ثالثًا: مسكويه
وإذا كانت الأعمال الطبية في التأليف هي الغالب أولًا في تمثل الوافد قبل تنظير
الموروث، فإن الأعمال الفلسفية تبدأ بمسكويه، ثم تتراوح بين الفلسفة والرياضيات عند
ابن سينا والبِيروني، ثم تعود إلى الطب والرياضيات والطبيعيات عند ابن بختيشوع
وابن رضوان والخيَّام والطغرائي، ثم إلى الحكمة من جديد عند ابن باجه، ثم إلى الطب
والحكمة عند ابن زهر وابن رشد، ثم تنتهي في التراكم إلى الأدوية عند ابن البيطار، ثم
إلى الرياضيات عند الطوسي والفارسي وابن الأكفاني، وتنتهي إلى الطب كما بدأت عند داود
الأنطاكي ومقلِّديه.
(أ) و«تهذيب الأخلاق» لمسكويه (٤٢١ﻫ) تأليفٌ أخلاقي تتَّضح فيه أولوية تمثُّل الوافد
على تنظير الموروث كنوعٍ أدبي، وربما هو التأليف الأول الذي يُحاول وضع أسس علم الأخلاق
باعتباره علمًا مستقلًّا داخل النسق بعد الإلهيات، كما حاول ذلك إخوان الصفا في العرض
النسقي الشعبي بإضافة العلوم الإلهية الناموسية والشرعية كقسمٍ رابع من أقسام الحكمة.
وعنوانه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»، وعادةً ما يُذكَر النصف الأول دون الثاني
اختصارًا بالرغم من أهميته، وأنه جزء لا يتجزأ من مضمون الكتاب، نبَّه مسكويه نفسه على
أهميته؛ فإذا دلَّ الشِّق الأول «تهذيب الأخلاق» على الطابع العملي التأديبي، فإن
الشِّق الثاني «تطهير الأعراق» يبيِّن الجانب الإشراقي، تطهير النفس من شهوات البدن
بالرغم؛ مما يدل لفظ عرق في الفكر العربي المعاصر من معنى الجنس بالمعنى العنصري.
١
وبالرغم من تشعُّب تهذيب الأخلاق إلى مقالاتٍ سبع إلا أنه يتميز بوحدة الفكر والإحالة
المستمرة إلى بعضه البعض، إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق. كما يُحيل
مسكويه إلى باقي أعماله؛ مما يدل على وحدة المشروع والرؤية والتكامل بين أجزائه. ويأتي
ترتيب السعادات و«منازل العلوم» في المقدمة، وله صيغٌ مختصرة «ترتيب العادات»، أو
«مراتب العادات»، أو «الترتيب» فقط. ويُحال إلى «الرسالة المُسعدة» و«صناعة العدد».
٢
ويتكوَّن من سبع مقالات يتداخل فيها الوافد والموروث بنِسبٍ مُتفاوتة؛ ففي المقالة
الأولى عن الأخلاق النفسية يغيب الوافد ويحضر الموروث الأصيل؛ مما يدل على أن التأليف
غير مرتبط بالضرورة بالوافد كنقطة بداية، بل قد يبدأ من الموروث، بالداخل وليس بالخارج.
وفي المقالة الثانية الأولوية للوافد على الموروث. وفي المقالة الثالثة أيضًا الأولوية
للوافد على الموروث حتى يسهُل امتصاصه وتفاعله داخل الموروث. وفي المقالة الرابعة،
ومعظمها عن العدالة، يحضر الوافد ويغيب الموروث بعد أن اطمأنَّ الموروث إلى قدرته على
الاستيعاب والوقوف أمام الوافد. وفي المقالة الخامسة عن الأخلاق الاجتماعية والسياسية،
الأولوية للوافد على الموروث، كما هو الحال في المقالتين الثانية والثالثة بعد ظهور
الموروث كمصدر ثانٍ مستمر للفكر. وفي المقالة السادسة تستمر أولوية الوافد على الموروث
كآخر محاولة لتمثل الوافد واستيعابه كليةً. والمقالة السابعة عن الرذائل تنقلب الأولوية
للموروث على الوافد باعتبار أن الموروث علوم الغايات، في حين أن الوافد علوم الوسائل.
