إنتروبيا الثقوب السوداء وخصائصها الديناميكية الحرارية
قُل لي ماذا تأكُل أقُل لك من أنت
كثيرًا ما يُقال إنَّ ما يأكله المرء يُعبر عن ماهيته. وبذلك فإذا كان نظامُك الغذائي مُقتصرًا على المأكولات كثيرة السُّعرات وقليلة القِيمة الغذائية والشوكولاتة، فسيكون مظهرك، فضلًا عن صحتك الجسدية والذهنية، مختلفًا بعض الشيء عمَّا سيكون عليه إذا كنتَ تَتَّبع نظامًا غذائيًّا صحيًّا يشتمل على السلطة والأطعمة الشائعة في منطقة البحر المتوسط. ولكن يبدو أنَّ الثقوب السوداء تَقنع بأيِّ طعام بسهولة. فسواءٌ ألتهمَتِ الثقوب مساحةً شاسعة من الغبار الواقع بين النجوم أو سنة ضوئية مُكعبة من البَيض المقلي، فإن كُتلتها ستزداد بالمثل في الحالتَين دون توقف. وفي الحقيقة، بعد أن ينتهيَ الثقب الأسود من وجبته الفاخرة، يستحيل أن تعرف ما كان يأكُله، ولن تعرف سوى الكمية التي تناوَلَها (مع أنك تستطيع معرفة ما إذا كان الشيء الذي أكله له شحنة أو زخم زاوي). أي إنك لن تعرف سوى كمية طعامه، وليس نوعيته. إذ تذكُر «نظرية عدم وجود شَعر» التي نُوقِشت في الفصل الثاني أنَّ الثقب الأسود لا يتميَّز إلَّا بعددٍ قليل جدًّا من المعايير المُحدِّدة (الكتلة والشحنة والزخم الزاوي)، ومن ثم لا يمكننا التحدُّث عمَّا يتكوَّن منه الثقب الأسود.
قد يبدو هذا الافتقار إلى معرفة طبيعة ما يمتصُّه الثقب الأسود وكأنه ملحوظة تافِهة، لكنها في الواقع عميقةٌ بعض الشيء. فالمعلومات المتعلِّقة بما يأكُلُه الثقب الأسود فُقِدت أساسًا. فأي مادة سقطت داخل الثقب الأسود قد تنازلت عن هويتها. إذ لا نستطيع إجراء أي قياساتٍ عن تلك المادة، أو تمييز أي تفاصيل عنها.
الثقوب السوداء والمحركات
هذا الوضع مألوف على نحوٍ مُخيف لِمن درسوا موضوع الديناميكا الحرارية الجميل. ففي هذا المجال، يشيع جدًّا بين دارِسيه فهم الكيفية التي يُمكن بها أن تُفقد المعلومات أو تتبدَّد من خلال عمليات فيزيائية. هذا ويتَّسِم مجال الديناميكا الحرارية بتاريخٍ طويل شائق. إذ بدأت نظريته الحديثة إبان الثورة الصناعية عندما كان الناس يحاولون التوصُّل إلى كيفية تعزيز كفاءة المحركات البخارية. يُمكن تعريف «الطاقة» بالقول إنَّها كمية محفوظة دائمًا وقابلة للتحويل من صورةٍ إلى أخرى. ويُعرف هذا بقانون الديناميكا الحرارية الأول. ولكن بالرغم من إمكانية تحويل أنواع مختلفة من الطاقة من صورةٍ إلى أخرى، لا يُمكن إجراء تحويلات مُعينة. فمع أننا نستطيع مثلًا أن نحول الشغل الميكانيكي بالكامل إلى حرارة (إذ تفعل ذلك كلما استخدمتَ المكابح لتُوقِف سيارتك تمامًا)، لا نستطيع تحويل الحرارة بالكامل إلى شغلٍ ميكانيكي، وهذا بالضبط هو ما نتمنَّى تحقيقه بالمحركات البخارية، لكننا لا نستطيع مع الأسف. ولذا فالمحركات البخارية في القطارات لا تستطيع إلَّا تحويل جزءٍ من الحرارة المنبعثة من الموقِد إلى