(١) الرازي
ويبدو أن التأليف في مراحله الأولى كان في الطب؛ نظرًا للحاجة إليه في مُداواة
الجنود في الفتوحات الأولى، وبطبيعة الحال يأتي الرازي (٣١٣ﻫ) في مقدمة الأطبَّاء
الأوائل بكتابَيه «المنصوري» و«الحاوي».
(أ) في «المنصوري» الطب علمٌ نظري وعملي، صناعة تدبير الجسد وسياسته، ويحتاج
العقل إلى التدريب في الصناعات التي يحتاج إليها الإنسان، هو علمٌ غامض يحتاج إلى
فهم، وهو قسمان؛ تدبير الجسم الصحيح في حالة الصحة مثل الطب الوقائي، وتدبير الجسم
السقيم في حالة المرض وهو الطب العلاجي. يجمع بين التحليل النظري ودراسة الحالات.
١ يغلب عليه الاختصار والإيجاز بالرغم من اتساعه على عشر مقالات. واضح
الوصف والأسلوب بالرغم من أعجميته؛ فهو ليس كتابًا في الأدب. علمي خالص. دلالته على
الفلسفة الطبيعية ليست كبيرة. المقالة الأولى في المدخل في الطب، وفي شكل الأعضاء
وهيئتها، تحتوي على فلسفة الطب؛ أي معرفة الأشياء الطبيعية، مثل الأسطقسات
والمزاجات والأعضاء والقوى والأرواح والأفعال، ثم معرفة العلل، ثم معرفة الدلائل.
٢ ويحيل بعض الكتاب إلى بعض، وتذكير اللاحق بالسابق، مثل تفسير الكتاب بالكتاب.
٣
يغلب عليه الوافد في العمق (أربعة أعلام)، ويأتي في المقدمة جالينوس ثم أبقراط ثم
أرماسوس ومادريوس.
٤ وقد ذكر الوافد كليةً في فقرةٍ واحدة عن مصادر الطب اعترافًا بجهد
القدماء، ورصد الخلافات بينهما، مثل خلاف مادريوس في القول بالأسطقسات. ولا غرابة
أن يستعمل فعل «زعم» لجالينوس عندما زعم جالينوس أنه لم يرَ أحدًا ممن يشفي هذا
الدواء، وتُروى تجارب عن جالينوس، وليس فقط أقواله التي تؤكد ما انتهى إليه الرازي بنفسه.
٥ وهي أعلامٌ قليلة نسبيًّا، وكأن الإبداع في بداية الحضارة كان أكثر من
النقل في النهاية، كما هو الحال عند ابن البيطار، ولكن يغلب عليه الموروث في
الاتساع على مستوًى واحد، (خمسة أعلام) بولس، وأهرون، وحنين بن إسحاق، ويحيى
بن ماسويه، والخمار.
٦ ولا فرق بين وافد وموروث في تاريخ الطب. وربما صمت الرازي عن باقي
المصادر كما صمت ابن سينا. وقد يكون الإبداع مُبكرًا بعد تمثل الوافد، وقد يكون
النقل هو السائد بعد أن يحدث التراكم الداخلي الكافي؛ فالإبداع على درجاتٍ من
تمثُّل الوافد إلى تمثل الوافد وتنظير الموروث، على اختلاف النِّسب بينهما، حتى
الإبداع الخالص. ويُحيل الرازي إلى بعض العلماء، قدماء الأطباء، الحكماء، بعض
القدماء. ويُحال إلى اليونانيين؛ مما يدل على التمايز بين الأنا والآخر.
٧
ويظهر الوافد، الهند والصين، في أسماء بعض الأدوية على طول تاريخ الطب العربي
الإسلامي، مثل الساذج الهندي، والدار صيني، والصمغ العربي؛
٨ فالطب مرتبط بالبيئة الجغرافية وأحوال البُلدان؛ نظرًا لأثر الحرارة في
الأجسام، تجعيد الشعر عند الحبشاء، وأُدمة العرب، وارتباط الأخلاق بألوان العيون،
ودلائل الشعر والحاجب والأنف الجهة والفم والشفة والأسنان، وكأنها بدايات علم الفِراسة،
٩ بل ويتعرض لبعض المؤسسات الاجتماعية، مثل تسرِّي المماليك،
١٠
بل يتحدث الرازي عن الأوضاع الاجتماعية لمهنة الطب في «محنة الطبيب»؛
١١ فالطبيب يجمع بين القراءة والمشاهدة، بين الاطلاع والنظر؛ أي إنه يجمع
بين المنقول والمعقول باصطلاح الموروث، غايته الآخرة وليست الدنيا، على عكس ما هو
شائع عن الرازي وابن رشد من المادية وإنكار النفس المستقلة عن البدن. كما أنه
يُحاول أن يحوِّل علم الطب إلى ثقافةٍ شعبية عامة بأسلوب الجوامع والنكت حتى يمكن
المساهمة في الوعي الطبي؛
١٢ لذلك وضع أسلوبًا أدبيًّا يُخاطب به العامة والخاصة، أقرب إلى السهل
المُمتنع. وفي نفس الوقت ينقد الممارسات الجاهلة في عصره، ولو أنه خارج موضوع
الكتاب وأدخل في النقد الاجتماعي.
