نصوص مختارة
النص رقم ١
في أصل أفكارنا
إدراكات العقل البشري بأسرها تنحل من تلقاء نفسها إلى نوعين متميز أحدهما من الآخر، وسأطلق عليهما لفظتي «انطباعات» و«أفكار»؛ وينحصر الفرق بين هذين النوعين في درجات القوة والحيوية اللتين يطبعان بهما العقل ويلتمسان بهما الطريق إلى فكرنا أو شعورنا: فأما الإدراكات التي ترِدُ إلينا بأبلغ القوة والعنف، فلنا أن نسميها ﺑ «الانطباعات» وإني لأجمع تحت هذا الاسم كل إحساساتنا وعواطفنا وانفعالاتنا عندما تظهر للمرة الأولى في النفس؛ وأما لفظة «الأفكار» فأعني بها ما يكون في التفكير والتدليل العقلي من صورة خافتة لتلك الإحساسات والعواطف والانفعالات … وأعتقد أن توضيح هذا الفرق (بين الانطباعات والأفكار) لا يتطلب بالضرورة الملزمة إضافة في القول؛ ذلك أن كل إنسان مستطيع بنفسه أن يدرك في غير عسر الفرق بين الإحساس والتفكير؛ إذ من اليسير أن نميز بينهما عندما يكونان في درجاتهما المألوفة؛ ولو أنه ليس محالًا في حالات معينة أن يقترب أحدهما من الآخر اقترابًا شديدًا؛ مثال ذلك في حالات النعاس والحمى والجنون، والحالات التي تتعرض فيها النفس إلى أي انفعال شديد العنف، فعندئذٍ قد تقترب أفكارنا من انطباعاتنا؛ وكذلك الأمر من ناحية أخرى قد يحدث أحيانًا أن تبلغ انطباعاتنا من الخفوت والضعف حدًّا يتعذر علينا معه أن نفرق بينها وبين أفكارنا؛ غير أنه رغم هذا التشابه القريب بينهما في حالات قليلة، إلا أنهما بصفة عامة يكونان من التباين بحيث يستحيل على أحد من الناس أن يتردد في أن يضعهما في قسمين مختلفين، وأن يخصص لكل منهما اسمًا ليبرز ما بينهما من اختلاف.
وكذلك تنقسم إدراكاتنا انقسامًا آخر يجمل بنا ملاحظته، وهو انقسام يمد حدوده إلى الانطباعات والأفكار كليهما، وأعني به انقسام الإدراكات إلى «بسيطة» و«مركبة»؛ أما الإدراكات — أي الانطباعات والأفكار — البسيطة فهي تلك التي لا تقبل تمييزًا أو فصلًا (في عناصرها)؛ وأما المركبة فعلى خلاف ذلك ويمكن تحليلها إلى أجزاء متميز بعضها من بعض؛ فإنه وإن يكن اللون الخاص والطعم والرائحة كلها صفات متحد بعضها مع بعض في هذه التفاحة؛ فمن اليسير أن ندرك أنها مختلفة إذ يمكن على الأقل أن نميز بعضها من بعض.
OF THE ORIGIN OF OUR IDEAS
النص رقم ٢
في الأفكار المجردة
لقد أثير سؤالٌ بالغ الأهمية عن الأفكار «المجردة» أو «العامة»: «أتكون عامة أم جزئية في تصور العقل لها؟» ولقد نازع فيلسوفٌ عظيم (يقصد باركلي) الرأي التقليدي في هذا الصدد، وقرر أن كل الأفكار العامة إن هي إلا أفكار جزئية رُبطت باسم معين يخلع عليها دلالة أوسع مدًى، ويجعلها تستشير — إذا ما لزم الأمر — أفرادًا أخرى شبيهة بها؛ ولما كنت أعد هذا كشفًا من أعظم وأنفس الكشوف التي تمت إبان الأعوام الأخيرة في عالم الآداب، فسأحاول هنا أن أؤيده ببعض الحجج التي أرجو أن تجاوز بالموضوع كل حدود الشك والجدل.
فواضح أننا في تكويننا لمعظم أفكارنا العامة، إن لم يكن كلها، نجردها من الكم والكيف بجميع درجاتهما الجزئية؛ وواضح كذلك أن الشيء (الذي نشير إليه بالفكرة العامة) لا يُبْطِلُ انتماءَه إلى نوع معين ما قد يطرأ عليه من اختلافات يسيرة في امتداده المكاني أو الزماني أو غير ذلك من الخصائص؛ ولذلك فقد يقال إن ثمة إشكالًا صريحًا فيما يختص بطبيعة تلك الأفكار المجردة التي أثارت كل هذا الذي أثارته بين الفلاسفة من تأملات نظرية؛ فالفكرة المجردة عن الإنسان تمثل الناس على اختلاف أحجامهم واختلاف صفاتهم، وهو تمثيل لا تستطيع القيام به إلا بإحدى طريقتين، فإما أن تمثل دفعة واحدة كل ما يمكن تصوره من أحجام ومن صفات، وإما ألا تمثل فردًا جزئيًّا على الإطلاق؛ أما وقد عد سُخفًا أن نتصدى لتأييد الافتراض الأول لكونه يقتضي أن يكون العقل ذا قدرة لا نهائية، فقد كانت النتيجة المستخلصة غالبًا في صالح الافتراض الثاني، وبهذا كان الفرض هو أن أفكارنا المجردة لا تمثل كمًّا ولا كيفًا في أية درجة جزئية محددة؛ لكنني سأحاول أن أبين أن هذا الاستدلال خاطئ، وذلك — أولًا — بالبرهنة على أنه يستحيل استحالة قاطعة على إنسان أن يتصور كمًّا أو كيفًا دون أن يكوِّن لنفسه فكرة دقيقة عن درجة ذلك الكم أو الكيف، وثانيًا بأن أبين بأنه وإن تكن قدرة العقل ليست باللانهائية، إلا أنه في وسعنا أن نكوِّن فكرة عن كل الدرجات الممكنة للكم وللكيف دفعة واحدة، على نحو مهما يكن بعيدًا عن الكمال، إلا أنه على الأقل قد يحقق كل الأغراض التي نستهدفها بالتفكير وبالنقاش.
