات التي ذكرناها باعثة على الشعور بالزهو، هو صفات — إذا ما وجدت في شيء ما — بعثت على الشعور بالضعة؛ أعني أنه إذا وقف الإنسان إزاء شيء فيه ما يدل على الغباء وخطل الرأي والجهل والجبن والظلم والقبح والرذيلة … إلخ، ثم إذا كانت نفسه متصلة على نحو ما بذلك الشيء الذي تكون تلك الصفات صفاته، أثار فيه الشعور بالضعة.
وهكذا يجعل هيوم «نفس» الإنسان عنصرًا من عناصر الموقف عند الشعور بالزهو أو الشعور بالضعة، وذلك بمعنيين، فهي عنصر في الموقف باعتبارها جزءًا من الموضوع الذي يثير ذلك الشعور، ثم هي كذلك عنصر في الموقف باعتبارها الهدف الذي يستهدفه ذلك الشعور؛ أو إن شئت فقل إن «النفس» — نفس الإنسان الشاعر بعاطفة الزهو أو الضعة — هي جزء من سبب تلك العاطفة، وهي وحدها المتعرضة لما تحدثه تلك العاطفة من أثر.
فكأنما الشعور بالزهو أو بالضعة مرحلة تبدأ من النفس وتنتهي إلى النفس، تبدأ منها باعتبارها جزءًا من موضوع مركب متعدد العناصر، هو الموضوع الذي يثير العاطفة، وتنتهي إليها وهي قائمة وحدها؛ وبين البداية والنهاية خطوتان شعوريتان، أولاهما الشعور بالنشور والارتياح في حالة الزهو، وبالانقباض والقلق في حالة الضعة، وثانيتهما اقتران تلك النشوة أو هذا الانقباض بالذات بحيث يتولد في النهاية زهو أو ضعة.
هذا التحليل لعاطفتي الزهو والضعة هو نفسه الذي يطبقه هيوم على عاطفتي الحب والكراهية، مع فرق واحد، وهو أن «النفس» التي يتحتم أن تكون جزءًا من الموضوع الباعث على العاطفة، كما يتحتم أن تكون هدفًا تنصبُّ عليه العاطفة، هي نفس صاحب العاطفة في حالة الزهو أو الضعة، لكنها تكون نفس شخص آخر في حالة الحب أو الكراهية؛ فأنت تزهو بنفسك أنت وتشعر بضعة نفسك أنت، لا بنفس إنسان سواك، لكنك إذ تحب أو تكره فإنما تصبُّ الحب أو الكراهية على نفس أخرى لا نفسك أنت.
وكذلك يثير الحب والتقدير صفات جسدية معينة كالقوة والجمال والرشاقة وما إليها، وأضدادها تثير كذلك الكراهية والازدراء.
على أن هذه الموضوعات الكثيرة المختلفة لا بد أن تشترك كلها في أنها تكون على صلة سببية بالشخص المحبوب أو المكروه، كما تشترك كلها كذلك في أن من خصائصها ما يبعث على الشعور باللذة والارتياح أو بالألم والقلق.
والخلاصة هي أن عاطفتي الزهو والضعة من ناحية، وعاطفتي الحب والكراهية من ناحية أخرى تتشابه في أمر وتختلف في أمر، فهي تتشابه في أنها عواطف تثير الارتياح (في حالتي الحب والزهو) أو تثير القلق (في حالتي الكراهية والضعة)، وهي تختلف في أن الزهو والضعة يتصلان بنفس الشاعر بهما، وأما الحب والكراهية فيتصلان بنفس إنسان آخر غير من يشعر بهما، أي إن الإنسان يشعر بالزهو أو الضعة إزاء نفسه، ويشعر بالحب والكراهية إزاء إنسان سواه.
(٨-٣) المشاركة الوجدانية
تتصل المشاركة الوجدانية بموضوع العواطف وإن لم تكن في ذاتها عاطفة بعينها؛ فمن خصائص الإنسان الفطرية أن يشارك الناس بعضهم بعضًا فيما يحسونه من عواطف، وهي خصيصة يقول عنها هيوم: ليس في طبيعة الإنسان كلها ما هو أهم منها وأخطر، وهو يعرِّف «المشاركة الوجدانية» بأنها ذلك الميل الفطري الذي يميل بالإنسان نحو أن ينقل لنفسه ميول الآخرين وعواطفهم، مهما يكن من اختلاف، بل من تضاد، بينها وبين ما عنده هو من ميول وعواطف؛ وطريقة هذا الانتقال هي كما يأتي: يشاهد الواحد منا في الآخر ظواهر معينة، فتكون هذه المشاهدة انطباعًا على حواسه؛ ثم عن طريق الترابط تستدعي هذه الظواهر الجسدية المرئية ما كان قد ارتبط بها في خبرته هو الماضية من عاطفة؛ فمثلًا يرى الواحد منَّا في شخص آخر اصفرارًا في الوجه وارتعاشًا في الأطراف … إلخ، فيتذكر من خبرته الماضية ما كان قد حدث له هو نفسه من ظواهر شبيهة بما يرى الآن في سواه، ولما كانت تلك الظواهر في خبرته الماضية قد ارتبطت عنده بالخوف، بحيث ارتبطت «فكرة» هذه الملامح الجسدية عنده ﺑ «فكرة» الخوف، فإن الانطباع الذي تنطبع به حاسته الآن مما يرى في سواه، تستدعي عنده عاطفة شبيهة بالعاطفة التي كانت قد صحبت عنده مثل هذه الظواهر الجسدية، أي إنها تستدعي في نفسه شعور الخوف؛ أو بعبارة موجزة واضحة، تكون المراحل التي تنتقل بها المشاركة الوجدانية كما يلي: رؤية علامات جسدية معينة في شخص آخر، فيستدعي ذلك عندنا «فكرة» عاطفة معينة مرتبطة بتلك العلامات الجسدية، ثم تستثير هذه «الفكرة» العاطفة نفسها التي تكون هذه «الفكرة» صورتها الذهنية؛ وبهذا تنشأ عند الرائي نفس العاطفة التي يتأثر بها الشخص المرئي؛ فإن كان الشخص المرئي مرحًا، نشأت عند الرائي عاطفة المرح، وإن كان حزينًا، نشأت عند الرائي عاطفة الحزن وهكذا.
(٩) في الأخلاق
إنه ليس مما يحتمل الشك أننا إذ نحكم على الناس بما يرفعهم أو يخفضهم في أنظارنا، فإنما نصدر في هذه الأحكام عن صفات نلتمسها فيمن نحكم عليه، كما أننا نلجأ في أنفسنا إلى أساس نحتكم إليه، وسؤالنا الآن هو هذا: بأي معيار وعلى أي أساس نحكم بالفضل أو بعدمه في هذا الشخص أو ذاك؟ أنقيم حكمنا على أساس من العقل أم على أساس من العاطفة؟ هل تكون أحكامنا الخلقية نتيجة حجاج منطقي وبرهان عقلي أم تكون صادرة عن شعور باطني نحسه في أنفسنا إحساسًا مباشرًا؟ هل تكون تلك الأحكام من قبيل القضايا العقلية — كنظريات الهندسة مثلًا — التي يتفق عليها الناس جميعًا ما دام برهانها مقبولًا عند العقل، أم تكون من قبيل إدراكنا للجمال والقبح إدراكًا يختلف فيه فريق منَّا عن فريق اختلافًا يسببه اختلاف التربية والظروف؟
أما هيوم فالرأي عنده صريح واحد، وهو أن الحكم الخلقي قائم على الذوق أو العاطفة، على أن يقوم العقل ببيان تفصيلات الموقف لكي يتاح للإنسان أن يميل بعاطفته أو ينفر.
