ما الثقب الأسود؟
الثقب الأسود مكانٌ في الفضاء تكون فيه قوة الجاذبية شديدة جدًّا لدرجة أن لا شيء، ولا حتى الضوء، يستطيع التحرُّك بسرعةٍ كافية للإفلات من باطنه. ومع أنَّ الثقوب السوداء كانت في البداية مجرد تصوراتٍ في المخيلات الخصبة لعلماء الفيزياء النظرية، يُقدَّر الآن عدد الثقوب السوداء التي تعرَّف عليها العلماء بالفعل في الكون بالمئات، ويُقدَّر عدد الثقوب السوداء التي يتوقَّعون وجودها بالملايين. صحيحٌ أنَّ هذه الثقوب غير مرئية، لكنَّها تتفاعل مع الوسط المحيط بها تفاعُلًا يُمكن أن يكون ملحوظًا جدًّا، وبذلك يُمكن أن تؤثر فيه. وتعتمد ماهية طبيعة هذا التفاعُل بالضبط على درجة القُرب بالنسبة إلى الثقب الأسود؛ صحيح أنَّ ما يكون قريبًا منه للغاية يقع في قبضته لا محالة، ولكن عند مسافاتٍ أبعد، ستنشأ بعض الظواهر المثيرة والمذهلة.
وتجدُر الإشارة إلى أنَّ أول مرة ذُكر فيها مصطلح «الثقب الأسود» منشورًا، كانت في مقالة بقلم آن إوينج في عام ١٩٦٤ أوردَت فيها تقريرًا عن ندوة عُقِدت في تكساس في عام ١٩٦٣، مع أنها لم تذكر قَطُّ مَن الذي صاغ المصطلح. وفي عام ١٩٦٧، احتاج الفيزيائي الأمريكي جون ويلر إلى اختصار لعبارة «نجم منهار تمامًا بفعلِ الجاذبية» وبدأ ينشر المصطلح ويُعمِّمه، مع أنَّ مفهوم النجم المنهار ابتكره مواطناه الأمريكيان روبرت أوبنهايمر وهارتلاند سنايدر قبل ذلك بكثيرٍ وتحديدًا في عام ١٩٣٩. بل إنَّ الأسس الرياضية للتصوُّر العصري عن الثقوب السوداء بدأت قبل ذلك بكثير، تحديدًا في عام ١٩١٥، حين حلَّ الفيزيائي الألماني كارل شفارتزشيلد بعض المعادلات المهمَّة التي وضعها أينشتاين (والمعروفة باسم معادلات المجال في نظريته العامة للنسبية) مُطبِّقًا إيَّاها على كتلةٍ معزولة في الفضاء لا تدور.
وبعد ذلك بعَقدَين في المملكة المتحدة، قبل وقتٍ قصير من عملِ أوبنهايمر وسنايدر، كان السير آرثر إدينجتون قد أجرى بعض الحسابات الرياضية ذات الصِّلة في سياق بحثٍ استقصائي أجراه الفيزيائي الهندي سوبرامنيان شاندراسيخار عن مصير النجوم حين تَفنى. وقد أعلن إدينجتون نفسُه، أمام الجمعية الفلكية الملكية في عام ١٩٣٥، أنَّ النتائج الفيزيائية لحساباته، أي انهيار النجوم الضخمة عندما تستنفد كل وقودها لتُكوِّن ثقوبًا سوداء، «مُضحِكة ومُنافية للمنطق». ومع أنَّ الفكرة تبدو مضحكة وغير منطقية، فمن المؤكد أنَّ الثقوب السوداء جزء من الواقع المادي في كل أنحاء المجرة وعَبر الكون. وقد أحرز ديفيد فينكلشتاين في عام ١٩٥٨ مزيدًا من التقدُّم في هذا الشأن في الولايات المتحدة؛ إذ برهن على وجود سطحٍ أحادي الجانب يُحيط بثقب أسود، وهذا السطح سيكون مهمًّا جدًّا لما سندرُسُه في الفصول التالية. فوجود هذا السطح لا يسمح للضوء نفسه بالإفلات من قوة الجاذبية الهائلة داخل الثقب، وهو ما يجعل الثقب الأسود أسود. ولاستِهلال الطريق نحوَ فهم الكيفية التي قد ينشأ بها هذا السلوك، نحتاج أولًا إلى فهم سمةٍ عميقة من سمات العالم المادي؛ وهي وجود سرعةٍ قُصوى لا يُمكن أن يتجاوزها أي جُسَيم أو أي جسم.
