الثقوب السوداء وتأثيراتها الثانوية
الثقوب السوداء لا تَمتص فقط
لو كانت أعيُننا تستطيع رصد ما يُوجَد في السماء عند أطوالٍ موجية تقع في النطاق الراديوي أو نطاق الأشعة السينية، لكُنَّا سنرى أنَّ بالوناتٍ ضخمة أو فصوصًا من البلازما تمتدُّ عَبر بعض المجرات. وتحتوي هذه البلازما على جزيئات مشحونة تتحرك بسرعاتٍ قريبة من سرعة الضوء، وتُصدِر إشعاعًا قويًّا له أطوال موجية مُتنوعة عَبر نطاقٍ واسع. وتنشأ فصوص البلازما التي تظهر في بعض هذه المجرات (التي تُعَد أمثلة لما يُعرَف باسم «المجرات النشطة») بفعلِ نفثاتٍ تتحرك بسرعات عالية إلى حدٍّ يجعلها قريبةً من سرعة الضوء، وتتدفَّق خارجًا من الوسط المحيط بالثقب الأسود مباشرة، خارج منطقة أفق الحدث الموجودة حوله. وقد أوضح روجر بنروز بأسلوبٍ عام كيف يمكن، من حيث المبدأ، استخراج طاقة دوران ثقب أسود من منطقة الإرجوسفير المحيطة به. وقد بيَّن روجر بلاندفورد ورومان زنايك كيف يمكن تحويل الطاقة المخزَّنة في ثقبٍ أسود دوَّار إلى مجالات كهربائية ومغناطيسية في الواقع؛ وبذلك تُتيح القدرة على إنتاج هذه النفثات النسبوية من البلازما، أي التي تقترب سُرعتها من سرعة الضوء. وكذلك تُوجَد تفسيرات أخرى للآلية التي تُطلَق النفثات بها من الثقوب السوداء القريبة. غير أنَّ معرفة التفسير الصحيح من بين هذه التفسيرات ما زالت قيد الدراسة في أبحاثٍ حالية دءوبة ومُثيرة.
وأيًّا كانت الآلية أو الآليات التي يُكشَف عنها، فإن هذه النفثات عبارة عن تدفُّقات من أشعة متوازية شديدة مقذوفة من المنطقة المحيطة بالثقب الأسود، ولكن خارج أُفق الحدث بالطبع. وفي الحقيقة، فالمناطق الواقعة بين المجرَّات ليست فضاءً فارغًا. بل تمتلئ بغازٍ مُتناثر ومُخفَّف جدًّا يُسمَّى الوسط الكائن بين المجرات. عندما تصطدم النفثات بالوسط الكائن بين المجرات، تتشكل موجات صدمية تتسارع داخلها الجسيمات تسارُعًا مذهلًا، وتتصاعد البلازما النشِطة المفعمة بالطاقة، التي نشأت في نفثةٍ بالقُرب من الثقب الأسود، إلى الأعلى وتتدفَّق خارج المنطقة المحيطة بموضع حدوث الصدمة مباشرة. ومع تمدُّد البلازما، فإنها تنقُل كمياتٍ هائلة من الطاقة إلى الوسط الكائن بين المجرات. تُوجَد أمثلة عديدة على بعضٍ من نفثات البلازما هذه تمتدُّ عبر مسافاتٍ تُساوي ملايين السنين الضوئية. وبذلك فإنَّ الثقوب السوداء لها تأثير كوني هائل يتجاوز مناطق أُفق الحدَث المحيطة بها بسنين ضوئية عديدة. وسأصِف في هذا الفصل تأثير الثقوب السوداء في الوسط المحيط بها وتفاعلاتها معه.
وهذا التسريع يجعلها تُصدر إشعاعًا من الفوتونات يُعرَف باسم الإشعاع السنكروتروني (وهو قد يكون راديويًّا، أو قد يكون مُنتميًا، في حالات نادرة تتَّسِم بطاقةٍ عالية، إلى نطاقٍ ذي أطوال موجية أقصر بكثير، وصولًا إلى الأشعة السينية).