يستحيل أن يكون العقل وحده مصدرًا لحياتنا الخلقية؛ لأن المعرفة العقلية لا يترتب عليها عمل، والأخلاق صميمها عمل؛ ذلك أن المعرفة العقلية نظرية، وقيام الرأي النظري في العقل لا يكفي وحده أن يحرك الإنسان في دنيا الفعل والسلوك، إننا في المجال الفكري النظري نحكم على الفكرة المعينة بالصواب أو بالخطأ، أما في المجال السلوكي العملي فنحكم على الفعل بالخير أو بالشر، وهكذا يختلف نوع الحكم في كل من المجالين.
هاتان هما العمليتان الوحيدتان اللتان تكوِّنان «العقل» عند هيوم، فلا يجوز إطلاق هذه الكلمة على أي حكم لا ينطوي تحت واحدة منهما؛ وهو إذ يقول بمناسبة حديثه عن مبادئ الأخلاق إن «العقل» وحده عاجز عن حمل الإنسان على السلوك والعمل، وبالتالي فهو لا يكفي وحده أن يكون مصدرًا للأخلاق، فإنما يريد بهذا القول على وجه التحديد أن كلًّا من هاتين العمليتين الفكريتين لا تتضمن بطبيعتها أن يصحبها عمل.
أما العملية الأولى، فهي — كما قلنا — مقتصرة على ربط أفكارنا بعضها ببعض، كأن أربط — مثلًا — بين فكرتي «المثلث» و«الزاوية» بحيث أقول عن المثلث إن زواياه مجموعها لا بد أن يكون قائمتين، لماذا؟ لا لأني قست مثلثًا معينًا فوجدته كذلك، فأنا أستطيع أن أقول هذا عن المثلث حتى ولو لم يكن في العالم الواقعي كله مثلث واحد؛ إنما أقول هذا عن المثلث نتيجة لتحليل «الفكرة» في ذاتها وإبراز خصائصها ومقوماتها التي منها أن زواياه مجموعها قائمتان؛ هذه نتيجة تلزم بالضرورة عن تعريف المثلث ذاته، وتعريف المثلث «فكرة» في رأسي؛ وإذن فالتفكير الذي هو من هذا النوع التحليلي — كالرياضة — لا شأن له بالعالم الخارجي، وبالتالي فلا شأن له بالسلوك العملي، أي إنه — وحده — لا يكون مصدرًا لحياة الإنسان الخلقية كما يزعم الفلاسفة العقليون.
إن الإنسان في تفكيره الرياضي كله لا يلجأ إلى «الخبرة العملية» ليقيم البرهان على صدق تفكيره؛ لأن القضية من قضايا الرياضة شرطية دائمًا، بمعنى أننا بمثابة من يقول: «إذا سلمنا بصدق كذا وكذا من الفروض، نتج كذا وكذا.» مثال ذلك قولنا: «إذا كان ثمة شيء على شكل مثلث فإن زواياه تساوي قائمتين.» وليس في هذا القول بالطبع اعتراف أو تسليم بأن هنالك شيئًا ما على شكل مثلث، لكن «إذا» تحقق الفرض، تحققت معه النتيجة؛ الخبرة العملية هنا هي التي تنبئنا إن كان ثمة شيء ما على شكل مثلث أو لم يكن، لكن هذا النبأ في ذاته لا يضيف قوة إلى البرهان الرياضي بأن زوايا المثلث تساوي قائمتين؛ ولما كان الجانب العملي السلوكي من حياتنا متصلًا بالأشياء الفعلية الواقعية، ثم لما كانت «الأخلاق» متصلة بهذا الجانب العملي السلوكي، كانت العلاقة مبتورة — كما ترى — بين التفكير النظري الذي هو من النوع التحليلي الرياضي وبين الجانب الإرادي الفعلي السلوكي الذي هو جانب الأخلاق.
ولكن ما تلك الدوافع التي تحفز الإنسان على العمل الخلقي؟ هي العواطف التي تثيرها في نفس الإنسان ظروف الموقف الذي يكون محيطًا به؛ ولقد أسلفنا لك القول عن تحليل «العاطفة» عند هيوم (انظر الفصل السابق في هذا الكتاب) بأن الأمر فيها ذو طرفين، فطرف يبدأ من الموضوع الذي يثيرها، وطرف ينتهي إلى النفس التي تنصب عليها العاطفة، سواء كانت هذه النفس نفس صاحب العاطفة (كما في حالتي الزهو والضعة) أو نفس شخص آخر (كما في حالتي الحب والكراهية)؛ وأما الموضوع الذي يثير العاطفة فيتألف دائمًا من عدة عناصر، أحدها لا بد أن يكون عنصر اللذة أو الألم، أو إن شئت فقل إنه عنصر الارتياح أو القلق؛ أي إنه لا عاطفة — مهما يكن نوعها — ما لم يكن الارتياح أو القلق أحد مقومات الموضوع الذي يثيرها؛ ولما كان الحافز على العمل هو دائمًا «عاطفة» ما، إذن فلا عمل إلا إذا كان في الموقف الحافز عليه شعور بالارتياح أو شعور بالقلق، أي شعور باللذة أو شعور بالألم؛ وهكذا تكون الفضيلة عملا مبطَّنًا بالشعور الأول، والرذيلة عملًا مبطنًا بالشعور الثاني؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن نعد هيوم في الفلسفة الأخلاقية نصيرًا للمذهب اللَّذِّي النفسي، الذي يجعل معيار التفرقة بين ما هو فضيلة وما هو رذيلة من الأفعال، ما يصحبه من شعور بالرضى أو شعور بالسخط عند الإنسان.
الحافز على العمل الخلقي — إذن — هو في نهاية التحليل الشعور باللذة أو الألم؛ والغاية منه هو إحداث الشعور باللذة أو التخلص من الشعور بالألم، سواء كان الأمر في ذلك متعلقًا بالقائم بالعمل نفسه أو بغيره من أفراد الإنسان؛ حتى إذا ما تم الفعل وتأمله الإنسان بفكره، أحس إحساسًا مباشرًا بالرضى أو بالسخط، وهو الإحساس الذي قلنا عنه إنه من قبيل الانطباعات الحسية المباشرة، تنطبع به حاسة خاصة هي الحاسة الخلقية.
ها هنا نقطة دقيقة لو أفلتت منا أفلت معها الفهم الصحيح لمذهب هيوم في الأخلاق؛ وهي التفرقة بين مذهبه ومذهب اللَّذِّيين الذين يجعلون هدف الأفعال الخلقية كلها هو إحداث اللذة والتخلص من الألم، وعندهم أن اللذة المستحدثة هي نفسها «الخير» والألم المنجو منه هو نفسه «الشر»؛ فاللذة عندهم هي «الخير»، أي إن هاتين اللفظتين مترادفتان، فالفعل الذي تصفه بأنه لذيذ تصفه في الوقت نفسه بأنه خير؛ وبمقدار ما يزيد الفعل قدرة على استحداث اللذة يزيد جانب الخير منه؛ أما نظرية هيوم فتتفق مع المذهب اللَّذِّي في أن الإنسان تحفزه اللذة ويهدف إلى اللذة، بل تتفق في أن اللذة المستحدثة هي نفسها خير في ذاتها؛ لكنها تختلف عن المذهب اللَّذِّي في أنها تفرِّق ها هنا بين اللذة «النفسية» التي تحدث عن تحقيق إحدى الرغبات الطبيعية الفطرية، وبين لذة أخرى يهملها المذهب اللَّذِّي ويضيفها هيوم ويجعلها محورًا أساسيًّا جوهريًّا في نظريته، وهي الشعور بالرضى الذي يحدث عند تأمل الإنسان لما قد فعل، فهذا الشعور هو «الخير الخلقي» بأدق معناه؛ وبهذا نفرِّق بين الخير النفسي والخير الخلقي، يقتصر اللَّذِّيون على النوع الأول، ويعترف هيوم بالنوعين معًا.