ما مدى سرعة الأشياء السريعة؟
ينصُّ أحد قوانين الغاب على أنك إذا أردتَ الهروبَ من حيوانٍ مفترس، فعليك الركض بسرعة. فإذا لم يكن لدَيك مكر خارق أو تمويهٌ استثنائي، فلن تنجوَ إلا إذا كنتَ سريعًا. والسرعة القصوى التي تستطيع الثدييات أن تهرب بها من الأخطار تعتمِد على علاقاتٍ كيميائية حيوية مُعقدة بين الكتلة والقوة العضلية والأيض. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ السرعة القصوى التي يُمكن أن يتحرك بها أسرع شيءٍ في الكون هي تلك التي تظهر عند جُسيمات عديمة الكتلة تمامًا، مثل جسيمات الضوء (المعروفة بالفوتونات). ويبلُغ المقدار الدقيق لهذه السرعة القصوى ٢٩٩٧٩٢٤٥٨ مترًا في الثانية، أي ما يعادل ١٨٦٢٨٢ ميلًا في الثانية، أي أسرع من سرعة الصوت في الهواء نحو مليون مرة. ولو افترضنا أنني أستطيع السفر بسرعةِ الضوء، فسيُمكنني السفر من منزلي في المملكة المتحدة إلى أستراليا في جزءٍ مقداره واحد على ١٤ من الثانية، أي في لمح البصر تقريبًا. إذ يستغرق الضوء القادم من أقرب نجم إلينا، الشمس، ثماني دقائق فقط ليصِل إلينا. أمَّا إذا كان الفوتون قادمًا إلينا من أبعد كوكبٍ عنَّا، أي نبتون، فسيستغرق بضع ساعاتٍ فقط. وهكذا نقول إنَّ الشمس على بُعد ثماني دقائق ضوئية من الأرض، وإنَّ نبتون على بُعد بضع ساعات ضوئية منا. ويترتب على هذا نتيجة مُثيرة للاهتمام مفادها أنه إذا لم تُشرق الشمس أو تَحوَّل لون نبتون إلى الأرجواني فجأة، فلن يتمكن أيُّ شخصٍ على الأرض من معرفة هذه المعلومة المهمة قبل ثماني دقائق أو بضع ساعات على الترتيب.
ولنتأمَّل الآن مدى السرعة التي يُمكن أن يتحرك بها الضوء وصولًا إلى الأرض من نقاط أبعد بكثير جدًّا في الفضاء. إذ يبلُغ عَرض مجرة درب التبانة، التي تقع فيها مجموعتنا الشمسية، بضع مئات الآلاف من السنين الضوئية. أي إنَّ انتقال الضوء من أحد جانبي المجرة إلى جانبها الآخر يستغرق بضع مئات الآلاف من السنين. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ عنقود فورنكس المجرِّي هو أقرب عنقودٍ مجرِّي إلى العنقود المجرِّي المحلي (الذي تُعَد مجرة درب التبانة جزءًا مهمًّا منه) ويبعد عنَّا مئات الملايين من السنين الضوئية. ومن ثَمَّ، فإذا كان يُوجَد راصدٌ على كوكب يدور حول نجمٍ في مجرةٍ واقعة ضِمن عنقود فورنكس ينظر إلى الأرض الآن، وكان مزودًا بالأدوات والمعدات المناسبة، فإنه قد يرى ديناصورات تمشي مُتثاقِلة على كوكب الأرض. غير أنَّ ما يجعل حركة الضوء تبدو بطيئة وتستغرق وقتًا طويلًا هو اتِّساع الكون الشاسع المذهل ليس إلَّا. ويُصبح لدورِ سرعة الضوء بصفتها حدًّا أقصى إجباريًّا تأثيرٌ شائق عندما نبدأ التفكير في كيفية إطلاق الصواريخ إلى الفضاء.