١٣
بل ويبدو الموروث داخل العلم نفسه عندما يوصف البدن كخلق الله عز وجل؛ فقد جعل
العظام عماد البدن ودعامته، وركَّب في جثة الإنسان أجسامًا ما مُتحللة غير دائمة
البقاء والثبات؛ حتى لا يبقى الشخص الواحد دائمًا، كما هيَّأ آلات التناسل لبقاء
النوع بحاله، وخلق الثدي ليحوِّل الدم إلى لبن.
١٤ وكما يبدأ الكتاب بالبسملات ينتهي بالحمدلات، والدعوة بالتوفيق،
والتوكل على الله وعلى مشيئته وإذنه.
١٥
ويتعادل الوافد مع الموروث عددًا، ولكنه يفوقه عمقًا.
١٦ ويأتي في الصدارة جالينوس ثم أبقراط ثم ديسقوريدس ثم روفس ثم بولس
وزنبور الحكمة.
١٧ وتتعدد الأفعال بين أفعال القول والذكر والظن، بالإضافة إلى فعل «زعم»
الذي يعني النقد والتمايز عن المنقول؛ فتمثُّل الوافد ليس مجرد تحصيل، بل مراجعة.
ويذكر لجالينوس بعض مؤلفاته، مثل العشر مقالات، نصائح الرهبان؛ ولأبقراط كتاب
«الفصول»، ويُعطي أبقراط لفظ الحكيم. كما تُذكَر بعض الألفاظ المصرية اليونانية بعد
اسمها العربي ربطًا للوافد بالموروث.
١٨ ومن الوافد الشرقي يذكر التمر هندي والصمغ العربي، ويذكر العمل بالسابق
تأكيدًا على وحدته.
١٩
وفي الموروث يتصدَّر ابن ماسويه ثم إسحاق ابن عمران ثم الكندي وبختيشوع بن جبريل
وقسطا بن لوقا وأبو بكر عم المؤلف،
٢٠ ويذكر معظمهم في سياق تأليف الأدوية أو إصلاحها أو كمصادر للروايات الطبية.
٢١
(ب) و«الحاوي» في الطب للرازي من نفس النوع، تمثُّل الوافد قبل تنظير الموروث.
٢٢ ومن الوافد يأتي جالينوس في المقدمة، في وسط الفقرة وفي بدايتها،
بالاسم الكامل أو بالحرف. وقد يذكر رواية عن آخرين مثل قسطا، وتُذكَر مؤلفاته دون
اسمه، مثل حيلة البرء؛ نظرًا لشهرتها دون الحاجة إلى نسبة. ويذكر أبقراط وأفلاطون
من خلاله نظرًا لمقارنته بينهما. وبعض المؤلفات تُنسَب إلى جالينوس نظرًا للشك في
صحتها. وبعد جالينوس يأتي ديسقوريدس، والغالب عليها ذكر الأمراض والأدوية، ثم روفس،
ثم أبقراط، ثم عشرات الأطباء تباعًا، الأكثر تردادًا فالأقل. ويتضح تواري أرسطو
كليةً أمام أطباء اليونان.
٢٣
أما الموروث فإنه يغلب عليه الأطباء النصارى، حلقة الوصل بين الوافد والموروث.
ولما كانوا من النصارى العرب كانوا أقرب إلى الموروث منهم إلى الوافد. والأقلية
منهم من اليهود. ويأتي في المقدمة ابن ماسويه، ثم أهرن القس،
٢٤ ثم اليهودي دون اسم بل تكفي الملة، ثم حنين بن إسحاق، ثم علي بن ربن
الطبري، ثم الكندي طبيبًا، ثم ثياذوق وشمعون، ثم مسيح الدمشقي، ثم بختيشوع، ثم
ماسرجويه وجرجس، ولا يغيب الموروث الشرقي الفارسي والهندي خاصةً في أسماء الأدوية.
٢٥ وكان الرازي على وعي بالفرق بين الطب الجديد والطب القديم، وكثير
الإشارة إلى الطب القديم. وبالرغم من حداثة الرازي إلا أن التراكم التاريخي لديه
واضح، ليس فقط نصارى اليونان، بل أطباء المسلمين مثل الكندي إعلانًا عن مصادره.
وتتفاوت أجزاء الحاوي بين النقل والإبداع؛ إذ يقلُّ الإبداع في البداية ويزداد
النقل، في حين يزداد الإبداع في النهاية ويقل النقل. وكالعادة يبدأ كل جزء
بالبسملة، وينتهي بالحمدلة والصلاة على الرسول، دون ذكر لآيات القرآن أو أحاديث
النبي. كما تظهر العبارات الدينية التقليدية، مثل المشيئة الإلهية والتوفيق
الإلهي.