(١٠) في السياسة
كان في إنجلترا على عهد هيوم — كما لا يزال بها حتى اليوم — حزبان سياسيان رئيسيان، هما حزب المحافظين من جهة وحزب الأحرار من جهة أخرى، ويلاحظ هيوم في فاتحة مقاله أن كلًّا من الحزبين يبحث لنفسه عن مبدأ فلسفي نظري يستند إليه في مذهبه السياسي؛ أما حزب المحافظين فيلتمس أصل الحكومة الأول عند الله، وذلك بأن يجعل الحكم حقًّا إلهيًّا يتمتع به الحاكم، فالله هو الذي أراد للحاكم أن يحكم، وإذن فمن الخروج على مشيئة الله وإرادته أن يتوجَّه ناقد بالنقد إلى الحكومة، مهما بلغت من الطغيان في حكمها، وبالتالي لا يكون عزل الحكومة من حق الشعب، لأن الشعب لم يكن هو الذي أقامها في مناصبها؛ إنه الله هو الذي شاء لها أن تتولى مقاليد الأمر، وهو الله الذي يشاء لها أن تزول؛ وأما حزب الأحرار فيرد الأمر إلى تعاقد أوَّلي بين الأفراد، فأعضاء الجماعة عند أول تكوينها هم الذين أرادوا لأنفسهم وتعاقدوا معًا على أن يولوا حاكمًا معينًا على أمورهم، وبالتالي يكون لهم حق مقاومة هذا الحاكم وعزله إذا ما اقتضت مصالحهم هذا العزل أو تلك المقاومة.
ويستطرد هيوم فيقول إن كلا هذين المبدأين صواب ولكن بمعنًى غير المعنى الذي قصد إليه الحزبان المتعارضان؛ وكلا المبدأين تقتضيه الحكمة على شرط ألا يبالغ في تأويلهما كما بالغ أنصار الحزبين المتعارضين.
أما أن الله هو صاحب الإرادة الأولى في تأليف الحكومة وتكوينها فيستحيل أن يشك في ذلك أحد ممن يسلِّمون بأن حكمة الله شاملة للكون بكل ما فيه ومن فيه، بحيث تجيء حوادث العالم بأسره، صغيرها وكبيرها على السواء، وفق خطة مدبرة ومستهدفة لغاية مقصودة منشودة؛ فلما كان محالًا على الجنس البشري أن تقوم له قائمة في حياة آمنة وادعة إلا في ظل حكومة تشرف على أموره وتتولى حمايته ورعايته، كان من الحتم أن تكون الحكومة نتيجة تدبير إلهي حكيم؛ وإنه ليكفينا أن نعلم أن كل مجتمع — مهما يكن زمانه أو مكانه — قد قامت عليه حكومة ما، لنعلم في يقين أن الأمر لم يكن متروكًا للصدفة العابرة، بل هو تدبير من عليم حكيم يريد الخير بعباده أجمعين؛ لكن الله إذ أراد للناس نظامًا معينًا في الحكم، إنما أراد ذلك من حيث المبدأ العام، ولا يجوز أن نستدل من ذلك أن الحاكم يمثل إرادة الله في كل عمل صغير يقوم به أثناء قيامه بالحكم؛ فشأن الحاكم في ذلك شأن قوى الطبيعة كلها، أرادها الله من حيث المبدأ العام، لكنَّا نسرف إذا قلنا إن كل فعل من أفعال تلك القوى قد استند في وقوعه إلى إرادة إلهية قائمة بذاتها؛ ولو جعلنا أفعال الحاكم الجزئية يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة معبرة عن مشيئة الله الخاصة، لتحتم أن نقول هذا القول نفسه في أفعال الناس جميعًا، فلا يقضي قاضٍ بحكم، بل لا يقترف لص جريمة السرقة ولا يعتدي معتد باعتداء إلا ومشيئة الله من ورائه.
وأما عن المبدأ القائل بأن الحكومة بادئ ذي بدء قد نشأت نتيجة لتعاقد تم بين الناس، فهو كذلك مبدأ مقبول على شرط ألا نبالغ في تفسيره؛ ذلك أننا إذ نلاحظ أن الناس متقاربون جدًّا في قواهم الجسدية بل وفي قواهم العقلية؛ لا يسعنا إلا أن نقرر بأنهم حينما أرادوا الاجتماع بعضهم ببعض أول الأمر، كان يستحيل على سلطة أن تفرض عليهم سلطانها بغير موافقتهم ورضاهم؛ إذ ما كان ليتاح لأحد منهم أن يفرض سلطانه بالقوة على بقيتهم، مع أنه على وجه التقريب مساوٍ لأي واحد من هؤلاء في قدراته البدنية والعقلية معًا؛ إننا لو تعقبنا أصول الحكومات إلى جذورها الأولى في الغابات وفي بيداء الصحراء، وجدناها قد قامت بإرادة الناس؛ أقاموها برغبة منهم ورضى لتنشر فيهم الطمأنينة والنظام؛ وهم الذين تنازلوا طواعية عن حرياتهم الفردية لواحد منهم، هو في الأصل مساوٍ لكل منهم، وذلك بغية أن يقضي فيهم بما يحقق لهم سلامًا وأمنًا؛ فلو كان شيء كهذا هو ما يراد عند التحدث عن «عقد ابتدائي» تم بين أعضاء المجتمع عند أول تكوينه، لم يكن لنا بد من التسليم بصوابه؛ فليس هو بالتعاقد الذي نراه مرقومًا في وثيقة مخطوطة، لأنه حدث قبل الكتابة، بل قبل أن تبدأ الحياة المتحضرة بشتى ألوان فنونها؛ بل هو تعاقد نستدله استدلالًا من طبيعة الإنسان، ومن تساوي الأفراد في قدراتهم الفطرية أو ما يشبه التساوي؛ وما تلك القدرات الفطرية إلا قوة الأبدان وقوة البأس، فما نحسب فردًا واحدًا قادرًا بقوته الفطرية وحدها أن يغلب جماعة على أمرها، ولا يمكن لهذه الجماعة أن تخضع لواحد من أفرادها إلا بإرادتها ورضاها.
وبالطبع لم يجتمع أفراد الجماعة ذات يوم ليقولوا: هذا هو منذ اليوم صاحب السلطان فينا، بل لا بد أن يكون الأمر قد تم تدريجًا وفي ظروف طبيعية كأن تضطر جماعة من الناس — مثلًا — أن ترد عنها عدوًّا مهاجمًا، فيقتضي هذا أن تكون القيادة لواحد من أفرادها، وتنتهي المقاتلة فتزول عن القائد صفته المميزة، ولكن سرعان ما ينشأ طارئ آخر، فيسهل على أفراد الجماعة أن يلقوا بزمام أمرهم إلى الرجل نفسه؛ وهكذا تظل الطوارئ تتوالى، فتتوالى معها رئاسة هذا الرئيس، حتى تصبح رئاسته عادة مألوفة، ويصبح خضوع الأفراد لأحكامه أمرًا صادرًا عن مشيئتهم.
فإذا ما طال العهد بالحاكم وسلالته من بعده، كان حق الحكم قائمًا على الإلف والعادة، لا على موافقة الناس واختيارهم، لقد كان اختيارًا وموافقة في أول الأمر، ثم انتهى إلى عادة مقررة آخر الأمر، ويخطئ الفلاسفة السياسيون إذا ظنوا أنه ما دام الحاكم قد استند في أول نشأة المجتمع إلى موافقة الأفراد، فلا بد أن يكون الآن كذلك مستندًا إلى مثل هذه الموافقة؛ يخطئون لو ظنوا أن الناس اليوم لا يزالون — كما كانوا أول نشأة المجتمع والحكومة — يولدون سواسية، لا فرق فيهم بين فرد وفرد، وأنهم يولدون أحرارًا من كل فرض يوجب عليهم الولاء لحاكم أو حكومة، اللهم إلا إذا تعهدوا طواعية بمثل هذا الولاء؛ ولما كان الإنسان لا يتعهد لغيره بولاء إلا إذا كان له من وراء ذلك كسب مساوٍ لما تنازل عنه من حقوقه الفطرية، كان ولاء الفرد لحاكمه أو حكومته متضمنًا ضرورة أن تقوم تلك الحكومة أو الحاكم بحماية مصالحه، وإلا كان له الحق في نقض ولائه الذي تعهد به.