ففي المقالتين الأولى والسابعة، أي في البداية والنهاية، الأولوية للموروث على الوافد،
بينما في المقالات الوسطى من الثانية حتى السادسة الأولوية للوافد على الموروث، وكأن
الوافد موضوع بين دفتَي الرحى، بين المِطرقة والسندان في البداية والنهاية.
٣ والعجيب أن عند مسكويه، وهو ممثِّل الحكمة الفارسية، يتصدر الوافد اليوناني
على الوافد الفارسي، بل ويتصدر الموروث نفسه.
ومن الوافد يتصدر أرسطو، ثم أفلاطون وجالينوس، ثم أبقراط وسقراط والإسكندر المقدوني
والرواقيون، ثم بروسن وفرفوريوس وفيثاغورس وإيرقليطس. ويُشير مسكويه إلى كتاب الأخلاق
لأرسطو دون تحديد هل هو الأخلاق الكبير أم الصغير، الأخلاق إلى نيقوماخوس، أو الأخلاق
إلى أوديموس. وتدل الإحالات إلى أن مسكويه يُحاول تأسيس الأخلاق على المنطق (التأسيس
النظري)، وعلى التربية (التأسيس العملي)؛ فمثال التأسيس المنطقي للأخلاق:
(١) كل خلق يمكن تغيره.
(٢) لا شيء مما يمكن تغيره هو بالطبع.
∴ لا خلق واحدًا منه بالطبع.
بل يُحاول مسكويه إثبات صحة كل مقدمة منطقيًّا كما سيفعل ابن رشد فيما بعد في إثبات
زيف كل استدلال وكل مقدمة من حجج الأشاعرة في علم الكلام؛ لذلك يُحيل مسكويه إلى كتاب
الأخلاق وكتاب «المقولات» لأرسطو في آنٍ واحد. أما التأسيس العملي على التربية فيرى
أرسطو، مثل جالينوس ومسكويه، أن الناس ليسوا أخيارًا بالطبع كالرواقيين، ولا أشرارًا
بالطبع، بل فيهم أولئك وهؤلاء، ويمكن الانتقال من أحدهما إلى الآخر بالتأدب والتعليم
عند البعض بسرعة، وعند البعض الآخر ببطء؛ ففي مراتب الناس في التعليم يزيد مسكويه على
أرسطو منهج المشاهدة والعيان في تربية الأطفال، وليس مجرد تحليل عقلي للفضائل لوضع ما
ينبغي أن يكون؛ نظرًا للاتفاق عند مسكويه بين العقل والطبيعة، بين ما ينبغي أن يكون وما
هو كائن؛ فإذا كان كتاب «الأخلاق» عند أرسطو لا ينتفع به الأحداث الحسيون كثيرًا، بل
الحكماء وحدهم، فإن مسكويه يُحاول تعميمه، ويجعله مفيدًا للاثنين، للأحداث وللحكماء،
انتقالًا من الخاصة إلى العامة، ومن النخبة إلى الجمهور، ومن التأمل العقلي إلى الكمال
الخلقي، وإسماعًا للأحداث لصوت الحكمة حتى يتم تشويقهم إليها والصعود إليها على مراتب،
وإبرازًا للتمايز بين الآخر والأنا؛ «أرسطو يقول أما أنا فأقول»؛ أرسطو الحكيم فقط،
ومسكويه المربِّي والحكيم؛ وأرسطو صاحب النظر فقط، ومسكويه صاحب النظر والعمل، انتقالًا
من اليونان إلى المسلمين.