(ﺟ) ويدل كتاب «الشكوك للرازي على كلام فاضل الأطباء جالينوس في الكتب التي نُسبت
إليه» للرازي أيضًا على قدرة الموروث على نقد الوافد وتجاوزه، بالرغم من الاعتراف
بفضله. ويذكِّر ذلك بكتاب ابن الهيثم «الشكوك على بطليموس»، وهو دفاع عن جالينوس،
وتبديد الشكوك حوله اعتمادًا على نصوصه، والتأليف بينها، ورفع التناقض منها، بالرغم
من استجهال الناس للرازي ولومه وتعنيفه، واتهامه بأنه يستعذب مناقضة رجل بقامة
جالينوس، وهو اتهامٌ غير صحيح؛ فالرازي يقدر جالينوس وأستاذيته له ومنفعته
بمؤلفاته، ومع ذلك فإيثار الحق أولى من التبعية للأساتذة وتقليدهم، وهو ما فعله
جالينوس نفسه في كتاب «منافع الأعضاء» عندما وبَّخ من يقبل منه بغير برهان. ولو كان
جالينوس حيًّا لما لام الرازي على الإفصاح عن هذه الشكوك، بل لحمده وشكره؛ لذلك قال
أرسطو: «أحب أفلاطون، ولكن حبي للحق أعظم.» ولا يعني ذلك أن المتأخرين أفضل من
المتقدمين، بل يعني أن المتقدمين معرَّضون للسهو والغفلة الموكلة بالبشر، وغلبة
الهوى على الرأي، وأن الصناعات تزداد وتقترب من الكمال على الأيام. وقد ناقض
ثاوفرسطس أرسطوطاليس في أوضح أجزاء الفلسفة بعد الهندسة الذي هو المنطق. وبيَّن
ثامسطيوس غلطه في كثير من المواضع، ويتعجَّب من ذهاب ذلك على الحكيم. وقدر جالينوس
نفسه على القدماء والأجلَّة من أهل زمانه وصبره عليهم، وأطال الكلام فيهم. ولم ينجُ
من نقده أحدٌ من الفلاسفة أو الأطباء، وكلامه عليهم حق. ولا يسلم من النقد إلا كتب
الله المنزَّلة التي لا يجوز مراعاتها ما دام المُخبِر بها حقًّا لم يقصِّر في بيانه.
٢٦
لذلك تكثر أفعال القول «قال»، ومعه «أقول»، تحولًا من النقل إلى الإبداع،
وتجاوزًا للمنقول إلى المعقول. ويتخيَّل الرازي الاعتراض سلفًا ويرد عليه في صيغةٍ
شرطية «فإن قيل»، أو «إن قال قائل»، ثم جواب الشرط «قيل». ومع فعل القول تأتي باقي
أفعال الشعور المعرفي، مثل «أتى»، «أخذ»، «نظر»، «بان»، «ظن» … إلخ.
٢٧ وأحيانًا تظهر أفعال القول كأسماء، مثل «قوله»؛ أي التعامل مع
الموضوعات وليس مع الأقوال. كما يظهر القصد والغاية عاملًا مُوجهًا لمسار الفكر
كله.
ويتصدَّر الوافد الموروث. من الوافد يأتي أولًا جالينوس، ثم أرسطوطاليس، ثم
أبقراط وأفلاطون، ثم أبنادقليس، ثم أرسطراطس، وثاوفرسطس، وخروسيبوس، ثم أبرخس،
وأسقليباوس، وثاليس، وثامسطيوس، وديسقوريدس، وديوقلس.
٢٨
ومن أسماء الفِرق اليونانية يظهر الأطباء والطبيعيون، ثم الحكماء، ثم الفلاسفة
والقدماء واليونانيون والمهندسون أصحاب التعاليم، وأصحاب العلم الإلهي، وأصحاب
المظلة، وأهل النظر، والجدليون والخطباء، والروم والمتفلسفون ومحبو الحكمة.
٢٩ وتتم المقارنة بين اللغة اليونانية واللغة العربية؛ إذ يعيب الرازي على
جالينوس قوله إن لغة اليونانيين أعذب اللغات وأطلقها على عكس سائر لغات الأمم التي
هي أشبه بصياح الخنازير أو نعيق الضفادع، وهو نفس إحساس العرب بلغتهم؛ إذ يستثقلون
لغة الروم. ومن الوافد الشرقي يتصدر البراهمة والهند وملوك الهند.
٣٠
ويُحيل الرازي إلى أربعين عملًا من أعمال جالينوس؛ مما يدل على أنه على علم بفكره
كله من خلال أعماله كلها، ويحلِّل الموضوعات عرضًا خلال أكثر من عمل، وليس فقط
طولًا من خلال عرض الأعمال.
٣١
ومن الموروث يتصدر حنين بن إسحاق، ثم الرازي، ثم أبو جعفر محمد بن موسى فيلسوف
العرب، وأحمد بن الطيب السرخسي، وشخصان غير معينين، مثل رجل وجيه بمدينة السلام،
ورجل أنا معلمه ومرشده.
٣٢ ومن أسماء الفِرق العربُ، متفلسفو الإسلام، المعزمون، اليهود. ومن
أسماء المدن والأقاليم بغداد، العراق، الجبل، الري.