يُعتقد أنَّ النفثات الموجودة في أشباه النجوم تستمرُّ مليار سنة أو أقل، وتستند هذه الفكرة إلى بعض تقديرات سُرعة نمو نفثات هذه الأجسام، وإلى قياسات الحجم التي نمت حتى وصلَت إليه. وبذلك فإنَّ علاقةً بسيطة بين المسافة والزمن والسرعة تُقدِّم خيطًا إرشاديًّا إلى معرفة المُدَد المحتملة لاستمرارية نشاط النفثات في أشباه النجوم المرصودة عبر الكون.
ومع تمدُّد هذه الفصوص الباعثة للإشعاع الراديوي، تضعف مجالاتها المغناطيسية كما تضعُف الطاقات «الداخلية» للإلكترونات المفردة في تلك الفصوص. ويعمل هذان التأثيران على تقليل شدَّة الإشعاع مع مرور الزمن وزيادة مسافة البُعد عن الثقب الأسود؛ ويعتمِد مقدار الانخفاض الكبير في هذه الشدة على عدد الإلكترونات ذات الطاقة العالية الموجودة مقارنةً بعدد الإلكترونات الموجودة ذات الطاقة الأقل. ومن خواصِّ الإشعاع السنكروتروني أنه كلما كانت شدة المجال المغناطيسي أضعف، وجَبَ أن تكون الإلكترونات أعلى طاقةً لتُنتِج الإشعاع عند الطول الموجي الذي يُضبَط التلسكوب الراديوي لاستقبال الإشعاع عنده. وهذا يُضاعف مقدار تضاؤل شدة الإشعاع السنكروتروني مع تمدُّد فصوص البلازما إلى الفضاء الخارجي. ولا يقتصِر تأثير تمدُّد البلازما على أنَّ الإلكترونات تفقد الطاقة، ولكن نظرًا لأنَّ قوة المجال المغناطيسي تضعُف، فإنَّ الإلكترونات ذات الطاقة المتزايدة فقط هي التي تكون مرتبطةً بما يرصده التلسكوب، وفي كثير جدًّا من الأحيان، يكون عدد ما يُوجَد من تلك الإلكترونات أقل بكثيرٍ من عدد الإلكترونات ذات الطاقة المنخفِضة على أي حال. ويمكن أن ينطفئ ضوء الفصوص الباعِثة للإشعاع الراديوي في أشباه النجوم بسرعةٍ كبيرة.
ولا يعني هذا أنَّ العرض قد انتهى، لكنَّ المشهد انتقل إلى نطاقٍ مختلف من الأطوال الموجية. وهكذا يحدُث شيء لافِت بعض الشيء؛ إذ تُضيء الفصوص بالأشعة السينية. ويحدُث هذا من خلال عملية تشتُّت تُعرَف باسم تشتت كومبتون العكسي. ففي وجود مجال مغناطيسي كبير بما يكفي، يُمكن أن تُصدِر الإلكترونات إشعاعًا سنكروترونيًّا، وبذلك تفقد طاقة. وكذلك تُوجَد آلية أخرى لفُقدان الطاقة مرتبطة بهذا الموضوع الذي نُناقِشه، وهي تحدُث من خلال تفاعُل هذه الإلكترونات مع الفوتونات التي تُشكِّل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، أي الإشعاع المتبقِّي من الانفجار العظيم، والذي يغمر الكون حاليًّا بوهجٍ بارد من الموجات الميكروية. فمن الممكن أن يتصادم مثل هذا الإلكترون مع فوتون من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بحيث تُصبح طاقة الفوتون أكبر بكثيرٍ مما كانت عليه قبل الاصطدام وتُصبح طاقة الإلكترون أقل بكثيرٍ مما كانت عليه قبل الاصطدام (تذكروا أنَّ الطاقة كمية محفوظة عمومًا). ومن الظواهر التي تحمل أهميةً خاصة أنه عندما تنخفِض طاقات الإلكترونات السريعة الحركة إلى مقدارٍ يساوي طاقة إلكترون في وضع السكون ١٠٠٠ مرة فقط (بعدما كانت في السابق أعلى من ذلك بنحو ١٠٠ أو ١٠٠٠ مرة)، تكون طاقاتها مُكافئة تمامًا للقدْر الذي يجعلها تُشتِّت فوتونات إشعاع الخلفية الكونية الميكروي وترتقي بها إلى فوتوناتٍ في نطاق الأشعة السينية. تجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ تفاعُل أحد الإلكترونات العالية الطاقة مع فوتون مُنخفِض الطاقة لإنتاج فوتون عالي الطاقة يتشابَهُ بعض الشيء مع ما يحدُث في لعبة السنوكر حين تصطدم الكرة البيضاء (تخيل أنَّ هذه إلكترون) بإحدى الكرات الحمراء، وتكتسب الكرة الحمراء قدرًا كبيرًا من الطاقة على حساب انخفاض طاقة الكرة البيضاء (من أجل أن يكون هذا المثال التوضيحي مُناسبًا، يرجى التغاضي عن حقيقة أنَّ هذه الكرة لا تتحرك بسرعة الضوء!). وفي حين أنَّ المطاف ينتهي بالكرة الحمراء (حسبما يأمُل اللاعب) داخل أحد جيوب طاولة السنوكر، فإنَّ الفوتون (الذي كان طوله الموجي الأصلي يبلُغ نحو ملِّيمتر واحد) يكتسِب قدرًا من الطاقة يساوي طاقته قبل الاصطدام نحو مليون مرة؛ ولذا يُصبح طوله الموجي أقصر مليون مرة.