شغل ميكانيكي يُدير العجلات. ومن ثَمَّ، عُرف أخيرًا أنَّ الحرارة نوع من أنواع الطاقة يتضمَّن حركةً عشوائية للذرات، فيما يتضمن الشغل الميكانيكي حركة مُنسَّقة لمواد كبيرة بعض الشيء، مثل عجلة أو مكبس. ولذا فأحد العناصر البالغة الأهمية في طبيعة الحرارة هو العشوائية؛ فبسبب اهتزاز الذرات في الأجسام الساخنة، لا نستطيع تتبُّع مسار حركة الذرات المفردة. وببساطة لا يُمكن تجريد هذه الحركة العشوائية من عشوائيتها دون ثمنٍ إضافي. فالعشوائية، أو لِنقُل «الإنتروبيا» حسب تسمِيتها بالمصطلحات التخصُّصية، في أي نظام معزول لا تقلُّ أبدًا بل يجب دائمًا أن تبقى كما هي أو تزداد في كل عمليةٍ فيزيائية. (هذا هو قانون الديناميكا الحرارية الثاني). ويُمكن النظر إلى هذا من منظور القولِ إنَّ معلوماتنا عن العالم دائمًا ما تقلُّ لأننا لا نستطيع تتبُّع مسار حركة كل الذرات في نظامٍ كبير. فبينما تنتقِل الطاقة من نطاقات عيانية إلى نطاقات ميكروية، من مكبسٍ مُتحرك بسيط إلى الحركة العشوائية لأعدادٍ هائلة من الذرات، عندئذٍ تضيع منَّا المعلومات. وتُتيح لنا الديناميكا الحرارية تحويل هذه الفكرة التي تبدو غامضةً إلى مقادير كمية تمامًا. ويتبيَّن هنا أنَّ فُقدان المعلومات بهذه الطريقة مُشابِه تمامًا لما كنا نقوله عن سقوط المادة داخل ثُقبٍ أسود.
صحيح أنَّ مجال الديناميكا الحرارية ابتُكِر لوصفِ ما يتعلق بالمحركات البخارية، ولكن أغلب الظن أنَّ مبادئه تنطبق على كل العمليات في الكون. وكان من أوائل من فكروا في عَلاقة ذلك بالثقوب السوداء روجر بنروز أستاذ الفيزياء في أكسفورد. إذ استنتج أنه ربما يكون من الممكن استخراج طاقة من الثقوب السوداء، لأنَّ لدَيها زخمًا زاويًّا، ومن ثَمَّ استخدامها كأنها مُحركات. وتَفتَّق ذهنه عن مُخطَّطٍ عبقري تقوم فكرته على إلقاء مادة نحو ثقبٍ أسود دوَّار بحيث يخرج بعضها من تلك الرمية بطاقةٍ أكبر من طاقته الأصلية. وتُستخرَج الطاقة من المنطقة الواقعة خارج أفق الحدث مباشرةً (وبالتحديد منطقة «الإرجوسفير» التي نُوقِشت في الفصل الثالث). وهكذا تؤدي العملية التي تصوَّرها بنروز إلى إبطاء دوران الثقب الأسود. وصحيح أنَّ استخراج كميةٍ هائلة من الطاقة من الثقب الأسود بهذه الطريقة ممكن من حيث المبدأ، لكنَّ هذه بالطبع مجرد تجربة فكرية، ولذا لا تبدو في الوقت الحالي حلًّا عمليًّا لأزمة الطاقة التي يلوح في الأفق أنها ستُخيم على كوكب الأرض! وفي غضون بضع سنوات من هذا العمل الذي أجراه بنروز، حقق جيمس باردين، وبراندون كارتر، وستيفن هوكينج تقدمًا فارقًا وصاغوا ما أطلقوا عليه القوانين الثلاثة لديناميكيات الثقوب السوداء، التي أرست الأسس التي استند عليها تفكير هوكينج اللاحِق بخصوص الديناميكا الحرارية للثقوب السوداء، الذي تطلَّب إنشاء مفهوم درجة حرارة الثقب الأسود التي تُحدَّد بكتلته وزخمه الزاوي.