٣٣
ومن أسماء الكتب الجامع الكبير أو الجامع، وهو الحاوي. كما يُحيل إلى سبعة عشر
عملًا له؛ مما يدل على وحدة الفكر.
٣٤
وكما يبدأ الكتاب بالبسملة، وينتهي بالحمدلة لواهب العقل وولي العدل والحكمة
والفضل، حمدًا بلا نهاية كما هو أهل ومستحق. تتخلل الفقراتِ التعبيراتُ الإيمانية،
مثل: يشهد الله، إن شاء الله، أسأل الله الهداية والكفاية منه، ومسألتي على الله،
يعلم الله.
٣٥
(٢) ابن الجزار٣٦
(أ) لم يكن الهدف في التأليف في الطب فقط التحليل النظري أو مداواة الجند في
الفتوحات، بل أيضًا مداواة المرضى في السِّلم، خاصةً وقت السفر، والعرب رحَّالة،
والطُّرق طويلة في بيئاتٍ صحراوية، حارة أو باردة.
(أ) مثال ذلك «زاد المسافر وقوت الحاضر» لابن الجزار من أطباء القرن الرابع،
٣٧ وهو من مدرسة قيروان الطبية؛ مما يدل على وحدة الثقافة وتعدد المدارس
والاتجاهات. وأهم ما يميِّزها تطبيق القوانين الطبية على البيئات الخاصة، كما هو
الحال في فقه النوازل، والفقه المالكي السائد في المغرب العربي. كما يغلب عليه
التطبيق العملي أكثر من التحليل النظري، والفصل بين الطب والصيدلة، بين عمل الطبيب
في العيادة وعمل الصيدلاني. ومع ذلك تمَّت صياغة الكتاب على المنهاج الطبي والقانون
الصناعي، ويقوم على أربع خطوات: العلة، وحدُّها، والبرهان، والعلاج. فأتى مختصرًا
واضحًا ومفسرًا. وبالرغم من أن الغاية هو التشبه بأفاضل الفلاسفة، إلا أن التجربة
مصدر للمعرفة الطبية؛ فالتجربة جزء من الحكمة؛ لذلك يقول ابن الجزار: وقد جرَّبناه،
وقد جرَّبته أنا وحمدته، وقد عملته وجرَّبته، وهو دواء نافع ألَّفته وجرَّبته
فوجدته نافعًا.
٣٨ ويعني تأليف الدواء تركيبه؛ فالطب صنعة؛ لذلك يُسمى الطبيب المُتطبب؛
أي الذي يُمارس صناعة الطب.
كما يتدخل الله في تفسير الظواهر الطبية الجسمية أو النفسية؛ فيُقال إن الله إذا
غضب على أحدٍ من خلقه رماه بالصرع، ثم مواجهة ذلك باليقين العلمي عند جالينوس،
العلم في مواجهة الدين.
٣٩ فتمثُّل الوافد وتنظير الموروث قد يكون نقدًا للموروث دفاعًا عن
الوافد، وقد يكون نقدًا للوافد دفاعًا عن الموروث. وكما يبدأ الكتاب بالبسملة ينتهي
بالحمدلة وطلب العون والتوفيق. وتظهر لغة الطب في الدعاء بجلب المنفعة وتجنُّب
الضرر، وإتقان الله صنع كل شيء. وتتكرر عبارات المشيئة والعلم الإلهي المحيط،
والصلاة على خاتم النبيين.
٤٠ ومع الدعاء لله يأتي مدح السلطان، فلا فرق في البناء النفسي بين الاثنين.
٤١
(ب) وفي كتاب «في المعدة وأعراضها ومداواتها» لابن الجزار أيضًا، يبدو أن الطب
الجغرافي والاجتماعي لا ينفيان الطب التشريحي؛ فمعروف عن ابن الجزار ربط الطب
بالبيئة الجغرافية والاجتماعية، طب الفقراء والمساكين، وطب الصِّبيان والشيوخ. ولا
يغيب أيضًا الطب النفسي لعلاج النسيان وتقوية الذاكرة. وتعرض المبادئ العامة للطب
التي تجعله أحد فروع الطبيعيات، مثل القوة الجاذبة وهي حارةٌ يابسة، والقوة الماسكة
وهي باردةٌ يابسة، والقوة الدافعة وهي باردةٌ رطبة، والقوة الهاضمة وهي حارةٌ رطبة.
ويعتمد أيضًا كما هو الحال في الكتاب السابق على المراجعة لأقوال السابقين، وعلى
الاختبار والتجربة، وإصلاح تجارب السابقين وأدويتهم المركَّبة، والقياس تحقيق
المنفعة في عباراتٍ كثيرة، مثل: وقد جرَّبناه، وقد اختبرناه، وقد اختبرت ذلك بنفسي،
وقد امتحنتها، وهو مجرَّب، وهو نافع، وهو عظيم المنفعة، سريع النجاح … إلخ. ويُحال
إلى أجزاء العمل تذكيرًا للاحق بالسابق، وحرصًا على وحدة العمل.