OF ABSTRACT IDEAS
النص رقم ٣
الوجود المتصل المتميز لا ينشأ أبدًا عن الحواس
لكي نؤكد هذا [أعني أن الفكرة عن وجود متصل ومتميز لا تنشأ أبدًا عن الحواس] نلاحظ أن ثمة أنواعًا ثلاثة مختلفة من الانطباعات التي تنقلها إلينا الحواس؛ أولها هو الانطباعات التي تمثل الأشياء المادية شكلًا وحجمًا وحركة وصلابة؛ والثاني هو الانطباعات التي تمثل الألوان والطعوم والروائح والأصوات والحرارة والبرودة؛ والثالث هو الآلام واللذائذ التي تنشأ عن اتصال الأشياء بأجسادنا، كما تحز لحم الإنسان بقطعة من الصلب مثلًا أو ما شابه ذلك؛ أما النوع الأول من الانطباعات فهو عند الفلاسفة وعند عامة الناس على السواء يمثل أشياء موجودة وجودًا متميزًا ومتصلًا؛ وأما النوع الثاني فعامة الناس وحدهم هم الذين يعدونه مماثلًا تمام المماثلة للنوع الأول؛ ثم يعود الفلاسفة فيتفقون مع عامة الناس إزاء النوع الثالث إذ يجعلونه مجرد إدراكات، وبالتالي فهو يمثل كائنات متقطعة الوجود ومعتمدة في وجودها على وجود من يدركها.
غير أنه من الواضح أنه مهما يكن من أمر المذهب الفلسفي الذي نذهب إليه فإن الألوان والأصوات والحرارة والبرودة كما تبدو لحواسنا، لا تختلف في طبيعة وجودها عما تكون عليه حركة الأجسام وصلابتها [كما تبدو لحواسنا] وأن وجه الاختلاف الذي نفرق بينهما على أساسه من هذه الناحية لا ينشأ عن إدراكنا لهذا وذلك؛ فالطائفة الأولى من الصفات [الألوان والأصوات … إلخ] إنما تمثل عند الناس أشياء موجودة وجودًا متميزًا متصلًا، وإنهم ليأخذون بهذه العقيدة أخذًا يبلغ من قوته أن الفلاسفة المحدثين إذا ما تقدموا إليهم بالرأي المضاد في هذا الصدد، كادوا يفندون رأي الفلاسفة هذا تفنيدًا يعتمدون فيه على شعورهم وخبرتهم، حاسبين أن حواسهم نفسها تنقض مثل هذه الفلسفة غير أنه كذلك من الواضح أن الألوان والأصوات وما إليها هي في أسسها شبيهة بالألم ينشأ عن حز أجسادنا بجسم صلب، وباللذة تنشأ عن الدفء ينبعث من النار، وأن الفرق بين هذه وتلك لا ينبني على إدراك الحس ولا على العقل، ولكنه وليد الخيال؛ لأننا ما دمنا نعترف لكلا النوعين معًا بأنهما ليسا سوى إدراكات حسية تنشأ عن الطريقة الخاصة التي تتشكل بها أجزاء الجسم وتتحرك، فمن أين يمكن أن يجيء ما بينهما من اختلاف؟ إننا نستطيع — إذن — أن نستنتج على وجه الجملة أنه في حدود ما تحكم به الحواس فلا فرق بين الإدراكات الحسية في شتى أنواعها من حيث طريقة وجودها.
CONTINUED AND DISTINCT EXISTENCE NEVER ARISES FROM THE SENSES
النص رقم ٤
في أفكار الذاكرة والخيال
إن الخبرة لتدلنا على أنه إذا ما مَثُلَ للعقل انطباعٌ ما، فإن ذلك الانطباع يعود إلى الظهور في العقل باعتباره فكرة، وإنه ليفعل هذا بإحدى وسيلتين، فإما أن يتم له ذلك حين يحتفظ في ظهوره الجديد بدرجة ملحوظة من حيويته الأولى، بحيث يكون كأنما هو وسط بين أن يكون انطباعًا وأن يكون فكرة؛ وإما أن يتم له ذلك حين يفقد تلك الحيوية الأولى فقدانًا تامًّا، فيصبح فكرة بأكمل معاني الكلمة؛ والملكة التي نستعين بها على إعادة انطباعاتنا في الحالة الأولى تسمى ﺑ «الذاكرة»، وتسمى الأخرى ﺑ «الخيال»؛ وواضح من النظرة الأولى أن أفكار الذاكرة أشد جدًّا في حيويتها وقوتها من أفكار الخيال، وأن الملكة الأولى تصبغ موضوعاتها بألوان أكثر تميُّزًا من تلك التي تستخدمها الملكة الثانية؛ فنحن إذا ما تذكرنا حادثة ماضية، تدفقت فكرتها في العقل تدفقًا فيه قوة دفع، على حين يكون الإدراك في حالة الخيال ضعيفًا فاترًا، ولا يستطيع العقل إلا في عسر أن يحتفظ به ثابتًا مطردًا لفترة من الزمن ذات امتداد ملحوظ؛ وإذن فهذا فرق محسوس بين نوعين من الأفكار.