سرعة الهروب
لنفترض الآن أنَّ كارثةً قد وقعت وجعلت كتلة الأرض كلها تتقلَّص إلى نقطةٍ واحدة ليس لها أي مساحةٍ مكانية إطلاقًا. نُسمِّي هذا الشيء نقطة التفرُّد. إذ أصبح الآن «كتلةً نقطية»، أي جسمًا ضخمًا يشغل حيزًا صفريًّا من الفراغ. على بُعد مسافةٍ قصيرة جدًّا، مقدارها متر واحد فقط، من نقطة التفرُّد هذه، ستكون سرعة الهروب أكبر بكثيرٍ مما كانت عليه عند ١٦٠٠ كيلومتر (وفي الواقع ستكون نحو ١٠٪ من سرعة الضوء). وبالاقتراب أكثرَ فأكثر من نقطة التفرُّد، إلى أن تُصبح المسافة الفاصلة أقلَّ من سنتيمترٍ واحد، ستُصبح سرعة الهروب مساويةً لسرعة الضوء. عند هذه المسافة، لن يكون الضوء نفسه سريعًا كفايةً للهروب من قوة الشدِّ هذه الناتجة عن الجاذبية. هذه هي الفكرة الأساسية لفهم آلية الثقوب السوداء.
يَجدُر هنا توضيح استخدام كلمة «نقطة التفرُّد». فنحن لا نعتقد أنَّ استمرار الانهيار بفعلِ قوى الجاذبية سيئول في النهاية إلى نقطةٍ بالمعنى الهندسي للكلمة، لكنَّ نظريتنا الكلاسيكية الخاصة بالجاذبية هي التي تنهار، وبذلك ندخل نظامًا كميًّا. ومن الآن فصاعدًا، سنستخدِم مصطلح نقطة التفرُّد للإشارة إلى هذه الحالة الفائقة الكثافة.
أُفق الحدث
تخيل الآن أنك رائد فضاءٍ تقود مركبةً فضائية، وأنك تقترِب من نقطة التفرُّد هذه. ما دُمتَ بعيدًا عنها، تستطيع أن تعكس اتجاه مركبتك وتتراجَع مُبتعدًا عنها. ولكن كلما اقتربتَ منها، صار من الأصعب أن تتراجع بالشكل اللائق. وفي النهاية تصل إلى مسافةٍ قريبة منه يستحيل عندها الهروب، بغض النظر عن مدى قوة المحركات الموجودة على متن مركبتك. وهذا لأنك وصلتَ إلى أفق الحدث، وهو سطح كروي له تعريفٌ رياضي، ويُعرَّف بأنَّه الحد الذي تُصبِح سرعة الهروب داخله أكبر من سرعة الضوء. وفي حالة التصوُّر الافتراضي الذي تخيَّلنا فيه أنَّ الأرض قد انهارت وتقلَّصت إلى نقطةٍ واحدة، فإن هذا السطح سيكون كرةً يبلغ نصف قطرها سنتيمترًا واحدًا فقط وتتضمن نقطة التفرُّد عند مركزها؛ وبذلك ربما يكون من السهل جدًّا على مركباتنا الفضائية أن تتجنَّبه. غير أنَّ أفق الحدث يُصبح أكبر بكثيرٍ عندما يتكوَّن الثقب الأسود من نجمٍ منهار وليس من كوكبٍ منهار. ويتَّسِم أفق الحدث بأنَّ له تأثيرًا فيزيائيًّا مهمًّا؛ فإذا كنتَ على هذا السطح أو داخل حدوده، فإنَّ قوانين الفيزياء ببساطة لن تسمح لك بالهروب منه لأنَّ فعل ذلك سيستلزِم كسْر حدِّ السرعة القصوى الكوني. أي إن أفق الحدث مستوًى إلزاميٌّ من مستويات ترسيم الحدود: خارجَه يكون لك الحرية في تحديد مصيرك؛ أمَّا إذا أصبحتَ بداخله، فسيبقى مُستقبلك عالقًا داخلَه إلى الأبد.