٤٢
وتمثُّل الوافد اتساعًا وعمقًا يتصدر تنظير الموروث؛
٤٣ ففي الوافد يأتي أولًا جالينوس، ثم أبقراط، ثم فولس تلميذ أبقراط، ثم
أسقليبيادس وديسقوريدس وأفلاطون.
٤٤ وتقلُّ أفعال القول في جالينوس، وتزيد أفعال الشرط والزعم؛ مما يدل على
مراجعة الوافد. كما ينقد الجزار أصحاب الكناشات المجردة من الاستدلالات على مواضع
العلل والإبانة عن أسبابها المولدة بها، والاشتغال بتركيب الأدوية، وكأن الطب علمٌ
معملي خاص. ويُحال إلى بعض مؤلفات جالينوس مثل العلل والأعراض، الأعضاء الآلمة،
مداواة الإشباع، الصنعة الصغيرة، رسالة إلى أغلوقون … إلخ. وقد خالف جالينوس أكثر
من مرةٍ الأطباء المتقدمين؛ مما يدل على أن تاريخ الطب يمثِّل تقدمًا بين مراحله من
القدماء إلى المحدثين؛ لذلك يُذكر اليونانيون على أنهم فترةٌ تاريخية محدودة،
وليسوا كل العلم أو العلم ذاته. كما يُذكر لأبقراط «الفصول»، ولفولومس «تدبير
الأضداد». كما يُحال إلى بعض الحكماء وبعض الأطباء والأطباء القدماء. ويأخذ بعض
الأعلام ألقابًا، مثل الفاضل لأبقراط احترامًا للسابقين، وتحولًا من الشخص إلى
الرمز. وتُستعمل بعض الألفاظ اليونانية المعرَّبة، مثل فيوطس.
٤٥ ويُراجع الجزاز على ما قاله جالينوس فيجده متفقًا مع النظر والقياس؛
لذلك يُحيل إلى قوله حُذاق الأطباء والفلاسفة.
٤٦
وفي تنظير الموروث يتصدر يحيى بن ماسويه، ثم محمد بن أحمد عم المؤلف، وإسحاق
بن عمران، ثم حنين بن إسحاق، وسابور بن سهل، وابن بطلان، وشمعون الراهب.
٤٧ ويُثني على حنين بن إسحاق بأنه من الفلاسفة ومن الحُذاق في صناعة الطب.
٤٨ ويُذكر حديثٌ نبوي «المعدة حوض البدن، فإذا صحَّت المعدة صدرت العروق
بالصحة، وإذا اعتلَّت صدرت بالعلل.»
٤٩ ويبدو فيه ضعف المتن، وليس بقوة «المعدة بيت الداء». ويتفق الحديث مع
قول جالينوس؛ فتمثُّل الوافد وتنظير الموروث ينتهيان إلى نفس الشيء. وكما يبدأ
الكتاب بالبسملة ينتهي بالحمدلة، والاستعانة بالله، والتسليم بالمشيئة الإلهية،
وبقدرة الله، والدعوة بالتوفيق، والتوكل عليه، ثم يتبادل الله الصفات مع السلطان؛
فلم يؤلف الكتاب للعامة وعوام الناس نظرًا لعجزهم عن استيعاب ما فيه من الأدوية
والأشربة، إنما ألَّف للسلطان الواجب الطاعة؛ فطاعة السلطان من طاعة الله.
٥٠
(٣) البلدي (۳۸۰ﻫ)
لم يكن الطب نظريًّا خالصًا، بل ارتبط بحياة الناس اليومية، مثل «تدبير الحبالى
والأطفال والصِّبيان وحفظ صحتهم ومداواة الأمراض العارضة لهم» للبلدي الخاص بطب
الأطفال، ويعتني بوجهٍ خاص بالأم، ويرصد كل الأمراض الجديدة، وأشبه بالطب الحديث.
يبدأ بذكر الاختلاف ثم الاتفاق بين الأطباء والمشرحين من أجل التنسيق بين الأقوال،
والتحقق من صدقها بأسلوبٍ علمي. معرفة الأدبيات السابقة جزء من تاريخ العلم دون
التقيد به، بل للتحقق من صدقه بالتجربة التي تقوم على الحس والقياس والمشاهدة، وعلى
التصنيف وتعريف الألفاظ دون إطالة أو تكرار.
٥١
ويتقدم تمثل الوافد عمقًا واتساعًا على تنظير الموروث. يتصدر أبقراط، ثم جالينوس،
ثم فولس، ثم رفوس، ثم أرسطوطاليس، ثم ثاوفرسطس، ثم الإسكندر وأطمورسقس، ثم باليس
وديرقيس الحكيم، وديسقوريدس، وهرمس.
٥٢ ويُحال إلى مؤلفات كل حكيم؛ مما يدل على الاطلاع على المصادر الأصلية.
٥٣
ويُعتبر الأطباء السريان مرحلة انتقال بين الأطباء اليونان والأطباء العرب
المسلمين، وذلك مثل المسيح والباب الأنطاكي، والإحالة إلى كتبهم.
٥٤ أما الموروث العربي فيتصدَّر الطبري (الطبيب)، ثم حنين، ثم سابور
وسلمويه واليهودي، والإحالة إلى كتاب سابور الأقرباذين.