وهنالك فرق آخر بين هذين النوعين من الأفكار، ليس أقل من الأول وضوحًا، وهو أنه على الرغم من أنه لا أفكار الذاكرة ولا أفكار الخيال، لا الأفكار الحية ولا الأفكار الخافتة تستطيع أن تحقق لنفسها ظهورًا في العقل ما لم تكن قد سبقتها ومهدتْ لها الطريق انطباعات مقابلةٌ لها، إلا أن الخيال ليس مقيدًا بنفس الترتيب والصورة اللذين جاءت عليهما الانطباعات الأصلية، على حين أن الذاكرة مقيدة بهما على نحو ما، دون أن يكون في مستطاعها إحداث شيء من التغيير.
OF THE IDEAS OF THE MEMORY AND IMAGINATION
النص رقم ٥
فكرة السبب والمسبَّب
افرض أن شخصًا — رغم كونه موهوبًا بأقوى ملكات العقل والتفكير — قد جيء به فجأة إلى هذا العالم؛ فإنه وإن يكن سيلاحظ من فوره تتابعًا في الأشياء متصلًا، وأن حادثة تتبع أخرى، إلا أنه لن يستطيع أن يلحظ وراء هذا الحد شيئًا؛ فلن يستطيع للوهلة الأولى أن يدرك فكرة السبب والمسبب مهما تكن وسيلته العقلية إلى ذلك؛ وذلك لأن القوى الخاصة التي بفعلها تتم العمليات الطبيعية كلها، لا تظهر أبدًا للحواس؛ وليس من المعقول أن نستنتج أنه ما دامت حادثة ما في سياق معين قد سبقت أخرى، إذن فلا بد أن تكون الأولى سببًا والثانية مسبَّبًا، إذ قد يكون ارتباطهما جزافًا وعرضًا؛ وقد لا يكون هناك مبرر من العقل أن نستدل وجود إحداهما من ظهور الأخرى؛ وبعبارة موجزة فإن مثل هذا الشخص؛ إذ لم تزدد خبرته، فيستحيل عليه أن يستعين بالتخمين أو بالتدليل العقلي ليعلم شيئًا عن أي أمر من أمور الواقع، أو أن يستوثق من أي شيء يجاوز ما هو حاضر حضورًا مباشرًا أمام ذاكرته وحواسه.
ثم افرض أنه قد حصَّل خبرة أوسع، وعاش في العالم أمدًا أتاح له أن يلاحظ أن الأشياء أو الحوادث المألوفة إنما يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا لا يتخلَّف، فماذا ينتج عن هذه الخبرة؟ إنه لا يلبث أن يستدل وجود شيء ما من ظهور شيء آخر، ومع ذلك فإن خبرته كلها لا تمكنه من إدراك أية فكرة أو معرفة بالقوة الخفية التي بها يُنتج الشيء السابق شيئًا لاحقًا، كلا وليس هنالك عملية عقلية واحدة تضطره أن يستدل ظهور اللاحق من وجود السابق، ولكنه رغم ذلك يجد ألَّا محيص له عن هذا الاستدلال، وعلى الرغم من وجوب اقتناعه بأن العقل لا دخل له في هذه العملية، إلا أنه مع ذلك يمضي في نفس هذا المجرى من التفكير؛ فثمة مبدأ آخر يضطره أن ينتهي إلى مثل هذه النتيجة.
هذا المبدأ هو «العادة»، ذلك أنه حيثما أدى تكرارنا لفعل معين أو عملية معينة إلى ميل فينا نحو العودة من جديد إلى أداء الفعل نفسه أو العملية نفسها، دون أن يكون ثمة دافع من تدليلات العقل أو عملياته، قلنا دائمًا عن هذا الميل إنه أثر «العادة»؛ وإننا حين نستخدم هذه الكلمة فإننا لا ندعي بأننا قد وقعنا بذلك على العلة التي لا علة وراءها لمثل هذا الميل؛ بل إننا لا نفعل بذلك سوى أن نبرز مبدأً من مبادئ الطبيعة البشرية، يعترف به كل إنسان، وهو مبدأ نعرفه جيد المعرفة بآثاره؛ وقد لا يكون في مستطاعنا أن نمضي في طريق البحث وراء هذه النقطة، أو ندَّعي بأن في مقدورنا أن نعين علة لهذه العلة؛ لكننا لا بد أن نرضى بهذه النهاية مطمئنين، على أن نعدها المبدأ الذي لا مبدأ وراءه — مما نستطيع أن نحدده — من مبادئ تفسر كل ما ننتهي إليه من نتائج في حدود خبراتنا، وإنه لتكفينا هذه الدرجة من الطمأنينة أن استطعنا بلوغ هذا الحد (في طريق البحث)، فلا مبرر للتبرُّم من ضيق ملكاتنا العقلية لعجزها عن السير بنا إلى ما وراء هذه النهاية التي انتهينا عندها؛ وليس من شك أبدًا في أننا ها هنا نقدم قضية معقولة جدًّا على أقل تقدير، إن لم نقل عنها إنها قضية صادقة، وهي القضية التي نثبت بها أنه إذا ما ارتبط شيئان ارتباطًا لا تخلف فيه — كالحرارة واللهب مثلًا، أو الثقل والصلابة — فإن العادة وحدها عندئذٍ تقتضينا أن نتوقع أحد الشيئين إذا ما ظهر الآخر؛ وإنه ليبدو لي أن هذا الفرض هو الفرض الوحيد الذي يفسر لنا هذه المشكلة، وهي: لماذا نستدل نتيجة من أَلْفِ مَثلٍ (لظاهرة ما) على حين أننا نكف عن مثل هذا الاستدلال من مثل واحد لا يختلف عن تلك الأمثلة الألف في شيء؛ فليس في مستطاع العقل أن يفرِّق مثل هذه التفرقة؛ إذ النتائج التي يستدلها من بحثه في دائرة واحدة هي نفسها النتائج التي يستدلها من استعراضه لكل ما في الكون بأسره من دوائر؛ لكن أحدًا من الناس لا يستطيع — بعد أن يرى جسمًا واحدًا يتحرك نتيجة لدفعه بجسم آخر — أن يستدل من ذلك أن كل جسم آخر سيتحرك إذا ما تعرض لمثل هذا الدفع نفسه؛ وعلى ذلك فكل الاستدلالات التي نقيمها على الخبرة إنما هي نتيجة العادة لا نتيجة التدليل العقلي.