إن الذين يزعمون أنه ما دامت مشروعية الحكومة قد قامت في أول أمرها على رضى الأفراد، فلا بد أن تظل قائمة على رضى الأفراد الآن وفي كل حين، أقول إن الذين يزعمون هذا الزعم ما عليهم إلا أن يرسلوا أبصارهم إلى دنيا الواقع، ليروا أن ما هو واقع فعلًا لا يطابق هذه الآراء النظرية التي يأخذون بها؛ فأينما يوجهون أبصارهم يرون حكامًا يملكون رعاياهم كأنما هؤلاء الرعايا ملك أيديهم، ويؤسسون ملكهم هذا — لا على أساس موافقة هؤلاء الرعايا ورضاهم — بل على أساس الفتح الحربي أو الحق الشرعي الموروث للولد عن أبيه وجده؛ وسيجدون الرعايا أنفسهم يقرون لحكامهم بهذا الحق؛ إذ يقررون أنهم — أي الرعايا — إنما ولدوا وعليهم واجب الولاء والطاعة لولي الأمر منهم، كما يولد الولد وعليه واجب فطري بالولاء نحو والديه اللذين أنسلاه؛ وليس الأمر في هذا كله مقصورًا على بلد دون بلد، أو عصر دون عصر، بل هو شامل للعالم كله في كل زمان أو مكان؛ تراه في فارس والصين، كما تراه في فرنسا وإسبانيا وفي هولندا وإنجلترا؛ إن طاعة الرعية لراعيها وحاكمها أمر قد بلغ من رسوخه في النفوس حدًّا لم يعد مقبولًا معه أن يفكر أحد حتى في مجرد البحث عن أصوله ونشأته، وعن سببه وعلته، فكأنه قانون طبيعي كالجاذبية مثلًا، نقبلها أمرًا واقعًا رضينا أو كرهنا، ولو قمت في الناس هاديًا يهديهم إلى أن الروابط السياسية بين الحاكم والمحكوم إنما تقوم على رضى المحكوم وموافقته، لَقُضِي عليك بالسجن، لأنك ستكون عندئذٍ في رأي القضاة — في كل بلاد العالم — مضللًا يعمل على فصم عرى الولاء والطاعة التي لا مندوحة عنها بين المحكوم وحاكمه؛ لا بل إن أصدقاءك أنفسهم لن ينتظروا القضاة حتى يزجوا بك في السجن، لأنهم سيحكمون عليك قبل ذاك بالتخليط والجنون؛ أمن المعقول أن يكون أفراد الناس هم الذين تعاقدوا وتعاهدوا على أن تقوم فيهم حكومة بعينها، ثم لا نجد منهم فردًا واحدًا يتذكر ما قد تعاقد عليه وتعهد به؟ أيكون أفراد البشر جميعًا في أنحاء الأرض كلها قد أصابهم النسيان فلم يعد أحد منهم ذاكرًا لفعل يقال لنا إن جميع الأفراد قد تعهدوا به وتعاقدوا عليه؟!
لكن هذا التعاقد الذي تم بين الأفراد على الحكومة التي أقاموها على أمورهم باختيارهم، هو تعاقد تم في بداية نشأة المجتمع، هو «تعاقد ابتدائي» كما يقول لنا أصحاب هذه النظرية، وعلى ذلك فهو أقدم عهدًا من أن يظل عالقًا بذاكرات أبناء العصر الحاضر؛ ويرى هيوم في هذا الصدد أنه إذا كان المقصود بالتعاقد الاجتماعي ما قد تم بين أعضاء الجماعة الهمجية عند أول التقائهم في مجتمع، فذلك أمر مقبول غير منكور؛ أما وقد طال العهد جدًّا بمثل ذلك التعاقد الابتدائي، حتى لقد عَفَّى عليه ما قد وقع من تغيرات وحوادث تعد بالألوف، فألوف الحكومات قد تتابعت، وألوف الأمراء قد تناولوا الحكم، فإنه محال أن يكون ذلك العقد الابتدائي ما يزال محتفظًا بشيء من قوته؛ ولو أننا أصررنا على أن تدوم للعقد الابتدائي قوته منذ أول نشأة المجتمع حتى يومنا هذا، لكان معنى هذا فرض إرادة الآباء الأولين الأقدمين على أبنائهم وأبناء أبنائهم إلى يوم الدين؛ ذلك فضلًا عن أن التاريخ والخبرة كليهما يشهدان ببطلان هذا القول بطلانًا تقوم عليه الشواهد في كل عصر وفي كل بلد على طول التاريخ وفي أرجاء العالم أجمع.
إن كافة الحكومات القائمة بيننا اليوم — هكذا يستطرد هيوم في قوله — وكافة الحكومات التي يسجل التاريخ أخبارها من العصور الماضية، توشك أن تكون قائمة كلها إما على أساس الاغتصاب أو على أساس الغزو أو على الأساسين معًا، دون أن يكون هنالك أقل علامة تدل على موافقة الرعية المحكومة بإرادتها وبمحض اختيارها على الحكومة القوامة على أمورها؛ فإذا ما وُضع رجل ماكر جريء على رأس جيش أو حزب، فكثيرًا ما يسهل عليه — بالعنف حينًا وبالتضليل حينًا — أن يؤسس سلطانه على شعب يفوق في عدده عدد أتباعه مائة مرة، فتراه لا يبيح لأعدائه أن يجتمع بعضهم ببعض حتى لا يدركوا في يقين مدى عددهم أو قوتهم؛ ولا يجيز لهم أن يحشدوا جهودهم ضده؛ وحتى أنصاره الذين ساعدوه على تأسيس سلطانه اغتصابًا، قد يتمنون بعد ذلك سقوطه، لكن المباعدة بينهم تحول دون أن يعلم بعضهم نيات بعضهم الآخر، وبذلك يظل السلطان آمنًا مطمئنًا؛ بمثل هذه الوسائل قويت حكومات كثيرة، وذلك هو «العقد الابتدائي» الذي يفاخر به أنصار النظرية السياسية التي تجعل للأفراد حق اختيار الحاكم وعزله!
إن وجه الأرض لفي تغير دائم لا ينقطع، فممالك صغيرة تكبر حتى تصبح إمبراطوريات عظيمة، وإمبراطوريات عظيمة تنحلُّ إلى ممالك صغيرة، ومستعمرات تقوم هنا وهناك، وقبائل تهاجر، فهل ترى في هذه الحوادث كلها علامة واحدة لشيء غير القوة والعنف؟ أين تجد في هذا كله ما يزعمونه لنا من تعاقد بين الناس يتم بإرادتهم الحرة على الحكومة التي تقوم عليهم وتسيطر على شئونهم؟
لا بل إنه كثيرًا ما يحدث للأمم أن تتلقى حكامها عن طرق لا تشرفها، وذلك حين يتولى أمور الأمة حاكم جاءها نتيجة لزواج أو تحقيقًا لوصية، ففي مثل هذه الحالات لا تكون الأمة المحكومة في الواقع سوى مهر يدفع لعروس، أو تركة يرثها وارث، ولا يكون ذلك إلا على هوى حكامها دون أن يكون لأبناء الأمة نفسها إرادة ولا شبه إرادة.