٥٥
ونظرًا لأن الكتاب تجميعٌ غلبت أفعال القول على أفعال الذكر والتلخيص والوصف
والتلخيص، مع التمايز بين اليونانية والعربية. وكالعادة يبتدئ الكتاب بالبسملة،
وينتهي بالحمدلة، والاعتماد على المشيئة الإلهية، وعلى عونه وتوفيقه، لا فرق بين
دعاء الله ومدح السلطان.
٥٦
(٤) أبو الحسن العامري
وتمثِّل بعض أعمال العامري (٣٨١ﻫ) هذا التحول في التأليف من تمثل الوافد إلى تمثل
الوافد قبل تنظير الموروث، وهي الشذرات الباقية منها، مثل:
(أ) «شرح كتاب المقولات لأرسطو». وهو أدخل في الشروح منه في التأليف طبقًا للشكل
الأدبي.
٥٧ وهو على نموذج التفسير الكبير عند ابن رشد؛ أي الفصل بين النص المشروح
والنص الشارح. وفي كلتا الحالتين، الشرح أو التأليف، يتصدر الوافد الموروث. ويتصدر
أرسطو الوافد، ثم الإسكندر، ثم فرفوريوس، ثم قويري وأرمينس، ثم سنبقليوس ويابليخوس،
ثم ثامسطيوس وسقراط. ويغيب أفلاطون وأفلوطين؛ ومن ثَم يصبح كل ما يُقال عن أثر
الأفلاطونية المُحدَثة على الفارابي قولًا بلا برهان.
ويتصدر فعل القول تمثل الوافد، وتلك الصياغة النمطية للنقل، ويذكر باقي الشراح
لأرسطو باعتبارهم شراحًا، وليسوا باعتبارهم حكماء مستقلين عن أرسطو، اتفاقًا أو
اختلافًا معه. وأحيانًا يأتي شرح العامري أولًا، ثم يتأكد بموافقة قويري أو
فرفوريوس له.
٥٨ الإسكندر يفسِّر قول أرسطو، ويُوافقه سمبلقيوس ويامبليخوس.
٥٩ ويتصدر الموروثَ الفارابي، ثم أبو بشر متى بن يونس، ثم السجستاني والخازن.
٦٠ وواضح من أولوية الفارابي أنه نقطة تحول في التأليف، وأنه هو الموروث
الذي استطاع تمثل الوافد؛ فهو جامع الحكمتين، اليونانية والإسلامية. ويذكر الموروث
باعتباره شارحًا للوافد، ومُتمثلًا له أسوة بالشراح اليونان، بل وشراحًا لهم؛
فالفارابي يشرح الإسكندر شارحًا أرسطو، ويضع العامري نفسه بين الشُّراح؛ مما يؤكد
أن الشرح بما يتضمنه من تفسير وتلخيص وجوامع هو أحد أشكال التأليف المبكرة.
ولا يعني الشرح تبعية النص الشارح للنص المشروح بطريقة العبارة الشارحة؛
٦١ إذ يستدل الفارابي على أرسطو فيما يتعلق بصفة الجوهر أنه يقبل
المتضادات التي جعلها أرسطو خاصية الجوهر المطلق، في حين أنها عند الفارابي خاصية
الجواهر الأُوَل فقط. كما ينقد الفارابي المفسرين اعتمادًا على أرسطو؛ إذ يعتبر
الفارابي أن هذا الحد كامل للمتضادين دونما حاجة إلى المفسرين. ويكفي تصريح أرسطو
بذلك في تضاد الأمكنة.
٦٢
ويبدو الموروث على علمٍ دقيق بالنص الأرسطي من حيث هو نصٌّ مدوَّن، ما فيه وما
ليس فيه، في النص الأصلي أو في ترجماته السريانية والعربية؛ إذ يبيِّن أبو جعفر
الخازن أن مثال تربيع الدائرة ليس في نص أرسطو، إنما في حاشية الناسخ. كما يُلاحظ
متى أن الرسم الأول في اليوناني والسرياني، وأن الماهيات تُقال لغيرها؛ مما يشكل
قول أرسطو. وهو ظاهر الفساد. والموجود في الترجمة العربية لا يُخالف قصده؛ فالترجمة
العربية أدق من السريانية وأقرب إلى الأصل اليوناني.
٦٣
(ب) وفي «شذرات في الفلسفة الخلقية» يتصدر الوافد الموروث كذلك، ويتصدر الوافد
الحكيم في كتاب «السماء والعالم» في علة الأجناس والأنواع ودوامها، الفلك المستقيم،
وعلة كون الأشخاص وحدوثها، الفلك المائل دون ذكر أرسطو الشخص واكتفاء بالرمز أو
الصورة، الحكيم.
٦٤ ثم يأتي الموروث ممثَّلًا في السائل، أبي الفتح ذي الكفايتين، فالسؤال
من الداخل وليس من الخارج، من الموروث وليس من الوافد، كما هو الحال في «أسباب
النزول»، والإجابة بآيةٍ قرآنية؛ أي بالداخل أيضًا. الوافد مجرد تراث الأقدمين،
ومعرفته واجبه بالشرع كما هو الحال في قصص الأنبياء، والموروث هو السؤال والجواب
طبقًا لأحكام السؤال والجواب في علم الأصول.