الثقوب السوداء والإنتروبيا
لم يُصدِّق هوكينج نتائج بيكنشتاين في البداية، ولكن بعدما تفحَّصها بمزيدٍ من التعمق، لم يستطع تأكيد صحة هذا النهج فحسب، بل تمكَّن أيضًا من تعميق فَهمنا لكيفية سير آليات الديناميكا الحرارية للثقب الأسود. ربما يكون من المفيد فَهم كيفية إجراء هذه التحليلات كي يتسنَّى للمرء إدراك قوتها والحدود التي تجعلها قاصرةً أيضًا. والطريقة المثالية للنجاح في سبر أغوار هذا المجال هي استخدام مزيجٍ من ميكانيكا الكم والنسبية العامة، يُسمَّى الجاذبية الكمية، لدراسة الأنظمة التي تتَّسِم بأنها صغيرة جدًّا، مثل نقاط التفرُّد في ثقبٍ أسود، لكنها في الوقت نفسه تشهد اضطلاع الجاذبية بتأثيرٍ كبير. ومع الأسف ليس لدَينا نظرية جيدة عن الجاذبية الكمية حاليًّا. ولكن من الطرق المُناسبة استخدام النسبية العامة لنمذجة الكيفية التي ينحني بها نسيج الزمكان ثم استخدام ذلك مع ميكانيكا الكم لفَهم سلوك الجُسيمات في نسيج الزمكان المنحني. كان هذا هو النهج الذي اتبعه هوكينج لمحاولة فهم الديناميكا الحرارية للثقوب السوداء.
هل الفضاء الفارغ فارغٌ بحق؟
يتَّسم مفهوم الفراغ (أي المنطقة التي «لا يُوجَد فيها أي شيء») بأنَّ له تاريخًا طويلًا ومُعقدًا للغاية. فمعظم الفلاسفة اليونانيين القدماء أبغضوا تلك الفكرة، استنادًا إلى أسبابٍ تبدو اليوم مُبهَمة جدًّا، ولكن تُوجَد قلة من الفلاسفة المؤمنين بمذهب الذرية أدرجوا الفراغ في وصفهم للكون. ولذا ظلَّ الكثيرون حتى عصر النهضة العلمية يعتبرون أنَّ فكرة الفراغ قد عفَّى عليها الزمن إلى حدٍّ كبير. ولكن بعد اختراع مضخَّة الهواء في عام ١٦٥٠، أمكن إثبات وجود الفراغ بالتجربة. ومع أنَّ كمية الهواء التي يمكن إخراجها بمضخةٍ من داخل وعاء في القرن السابع عشر لا تُنتِج فراغًا تامًّا كما ينبغي وفق المعايير الحديثة، فإنَّ فكرة العدم أصبحت أكثر قابلية للتصديق من ذي قبل بكثير. وحالما ثبَت وجود الذرات بما لا يدع مجالًا للشك المنطقي في أوائل القرن العشرين، لم تُصبح فكرة وجود منطقة من الفضاء خالية من الذرات محل اتفاق فحسب، بل صارت أكيدةً أيضًا.
وفور إثبات وجود الذرَّات، ظهرت نظرية جديدة من نظريات الفيزياء؛ وهي ميكانيكا الكم. كانت إحدى النتائج المدهشة لهذه النظرية الجديدة وجود لحظاتٍ عابرة يبدو فيها أنَّ الطاقة لا يُشترَط بالضرورة أن تبقى محفوظة. صحيح أنَّ قانون الديناميكا الحرارية الأول، ذاك المبدأ الفيزيائي العظيم الذي يبدو غير قابل للكسر، كان يُصِر على أنه لا بدَّ من وجود مُحاسَبة صارمة بين الرصيد الدائن والرصيد المدين من الطاقة في كل لحظةٍ وكل مكان. إذ يقول المحاسب الكوني بنبرةٍ صارمة عالية: «يجب أن تكون الطاقة الداخلة مساويةً للطاقة الخارجة دائمًا». ولكن في الواقع، يبدو أن قواعد المحاسبة الكونية أكثر تساهُلًا، ويبدو الحصول على قرضٍ ممكنًا. فمن المقبول تمامًا أن تقترض بعض الطاقة فترةً قصيرة ما دُمتَ سترُدها سريعًا بعد ذلك. وتعتمد الكمية التي يمكنك اقتراضها على مدة القرض، بمقدارٍ يصِفه مبدأ عدم اليقين الذي وضعه هايزنبرج. فعلى سبيل المثال، من الممكن، حتى في الفراغ الذي يُفترَض أنه فارغ، اقتراضُ طاقةٍ كافية لتكوينِ زَوج من جُسَيم وجُسَيم مضاد. إذ يُمكن أن يظهر هذان الجُسَيمان في دنيا الوجود كومضةٍ خاطفة ثم يُفني كلٌّ منهما الآخر بعد زمنٍ قصير للغاية، وبذلك يرُدَّان الطاقة المُقترَضة ضِمن الحد الزمني المسموح به (مدة زمنية تصير أقصر كلما كان مقدار الطاقة المُقترَضة أكبر). وهكذا تحدث هذه العملية في كل مكان، طَوال الوقت. بل ويُمكن قياسها حتى! وبذلك صرنا نفهم الآن أنَّ الفراغ ليس فارغًا بالفعل، بل يُعَد بمثابة حساء من تلك الأزواج المكونة مما يُسمَّى جُسَيمات افتراضية تظهر في الوجود وتختفي منه كومضاتٍ خاطفة. أي إنَّ الفراغ ليس عقيمًا وخاليًا، بل يعجُّ بنشاط كمِّي.