يتَّسِم قمر تشاندرا الصناعي، الذي أطلقَتْه وكالة ناسا في عام ١٩٩٩، بأنه حساسٌ للأطوال الموجية الموجودة في نطاق الأشعة السينية، ويستطيع في الواقع اكتشاف أزواجٍ من فصوصٍ على شكل أثقال التمارين (الدمبل) من إشعاعاتٍ في نطاق الأشعة السينية تمامًا كما يستطيع التلسكوب الراديوي اكتشاف هذه البِنَى المزدوجة عند أطوال موجية تُقدَّر بالسنتيمترات. تَظهر بعض البِنى المزدوجة التي رُصدت عند أطوالٍ موجية في النطاق الراديوي على هيئة مخططات كنتورية في شكلَي ٢٠ و٢١، بينما تَظهر فيهما تلك البنى المزدوجة في نطاق الأشعة السينية على هيئة تدرُّج رمادي.
يُعَد ثبات محور النفثة في العديد من أشباه النجوم والمجرات الراديوية مؤشرًا على ثبات الزخم الزاوي للثقب الأسود الفائق الضخامة، فيُعتبَر هكذا بمثابة جيروسكوب. ولا يُمكن معرفة السبب الذي يجعل الموضع الزاوي لبعض محاور النفثات هذه يتغيَّر دون غيرها من المحاور الأخرى إلَّا عند اكتشاف العوامل التي تحكم الزخم الزاوي للنفثات عند نقطة الإطلاق بالقُرب من الثقب الأسود. ولم يتضِح بعدُ ما إذا كان هذا هو محور دوران الثقب الأسود نفسه، أم مُتَّجه الزخم الزاوي للجزء الداخلي من القرص التراكُمي، وما يُفاقِم هذا الغموض بالتأكيد تأثير لينز-ثيرينج أو تأثير باردين-بيترسون، اللذين ذكرتهما في الفصلَين الثالث والسابع على الترتيب، ويَلزم وجود مزيد من البيانات لتفسير السلوك المرصود تفسيرًا تامًّا. ولكن ثمة خيوط إرشادية من أجسام أصغر أقرب إلى كوكب الأرض ربما تُشير إلى أنَّ تغير الموضع الزاوي لمحاور النفثات يرتبط ارتباطًا تامًّا بالزخم الزاوي للقُرص التراكمي.
