أولًا: أنواع التأليف
يمثِّل التأليف مرحلةً أعلى من العرض؛ فهو أكمل قسمةً من حيث البنية العقلية، وأعمق تحليلًا من حيث الغوص في المعاني، وأكثر برهنةً وأدلة من حيث طُرُق الاستدلال، وتوجيه المادة نحوَ نظريةٍ أعم تخرج من نطاق الخصوصية اليونانية ثم تطبيقها على المادة العربية وانطلاقًا منها كخاصٍّ آخر أشبه بالعام، أكثر قدرة على احتواء الخاص الأول.
- (١)
تمثُّل الوافد، عندما يعتمد النص على الوافد وحده من أجل تمثُّله بعد ترجمته والتعليق عليه وشرحه وتلخيصه وجمعه وعرضه، وحتى يتحوَّل إلى ثقافةٍ داخلية ولا يبقى وافدًا خارجيًّا.
- (٢)
تمثُّل الوافد قبل تنظير الموروث، عندما يعتمد النص أولًا على المصدر الخارجي ثم يبدأ الموروث في الظهور مُتفاعلًا مع الوافد على استحياء.
- (٣)
تمثُّل الوافد مع تنظير الموروث، عندما يتعادل المصدران الداخلي والخارجي كمًّا ويتفاعلان كيفًا استعدادًا لخلق نص جديد يتجاوز الوافد والموروث. وهو ليس تعادلًا حسابيًّا، بل رياضيٌّ تقريبي، وحرف العطف «الواو» أو «مع» يُفيدان نفس المعنى. ويظهر التراكم بتغير المعادلة والتحول من أولوية الوافد إلى أولوية الموروث.
- (٤)
تنظير الموروث قبل تمثُّل الوافد، عندما يبدأ التحول بأولوية المصدر الداخلي على المصدر الخارجي بعد أن تم تمثُّل الوافد على نحو شِبه كلي، وسيادة الموروث عليه بعد أن بدأ التراكم الفلسفي في الظهور وبداية الوعي التاريخي الفلسفي.
- (٥)
تنظير الموروث عندما يختفي الوافد كليةً ويتحوَّل النص إلى تنظير للمصدر الداخلي، ويشتد التراكم الفلسفي الداخلي، ويفكر الوعي التاريخي على نفسه ومساره مُنتقلًا من التاريخ إلى البنية.
- (٦)
الإبداع الخالص عندما يختفي الوافد والموروث كليةً، ويعتمد النص على ذاته على بنية الموضوع المتَّحدة مع بنية العقل؛ فلم يعُد الإبداع في حاجة إلى نقلٍ خارجي أو داخلي.
ولا يوجد حد فاصل بين هذه الأنواع الستة، إنما هي أنواعٌ متصلة. نسبة الوافد إلى الموروث هي التي تميِّز بينها في مسار التحول من النقل إلى الإبداع.
ويمكن تحليل كل نص على حِدة لبيان مكوِّناته، الوافد والموروث وآليات الإبداع أسوةً بالعرض، وهو ما يُبقي على النص وحدته كعملٍ فلسفي فني، عيبه التكرار خاصةً في آليات الإبداع؛ لذلك ربما كان من الأفضل ضمُّ الوافد كله معًا في مجموعة النصوص التي تمثِّل الوافد لمعرفة وضع أرسطو أو أفلاطون أو سقراط في هذا النوع الأدبي وليس نصًّا نصًّا. وقد يفرض الواقع الطريقتين معًا؛ فعرض الوافد يكون نصًّا نصًّا.
وبالرغم من أن نصوص تمثُّل الوافد نوعٌ أدبي واحد، إلا أنها تمثِّل تتاليًا في الزمان وتتابعًا في التاريخ، ابتداءً من مؤلَّفات المُترجمين حتى ابن رشد وابن النفيس؛ فالبنية لا تضحِّي بالتاريخ، والتاريخ لا يضحِّي بالبنية. لقد استمرَّ تمثُّل الوافد من البداية إلى النهاية، ولم يتوقف منذ المُترجمين الأوائل في القرن الثالث حتى ابن النفيس في القرن السابع، مع أن المنطق والتاريخ يقتضيان أن تمثُّل الوافد ما هو إلا خطوةٌ مبدئية ومرحلة أولى تنتهي إلى الإبداع الخالص. والواقع أن تمثُّل الوافد هو مصدر دائم يصب في الوعي التاريخي، هو البداية الضرورية لكل إبداع لاحق؛ فلا إبداع بلا نقل، ولا استمرار في الإبداع دون الاستمرار في النقل.
ولا يعني تمثُّل الوافد مجرد القبول، بل يعني أيضًا الرفض والنقد والمراجعة؛ فهو تمثلٌ فعَّال جدلي، بداية التفاعل بين الآخر والأنا؛ فالأنا لها وجود ثقافي، وإن لم يتخارج بعدُ في مواجهة آخر له حضورٌ ثقافي فعلي.
وبالرغم من أن طريقة عرض تمثُّل الوافد عن طريق أسماء الحكماء ليست بالطريقة المثلى لأنها تشخيص للفكر، إلا أنه لا يوجد أفضل منها في رؤية التتابع التاريخي داخل البنية المتصلة. ولا يعني اسم العَلم شخصه، بل تأليفه أو نصوصه. وقد حُذف حتى لا يتكرَّر أمام كل عَلم. ولما كانت الأعلام تعرض ثقافة ولا تضعها، فإن الحضارة هي المقصود من وراء توالي الأعلام.
وبالرغم من أن العادة هي عدم ذِكر النصوص إلا ما ندر منها في الهامش تفاديًا لعيوب «من العقيدة إلى الثورة»، وأكثر نصوصه العارضة والدالة على موقف، إلا أن بعض النصوص الدالة في التأليف قد تم ذِكرها في الهامش لإبراز الموقف والإقلال من شأن هوامش الأرقام الصورية الصامتة.
ولا يعتمد تمثُّل الوافد على إسقاط الموروث كليةً؛ فالموروث هو الوعاء الشعوري أو اللاشعوري الذي يتم فيه صبُّ الوافد كما هو الحال في رسالة الفارابي «معاني العقل»، أربعة من أرسطو، وواحد من المتكلمين، وواحد في الثقافة الشعبية. وفي كل الأنواع الأدبية يظل الموروث حاضرًا بطريقةٍ مباشرة، مِثل المراحل من الثانية حتى الخامسة، أو بطريقةٍ غير مباشرة، مِثل النوع الأول «تمثل الوافد»، والنوع السادس «الإبداع الخالص».