تبخُّر الثقوب السوداء وإشعاع هوكينج
استخدم هوكينج النظرية الحديثة التي تصف الفراغ، أي نظرية المجال الكمي، ليدرس سلوكه بالقُرب من أفق الحدث المحيط بالثقوب السوداء. وصحيح أنَّ تحليله كان رياضيًّا، لكننا نستطيع تصويره بطريقةٍ مُبسطة جدًّا. الخُلاصة أنَّ زوجًا من الجسيمات «الافتراضية»، أي يتكوَّن من جُسيم وجُسيم مضاد له (يكون معاكسًا له في الشحنة ومُطابقًا له في الكتلة)، ناشئًا بالقُرب من أفق الحدث المحيط بالثقب الأسود قد يَئول في النهاية إلى التفتُّت بانفصال كِلا الجُسيمَين عن الآخر. وإذا سقط أحد عنصرَي هذا الزوج، سواء الجُسَيم أو الجُسيم المضاد، في أفق الحدث، فسيغوص في نقطة التفرُّد، ولن يُمكن أن يُسترَد أبدًا. لكن شريكه قد يبقى موجودًا خارج الثقب الأسود. وبذلك يكون هذا الجُسيم قد فقدَ شريكه الافتراضي، لكنه قد صار الآن جُسيمًا حقيقيًّا، وأصبح من الممكن له أن يهرُب. وإذا استطاع الجُسيم أن يهرب، بدلًا من أن يعاود السقوط نحو الثقب الأسود، يُشكِّل جزءًا مما يُسمَّى إشعاع هوكينج. ويرى أي راصدٍ بعيد أنَّ الثقب الأسود قد فقدَ بعضًا من كُتلته بسبب انبعاث جُسَيم. وما أُدرِكَ سلفًا بالفعل أنَّ الثقوب السوداء، بأخذ نظرية المجال الكمِّي في الحسبان، ليست سوداء تمامًا، بل تستطيع أن تبعث جُسَيمات في الواقع. تنطبق هذه الحُجة كذلك على الفوتونات، لذا فإنَّ الثقب الأسود ينبعث منه ضوء ضعيف جدًّا (معروف أيضًا بالإشعاع الكهرومغناطيسي) إذا صحَّت حجة هوكينج.