أشباه النجوم الميكروية
تُعَد أشباه النجوم التي ناقشناها حتى الآن كلها عبارة عن ثقوب سوداء فائقة الضخامة تقع في مراكز المجرات النشطة. ولكن اتضح وجود فئةٍ أخرى من الأجسام تسلك سلوكًا مُشابهًا جدًّا ولكن على نطاقٍ أصغر بكثير. ويمكن رصد هذه الثقوب السوداء ذات الكتلة الأقل عند مسافاتٍ أقرب إلى كوكب الأرض، بل وتقع داخل مجرتنا درب التبانة، ويُطلَق عليها «أشباه النجوم الميكروية». ومع أنَّ الاختلاف في الحجم هائل، فإنَّ كلًّا من أشباه النجوم الميكروية الموجودة في مجرَّتنا والموجودة خارجها عند مراكز المجرات الأخرى يُصدِر نفثاتٍ من البلازما ذات خصائص فيزيائية مُتشابهة. يُعتقد أنَّ كِلا النوعَين يستمدُّ الطاقة من سقوط المادة نحو ثُقبٍ أسود تحت تأثير الجاذبية. وفي حالة أشباه النجوم العادية، تكون كتلة الثقب الأسود مشابهةً لكتلة الشمس. أمَّا في حالة أشباه النجوم القوية الواقعة خارج المجرة، فيمكن أن تكون كتلة ثقوبها السوداء أكبر من كتلة شمسِنا بمائة مليون مرة. ويرى علماء الفيزياء الفلكية أنَّ إحدى الميزات المُهمَّة لأشباه النجوم المحلية الواقعة في مجرتنا تتمثَّل في أنها أصغر كتلة ولذا تتطوَّر بسرعةٍ أكبر بكثيرٍ على نطاقاتٍ زمنية تُقدَّر بأيام بدلًا من ملايين السنين في حالة أشباه النجوم. لكنَّ النفثات التي تتدفَّق خارجًا من على مقربةٍ من مركز النشاط كله تُطلَق من خارج أُفق الحدث، كما يحدث في حالة أشباه النجوم، ومن المرجَّح جدًّا أنها تُطلَق من أقرب حواف القرص التراكمي الداخلية إلى مركزه.
ثمة آليات مُعقدة تؤثر في هذه العمليات، ولا تُوجَد عَلاقة بسيطة بين السرعة التي تُطلَق بها النفثة وكتلة الثقب الأسود الذي ترتبط به. ففي أثناء مراقبة النفثات في شبه النجم الميكروي الذي يُحيط بثقبٍ أسود ويُسمَّى «سيجنوس إكس-٣»، تَظهر حالات وُجِد فيها أنَّ السرعات التي تتحرك بها نفثات البلازما بعيدًا عن الثقب الأسود تتباين. وقد قِيسَ ذلك بقياساتٍ فلكية مُتتالية الأزمنة تتضمَّن إجراء أرصادٍ عند أزمنةٍ متتالية، وهذه الأرصاد تُتيح تحديد مقدار سرعة اندفاع نفثة البلازما بعيدًا عن مُحيط الثقب الأسود. وقد أظهرت هذه القياسات في إحدى المرات أنَّ سرعة النفثة تساوي ٨١٪ من سرعة الضوء، في حين أنها وصلت بعد ذلك بأربع سنوات إلى ٦٧٪ من تلك السرعة. ولا يُوجَد ما يوحي بأن سرعة النفثة تتناقص فقط مع مرور الوقت؛ لأنَّ تحرُّك النفثة في شِبه النجم الميكروي هذا بسرعاتٍ سريعة وسرعات أبطأ منذ اكتشافه قد شُهد في عددٍ من المرات. ويبدو أنَّ تبايُن سرعات النفثة يُميِّز شبه نجمٍ ميكرويًّا آخر معروفًا جيدًا في مجرَّتنا، يُسمَّى «إس إس٤٣٣»، وسأصِفه بمزيدٍ من التفصيل أدناه. ويبدو أنَّ سرعة النفثة في شبه النجم الميكروي هذا تتبايَن بدرجةٍ كبيرة أيضًا، بل يمكن أن تساوي أي مقدار يتراوح بين ٢٠٪ و٣٠٪ من سرعة الضوء خلال أيام قليلة فقط.