ثم افرض أحسن الفروض الممكنة، افرض أن قيام الحاكم قد تم باختيار أبناء الأمة المحكومة، فكيف وقع هذا الاختيار فعلًا؟ أليست حقيقة الأمر هنا أن فئة قليلة العدد من أعلام الناس وأعيانهم قد قرروا واختاروا نيابة عن المجموعة كلها؟ أو ربما كانت حقيقة الأمر هي أن جموعًا من الشعب قد التهبت غضبًا وثورة بفعل زعيم مضلل لا يعرفه حق المعرفة إلا قليلون من المحيطين به، وبذلك لا يكون ارتقاؤه إلا نتيجة وقاحته وجرأته، أو نتيجة نزوة مؤقتة عند أصحابه … أفتكون لأمثال هذه الانتخابات المضطربة — ومع ذلك فهي نادرة الحدوث — من قوة الأثر بحيث نعدها الأساس الشرعي الوحيد لكل حكومة وكل ولاء؟ ألا ما أبعد المسافة بين الواقع كما يقع وبين الأفكار النظرية التي يحلم بها فلاسفة السياسة!
ويمضي هيوم في قوله على هذا النحو، ثم يقرر أنه لا يريد أن يحذف موافقة الرعية فلا يجعلها أساسًا عادلًا بين غيرها من الأسس التي يمكن للحكومة أن تقوم عليها؛ بل كل ما يدعيه هو أن مثل هذه الموافقة الشعبية على الحكومة القائمة قلما يحدث فعلًا ولو إلى درجة محدودة، ويستحيل أن يحدث بأكمل معانيه وإلى أبعد حدوده، وإذن فلا مندوحة لنا عن الاعتراف بأسس أخرى غير هذا الأساس، تقوم عليه الحكومة.
إنه لو كان الناس جميعًا مهيَّئون بطبعهم أن يعامل بعضهم بعضًا بالعدل والإنصاف فلا يجحف أحد منهم بأحد ولا يسطو أحد على ملك أحد، لظلوا إلى الأبد متمتعين بحرية مطلقة لا يخضعون لحاكم ولا ينخرطون في سلك جماعة سياسية؛ لكن هذه درجة من الكمال لم تتهيأ لها طبيعة البشر؛ وكذلك لو كان الناس يتمتعون بقدرة عقلية تمكنهم من إدراك مصالحهم، لامتنع قيام حكومة فيهم إلا ما أرادوا لأنفسهم بمحض اختيارهم، لكن هذه أيضًا درجة من الكمال تقصر دونها طبيعة البشر؟ وهكذا ترى العقل والتاريخ والخبرة كلها دالة على أن اختيار الناس لم يكن هو الأساس في قيام حكوماتهم؛ ولو استعرضت مراحل التاريخ في أمة من الأمم لتتبين متى كان اختيار الناس في أقل درجاته وأضيق حدوده، وجدت أنه يكون كذلك عند قيام الحكومات الجديدة إثر الثورات والحروب وما إليها؛ فبدل أن يكون اختيار الناس واضحًا عند قيام حكومة جديدة في فاتحة عهد جديد، كما يدَّعي أنصار العقد الاجتماعي، ترى هذا الاختيار في أدنى درجاته عند تلك اللحظات التاريخية ذاتها، حتى إذا ما استقرت الأمور للعهد الجديد وللحكومة الجديدة، فعندئذٍ قد يقوم في الناس دستور ينظم استشارة الناس فيما يريدون لأنفسهم؛ وأما إبان الثورات والغزوات والانقلابات فالكلمة تكون للقوة العسكرية أو للدهاء السياسي، بحيث لا يكون للناس في أمرهم خيار.
إنه إذا ما قامت حكومة جديدة بوسيلة من الوسائل كائنة ما كانت، فالأرجح ألا يرضى الناس عنها؛ فتراهم يطيعونها عن خوف وضرورة أكثر مما يطيعونها عن عقيدة في الولاء أو عن شعور بالإلزام الخلقي؛ وهنا ترى الحاكم الجديد على حذر يتخذ الوسائل التي تمنع قيام الغاضبين في ثورة على حكومته، ولكن الزمن يمضي فيزيل شيئًا فشيئًا كل ما قد كان قائمًا في وجهه من عقبات، ويُعَوِّد الأمة على اعتبار الحاكم الجديد وأسرته حكامًا شرعيين، مع أنهم هم أنفسهم الذين كانوا أول الأمر غزاة أو مغتصبين؛ وهكذا ترى أن ليس في الأمر اختيار ولا تعاقد ولا عهد ولا وعد، بين حاكم ومحكوم، بل يبدأ الأمر بفعل القوة وينتهي بالإذعان بحكم الضرورة والعادة، وحين يصبح لحاكم حق شرعي في ملكه، فلا يكون ذلك أبدًا نتيجة اختيار الناس له أو تعاقدهم معه، بل يكون نتيجة لطول عهد ذلك الحاكم بملكه مما يكسبه حقًّا شرعيًّا فيه.
وقد يقال إن كل فرد من أفراد الشعب هو في حكم مَنْ أبدى رأيه بالموافقة على قيام الحكومة القائمة؛ لأنه لو كان معارضًا ورافضًا لَترَك البلاد إلى غيرها، لكن هذا القول لا يعني شيئًا ما لم يكن للفرد قدرة فعلية على ترك البلاد إذا أراد، أما إذا كان بحكم الظروف عاجزًا عن ذلك، فلا محل إذن للقول بأنه يستطيع مغادرة البلاد إذا لم يكن راضيًا عن الحكومة القائمة؛ وهل يستطيع أحد أن يزعم جادًّا بأن الفلاح الفقير أو الصانع حر الاختيار في ترك بلاده إذا شاء، مع أنه لا يعرف لغة غير لغته ولا لونًا من العيش إلا اللون الذي ألفه ونشأ عليه، ومع أنه كذلك يعيش على رزق يوم بعد يوم؟ إن من يدعي ذلك هو بمثابة من يقول لرجل حُمِل إلى سفينة حين كان غارقًا في نعاسه، ثم أقلعت به السفينة إلى عرض البحر، وقيل له بعد ذلك إنه إذا لم يكن راضيًا بحكم الربان، فله — إذا شاء — أن يترك السفينة، مع أنه لا يستطيع تركها إلا إذا وثب في البحر وهلك لساعته.
وماذا لو أراد فرد من الناس أن يغادر البلاد فرفض الحاكم؟ وهل يخطئ الحاكم إذا ما وجد الناس نازحة عن بلاده زرافات أن يحول دون ذلك حتى لا يحل الخراب بالبلاد؟ كلا، إن ذلك يكون منه سدادًا وحكمة، ولكنه مع ذلك قيد على حرية الأفراد.
وفضلًا عن ذلك كله، فلو كانت الأجيال تتعاقب كما يتعاقب دود القز والفراش، أنه لو كان معنى تعاقبها هو أن تنمحي جماعة لتحل محلها جماعة جديدة، لجاز أن نقول إن من حق هذه الجماعة الجديدة أن توافق أو لا توافق على نظام الحكم الذي كان سائدًا في الجماعة القديمة، لكن الأجيال يتداخل بعضها في بعض، ففي كل ساعة يضاف إلى الجماعة عضو جديد ويخرج منها عضو قديم، ويستحيل أن يتحقق استقرار للحياة على هذه الصورة إلا إذا سار الوافدون الجدد على الدرب الذي سار عليه الأسلاف، وأما ضروب الإصلاح — ولا بد منها — فيتحتم أن تجيء عن طريق الهداية البصيرة والإقناع، ولا تجيء أبدًا عن طريق العنف والقوة.
وبعد أن يسوق هيوم أمثلة من التاريخ ليدلل بها على صدق ما يذهب إليه، يعود إلى تفنيد فكرة «العقد الابتدائي» على أساس نظري فلسفي فيقول إن الوجبات «الخلقية» كلها يمكن تقسيمها نوعين: النوع الأول قوامه واجبات تدفع إليها غرائز فطرية وميول طبيعية مباشرة، فترانا نؤديها بغض النظر عن أي إلزام أو نفع يترتب على أدائها، ومن قبيل ذلك حب الوالدين للأبناء، والاعتراف بالجميل لصاحب الفضل، والإشفاق على من ألمتْ به مُلمة؛ نعم إن أمثال هذه المشاعر تصادف عند المجتمع استحسانًا ورضى، لكننا نندفع إليها بمحض الفطرة بغض النظر عن هذا الاستحسان والرضى.