العادة إذن هي المرشد العظيم للحياة البشرية؛ فهذا المبدأ وحده (أي العادة) هو الذي يجعل خبرتنا ذات نفع لنا، ويتيح لنا أن نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث شبيهة بسلسلة الحوادث التي ظهرت فيما مضى؛ وبغير تأثير العادة نكون على جهل تام بكل أمر من أمور الواقع فيما يجاوز الحاضرات حضورًا مباشرًا أمام الذاكرة والحواس؛ وعندئذٍ كنَّا لا ندري أبدًا كيف نوفق بين الوسائل وغاياتها، أو كيف نستخدم قوانا الطبيعية في إحداث أي أثر نريد أن نحدثه؛ وعندئذٍ أيضًا تنتهي فورًا كل قدرة لنا على العمل، كما تنتهي قدرتنا على القيام بالجزء الأكبر من تأملاتنا النظرية.
وقد يكون من الملائم أن نلاحظ في هذا الموضع أنه على الرغم من أن النتائج التي نستخرجها من خبرتنا تجاوز بنا حدود ذاكرتنا وحواسنا، وتؤكد لنا أمورًا من الواقع حدثت في أبعد الأماكن عنا وفي أنأى العصور عن زمننا، إلا أنه لا بد دائمًا من أن تكون واقعةٌ ما حاضرة أمام الحواس أو الذاكرة، تكون لنا نقطة بداية للسير في طريق استنتاجنا لتلك النتائج، فإن منْ يجد في أرض يباب آثار مبانٍ شامخة، ليستنتج أن تلك الأرض قد كانت في العصور القديمة مأهولة بسكان متحضرين؛ أما إذا لم يصادف في تلك الأرض شيئًا من هذا القبيل، فقد كان يستحيل عليه أن يقوم باستدلال كهذا، إننا نحيط علمًا بحوادث العصور الماضية من التاريخ، لكننا في هذه الحالة لا بد لنا أن نقرأ الكتب الحاوية لهذه المعلومات، بحيث نجعلها نقطة ابتداء لاستدلالاتنا التي نسير بها من شاهد إلى شاهد، حتى نصل في النهاية إلى شهود العيان والرائين الذين رأوا تلك الحوادث البعيدة؛ وبعبارة موجزة، إننا إذا لم نبدأ سيرنا من واقعة معينة حاضرة أمام الذاكرة أو الحواس، كانت تدليلاتنا العقلية فرضية خالصة، ومهما تكن — بعد ذلك — الروابطُ التي تربط الحلقات الجزئية، فإن سلسلة الاستدلالات بصفة عامة تكون بغير دعامة تستند إليها، ويكون محالًا علينا أن نصل بوساطتها إلى معرفة بأي وجود حقيقي؛ إنني إذا سألتك لماذا تعتقد في وقوع أمر من أمور الواقع مما تروي لنا عنه، تحتم عليك أن تدلني على سبب يبرر ذلك، ولا بد أن يكون هذا السبب واقعة أخرى مرتبطة بالواقعة التي تروي عنها؛ ولما كنت لا تستطيع أن تمضي على هذا النحو [راجعًا بواقعة إلى واقعة] إلى ما لا نهاية، فلا مندوحة لك عن أن يكون ختام سيرك واقعة ما تكون حاضرة أمام ذاكرتك أو حواسك، وإلَّا وجب عليك الاعتراف بأن اعتقادك ذاك لا يستند إطلاقًا إلى أساس.