جمال التناظُر
إطلاق النفثات
يمكن رؤية هذه النفثة بسهولة عند أطوالٍ موجية موجودة في نطاق الضوء المرئي، وأطوال موجية في نطاق الموجات الراديوية وأطوال موجية في نطاق الأشعة السينية. ويُظَن أن المادة المتساقِطة تتراكَم بمعدلٍ كُتَلي يتراوح بين كُتلتَين شمسيتَين وثلاث كتل شمسية سنويًّا، على النواة الموجودة عند المركز بالضبط حيث يُوجَد قرصٌ تراكُمي من النوع المذكور في الفصل السادس يؤثر في تلك العملية حسبما يُعتقَد. وتُعَد السرعة التي تتحرك بها هذه النفثة بعيدًا عن نقطة انطلاقها، التي تُوجَد على الأرجح في أقرب منطقةٍ من مركز القرص التراكمي، قريبة جدًّا من سرعة الضوء، ولذا توصَف بأنها نفثة نسبوية. وقد كُشِف عن سرعات النفثات القريبة من سرعة الضوء من خلال المراقبة المتتالية باستخدام أداة مصفوفة الخطِّ الأساسي الطويلة جدًّا التي قدَّمتُها في الفصل السابع، وتلسكوب هابل الفضائي والأقمار الصناعية التابعة لمرصد تشاندرا للأشعة السينية؛ إذ يُوجَد كلٌّ من ذلك التلسكوب وهذا المرصد فوق الغِلاف الجوي للأرض، ولذا يبلغان حساسية أعلى مما كانا سيبلغانها لو كانا على سطح الأرض. وعلى بعد ٥٠ مليون سنة ضوئية من الأرض، فإنَّ الجسم الذي يتحرك بسرعة الضوء سيكون متحركًا عبر السماء بمعدل أربعة ملِّي ثوانٍ قوسية في السنة. وعندما يوضع في الحسبان أنَّ الثانية القوسية تكافئ ١ / ٣٦٠٠ من الدرجة، فإنَّ جزءًا من أربعة آلاف منها قد تبدو زاوية بالِغة الصغر يستحيل قياسها، لكنَّ مثل هذه المسافات الدقيقة الفاصلة قابلة للاستبانة بسهولة باستخدام أداة مثل مصفوفة الخط الأساسي الطويلة جدًّا. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ مصفوفة الخط الأساسي الطويلة جدًّا قد تمكنت بالفعل من تصوير قاعدة هذه النفثة حتى مسافةٍ تقع في نطاقٍ يبلُغ أقل من نصف قطر شفارتزشيلد ٣٠ مرة من ثُقبها الأسود الفائق الضخامة.
صحيح أنَّ الآليات التي تُسيِّر إطلاق النفثات النسبوية من المنطقة المحيطة بالثقب الأسود ما زالت أقربَ بكثيرٍ إلى أن تكون مجرد تخميناتٍ من أن تكون حقيقةً مقبولة بما لا يدع مجالًا للشك المنطقي. ولكن يبدو أنَّ عدة مسارات بحثية مُستقلة، تنتهجها فرق مستقلة تمامًا تستقر في بلدان مختلفة في أنحاء العالم، تُشير ضمنيًّا إلى أنَّ أغلب الأدلة تُرجح أنَّ التفاصيل الأساسية الناشئة صحيحة. ولكن بعيدًا عن الصورة العامة، فالآليات وكيفية عملها المفصلة قائمة على التخمينات، لكنها تُختَبر بصبرٍ وسط عدم كفاية الفوتونات وتأثيرات التحيُّز الانتقائي. لا تنتمي الإثباتات إلى العلم لكنَّ الأدلة تنتمي إليه بدرجةٍ كبيرة. وما يعوقنا مسألة أنه حتى التقنيات الأكثر تقدُّمًا بين تقنيات التصوير المستخدَمة حاليًّا لا تستطيع تمييز أصغر المناطق التي يُطلق عندها معظم الطاقة، وتوضيحها باستبانةٍ كافية، ولكن هذه هي الحالة الذي يمكن فيها أن تتجاوز المحاكاة العددية على الحواسيب القوية قيود التكنولوجيا الحالية. وفي الواقع، تُنشَر للتو نتائج من عملياتٍ لمُحاكاة إطلاق النفثات من الأقراص التراكمية تُفسِّر تأثيرات النسبية العامة تفسيرًا تامًّا. وتسمح عمليات المحاكاة هذه، مع عناصر إدخال ومُسلَّمات معروفة، بتطوُّر النفثات والأقراص إلى نطاقات مُعنية من الأحجام يمكن عندها مُقارنة خصائصها بالخصائص الواردة في أحدث عمليات الرصد.
فما الذي نعرفه الآن عن كُتَل الثقوب السوداء في الكون إذَن؟ يبدو أنها تندرِج تحت فئتَين رئيسيتين. أولاهما تضم تلك التي لها كُتَل مُقاربة لكتل النجوم. وتساوي كتلة هذه الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية مقدارًا يتراوح بين ثلاث كتل شمسية وثلاثين كتلة شمسية، وهي تتولَّد من نجوم أُحرِقَ كل وقودها.
ثم تأتي فئة الثقوب السوداء الفائقة الضخامة التي تصِل كتلتُها إلى نحو ١٠ مليارات كتلة شمسية. وكما ذُكِر، تُوجَد هذه النوعية في مراكز المجرات، بما فيها مجرَّتنا، وتُسبِّب الظواهر غير العادية في المجرات النشطة وأشباه النجوم.