عندما لا تكون درجة الحرارة صفرية، تبعث كل الأجسام إشعاعًا حراريًّا في صورة فوتونات. أنت نفسك تفعل ذلك، وهذا هو السبب الذي يجعلك تظهر على شاشة أي كاميرا تُصوِّر بالأشعة تحت الحمراء حتى في الظلام (ولهذا تستخدِم الشرطة والجيش مثل هذه الكاميرات). وكلما كانت حرارة الجسم أشد، كان تَردُّد الإشعاع أكبر. وهكذا فإننا نبعث إشعاعًا يقع في نطاق الأشعة تحت الحمراء، في حين أنَّ المسعار الأحمر الساخن يكون ساخنًا بما يكفي لإطلاق ضوء مرئي. ولأن الثقب الأسود يبعث إشعاع هوكينج، فإنَّ له درجة حرارة (تُعرف باسم درجة حرارة هوكينج) كما رأينا سابقًا، مع أنها عادةً ما تكون مُنخفضةً إلى حدٍّ لا يُصدَّق. فالثقب الأسود الذي تساوي كتلته كتلة الشمس ١٠٠ مرة تكون درجة حرارة إشعاعه أقل من جزءٍ من المليار من الدرجة فوق الصفر المطلَق (الذي يقلُّ عن درجة تجمُّد الماء بمقدار ٢٧٣ درجة أصلًا)! هذا أحد أسباب عدم اكتشاف إشعاع هوكينج حتى الآن؛ أنه ضعيف إلى حدٍّ لا يُصدَّق. ولكن يُعتقَد أنه موجود.
لكنَّ إشعاع هوكينج له تأثير مُثير للاهتمام على تطور الثقوب السوداء؛ فهو مسئول في النهاية عن الموت النهائي الذي يُصيب الثقب الأسود. فكِّر هنا مجددًا في الجُسيمين الافتراضِيَّين. يجب أن تكون طاقة الجسيم الحقيقي الذي يهرب من الثقب الأسود مُوجبة، ولكن نظرًا لأن زوج الجُسَيمَين الافتراضِيَّين ظهر تلقائيًّا من الفراغ، فلا بدَّ أن يكون الجُسَيم الافتراضي الممتص داخل الثقب الأسود ذا طاقة سالبة لموازنة الطاقة الموجبة. ولأن الطاقة والكتلة مُترابطتان، تتمثَّل مُحصلة التأثير النهائي لهذه العملية في أنَّ الثقب الأسود تُضاف إليه كتلة سالبة، وبالتبعية ستكون كتلته قد قلَّت بسبب انبعاث إشعاع هوكينج.
لذا كان هوكينج قد اكتشف آليةً يمكن أن يتبخَّر بها الثقب الأسود. فالثقب الأسود سيبعث إشعاعاتٍ ويفقد كُتلته ببطءٍ مع مرور الوقت. وتكون هذه العملية في البداية بطيئةً إلى حدٍّ لا يُصدَّق. وقد اتضح أنَّ «الجاذبية السطحية» للثقب الأسود تكون أقلَّ كلما كان الثقب أكبر. وهذا لأنَّ قوى الجذب الناتجة عن الجاذبية، وإن كانت الجاذبية السطحية تعتمِد على الكتلة، التي تكون أكبر لدى الثقوب السوداء الكبيرة، تتبع قانون التربيع العكسي، والثقوب السوداء الأكبر كتلة تكون أكبر حجمًا. وهكذا فالنتيجة النهائية أن الثقوب السوداء الكبيرة تتَّسِم بجاذبيةٍ سطحية ضئيلة جدًّا وهذا يكافئ درجة حرارة منخفضة جدًّا. لذا فإنَّ ما يبعثه ثقب أسود كبير من إشعاعِ هوكينج يكون أقل ممَّا يبعثه ثقب أسود صغير.
ولكن بينما يتبخَّر الثقب الأسود ويفقد كتلته شيئًا فشيئًا، ترتفع كمية إشعاع هوكينج مع زيادة الجاذبية السطحية، وبالتبعية زيادة درجة الحرارة. بافتراض أن الثقب الأسود لا يتلقى أي طاقة أخرى، فإن هذا يجعل معدل فُقدان الكتلة أسرع وأسرع حتى يتلاشى الثقب الأسود، في نهاية عمره، من الوجود فجأة. أي إنَّ حياة الثقب الأسود لا تنتهي بانفجار بل إنه يتلاشى بهدوء. ولا يُمكن أن يحدث هذا التبخُّر إلَّا لدى الثقوب السوداء التي تكون درجة حرارتها أعلى من درجة حرارة الوسط المحيط بها. وفي الحقبة الحالية من التاريخ الكوني، تبلغ درجة حرارة الكون، التي قِيست استنادًا إلى شكل طيف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، ٢٫٧ درجة فوق الصفر المطلق. وبذلك فالثقوب السوداء التي تبلغ كتلتها أكثر من ١٠٠ مليون كيلوجرام لن تتبخَّر في الحقبة الحالية لأن درجات حرارتها أقل من درجة حرارة الوسط المحيط بها. غير أنَّ تلك الثقوب السوداء التي تساوي كتلتها جزءًا ضئيلًا من كتلة الشمس ستستطيع التبخُّر عندما تُصبح درجة حرارة الكون أكثر انخفاضًا بعدما يشهد مزيدًا من التمدُّد. ووصولًا إلى المرحلة الحالية من الزمن الكوني، فإنَّ كل الثقوب السوداء التي كانت كتلتها أقل من ١٪ من هذه القيمة الضئيلة ستكون قد تبخَّرت بحلول الوقت الحاضر.