THE IDEA OF CAUSE AND EFFECT
النص رقم ٦
في الحرية والضرورة
إنه لمما يسلِّم به الناس جميعًا أن المادة — في كل عملياتها — إنما تتحرك في فعلها بقوة ضرورية، وأن كل نتيجة إنما تتحدد على وجه الدقة بفاعلية سببها، إلى الحد الذي لا يجيز لأي نتيجة أخرى، في مثل هذه الظروف عينها، أن تنتج عن ذلك السبب؛ إن كل حركة إنما تتقرر من حيث ما لها من درجة واتجاه. بقوانين الطبيعة، على نحو من الدقة، بحيث إن جاز لنا أن نقول إن كائنًا حيًّا يمكن أن ينشأ عن مجرد اصطدام جسمين، جاز لنا كذلك أن نقول إن اصطدام جسمين قد يولد حركة لها من الدرجة والاتجاه ما تختلف بهما عن الدرجة والاتجاه اللذين يتولدان فعلًا عن ذلك الاصطدام؛ وعلى ذلك فلو أردنا أن نكوِّن فكرة دقيقة مضبوطة عن «الضرورة» وجب علينا أن نبحث عن مصدر تلك الفكرة حين نستخدمها في الأجسام وفعلها.
إنه لواضح — فيما يبدو — أنه لو كانت شتى مناظر الطبيعة في تغيُّر متصل حتى ليمتنع على أي حادثين أن يتشابها بأي وجه من الوجوه، بحيث يجيء كل شيء جديدًا من شتى نواحيه، لا يحمل أدنى شبه بأي شيء آخر مما قد سبق للإنسان أن رآه؛ فقد كان يستحيل علينا في مثل هذه الحالة أن ندرك فكرة الضرورة أقل إدراك، ولا أن ندرك فكرة الارتباط الذي يربط هذه الأشياء بعضها ببعض، وكان يجوز لنا — على أساس هذا الفرض — أن نقول إن الشيء أو الحادث المعين قد أعقب شيئًا أو حادثًا آخر، لا أن نقول إن شيئًا قد أحدث شيئًا آخر؛ وهكذا كانت علاقة السبب والمسبب تكون مجهولة أتم الجهل للناس؛ وبهذا كان يبطل قيام الاستدلال والتدليل فيما يختص بعمليات الطبيعة، وكانت الذاكرة والحواس تصبح هي المسالك الوحيدة التي يمكن أن يتسرب منها إلى العقل علمنا بأي وجود حقيقي؛ وعلى ذلك ففكرتنا عن الضرورة والسببية تنشأ كلها عن الاطراد الذي نلحظه في عمليات الطبيعة، حيث ما تنفك الأشياء المتشابهة يصاحب بعضها بعضًا، ويتحتم على العقل بفعل العادة أن يستدل شيئًا إذا ما ظهر شيء آخر [كان مصاحبًا له دائمًا]؛ ومن هاتين الحالتين تتكون تلك الضرورة بأسرها التي نعزوها إلى المادة؛ فليس لدينا أية فكرة عن أي نوع من الضرورة أو الارتباط، تجاوز نطاق «المصاحبة» المتصلة بين الأشياء المتشابهة، وما يترتب عليها من «استدلال» مصاحب من مصاحبه.
وعلى ذلك فإن تبين أن الناس جميعًا قد سلَّموا دائمًا — بغير أدنى شك أو تردد — بأن هاتين الحالتين تتحققان في أفعال الناس الإرادية، وفي عمليات العقل؛ لزم عن ذلك حتمًا أن الناس جميعًا كانوا دائمًا على اتفاق في الرأي عن الضرورة، وأن ما بينهم من نزاع في هذا إن هو إلا نتيجة لما بينهم من سوء التفاهم.
OF LIBERTY AND NECESSITY
النص رقم ٧
في الذاتية الشخصانية
هنالك فريق من الفلاسفة يتصور أننا في كل لحظة نكون على وعي وثيق بما نسميه فينا «نفسًا»، حتى لنحس وجودها واستمرارها في ذلك الوجود، وأننا على يقين يجاوز حدود الأدلة البرهانية من أن تلك النفس تتصف ببساطة التكوين وبالذاتية الكاملة في آنٍ معًا؛ ويزعم هؤلاء الفلاسفة أن أقوى أحاسيسنا، وأعنف عواطفنا، بدل أن يصرف أنظارنا عن هذا الرأي، يزيده رسوخًا وثباتًا، ويحملنا على أن ننظر إلى تأثيرها [الإحساس القوي والعاطفة العنيفة] على «النفس» بما تحدثه فيها من ألم أو لذة؛ وكل محاولة لإقامة برهان آخر [على ذلك الرأي] تعد إضعافًا له؛ ذلك لأنه محال علينا أن نستمد برهانًا من واقعة كائنة ما كانت بحيث نكون منها على وعي يوازي وَعينا بالنفس قربًا منَّا؛ كلا ولن نجد شيئًا قط نبلغ في إدراكه مبلغ اليقين إذا نحن شككنا في هذا.
غير أن هذه التوكيدات الإيجابية كلها — لسوء الحظ — مضادة لتلك الخبرة نفسها التي يحتكم إليها [أنصار الرأي السابق] برهانًا على صدق ما يقولون؛ فليس لدينا أية فكرة عن «النفس» على النحو الذي أسلفنا شرحه؛ وإلا فمن أي انطباع حسي أمكن لهذه الفكرة أن تجيء؟ إنه محال علينا أن نجيب عن هذا السؤال بغير الوقوع في تناقض ظاهر وسخف؛ ومع ذلك فهو سؤال لا بد من الإجابة عنه، فلا محيص لنا عن ذلك إذا أردنا أن نجعل فكرة النفس واضحة مفهومة؛ إنه لا بد لكل فكرة حقيقية أن تنشأ عن انطباع حسي واحد معين؛ لكن النفس أو الذات الشخصانية ليست انطباعًا بذاته من الانطباعات الحسية، بل هي ذلك الشيء الذي يُفتَرض فيه أنه المرجع الذي تستند إليه انطباعاتنا وأفكارنا على اختلافها؛ ذلك لأنه لو كانت فكرة النفس قد نشأت عن انطباع واحد معين للزم أن يظل ذلك الانطباع على حاله دائمًا لا يتغير إبان فترة حياتنا كلها؛ لأن المفروض في النفس أن يكون وجودها قائمًا على هذا النحو؛ لكن ليس هنالك انطباع واحد متصف بالدوام وعدم التغير، فالألم واللذة، والحزن والسرور، والعواطف والإحساسات كلها يتبع بعضها بعضًا، ويستحيل عليها أبدًا أن يتحقق لها الوجود كلها دفعة واحدة؛ وإذن فلا يمكن لفكرة النفس أن تُسْتَمَدَّ من أحد هذه الانطباعات أو من غيرها، وبالتالي فليس هنالك فكرة كهذه.