تحدَّثنا عن سقوط الأشياء في ثقب أسود، ولكن ماذا يحدُث عند سقوط ثقبٍ أسود في ثقب أسود؟ هذا ليس سؤالًا مجردًا، لأنه من المعروف أنَّ الكون يُمكن أن يشهد وجود أنظمة ثنائية من ثُقبين أسودين. ويُوجَد في مثل هذه الأنظمة ثقبان أسودان يدور كلٌّ منهما في مدارٍ حول الآخر. ويُعتقَد، بسبب انبعاث الإشعاع القائم على موجات الجاذبية، أنَّ كِلا الثقبَين الأسودَين في تلك الأنظمة الثنائية سيبدأ في فُقدان الطاقة والدوران في مدار حلزوني نحو الداخل إلى أن يسقُط داخل الثقب الأسود الآخر. وفي المراحل الأخيرة من هذا الدوران في مسار حلزوني، تُدفَع النسبية العامة إلى نقطة الانهيار، ويندمج الثقبان فجأةً ليُكوِّنا ثقبًا أسود واحدًا ذا أفُق حدثٍ مُشترك. وتُعَد كمية الطاقة التي تُطلَق في اندماج ثقبَين أسودَين فائقَي الضخامة في نظامٍ ثنائي مُذهلة، ومن المحتمَل أن تكون أكبر من طاقة كل الضوء في كل النجوم في الكون المرئي. يتحوَّل معظم هذه الطاقة إلى موجاتِ جاذبية، أي تموُّجات في انحناء نسيج الزمكان، تنتقِل عبر الكون بسرعة الضوء. وجارٍ البحث عن أدلة على هذه الموجات. الفكرة أنَّه عندما تمر إحدى موجات الجاذبية بجسمٍ مادي، كقضيبٍ طويل مثلًا، يزيد طوله وينقُص بدرجةٍ طفيفة بينما تتدفَّق عبره التموُّجات في انحناء نسيج الزمكان. وإذا أمكن قياس هذه التغيُّرات البالِغة الصغَر في الطول، باستخدام تقنيةٍ كقياس التداخُل بالليزر، تُتاح بذلك طريقة لاكتشاف موجات جاذبية متولِّدة في مكانٍ آخر من الكون. وتتَّسِم كلٌّ من الأجهزةِ الأرضية والفضائية المستخدَمة في الكشف عن موجات الجاذبية — وهي أجهزةٌ أُنشِئت أمثلة لها بالفعل ويُعتزَم إنشاء المزيد منها — بالقدرة على التقاط إشاراتٍ من اندماجات الثقوب السوداء. وفي الواقع، فإن اكتشاف موجات الجاذبية صعبٌ جدًّا إلى حدٍّ يُحتِّم وجود مصدرٍ قوي جدًّا كي تسنح أي فرصة لنجاح مثل هذه التجارب، ويُعَد اندماج الثقوب السوداء من أبرز المصادر المُرشَّحة ليكون واحدًا من هذه المصادر القوية. وحتى وقت تأليف هذا الكتاب، لم يُكتشَف أيٌّ من موجات الجاذبية اكتشافًا مباشرًا بعد، لكنَّ التجارب مستمرة.