٤ ويعقد مسكويه خُطبه في تناول الخير المُطلَق والسعادة الإنسانية من أجل
معرفة الغاية القصوى التي تُطلَب بالأفعال الإرادية، ثم يبيِّن اتفاق أرسطو معه فيها؛
فأرسطو هو الشارح، ومسكويه هو المشروح؛ أرسطو هو القارئ، ومسكويه هو المقروء؛ ثم يقوم
مسكويه بتجميع كل ما قاله أرسطو في الموضوع وليس اقتفاء أثر كتاب واحد، ثم يُسلطه على
الموضوع الذي يعرفه مسكويه ليُظهر مدى الاتفاق بين الاثنين مع الاستعانة في فهم أرسطو
بأقوال المفسرين. وعندما يبدأ مسكويه بذكر الفرق بين الخير والسعادة يذكر ألفاظ أرسطو
اقتداءً به وتوفيةً لحقه، الألفاظ وحدها دون المعاني والأشياء طبقًا لمنطق التشكل الكاذب.
٥
ويقسِّم أرسطو الخيرات إلى أربعة أنواع كما يرويها فرفوريوس؛ الشريفة، والممدوحة،
والتي بالقوة، والنافعة؛ كما يفعل الأصولي في تقسيم الأحكام الشرعية الخمسة. ومعيار
القسمة لديه الصورة والمادة؛ فالأفعال الشريفة صورة بلا مادة،
٦ ثم ينقل مسكويه ذلك إلى الحضارة الإسلامية، فيجعل ما سمَّاه أرسطو الصورة
عطيةً من الله وموهبة للناس، وتتحقق السعادة عند أرسطو في الدنيا وكذلك في الإسلام.
ويتأكد العقل اليوناني بالبداهة العقلية الإسلامية؛ فالعقل أساس النقل. والاستشهاد
بأرسطو لإثبات فكرة واضحة، مثل أن الشيء الفاضل أجلُّ من أن يُمدَح؛ فالمدح زيف،
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. ويفعل الناموس نفس الشيء في قوله: إن
الدنيا ناموس عادل. والناموس من عند الله كما أنه من عند الحاكم أو من الدنيا، ويظل
الناموس الإلهي قدوة لها كلها، وهو تصورٌ إسلامي لسنن الكون وسنة الشريعة.
٧
ويسهُل تعشيق أخلاق أرسطو في الأخلاق الإسلامية؛ نظرًا للغاية القصوى التي يترقَّى
إليها الحكيم للوصول إليها بجهده، وهو الله الذي يُعين الإنسان ويُوفقه. البنية واحدة،
والفرق في الألفاظ طبقًا لمنطق التشكل الكاذب. بنية العقل عند أرسطو هي نفسها بنية
الوحي؛ لذلك يسهُل تركيبها في بنيةٍ واحدة تكشف عن اتفاق العقل والوحي؛ لذلك نادرًا ما
يستعمل مسكويه لفظ أرسطو «يقول»، بل يستشهد بنص له لإثبات ما يعرفه مسكويه من قبل.
العقل يُثبِت الوحي ويؤكِّده؛ فالسعادة عند أرسطو شريفة، وسيرتها ألذ، ولكنها محتاجة
إلى سعاداتٍ أخرى خارجة حتى تظهر بها، وإلا ظلَّت كامنةً غير ظاهرة، وكان صاحبها
كالنائم لا يظهر فعله. أما السعادة الإلهية فإنها تُظهر الكامن؛ فالوحي ازدهار للعقل
وإكمال له. وكذلك لا يدل مدى تحمُّل الإنسان للأشياء التي تعرض للبحث على عظمة النفس.
أما من لم يعرف السعادة ووصل إليها، فإن القدرة على التحمل تكون موضع اختبار، إما
سعادةً وهناءً، وإما شقاءً وتعاسة. وكذلك يقول أرسطو ببقاء النفس ومعادها، جزاءً على
الأعمال، ويحل الشكوك التي أوردها على نفسه بأن الإنسان يتأثر وهو حي بسيرة أولاده،
فالأولى أن يتأثر بسيرته هو بعد الموت طبقًا لأعماله الفاضلة. فهذه قراءةٌ إسلامية لحجج
أرسطو ضد الشك في بقاء النفس بعد الموت إكمالًا للعقل وبالدين، وللفطرة بالوحي. السعادة
شيءٌ ثابت، والإنسان مُتغير؛ ومن ثَم ليست السعادة في الموت، بل في الحياة؛ مما يدل على
وجود حياة بعد الموت.