وإني لأجاوز هذا الحد فأقول: ماذا يتحتم أن يكون مصير إدراكاتنا الجزئية لو صدق هذا الفرض؟ إن هذه الإدراكات الجزئية كلها مختلف بعضها عن بعض ومتميز بعضها من بعض، يمكن للواحد منها أن يُعزل عن الآخر بحيث ننظر إليه على حدة، وبحيث يمكن له أن يقوم وحده لا حاجة به إلى أي شيء ليستند إليه في وجوده؛ وما دام الأمر كذلك فعلى أي صورة تنتمي هذه الإدراكات الجزئية إلى النفس؟ وكيف تكون الروابط بينها وبينها؟ أما أنا فإنني إذا ما أوغلتُ داخلًا إلى صميم ما أسميه «نفسي» وجدتُني دائمًا أعثر على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك، كإدراكي للحرارة أو البرودة، وللضوء أو الظل، وللحب أو الكراهية، وللألم أو اللذة؛ إنني لا أستطيع أبدًا أن أمسك ﺑ «نفسي» في أي وقت بغير إدراك ما، كما أني لا أستطيع أبدًا أن أرى شيئًا على الإطلاق فيما عدا ذلك الإدراك؛ حتى إذا ما أزيلت إدراكاتي لفترة من الزمن، كما يحدث في حالة النعاس العميق، فإنني أكون طوال تلك الفترة غير حاسٍّ ﺑ «نفسي» حتى ليمكن أن يقال عني بحق إني لست موجودًا؛ فإذا ما أزيلت كل إدراكاتي بالموت بحيث يمتنع عليَّ التفكير والحس والرؤية والحب والكراهية بعد تحلل جسدي، فإنني عندئذٍ أكون في حالة من العدم التام، فلست أتصور ماذا يُطْلَبُ غير هذا ليتحقق انعدامي انعدامًا كاملًا؟ فإذا ظن ظانٌّ — بعد تفكير جاد بريء من الهوى — أن لديه فكرة عن «نفسه» تختلف عما قد وصفت، فلا بد لي من الاعتراف بأنني عاجز عن المضي في محاجته أكثر مما قد فعلت؛ وكل ما أعترف له به هو أنه قد يكون على صواب كما قد أكون أنا على صواب، وأننا مختلفان اختلافًا جوهريًّا في هذا الموضوع، فربما استطاع أن يدرك كائنًا بسيطًا ذا وجود متصل، يسميه «نفسه» ولو أنني على يقين أن ليس عندي مثل هذا المبدأ.
OF PERSONAL IDENTITY
النص رقم ٨
في العاطفة الخلقية
لما كان المفروض أن أحد الأسس الرئيسية للثناء الخلقي إنما يقع في النفع المترتب على أية صفة أو فعل، كان من الواضح أن «العقل» لا بد أن يدخل إلى حد كبير في كل القرارات التي من هذا القبيل؛ ذلك لأن هذه الملكة وحدها [ملكة العقل] هي التي تستطيع أن تهدينا إلى ما قد ينجم عن الصفات والأفعال، فتبرز لنا نتائجها النافعة للمجتمع ولصاحبها؛ إذ في حالات كثيرة يكون هذا الأمر موضعًا لجدل كثير؛ فقد تنشأ الشكوك وقد تتعارض المصالح، بحيث يتحتم أن نعرف كيف نفضِّل جانبًا على جانب، من هذه الآراء التي قد تَدِقُّ بينها الفوارق إلى حد بعيد، فلا يَرْجَحُ أحدها الآخر في النفع إلا بقدر يسير؛ وإنا لنلحظ هذا بصفة خاصة في المسائل المتصلة بالعدالة؛ إذ من الطبيعي حقًّا أن يطرأ على الذهن ما عساه أن ينشأ من اختلاف الرأي في نوع المنفعة التي تصاحب هذه الفضيلة [فضيلة العدالة]؛ فلو كان كل مثل جزئي من أمثلة العدالة — كالإحسان مثلًا — نافعًا للمجتمع، لكان الأمر من أهون جوانب الموضوع، ولَقَلَّ أن يتعرض إلى كثير جدل؛ ولكن لما كانت الأمثلة الجزئية للعدالة غالبًا ما تكون مؤذية في نتائجها الأولى المباشرة، ثم لما كانت فائدة المجتمع لا تنتج إلا بعد مراعاة القاعدة العامة، ومن التقاء مختلف الأشخاص واشتراكهم في السلوك العادل الذي لا يختلف عند أحدهم عنه عند الآخر، فقد أصبحت المسألة أكثر تعقُّدًا وتعقيدًا؛ فالظروف المختلفة التي تحيط بالمجتمع، والنتائج المختلفة التي تترتب على أي فعل معين، والمصالح المختلفة التي قد يقدمها أصحابها، كل هذه تكون في حالات كثيرة مثارًا للشك وموضوعًا لنقاش وبحث كبيرين؛ والقوانين المدنية إنما تستهدف غاية هي أن تحسم الأمر في مسائل العدالة كلها؛ وهي نفسها الغاية التي يستهدفها المواطنون من مناقشاتهم ورجال السياسة من تأملاتهم، وسوابق التاريخ والمدونات العامة؛ وكثيرًا ما يكون الأمر بحاجة ماسة إلى «عقل» أو «حكم» غاية في الدقة، لنقرر به القرار الصائب وسط أمثال هذه الشكوك الشائكة التي تنشأ عن غموض المنافع أو تضاربها.