٦٥
(٥) ابن هندو
وتتأرجح النصوص الطبية بين الطب كعلمٍ عملي، والطب كعلمٍ نظري. ومن نماذج الطب النظري
الفلسفي «مفتاح الطب ومنهاج الطلاب»
٦٦ لابن هندو (٤٢٠ﻫ) الذي يبدأ في الفصول التسعة الأولى في فلسفة الطب حتى
الفصل العاشر وحده المخصَّص لصناعة الطب؛
٦٧ لذلك تكثُر أسماء الأطباء في البداية وتقل في النهاية؛ فالفلسفة النظرية
بها مدارس واتجاهات، وصناعة الطب بها اتفاق بين الأطباء؛ فهو كتاب حول الطب وليس في
الطب، كما أنه ينقد الطبيب المزيَّف في عصره اعتمادًا على البحث أو تزوير الصناعات،
إثباتًا للإطالة أو حسدًا للأطباء.
٦٨ وينقد الأدعياء في العلوم، والعوام الجهال الذين يُبطلون الطب ويُزيفونه
ويربطونه بالتنجيم والموسيقى، وهو كتابٌ واضح علمي دقيق، يهتمُّ بالمنهج قدر اهتمامه
بالموضوع، ويكشف عن عظمة مدرسة الإسكندرية، وكيف أن الطب العربي الإسلامي جالونسي
الاتجاه. وهذا لا يمنع من ضرورة اطلاع الطبيب على الأخلاق وبعض الهندسة والفلك؛ لارتباط
هذه العلوم بالطب في تكامل علوم الحكمة. وهو مكتوب لمجموع القُراء، للجمهور أو للعوام،
وليس للأطباء وحدهم؛ لذلك كثُرت به التشبيهات، جسم الإنسان بجسم المجتمع، وتصور البخت
كامرأةٍ عمياء جالسة على كرةٍ أخذ بيدها سُكار سفينة، وعطارد كشابٍّ حسن جالس على
قاعدةٍ مربعة؛ فالمرأة تتميز بالخرق وعدم الحكمة، وهو ما يبرِّر اسم الكتاب
الشعبي.
ويفصل ابن هندو فرق الطب طبقًا لمناهجها واتجاهاتها، وهي ثلاثة: التجربة، والقياس،
والحيلة التي تجمع بين التجربة والقياس.
٦٩ وقد احتالوا في اختصار الطب وادعاء القياس والتجربة. وواضحٌ أن ابن هندو
فيلسوف أساسًا؛ فالطب جزء من الفلسفة الطبيعية. يعرف الوافد الغربي والشرقي في الطب
والحكمة، ومؤلَّفه في الطب جزء من منظومته الكلية في الحكمة. ويُشير إلى كتابه «المشوقة
في المدخل إلى علم الفلسفة»؛ فهو يكتب مداخل ومقدمات؛ لذلك سمَّى كتابه «مفتاح الطب»؛
أي المدخل له. تضع الفلسفة الكليات، ويستنبط الطب الجزئيات منها؛ لذلك جاء واضح
الأسلوب، دقيق التحليل، مختصرًا بلا حشو، مخاطبًا القارئ.
٧٠
ومن الوافد يأتي جالينوس كالعادة في الصدارة، ثم أبقراط، ثم أرسطو، ثم أفلاطون، ثم
حوالَي عشرين طبيبًا من اليونان والإسكندرية.
٧١ كما يُذكر عشرة مؤلفات لجالينوس، وعملٌ واحد هو الفصول لأبقراط.
٧٢ ويكثُر ذكر جالينوس راويًا عن تاريخ الطب القديم أكثر من ذكره كطبيب؛ لذلك
تظهر أفعال القول والذكر والرواية. ويضعه ابن هندو في عصره وزمانه نظرًا لأن الطب علمٌ
اجتماعي. ويذكر نقده لأطباء عصره؛ فثالسس رئيس الفرقة المحتالة، دخل معه جالينوس في
حوار لكشف احتياله، ومثل هؤلاء يستحقون القتل. ونظرًا لتعظيم جالينوس الطبيب، ونظرًا
لجمعه بين الطب والمنطق، جعله فيلسوفًا. ويصف ابن هندو أغراض كتب جالينوس كتابًا
كتابًا، واعتمادًا على شرح أبي الخير؛ فقد تحوَّل الوافد إلى موروث ولم يعد وافدًا؛ مما
سهَّل عملية تمثل الوافد وبداية تنظير الموروث. ويبدو جالينوس شارحًا لأبقراط؛ مما يدل
على التراكم الفلسفي أيضًا عند اليونان. وقد جعل لها الإسكندرانيون جوامع تُغني عن أصول
جالينوس. وينقد أبو الخير ما فعل الإسكندرانيون بجالينوس؛ فقد نقصهم الأغذية والأدوية
والأهوية، وغاب عنهم الترتيب الصحيح الذي يقوم على المنطق والقياس، الترتيب الصناعي
الذي يتدرج من الأظهر إلى الأخفى. وأضاف كتبًا أخرى لإكمال جوامع الإسكندرانيين.