صَمَدت صحة أفضل نظرياتنا عن الجاذبية، المُستمَدة من نظرية النسبية العامة التي وضعها أينشتاين، أمام اختباراتٍ لا حصر لها منذ اكتشافها في عام ١٩١٥. فقد اتضح أنها تتَّفِق مع التجارب اتفاقًا أفضل بكثيرٍ من نظرية نيوتن التي حلَّت محلها. ولكن إذا كان سيُمكن على الإطلاق أن تُختبَر نظرية النسبية العامة حتى أقصى حدود صمودها، فلكُم أن تتوقَّعوا بكل ثقةٍ أنَّ الثقوب السوداء ستُثبت أنها أصعب اختبارٍ لصحة هذه النظرية التي تُعَدُّ من أركان الفيزياء الحديثة. فالحالات التي تكون فيها الجاذبية عند أشدِّ مستوياتها في أصغر حيِّزٍ في الفضاء، بحيث يُفترَض أن تكون التأثيرات الكمية مُهمة، هي بالضبط الحالات التي قد تنهار فيها النسبية العامة. ولكن ربما تنهار النسبية العامة على نطاقاتٍ كبيرة في الكون أيضًا. فمن الموضوعات التي يَكثُر النقاش بشأنها بالطبع مسألة كمال النسبية العامة لشرح التوسُّع المتسارِع للكون على أكبر النطاقات. إذ تدور نقاشاتٌ حول انحرافاتٍ مُحتملة عن النسبية العامة فيما يتعلق بالتوسُّع المتسارع والطاقة المظلمة. وإذا كُشِف عن موجات الجاذبية من اندماجات الثقوب السوداء، أو إذا عمَّقت عمليات الرصد فَهمَنا للظواهر والعمليات الفيزيائية الأساسية التي تحدث في المنطقة المحيطة بهذه الأجسام الرائعة، فستكون هناك فرصة جيدة لأن نتمكَّن من معرفة إلى أيِّ مدًى تظل نظرية أينشتاين صحيحة، أو ما إذا كان يلزم الاستغناء عنها واللجوء إلى نظريةٍ جديدة بديلة.
لماذا ندرس الثقوب السوداء؟
تستند دراسة الثقوب السوداء إلى عدة أسباب: أحدُها أنها تُتيح استكشاف فضاءٍ من المقاييس الفيزيائية المُحدِّدة سيكون الوصول إليه بطريقةٍ أخرى مُستحيلًا حتى وإن سُخِّرت لذلك ميزانيات اتحاد دولي. إذ تُمثل أنظمة الثقوب السوداء أشدَّ البيئات التي يُمكننا استكشافها تطرُّفًا، وبذلك فنحن نستكشِف أشد الظواهر المتطرفة في الفيزياء. وتجمع تلك الثقوب السوداء بين النسبية العامة والفيزياء الكمِّية اللتَين لم يتحقَّق توحيدهما معًا بعد، وما زال بمثابة حدٍّ مُقيِّدٍ في الفيزياء لا يُمكن تجاوزه. وثاني الأسباب أنَّ محاولة فهم ظواهر الثقوب السوداء تُثير انبهارًا لدى العلماء والكثير من الأشخاص العادِيِّين المتأمِّلين، وتُتيح طريقة يُمكن بها تحفيز الكثيرين بالعلم وحثِّهم على معرفة عظمة الكون الهائلة من حولنا. ويتمثَّل سبب ثالث، وربما يكون مفاجئًا، في التأثيرات الفرعية التي تلحق بكوكب الأرض. فكيف يُمكن أن تُغيِّر الأبحاث التي تدرس الثقوب السوداء حياتنا يا تُرى؟ الإجابة أنها غيَّرَتها بالفعل. فبينما أكتب هذه الجمل الأخيرة من هذا الكتاب الصغير على حاسوبي المحمول، يُنشئ في نفس الوقت نسخةً احتياطية من عملي على خادم الجامعة الخاص بي عبر بروتوكول ٨٠٢١١ الخاص بالاتصال اللاسلكي بالإنترنت. وهذه التكنولوجيا المعقَّدة الذكية انبثقت مباشرةً من بحثٍ عن أثرٍ مُعيَّن، عند أطوالٍ موجية راديوية، لثقوب سوداء متفجرة، وكان هذا البحث قد أجري بقيادة رون إيكرز لاختبار نموذجٍ اقترحه مارتن ريس (الذي صار الآن عضوًا في مجلس اللوردات وصاحب منصب الفلكي الملكي). وقد أدرك بعض المهندِسين العباقرة المتخصِّصين في الأنظمة الراديوية في أستراليا، بقيادة جون أوسوليفان، في أثناء ابتكار خوارزميات لكبح التداخُل سعيًا إلى إنجاز المهمة الصعبة المتمثِّلة في اكتشاف الإشارات الدقيقة من الفضاء البعيد، أنَّ تلك الخوارزميات يمكن تطبيقُها على تحويل الاتصالات هنا على كوكب الأرض. وهكذا فإنَّ الثقوب السوداء لدَيها القدرة على إعادة صياغة الفيزياء وتنشيط خيالنا بل وإحداث طفراتٍ ثورية في تقنياتنا. أي إنَّ الثقوب السوداء لها تأثيرات فرعية كثيرة — تتجاوز مناطق أفق الحدث المحيطة بها بمسافة بعيدة.