وأما النوع الثاني من الواجبات الخلقية فلا يستند إلى غريزة أو فطرة، لكنها تؤدَّى بدافع من الإلزام الذي تقتضيه ضرورات الحياة الاجتماعية التي لا قيام لها ولا نجاح بغير تلك الواجبات؛ ومن هذا القبيل «العدالة» أو عدم الاعتداء على ملك الآخرين، و«الوفاء بالعهد»؛ فهذه وأمثالها فضائل نلتزم بها صيانة للمجتمع على الرغم من أنها ليست جزءًا من الفطرة؛ إذ من الواضح أن كل إنسان يحب نفسه أكثر مما يحب أي شخص آخر، ولذلك فهو بفطرته مدفوع إلى الإكثار من مقتنياته بقدر المستطاع، ولا يحد من ميله هذا إلا التفكير والخبرة اللذان يهديانه إلى النتائج السيئة التي تترتب على سلوكه ذاك، وبهذا تراه يفرض القيود على دوافعه الفطرية الغريزية.
و«الولاء» الذي هو واجب سياسي أو مدني، هو من هذا النوع الثاني من الواجبات الخلقية التي تستدعيها الخبرة ولا تحتمها الفطرة؛ لأننا لو استمعنا إلى إملاء الغرائز الفطرية وحدها، لاستبحنا لأنفسنا حرية بغير قيد أو حد، ولالتمسنا السيادة على الآخرين؛ لكنه التفكير العقلي هو الذي يقتضينا أن نضحي بهذا الذي تميله علينا العواطف الفطرية، لكي نحقق للمجتمع أمنًا ونظامًا؛ وإنه لتكفينا الخبرة القليلة لنعلم ألا قيام لمجتمع بغير قضاة يردون المعتدي، ولا خير في قضاة لا يجدون من الناس طاعة لقضائهم، ومن ثم وجب على الفرد في المجتمع «الولاء» لحكومته وما تقرره عليه من قيود.
من ذلك ترى أن «الولاء» السياسي و«الوفاء بالعهد» كليهما من الواجبات المكتسبة لا الواجبات الفطرية؛ وإذن فليس من الصواب أن نجعل الولاء السياسي نتيجة مترتبة على الوفاء بالعهد، كما يظن أصحاب نظرية «التعاقد»؛ إذ يقولون إننا نطيع الحاكم بناء على عهد قطعناه ضمنًا على أنفسنا إذ قبلنا قيام ذلك الحاكم فينا وليًّا على أمورنا؛ لأننا نستطيع أن نسألهم قائلين: وما الذي يلزمنا بالوفاء بعهودنا؟ إنه ليس من غرائزنا الفطرية أن نفي بالعهد، فما مصدر الإلزام هنا إذن؟ فإذا أجابوا بقولهم: إنه المجتمع وضرورة قيامه هو الذي يفرض علينا الوفاء بالعهد، كان اعتراضنا عندئذٍ هو أن هذا المجتمع نفسه وضرورة قيامه هو الذي يستوجب كذلك الولاء السياسي، وإذن فهذا الولاء إنما يقف في نفس المنزلة التي يقف فيها الوفاء بالعهد، ولا ضرورة هناك تحتم علينا أن نجعل الولاء فرعًا عن الوفاء ونتيجة مترتبة عليه؛ إن المجتمع ومصالحه هي التي تفرض الواجبين معًا.
فلو سأل سائل: لماذا وجبت الطاعة على الشعب لحكومته؟ أجاب هيوم بقوله: لأنه لا بقاء للمجتمع بغير هذه الطاعة، أما معارضو هيوم فيجيبون بقولهم: لأن أفراد الشعب قد تعهدوا بهذه الطاعة فوجب عليهم الوفاء بما تعهدوا، ومن رأي هيوم أن هذه الإجابة ناقصة؛ لأننا نستطيع أن نسأل القائلين بها سؤالًا يتعذر عليهم جوابه، وهو: ولماذا يجب الوفاء بالعهود؟ من الذي أوجب ذلك؟ كلا، إنه لا عهود هناك ولا وعود، أو بعبارة أخرى، لا تعاقد هناك بين حاكم ومحكوم؛ إنما للولاء واجب للحكومة على الشعب ليظل النظام الاجتماعي قائمًا.
لكن السؤال المشكل العسير حقًّا هو هذا: لمن يجب الولاء؟ أو بعبارة أخرى، من ذا يكون سلطاننا الشرعي؟ ولعل أيسر إجابة على هذا السؤال تتحقق حين يجد الشعب سعادته في الاعتراف بحكومته القائمة وفي سلطانه الراهن، على اعتبار أنه الوريث الشرعي لآبائه وأجداده … إن الشعب إذا ما وجد سعادته في هذا الاعتراف، كان من العسير على المعترض أن ينبهه إلى ما في هذه الإجابة من مشكلات؛ ذلك لأن مثل هذا المعترض يستطيع أن يعود بالسلطان الراهن راجعًا إلى الوراء خطوة بعد خطوة حتى يتبين أن جده الأول كان مغتصبًا لعرش لم يكن له فيه حق موروث … وها هنا يشير هيوم إلى حقيقة عامة، وهي أنه وإن تكن الفضيلة تقتضي ألا يعتدي أحد على ملك سواه، إلا أنك إذا ما تتبعت ما شئت من أملاك الناس، كيف تداولته الأيدي مالكًا بعد مالك، فلا بد أن تنتهي عند خطوة كان هذا الملك فيها نتيجة نهب وسرقة واعتداء؛ ولا فرق في هذا بين الملكية الخاصة والملكية العامة، أي بين أن يملك مالك قطعة من الأرض مثلًا وبين أن يملك أمير قطرًا من الأقطار بما فيه ومن فيه.
(١١) في الدين
(١١-١) الديانة الطبيعية
يعرض هيوم رأيه في الدين في مؤلَّفين رئيسيين، أحدهما هو «التاريخ الطبيعي للدين» والآخر «محاورات في الديانة الطبيعية» والمقصود بكلمة «طبيعي» هنا هو نشأة العقيدة الدينية من أصول في طبيعة الإنسان وفطرته، مفرقًا في ذلك بين هذا الرأي الذي يرد الدين إلى طبيعة الإنسان، وبين الرأي الآخر الذي يرده إلى التأمل العقلي من جهة، والرأي الثالث الذي يرده إلى الوحي والتقليد من جهة أخرى؛ فالقائل بأن الدين نابتٌ من طبيعة الإنسان لا يحتاج في تدعيمه إلى البرهان العقلي ولا إلى وحي هبط إلى الإنسان من خارج طبيعته.