يُمكن أن يكون من المنطقي تأمُّل هذا الوصفِ لأفق الحدث في إطار فيزياء نيوتن. بل إنَّ بعض العلماء القُدامى تخيلوا كياناتٍ فيزيائيةً شبيهة بالثقوب السوداء قبل قرونٍ من أن يُغير أينشتاين وآخرون فَهمنا للمكان والزمان تغييرًا عميقًا. وأبرز المفكِّرين الذين تخيلوا «نجومًا سوداء» شبيهةً بالثقوب السوداء كانوا جون ميشيل وبيير-سيمون لابلاس، اللذَين بدآ أبحاثهما قديمًا في القرن الثامن عشر، وسأشرح الآن ما فعلاه.
إحدى الميزات اللافتة في علم الفلك كثرة الأشياء التي يُمكن أن تكتشِفها عن الكون حتى وأنت عالق هنا على كوكب الأرض. فعلى سبيل المثال، لم يزُر الشمسَ أيُّ إنسانٍ قط، ولكن اكتُشِف وجود الهيليوم في الشمس في أواخر القرن التاسع عشر بتحليل طيف ضوء الشمس. وهذا لافتٌ جدًّا، لا سيما أنَّه شكَّل أساسَ اكتشاف عنصر الهيليوم نفسه؛ إذ عُثر عليه في الشمس قبل وقتٍ طويل من اكتشافه على كوكب الأرض. وحتى قبل ذلك، في القرن الثامن عشر، بدأت تُصاغ بعض الأفكار الكامنة وراء مفهوم الثقوب السوداء، وبالأخصِّ فكرة ما يُسمَّى بالنجم المظلم. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ أول شخصٍ وثب هذه الوثبة التخيُّلية الأولى كان مُتأثرًا جدًّا بعصره الذي عاش فيه بكل تأكيد.
جون ميشيل
أتاحت أفكار نيوتن دراسة الكون باستخدام الرياضيات، واستطاع هذا الجيل الجديد من العلماء نشْر هذه النظرة الجديدة إلى العالم في مجالاتٍ مختلفة. كان ميشيل مُهتمًّا على وجه الخصوص باستخدام التفكير النيوتني لتقدير المسافة إلى النجوم القريبة باستخدام قياسات الضوء الذي ينبعث منها. وتَفتَّق ذهنُه عن مُخطَّطات مختلفة لفعل ذلك، بربط سطوع النجم بلَونه؛ وكذلك دَرَس النجوم الثنائية (أزواج من النجوم مُرتبطة ببعضها بفعلِ قوة الجاذبية) وكيف يمكن أن تُقدِّم حركاتها المدارية معلوماتٍ مُفيدة مُتجددة باستمرار. وعكَف ميشيل أيضًا على دراسة كيفية مَيل النجوم إلى التجمُّع مكوِّنةً عناقيد في مناطقَ مُعينة من السماء، واختبر ذلك مقابل توزيع عشوائي واستنتج تكوُّن العناقيد بفعلِ الجاذبية. لم تكن أي فكرةٍ من هذه الأفكار عمليةً آنذاك؛ فالنجوم الثنائية المعروفة كانت قليلة (مع أنَّ هيرشل كان يؤلِّف بعض القوائم الباهرة التي تضمُّ كثيرًا من النجوم المزدوجة والأجسام الجديدة)، واتضح أنَّ العَلاقة بين سطوع النجم ولونِه لم تكن كما حسبها ميشيل تمامًا. غير أنَّ ميشيل كان يبذل قُصارى جهده لكي يُقدِّم للكون الأوسع ما قدَّمه نيوتن للمجموعة الشمسية؛ وهو أن يُتيح تحليل الأرصاد تحليلًا علميًّا وعقلانيًّا ومتجددًا باستمرار لتقديم معلوماتٍ جديدة عن خصائص الأجرام السماوية وكتلها ومسافاتها.