٧٣
ويُستعمل قولٌ مشهور لأبقراط، حكمة عامة لا تتعلق بالطب، مكرَّرة في معظم الكتب مثل
حكمة أنوشروان في السياسة. ويتعامل أبقراط مع البدن تعامله مع النفس، وهو من المدرسة
الطبيعية في الطب على عكس جالينوس الذي ينتسب إلى المدرسة المنطقية. ويمدح ابن هندو
شخصية أبقراط العلمية ويلقِّبه بالفاضل، ويُثني على ارتباطه بوطنه، ورفض عرض ملك الفُرس
لاستدعائه وعرضه عليه مبلغًا كبيرًا من المال.
٧٤
وقد منع أرسطو مجادلة مُنكري الطب؛ فالحوار له شروطه، ومع هؤلاء لا تتوافر شروط
الحوار. كما عرَّف أفلاطون الفيلسوف بأنه المُتشبه بالباري بقدر الطاقة البشرية. وينقد
ابن هندو ابن الخمار اعتمادًا على أفلاطون؛ فالطبيب للأبدان، والفيلسوف لحقائق الموجودات.
٧٥
ويبدو الطب في الإسكندرية حلقة الاتصال بين الطب اليوناني والطب العربي الإسلامي،
كما
كان الطب السرياني في الشام؛ فيروي ثاون الإسكندراني عن أبقراط أن المتقدمين كانوا
يُعالجون الأمراض بالموسيقى؛ لذلك تُذكَر أسماء الفرق والمجموعات، مثل اليونانيين
والإسكندرانيين والسريانيين، بل ويُذكر الوافد الشرقي من فارس والهند والروم.
٧٦ ويتعادل اليونانيون مع الفُرس من حيث حضور الوافد الغربي والشرقي. ويوحي
الحديث عن القدماء بتطور الطب من القدماء إلى المحدثين؛ فالعلم ليس كاملًا في حضارةٍ
واحدة، بل هو تراكمٌ تاريخي في تقدم العلم. وبالرغم من مساهمة الحضارات شرقًا وغربًا
في
الطب إلا أن العلم واحد له مصطلحاته وألفاظه، ومع ذلك فالعلم نتاجٌ حضاري، يتكون
بتكونها، وقد ينفصل في حضارة عن الدين، وقد يرتبط به في حضارةٍ أخرى؛ ففصل الإسكندر
الطب عن الدين قد يصحُّ على الأمد القصير، ولكنه خاطئ على الأمد الطويل، بل يتنوع العلم
داخل كل حضارة؛ فالطب قد يرتبط بالمنطق عند جالينوس، وبالطبيعة عند أبقراط، وبعلم
التنجيم أو الموسيقى والهندسة عند البابليين والمصريين. والتقابل بين الحضارات إنما
يكون على مستوى اللغة، مثل اللغة اليونانية واللغة العربية.
٧٧ وتسمِّي العرب الخمر طلاءً.
ومن الموروث يتصدر أستاذ ابن هندو أبو الخير ابن الخمار، ثم برزويه وغيره.
٧٨ ويُذكر واحد من المتكلمين رفض الطب فمات.
٧٩ فالأدلة عملية على فضيلة الطب. ومن أسماء الكتب يُذكَر كليلة ودمنة، وكتاب
العين للخليل، ولكن يظهر الموروث أكثر ويتحد مع الوافد، ليس في أسماء الأعلام، بل في
الصلة بين الله والطبيعة أو الملَكة أو البدن؛ أي الصلة بين الدين والعلم. فنظرًا لأن
أسقليبيادس كان طبيبًا إنسانًا جعله الله ملكًا من الملائكة. اعتقد العوام أن الطب
توفيق من الله، وحيًا أو إلهامًا كما اعتقد الهنود. وفي الموروث لا فرق بين العلم
الإلهي والعلم الطبيعي، بين قدرة الله وقوانين الطبيعة.
٨٠ فالقدح في الطب ليس فقط قدحًا في السياسة الاجتماعية، بل قدح في الشريعة؛
فقد أمسك شيخٌ حافظ للقرآن متصوف بحيةٍ فلدغته فمات وهو يدَّعي أن القرآن حافظه. وذُكِر
أن نفس المعجزة حدثت مع السلطان، فجرَّبها السلطان فيه فمات نتيجةً لتملق السلطان. لا
تعارض إذن بين العلة الأولى والعلل الثانية، بين العلة البعيدة والعلل القريبة،
ولا يمكن نفي الطباع؛ فالطبيعة قوةٌ إلهية.
٨١ فإذا ارتبط الإلهي بالطبيعي فلا سبيل إلى فهم الطبيعي إلا بالمنطق، فالمنطق
هو أساس العلوم، وكما يبدأ الكتاب بالبسملة ينتهي بالحمدلة والدعوة بالتوفيق والارتباط
بالمشيئة والعون.