مفارقة معلومات الثقب الأسود
أحد الأسئلة التي تنشأ من كل هذا هو ماذا يحدث للمعلومات المخزنة في المادة التي تسقط في الثقب الأسود؟ تعتقد إحدى المدارس الفكرية أن هذه المعلومات تضيع إلى الأبد، حتى وإن تبخر الثقب الأسود لاحقًا. فيما يدَّعي رأي آخر أنَّ هذه المعلومات لا تضيع. وتستند حُجة هذا الرأي الثاني إلى أنَّ المعلومات التي كانت كامنةً في المادة الأصلية التي سقطت في الثقب الأسود لا بدَّ أن تكون مُخزنةً بطريقة أو بأخرى في الإشعاع المنبعث من الثقب الأسود، لأنَّ الثقوب السوداء تتبخَّر. وبذلك فإذا تمكنتَ من تحليل كل إشعاع هوكينج المنبعث من ثقب أسود وفهمه تمامًا، فستتمكن من إنشاء نموذج يُحاكي تفاصيل كل المادة التي كانت قد سقطت داخل الثقب الأسود في البداية. يُذكَر أنَّ ستيفن هوكينج وكيب ثورن قد راهنا جون بريسكيل رِهانًا شهيرًا بخصوص هذه المسألة تحديدًا. إذ كان ثورن وهوكينج يتبنيان الرأي الأول، بينما كان بريسكيل يتبنى الرأي الثاني. واتفقوا على أن يكافئ الخاسرُ الفائزَ بموسوعةٍ يختارها الفائز. وفي عام ٢٠٠٤، اقتنع هوكينج بفكرة أنَّ المعلومات يُمكن أن تُشفَّر بالفعل في الإشعاع المنبعث من الثقوب السوداء اقتناعًا كافيًا ليُعلن أنه خسِر الرِّهان، وأعطى بريسكيل موسوعة عن لعبة البيسبول (مسألة ما إذا كنتَ ترى تلك الموسوعة موسوعةً من المعلومات القيِّمة تعتمِد على رأيك في لعبة البيسبول أصلًا)؛ غير أنَّ المسألة ما زالت محلَّ جدال.
فبالرغم من كل هذه التكهُّنات النظرية البارعة، يجدُر تَكرار القول إنَّ كل عمليات الرصد الفعلية لم تستطع حتى الآن رصد ولو حتى إشعاع هوكينج عادي من أي ثقبٍ أسود. ويعجُّ تاريخ الفيزياء ببقايا نظرياتٍ قديمة بارعة، ولكن تبيَّن أنها خاطئة في النهاية. فالكثير من التجارب والأرصاد الفعلية قد حقَّقَت نتائج غير مُتوقَّعة إلى حدٍّ مُدهش مِرارًا وتَكرارًا. بل وظهرت أرصادٌ لظواهر مُذهلة لم يكن أحد على الإطلاق ليتنبَّأ بها على الأرجح وفق المبادئ الأولى عن الثقوب السوداء. ويتمثَّل أحد أسباب عدم رصد إشعاع هوكينج الخافت في أنَّ العديد من الثقوب السوداء التي نعرفها تقع في مراكز بعضٍ من أكثر الأجسام سطوعًا في الكون، وهذه الثقوب السوداء ذات كتلةٍ أكبر بكثير، وبالتبعية أبرد بكثير، من أن تتبخَّر عبر إشعاع هوكينج. تجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ هذه الأجسام ساطعة سطوعًا استثنائيًّا لسببٍ مختلف تمامًا، وهو ما نستعرِضه في الفصلَين السادس والثامن.