ومن بين الرؤى الكاشفة التي تَفتَّق عنها ذهن ميشيل، انبثقت الفكرة القائلة بأنَّ جسيمات الضوء، على حدِّ تعبير ميشيل، «تُجذَب بالكيفية نفسها التي تُجذَب بها كل الأجسام الأخرى التي نعرفها؛ أي بواسطة قوى متناسِبة طرديًّا مع عزم قصورها الذاتي [يقصد كتلتها]، ويستحيل أن يُوجَد أي شكٍّ عقلاني في ذلك، لأنَّ الجاذبية، على حدِّ عِلمنا، أو على حدِّ ما لدَينا من أي أسباب تجعلنا نُصدِّق ذلك، قانون كوني من قوانين الطبيعة». وعلَّل ذلك بقوله إنَّ مثل هذه الجسيمات المنبعِثة من نجمٍ كبير ستتباطأ بفعلِ قوى الجاذبية لدى النجم. وهكذا سيكون ضوء النجم الذي يصِل إلى كوكب الأرض أبطأ. ويُذكَر أنَّ نيوتن أوضح أنَّ الضوء يتباطأ في الزجاج، وقد فسَّر هذا مبدأ الانكسار. وإذا كان ضوء النجوم يبطؤ بالطريقة نفسِها بالفعل، أكَّد ميشيل أنه قد يكون من الممكن اكتشاف هذا التباطؤ بتفحُّص ضوء النجوم من خلال منشورٍ زجاجي. لم تُجرَ هذه التجربة على يد ميشيل، وإنما أُجرِيَت على يد الفلكي الملكي المُبجَّل الدكتور نيفيل ماسكلين، الذي بحث عن وجود تضاؤل في قابلية ضوء النجوم للانكسار. أرسل كافنديش خطابًا إلى ميشيل ليُخبره بأنَّ الأمر لم ينجح وأنَّ «احتمالية العثور على أي نجوم يتضاءل ضوءُها تضاؤلًا ملحوظًا ضعيفة جدًّا». صُدِم ميشيل وتضايق، لكن مثل هذه التكهُّنات الفلكية تطلَّبَت قدرًا كبيرًا من تخمين أشياء يستحيل تقديرها: فهل تأثر الضوء النجمي بجاذبية النجم الذي ينبعث منه؟ لم يكن ميشيل مُتيقنًا. لكنه كان جريئًا بما يكفي ليتنبَّأ تنبُّؤًا مُثيرًا للاهتمام.
إذا كان النجم ضخمًا بما يكفي، وكانت الجاذبية تؤثر في الضوء النجمي حقًّا، فقد تكون قوة الجاذبية كافيةً لحبس جُسيمات الضوء تمامًا ومنعِها من مغادرة النجم. وبذلك سيكون مثل هذا الجسم نجمًا مُظلمًا. هكذا كان القس غير المعروف وهو يكتب في مسكنه في يوركشاير هو أول شخصٍ تصوَّر ثُقبًا أسود. غير أنَّ مخطط ميشيل الرامي إلى قياس المسافات التي تفصلنا عن النجوم ظلَّ خائبًا تمامًا. وفوق ذلك، كانت صحَّتُه سيئة بعض الشيء وهذا منعه من استخدام تلسكوبه. لذا أرسل إليه كافنديش خطاب مُواساة، قائلًا: «إذا كانت صِحتك لا تسمح لك بمواصلة استخدام [التلسكوب]، فآمُل أن تسمح لك على الأقل بأداء مُهمَّة وزن العالم الأسهل والأقل مشقَّة.» وتجدُر الإشارةُ هنا إلى أنَّ هذا المثال الاستثنائي لنكتةٍ من كافنديش (الذي ذاعت عنه شهرة سيئة بأنه كتوم ومُتحفِّظ) يشير إلى فكرةٍ أخرى تصوَّرَها ميشيل. إذ يعني «وزن العالم» تجربة تُجذَب فيها كُرتان رَصاصيَّتان كبيرتان عند طرفَي قضيب الميزان الالتوائي بواسطة كُرتَين رصاصيتَين ساكنتَين. وهذا يسمح لمن يُجري التجربة بقياس قوة الجاذبية، وبالتبعية استنتاج وزن الأرض. لم يفعل أحد هذا من قبل. كانت فكرة ميشيل رائعة، لكنه فارق الحياة قبل أن يستكمل هذا المشروع. بل كان كافنديش هو من أجرى تجربة ميشيل، وصارت تُعرَف الآن باسم تجربة كافنديش. غير أنَّ انتساب الفضل إلى كافنديش في شيءٍ لم يكن هو صاحبه بهذه الطريقة قد عُوِّض وزيادة فيما بعد لأنَّ العديد من الاكتشافات الفارقة التي اكتشفها كافنديش بنفسه وتجاهل نشرَها نُسِبت لاحقًا إلى باحِثين لاحِقين (من بينها قانون «أوم» وقانون «كولوم»).