على أن «الطبيعة» الإنسانية التي قد نقول إنها أصل العقيدة الدينية، ليست تعني عند هيوم «الغرائز»، فليست العقيدة الدينية بهذا المعنى غريزة من الغرائز الأولية، بدليل أن الغرائز متشابهة دائمًا عند بني الإنسان جميعًا، على حين أن العقيدة الدينية يتغير مضمونها من فريق إلى فريق، ومن عصر إلى عصر؛ بل العقيدة الدينية فرع عن الغرائز، بمعنى أنها تنشأ عنها وإن لم تكن واحدة منها، فهي إذن ثانوية وليست أولية في جبلة الإنسان وفطرته، شأنها في ذلك شأن طائفة من الفضائل الخلقية والسياسية، كالعدالة أو الوفاء بالعهود أو الولاء لوليِّ الأمر وما إلى ذلك، فهذه كلها فضائل متفرعة عن أصول في الطبيعة الإنسانية، وليست في ذاتها أصولًا؛ وإنما الأصول التي تفرعت عنها أمثال هذه الاتجاهات في سلوك الإنسان، هي طائفة من عواطف وانفعالات أولية؛ وكما قدمنا لك في الحديث عن تحليل العواطف الأولية (راجع الفصل الثامن) يكون لكل منها طرفان: سبب وهدف؛ فالشيء الذي منه تبدأ العاطفة سيرها يكون سببها، والنهاية التي تنتهي إليها تكون هدفها؛ وكذلك الأمر في العقيدة الدينية التي هي — كما قلنا — مستمدة من العواطف الفطرية؛ فأصل هذه العقيدة هو السبب الذي يستثيرها، وما ذاك السبب إلا آمال الإنسان ومخاوفه الناشئة عن اهتمامه بمجرى حوادث الحياة؛ والآمال والمخاوف التي هي التربة التي تنبت فيها العقيدة الدينية هي وجدانات أولية فطرية في طبيعة الإنسان؛ لكن لا هذه الوجدانات الأولية في ذاتها (الأمل والخوف) ولا مثيراتها (حوادث الحياة) هي ما نسميه بالدين؛ بل لا بد من إضافة الهدف أو طرف النهاية الذي تنصب عليه وترتبط به تلك الوجدانات الأولية، فإن ارتبطت آمالنا ومخاوفنا — مهما يكن الشيء الذي يثيرها — بقوة كونية عقلية غيبية، نشأ عن هذا ما نطلق عليه اسم العقيدة الدينية؛ بعبارة أخرى، يمكن تحليل الشعور الديني إلى مقوِّمات ثلاثة؛ بداية تثير فينا وجدانات من خوف وأمل، ثم هذه الوجدانات نفسها وهي فطرية غير مكتسبة، وأخيرًا نهاية تتعلق بها وجدانات الخوف والأمل، على أن تكون هذه النهاية قوة خفية عاقلة؛ وإنه لإجماع بين أفراد البشر جميعًا أن تتعلق طبائعهم بتلك القوة الخفية العاقلة التي وإن تكن بذاتها جزءًا من فطرة الإنسان إلا أنها متعلَّقٌ تتعلق به تلك الفطرة.
على أن أفراد البشر وإن أجمعوا على وجود هذه القوة الخفية العاقلة، إلا أنهم يختلفون في طبيعتها وخصائصها باختلاف ثقافاتهم ودرجة علمهم، ومن ثم كانت العقائد الدينية المختلفة، وها هنا يأتي دور «العقل»، فبالعقل نحدد ماذا عسى أن تكون خصائص تلك القوة الخفية العاقلة، أما وجودها فلا شأن للعقل به؛ وعلى هذا الأساس ينكر هيوم موقف الملحد إنكارًا تامًّا، ذلك إذا أريد بالإلحاد الشك العقلي في «وجود» الله؛ لأن «الوجود» الإلهي — كما قلنا — أمر ناشئ عن الوجدانات الفطرية ولا شأن للتفكير العقلي به؛ كل ما يستطيعه العقل هنا هو أن يثبت لله هذه الصفة أو تلك دون أن يمس «وجوده».
وتبدأ المحاورة بين المتحاورين الثلاثة: «ديميا» المتدين بإيمان أعمى، و«كلينثيز» المتدين مهتديًا بالعقل، و«فيلو» المتشكك؛ تبدأ المحاورة بينهم بالنظر في موقف «فيلو» الذي يثير الشك في قدرة العقل على الوصول إلى أي شيء يقيني كائنًا ما كان؛ فالعقل البشري — في رأيه — ضعيف وأعمى ومحدود بحدود هي أضيق الحدود، وهو حتى في شئون الحياة اليومية — ودع عنك شئون العلم — مضطرب الأحكام متناقض النتائج إلى غير حد معلوم؛ وواضح أن هذه الوجهة من النظر إلى العقل قد تؤدي — بالنسبة للدين — إلى إحدى نتيجتين، فإما أن يرتمي الإنسان في أحضان الإيمان الساذج ما دام العقل لا يغني عنه شيئًا، وإما أن يرفض الإيمان رفضًا تامًّا ما دام العقل لا يستطيع أن يهديه إلى شيء يطمئن إليه؛ أعني أن التشكك في قدرة العقل قد تحمل بعض الناس على الإيمان الديني الخالص، كما تحمل بعضهم الآخر على الإلحاد الديني الخالص؛ أما الموقف الأول فهو موقف «ديميا» وأما الموقف الثاني فهو موقف «فيلو»؛ وأما «كلينثيز» (ورأيه هو على الأرجح رأي هيوم) فيرى أن موقف الشك الشامل في قدرة العقل مرفوض من أساسه لأنه مستحيل، فحتى صاحب الشك نفسه تراه يتصرف في شئون حياته بما ينفي عنه الشك في كل شيء كما يدَّعي؛ فبدل أن نشك في قدرة العقل شكًّا كاملًا شاملًا عامًّا، ينبغي أن نبحث في قدرته في كل موقف جزئي على حدة، وعندئذٍ سيتبين لنا أنه إن كان عاجزًا في بعض المواقف، فهو قادر في بعضها الآخر.
والموضوع المعروض الآن أمام المتحاورين الثلاثة ليس هو وجود الله — لأنهم جميعًا متفقون على وجوده — بل هو مدى ما يعلمه الإنسان عن طبيعة الله وخصائصه؛ وها هنا يتفق «ديميا» و«فيلو» معًا على أن الإنسان يستحيل عليه أن يعرف عن تلك الطبيعة الإلهية شيئًا مستعينًا بعقله وحده؛ ولكن «كلينثيز» لا يوافقهما على ذلك، ويقول إن الإنسان في وسعه — مستعينًا بعقله — أن يقيس طبيعة الله على طبيعة الإنسان لما بين الطبيعتين من تشابه؛ فالعالم كما تشهده أبصارنا دالٌّ على أنه يسير على خطة مرسومة، وهو في هذا شبيه بآلة يصممها الإنسان ويرسم لها طريق سيرها، فيعد أجزاءها بحيث يلائم بعضها بعضًا لتتعاون على أداء ما أريد منها أن تؤديه، وإذن فما دامت صنعة الله شبيهة بصنعة الإنسان من حيث توافق الأجزاء والسير إلى غاية منشودة، فمن المعقول أن نهتدي على أساس التشابه والتماثل إلى خصائص الله مستنتجة من خصائص الإنسان، وعندئذٍ يكون الفرق بين الجانبين في الكمِّ وحده لا في الكيف.
هنا يلتفت المتحاورون إلى هذا النوع من الاستدلال القائم على التمثيل: هل يجوز أو لا يجوز؛ وبالتالي هل يجوز أن نحكم على الله بما نحكم به على الإنسان؟ ويحاول «فيلو» المتشكك أن يهدم حجة «كلينثيز» هذه في تصوير العالم على غرار الآلة يصنعها الإنسان؛ فلماذا لا يكون العالم — مثلًا — شبيهًا بالكائن العضوي في تكامل أعضائه وفي نمائه؟ لماذا لا يكون العالم أشبه بالشجرة في تكوينها منه بالآلة؟ وإذا كان في العالم نظام ملحوظ، فماذا يبرر أن ننسب هذا النظام لكائن أسمى ولا ننسبه لطبيعة المادة نفسها؟
(١١-٢) المعجزات١٢١
الحجة التي يستند إليها القائلون بمعجزات المسيح التي أيد بها صدق رسالته هي شهادة أتباعه الذين قالوا إنهم رأوا بأعينهم تلك المعجزات تحدث أمام أبصارهم؛ وإذن فالأساس الذي نقيم عليه صدق الديانة المسيحية أوهى من الأساس الذي نقيم عليه صدق ما تدلنا على صدقه حواسنا نحن، ذلك لأن من يقوم بالرؤية أقرب إلى الصدق ممن تروى له رؤية سواه؛ فأتباع المسيح قد رأوا شيئًا ثم رووه، ثم أخذ الرواة على مر السنين يروي بعضهم لبعض حتى انتهت إلينا نحن شهادة الشهود الأولين، فهي شهادة رؤية فَعَلَ فيها الزمن فعله، ولذلك فهي أضعف من شهادة حواسنا نحن إذا ما شهدنا بها شيئًا؛ ولما كانت الحجة الأضعف لا ترجح الحجة الأقوى، كان حتمًا علينا ألا نصدق شهادة حس نُقلت إلينا عن سوانا من زمن قديم إذا تعارضت مع شهادة حسنا نحن في لحظتنا الراهنة.