ولكن على الرغم من أن العقل إذا ما لقي من المعونة والتقويم أكمله، كافٍ لهدايتنا في التفريق بين ما هو ضار وما هو نافع من الصفات والأفعال، فليس وحده بكافٍ أن ينتج لنا الاستهجان أو الاستحسان في مسائل الأخلاق؛ فما المنفعة إلا وسيلة إلى غاية معينة؛ فلو كانت الغاية غير ذات خطر بالنسبة لنا لأحسسنا تجاه الوسائل المؤدية إليها بعدم مبالاة كذلك؛ فلا مندوحة لنا ها هنا عن «عاطفة» تكشف عن نفسها، لتعيننا على تفضيل الوسائل النافعة على الوسائل الضارة؛ ولا يمكن أن تكون هذه العاطفة إلا الميل بشعورنا نحو سعادة النوع الإنساني، والنفور مما يشقيه، لأن هذين هما الغايتان المختلفتان اللتان تتجه الفضيلة والرذيلة نحو تحقيقهما؛ إذن فها هنا «العقل» يهدينا الطريق في مسالك السلوك المختلفة، وأما «الشعور الإنساني» فيميز بينها ليفصل منها ما هو نافع ومفيد.
CONCERNING MORAL SENTIMENT
النص رقم ٩
في العقد الابتدائي
تكاد جميع الحكومات القائمة اليوم، أو التي احتفظ لنا الرواة بمدوَّنات عنها أن تكون قد نشأت بادئ ذي بدء إما على أساس الاغتصاب أو الغزو أو كليهما، دون أن تدَّعي مجرد ادعاء بأنها تستند إلى موافقة عادلة من الشعب أو إلى خضوع ذلك الشعب خضوعًا اختاره بإرادته؛ فإذا ما وضع رجل ماكر أو جريء على رأس جيش أو حزب، فغالبًا ما يتيسر له — باستخدامه للعنف تارة وللدعاوى الباطلة طورًا — أن يبسط سلطانه على شعب أكثر عددًا من أتباعه مائة مرة؛ وهو لا يسمح باتصال علني يتيح لأعدائه أن يعلموا في يقين كم عددهم أو ما مدى قوتهم؛ ولا يفسح لهم من وقت الفراغ ما يمكنهم من الاجتماع بعضهم ببعض في هيئة تتألف لمعارضته؛ وحتى كل أولئك الذين هم أدوات اغتصابه، قد يتمنون سقوطه، لكن جهل بعضهم بنوايا بعضهم الآخر يوقفهم جميعًا موقف المرتاع، فيكون ذلك هو المصدر الوحيد الذي يستمد منه الحاكم أمنه؛ هكذا أقيمت حكومات كثيرة بوسائل كهذه، وهي وحدها «العقد الابتدائي» الذي لديهم ويزهون به.
إن وجه الأرض دائب التغيُّر، فممالك صغيرة تزداد لتصبح إمبراطوريات عظيمة، وإمبراطوريات عظيمة تنحل لتصبح ممالك أصغر، ومستعمرات تُخْلَق، وقبائل تهاجر؛ فهل ترى في كل هذه الحوادث شيئًا سوى القوة والعنف؟ أين الاتفاق المتبادل أو الاجتماع الإرادي الذي كثر التحدث عنه على النحو الذي نرى؟
وحتى أيسر السبل التي تتلقى بها أمة ما سيدًا أجنبيًّا، بالزواج أو بالوصية، ليس مما يشرف الشعب شرفًا عظيمًا، بل إنها لتفرض أن الشعب مما يمكن أن يصرف أمره — كما هي الحال في مَهْر أو في وصية — حسب هوى حكامه ومصلحتهم.
وحيث لا تعترض القوة مجرى الحوادث، ويُجْرَى انتخاب، فما حقيقة هذا الانتخاب الذي يهللون له؟ إنه إما أن يكون التقاء نفر قليل من عظماء الرجال يقضون في الأمر نيابة عن المجموع، ولا يسمحون بصوت يعارض، أو أن يكون غَضْبَة جمهور يضلله رئيس عصابة قد لا يكون معروفًا لاثني عشر شخصًا من بين ذلك الجمهور كله، ولا يدين بصعوده إلا إلى سلاطته أو إلى ما قد اعترى زملاءه من نزوة طارئة.