بيير-سيمون لابلاس
على الجانب الآخر من بحر المانش، لم يكن بيير-سيمون لابلاس مُستمتعًا بفترة السِّلم المثالي الهادئة التي أرسَتْها حقبة التنوير الإنجليزي السِّلمية. نجا لابلاس من الثورة الفرنسية، مع أنَّ مسيرته المهنية ازدهرت بينما كان يؤثر بنفوذه في معهد فرنسا ومدرسة البوليتكنيك اللذَين كانا حديثَي التأسيس آنذاك. حتى إنه شغَل منصبَ وزير الداخلية فترةً في عهد نابليون، لكنه لم يبقَ سوى مدةٍ قصيرة في هذا المنصب الذي ندِم نابليون على تعيينه فيه. إذ أدرك نابليون أن لابلاس كان عالم رياضيات ممتازًا، لكنه سيئٌ جدًّا في المناصب الإدارية. وقد كتب نابليون عن لابلاس فيما بعد أنه «كان يبحث عن التفاصيل الدقيقة في كلِّ شيء، ولم يكن يتصوَّر سوى المشكلات، وأخيرًا نَقَل عقلية «الكميات المتناهية الصغر» إلى مجال الإدارة». كان نابليون لدَيه آخرون ممن يُجيدون شَغل المناصب الإدارية يستطيع الاستعانة بهم، لكن العالَم لم يكن فيه سوى قِلة من علماء الرياضيات الْمُثمِرين ذوي البصيرة الثاقبة مثل لابلاس. إذ قدَّم إسهامات محورية في الهندسة وموضوع الاحتمالات والرياضيات والميكانيكا السماوية والفلك والفيزياء. وعمل على موضوعاتٍ مختلفة مثل الخاصية الشعرية، والمذنبات، والاستدلال الاستقرائي، واستقرار المجموعة الشمسية، وسرعة الصوت، والمعادلات التفاضلية، والتوافقات الكروية. وكانت إحدى الأفكار التي فكر فيها النجوم المظلمة.
في عام ١٧٩٦، نشر لابلاس كتابه «شرح نظام الكون». ويستعرض هذا الكتاب، الموجَّه إلى جمهورٍ مُثقَّف مُتعلم، المبادئ الفيزيائية التي يقوم عليها علم الفلك، وقانون الجاذبية وحركة الكواكب في المجموعة الشمسية، وقوانين الحركة والميكانيكا. وتُطبق هذه الأفكار على ظواهر مختلفة، من بينها المد والجزر وتحرُّك نقطتَي التقاء خط الاستواء السماوي بمستوى مدار الأرض على طول مستوى مدار الأرض بسبب تغيُّر اتجاه محور دوران الأرض، ويحتوي الكتاب أيضًا على تكهُّنات لابلاس بخصوص أصل المجموعة الشمسية. ويتضمن فقرةً معينة ذات صِلة خاصة بموضوعنا. إذ حَسَب لابلاس الحجمَ الذي يجب أن يكون عليه جسمٌ شبيه بالأرض لكي تكون سرعة هروبه مساويةً لسرعة الضوء. وأظهر، في توضيحٍ صائب تمامًا، أنَّ قوة الجاذبية على سطح نجم ذي كثافة مُشابهة لكثافة الأرض، لكن قطره يساوي قطر الشمس نحو ٢٥٠ مرة، ستكون شديدةً جدًّا لدرجة أنَّ الضوء نفسَه لن يستطيع الهروب. وفسَّر أنَّ هذا هو السبب الذي يجعل أكبر الأجسام في الكون غير مرئية. فهل يُمكن أنها ما زالت مُختبئة غير مرئية في سماء الليل المعتِمة في الوقت الذي تخيَّلنا فيه أنَّ الأشياء الوحيدة «الموجودة هناك» هي الأجسام المضيئة الساطعة التي نستطيع رؤيتها؟ طلب عالم الفلك المجَري فرانتس زافير فون زاك من لابلاس أن يُقدِّم الحسابات التي قادته إلى هذا الاستنتاج، ولبَّى لابلاس هذا الطلب، بتدوين حساباته (باللغة الألمانية) وأرسلها إلى إحدى الدوريات التي كان فون زاك مسئولًا عن تحريرها.