ولئن كانت خبراتنا الحسية هي مرشدنا الوحيد فيما نعلمه عن أمور الواقع فلا بد — مع ذلك — من الاعتراف بأنها مرشد غير معصوم من الخطأ؛ فقد يكون الإنسان (في إنجلترا) على حق إذا توقع أن يكون الجو في أي يوم من أيام يونيو أحسن منه في أي يوم من أيام ديسمبر، لأن خبرته قد دلت على ذلك في سنيه الماضية، لكن ذلك لا يعني استحالة أن يقع في الخطأ حينًا، فيجد يومًا من شهر ديسمبر أحسن جوًّا من يوم في شهر يونيو؛ ومع ذلك فلا يكون هذا الخطأ مدعاة إلى نبذ الخبرة والاهتداء بها؛ لأن الخبرة نفسها هي التي تدله كذلك أن أمثال هذا الشذوذ في اطراد الحوادث قد يقع؛ فمن الخبرة بالحوادث يتعلم الإنسان أن ليست الأحكام كلها سواء في درجة اليقين، فمنها ما يرجح صدقه ومنها ما يقل فيه الترجيح وهكذا.
فلا يسع العاقل — إذن — سوى أن ينسب درجة الصدق في اعتقاداته إلى درجة الشواهد التي تدعمها؛ فحينًا يقطع بأن شيئًا معينًا سيقع في ظروف معينة لأنه قد وقع في مثل هذه الظروف بلا تخلف، وحينًا آخر يتوقع وقوعه في شيء من الحذر، لأن وقوعه لم يطرد إلا بدرجة محدودة؛ وإذا ما احتمل الموقف حكمينْ متضادين، كان عليه أن يزن الشواهد في كل من الجانبين ليأخذ بأرجحهما أخذًا فيه من الشك والتردد بمقدار ما في الرجحان من كثرة أو قلة؛ فوقوع حدث معين مائة مرة فيما مضى، ووقوع ضده خمسين مرة، يجعل الحدث الأول أكثر رجحانًا في توقع حدوثه بالنسبة إلى حدوث ضده بمقدار الضعف وهكذا.
ولما كان لا غنى للناس في حياتهم اليومية عن الأخذ بشهادة الآخرين، كان حتمًا عليهم أن يقيسوا نسبة الصدق في تلك الشهادة بنسبة ما قد عُرِف عن أصحابها من التزام الصدق فيما يقولون، نعم قد يقال إن من صدَق غالبًا فيما مضى قد لا يصدق الآن، ولكننا في هذه الحالة شأننا في كل حالة أخرى نحكم فيها على أمر من أمور الواقع، لا يسعنا أن نحكم إلا على أساس الاطراد في الوقوع، فما قد اطرد وقوعه على تتابع معين فيما مضى، نتوقع أن يحدث على نفس التتابع فيما هو آت، على الرغم من جواز ألا يقع في المستقبل ما قد وقع في الماضي؛ وعلى هذا الغرار نحكم على من ثبت صدقه فيما مضى بأنه على الأرجح صادق فيما يقول الآن أيضًا، والعكس صحيح كذلك، وهو ألا نثق بالقول إذا صدر عن رجل عُرِف عنه الكذب في حياته الماضية.
وموازنة الشواهد في الموقف الذي نكون بصدد الحكم عليه، شيء مألوف لنا، فترانا نزن شواهد الإثبات وشواهد النفي ليتاح لنا الحكم الذي نطمئن إلى صوابه، فلو اتفق رواة التاريخ — مثلًا — على حادثة معينة كان الصواب أرجح، وأما إذا اختلفوا بحيث أثبت فريق منهم شيئًا نفاه الآخرون، كان علينا أن نوازن بين الكفتين من حيث أمانة الرواة في كل من الجانبين؛ لكن افرض أن الرواة قد أجمعوا على وقوع شيء قلما يقع له نظير في خبراتنا نحن؛ فها هنا ترى الموازنة بين خبرتنا الحسية من ناحية وخبرة غيرنا من ناحية أخرى، ولما كانت خبرتنا الحسية الخاصة المباشرة أقوى شاهدًا من خبرة حسية لغيرنا يرويها لنا، فلا بد لنا في مثل هذه الحالة أن نرفض خبرة غيرنا إذا ما تعارضت مع خبرتنا نحن المباشرة.
ثم يمضي هيوم في عرضه موضوع «المعجزة» ليبين أن الإيمان بوقوع المعجزات إنما هو إيمان لا يستند إلى أساس مما يصح الركون إليه بحال من الأحوال؛ فأولًا: يلاحظ أن ليس هنالك معجزة واحدة مما يُروى قد شهدها عدد كاف من الشهود الذين نطمئن إلى رجاحة عقولهم وارتفاع منزلتهم من التربية العلمية ارتفاعًا يعصمهم من الوهم، وثانيًا: إن من طبيعة الإنسان نفسها ما يغريه بالاستماع إلى ما يثير العجب والدهشة، فما أهون عليه أن يستمع إلى غريب الأحداث ليشبع بها خياله؛ فعلى الرغم من أنه في حياته العملية تراه يزن صدق الرواية على أساس خبراته الماضية، إلا أنه حين تمعن الرواية في بعدها عن الواقع، تراه يستغني عن الخبرة ومقياسها في التصديق أو التكذيب، وينصت بقلبه لا بعقله. وثالثًا: إنه مما لا ريب فيه أن حديث المعجزات يكثر بين الشعوب الجاهلة والمتأخرة؛ وحتى إذا وجدت شعبًا متحضرًا لا يزال يروي شيئًا عن هذه المعجزات، فستجده قد ورثها عن أسلافه أيام جهلهم وتأخرهم، وقد نقلها السلف إلى الخلف بعد أن أحاطها بشيء من الرهبة حتى لا يعبث بها عابث.
هذه المشكلة التي أبرزها هيوم ثم قال عنها إنها من التفاهة بحيث لا يجوز أن تُتَّخذ مبررًا لرفض مذهبه، لها حل في ضوء التحليل الفلسفي المعاصر؛ فالمشكلة هي: هل يمكن للإنسان أن «يعرف» شيئًا لم يأتِه عن طريق خبرته؟ هل يمكن — مثلًا — لمن لم يمارس الحب أو الخوف أن يعرف ما معناهما؟ والجواب على ذلك هو بالإيجاب، وذلك بتحليل المعرفة إلى نوعين: معرفة بالاتصال المباشر ومعرفة بالوصف، أما الأولى فهي التي قال عنها هيوم إنها معرفة انطباعية، تأتي عن طريق الحس المباشر أو الخبرة المباشرة؛ وأما الثانية فهي التي أركِّبها تركيبًا منطقيًّا من عناصر تأتيني عن طريق الاتصال المباشر، فأستطيع مثلًا أن أشاهد الآثار المختلفة التي تبدو على من يمارس حالة الحب أو حالة الخوف، ومنها أكوِّن لنفسي صورة عقلية أفهم بها معنى لفظة حب أو لفظة خوف، وتكون هذه المعرفة معرفة بالوصف؛ وكذلك قل في درجة الأزرق التي لم أشاهدها لكنني أستطيع أن أعرفها بالتعريف فأقول إنها الدرجة التي تقع بين كذا وكذا من درجات اللون.
راجع النص رقم ٢.
راجع النص رقم ٤.
راجع النص رقم ٩.