أفتكون هذه الانتخابات المهوشة — ومع ذلك فقلما تحدث — من قوة السلطة بحيث تكون الأساس الشرعي الوحيد لكل حكومة وكل ولاء؟
OF THE ORIGINAL CONTRACT
النص رقم ١٠
وجود الله وطبيعته
فأجاب «فيلو»: إنه إزاء رجل حجة له هذه المكانة العظيمة كالذي استشهدت به، وألف غيره من الثقات ممن تستطيع أن تستشهد بهم، قد يبدو سخفًا مني أن أضيف شعوري (حيال الموضوع) أو أن أعبر عن استحساني لمذهبك؛ ولكنه لا جدال في أنه حين يعالج ذوو العقل المتزن هذه الموضوعات، فيستحيل أن يكون موضع الإشكال هو «وجود» الله بل «طبيعته» فحسب؛ ذلك لأن الحقيقة الأولى — كما قد لاحظت فأصبتَ الملاحظة — واضحة بذاتها وليست مما يجوز فيه اختلاف الرأي؛ إذ لا موجود بغير علة والعلة الأولى لهذا الكون (مهما تكن) هي ما نسميه ﺑ «الله»، ثم تحملنا التقوى على أن نعزو إليه كل ضروب الكمال؛ ومن يساوره الشك في هذه الحقيقة الأساسية يستحق كل عقاب يمكن أن ينزل بالفلاسفة، وأعني به أقصى درجات السخرية والازدراء والاستهجان؛ ولكن لما كان الكمال كله أمرًا نسبيًّا بكل معاني الكلمة، لزم علينا ألا نتصور أبدًا أننا نفهم الصفات التي ننعت بها هذا «الكائن» الإلهي، وألا نفترض أن ضروب كماله مما يحمل أي مماثلة أو شبه بضروب الكمال التي يتصف بها المخلوق البشري؛ ﻓ «الحكمة» و«الفكر» و«التدبير» و«المعرفة» صفات ننسبها إلى الله صوابًا؛ لأن لهذه الكلمات منزلة الشرف بين الناس، وليس لدينا لغة أخرى ولا مدركات عقلية أخرى نستطيع بها أن نعبر عن تمجيدنا له؛ ولكن لنكن على حذر، خشية أن يذهب بنا الظن إلى أن أفكارنا هذه تقابل ضروب كماله بأي وجه من الوجوه، أو أن صفاته تشبه أقل شبه أمثالها مما نطلقه على أفراد الناس؛ فهو أجلُّ بدرجة لا حد لها من إدراكنا ونظرنا المحدودين؛ وهو إلى أن يكون موضع عبادة في المعبد، أقرب منه إلى أن يكون موضوع جدل في المدارس.
ومضى «فيلو» قائلًا: إنه في الحق يا «كلينثيز» لا حاجة بنا إلى اللجوء إلى ذلك الشك المصطنع، الذي يَلْقَى منك ما يلقاه من سخط، لكي نصل به إلى هذه الخاتمة؛ فأفكارنا لا تمتد أبعد من حدود خبرتنا؛ وليست لدينا خبرة بصفات الله وأعماله؛ ولا حاجة بي إلى استخراج النتيجة من هذا القياس. وتستطيع أن تنتزع بنفسك نتيجة الاستدلال؛ وإنه ليسرني (وأرجو أن يسرك كذلك) أن الاستدلال العقلي المستقيم، والتقوى السليمة، يلتقيان هنا في نتيجة واحدة، وأن كليهما ينهض دعامة لطبيعة «الكائن الأسمى» التي يحيط بها إلغاز محبب، والتي هي فوق إدراك أفهامنا.
فقال «كلينثيز» مخاطبًا «ديميا»: بغير أن أضيع وقتًا في الدوران حول المعنى المقصود، وبغير محاولة الرد على الخطبة الحماسية الورعة التي ألقاها «فيلو» — فإذا لم أكن راغبًا في الدوران حول المعنى المقصود، فأنا أقل رغبة في الرد على «فيلو» — سأشرح في إيجاز وجهة نظري إلى هذا الموضوع؛ انظر حول العالم، وتأمل المجموع وكل جزء منه، فلن تجده إلا آلة عظيمة واحدة، تتفرع إلى ما لا نهاية لعدده من آلات أصغر، ثم تعود هذه الأقسام الفرعية فتنقسم فروعًا تبلغ حدًّا يجاوز ما تستطيع الحواس والملكات البشرية أن تتعقبه وتوضحه؛ وكل هذه الآلات المختلفة، بل كل أجزائها البالغة أقصى حد من الصغر، مهيأ بعضها لبعض في دقة تروع بالإعجاب كل من تأملها من بني الإنسان؛ فهذه المواءمة العجيبة بين الوسائل وغاياتها، في أرجاء الطبيعة كلها، تشبه أتم شبه — ولو أنها تفوق إلى حد كبير — منتجات الصناعة الإنسانية، تلك المنتجات التي ينتجها الإنسان بتدبيره وفكره وحكمته وذكائه؛ وعلى ذلك فما دامت المسببات يشبه بعضها بعضًا، فنحن مضطرون إلى الاستدلال بكل قواعد استدلال المثيل من مثيله، بأن الأسباب كذلك يشبه بعضها بعضًا؛ وأن «خالق الطبيعة» شبيه — على نحو ما — بعقل الإنسان ولو أنه ذو ملكات أوسع بكثير لتتناسب مع عظمة العمل الذي أداه؛ بهذه الحجة المستندة إلى الخبرة البشرية، وبهذه الحجة وحدها، نقيم البرهان في آن واحد على وجود إله وعلى شبهه بعقل الإنسان وذكائه.