غير أنَّ لابلاس كان قد بدأ يعي نظرية طبيعة الضوء الموجية آنذاك. وكانت أفكار كلٍّ من ميشيل ولابلاس قائمةً جزئيًّا على نظرية طبيعة الضوء الجسيمية. فإنْ كان الضوء مكونًا من جسيمات بالِغة الصغر، فحينئذٍ سيبدو منطقيًّا أنَّ هذه الجسيمات تتأثر بمجال جاذبية، وتظلُّ مربوطةً إلى الأبد بسطحِ نجمٍ ذي حجمٍ كافٍ. لكنَّ بدايات القرن التاسع عشر شهدت عدة تجارب بدا أنها تُعزِّز مصداقية نظرية طبيعة الضوء الموجية. ولو كان الضوء موجةً وليس جسيمات، فعندئذٍ يكون من الأصعب أن نرى أنَّه من المفترَض أن يتأثر بالجاذبية. وهكذا حُذِف تنبُّؤ لابلاس بالنجوم المظلِمة في هدوءٍ من الطبعات اللاحقة من كتاب «شرح نظام الكون». ففي النهاية، كان ميشيل ولابلاس عاكفَين على تخمين النظرية واستكشافها، ولم يكونا مدفوعَين باحتياجٍ إلى شرح أرصادٍ مُعيَّنة، ولذا نُسِيَت هذه الفكرة فترةً من الزمن. بذلك كانت الأجسام التي تَخيَّلها ميشيل ولابلاس «نجومًا سوداء»، وهي أجسام هائلة في الكون تستطيع بحُكم كُتلتها أن تحافظ على بقاء أنظمةٍ من الكواكب في مداراتٍ حولها، لكنها في الوقت نفسه، بحُكم كتلتها الهائلة نفسها أيضًا، لا يُمكن أن تُرصَد عبْر إشعاع الضوء. فالضوء النجمي المنبعث من أسطح نجوم ميشيل ولابلاس سيكون أبطأ من أن يتغلَّب على قوة جاذبية السطح الشديدة. الشيء الذي لم يستطع ميشيل ولابلاس تخمينه هو أنَّ مثل هذه الكتل المتراكِمة الهائلة ستكون غير مُستقرة إلى الحد الذي يجعلها تنهار. وفوق ذلك، ستثقب نسيج الزمكان أثناء انهيارها، وستُنشِئ نقطةً من نقاط التفرُّد. وبذلك فإنَّ «الثقوب السوداء» ليست «نجومًا مظلمة»، ومن أجل أن نُعزز هذه الحجَّة ونبدأ في التعرُّف على الاكتشاف الفلكي للثقوب السوداء، سنحتاج أولًا إلى فَهم طبيعة الزمكان.
الزمكان
-
تؤثر الكتلة على نسيج الزمكان، وتتحكم في كيفية انحنائه
-
يؤثر نسيج الزمكان على الكتلة، ويتحكم في كيفية تحركها
يُقاس مقدار هذا التأثير بمعادلات المجال التي وضعها أينشتاين ضِمن نظرية النسبية العامة، التي تربط انحناء نسيج الزمكان بمجال الجاذبية.