٨ من السهل إذن تحويل المثالية اليونانية إلى رؤيةٍ إسلامية قديمًا عند حكماء الإسلام.
٩
وإذا كانت القسمة العقلية عند أرسطو معقولةً دونما حاجة إلى إكمال من الوحي، فإن
مسكويه يؤكِّدها دون أن يُضيف عليها شيئًا، مثل تقسيم الجائر إلى جائرٍ أعظم لا يقبل
الشريعة، وجائر لا يقبل قول الحاكم العادل، وجائر لا يكتسب، بل يغتصب الأموال. الجائر
الأول مجدِّف في الدين، والثاني في السياسة، والثالث في الاقتصاد. كما أن العدالة إما
من الناس إلى الله، وإما من الناس إلى الناس الأحياء، وإما من الناس إلى الناس الأموات.
الأولى في الدين، والثانية في المجتمع، والثالثة في التاريخ. وبعد أن يُثبِت مسكويه
اتفاق قسمة أرسطو مع العقل والطبيعة يُعشقها في الوحي ويُكملها به؛ فيذكر العبادة
الموصلة إلى الله، ويستعمل ألفاظ الخالق والمخلوق ومصطلحات الشرع، والصلاة والصيام،
والإقرار بالربوبية، وإعادة كتابة الوافد بلغة الموروث، وقراءة أرسطو باللغة العربية.
يعلن مسكويه عن أرسطو في البداية حتى يتمثل الوافد في الموروث، ثم يضعه في قالبه، ثم
إكماله بالموروث حتى يصعب بعد ذلك التمييز بين الاثنين؛ فالعبادات عند أرسطو من أعلى
إلى أدنى، تختلف باختلاف الناس طبقاتٍ ومراتب، ثم صلوات وصيام وخدمة وهياكل ومصليات
وقرابين، ثم الإحسان إلى النفس بتزكيتها، ثم الإلهيات حتى تكمل معرفة الله، وأخيرًا
الإقرار بالربوبية والاعتراف بالإحسان والتمجيد بحسب الاستطاعة.
١٠
ويتم تعشيق الوافد في الموروث أيضًا في موضوع المحبة. البداية من أرسطو كبناءٍ عقلي
خالص، والنهاية أيضًا أرسطو بعد أن تمَّت قراءته قراءةً إسلامية، تمثلًا للوافد داخل
الموروث، وإدخالًا للعاشق في المعشوق؛ فتتحوَّل المحبة أو الصداقة أو الوله أو العشق
عند أرسطو إلى المحبة الإلهية التي ذكرها أرسطو أيضًا حكايةً عن إيرقليطس أنها تقع
عندما تتشابه الأشياء وتتشاكل لا تختلف وتتباين. ويستدل أرسطو على ذلك بأن صانع المعروف
يدعو لصانع المعروف بالسلامة والبقاء وسبغ النعمة، وكذلك يتعاهد المُقترض مع المُقترض
على سلامته حتى يعود إليه القرض لا المحبة، وهذا يدل على حاجة الإنسان إلى الصديق في
السرَّاء والضرَّاء؛ في السرَّاء يحتاج إلى المؤانسة، وفي الضرَّاء إلى المعونة، ثم
تجاوز أرسطو هذه الألفاظ كلها إلى السعادة الخاصة الخالصة لله ثم للملائكة والمُتألهين
التي يصل إليها الإنسان، والإنسان وحده عن طريق الفضائل، وهي الأمانة التي اختارها
الإنسان وأبَتها الجبال والسموات والأرض. ويستعمل جدل المُطلَق والمقيَّد، وهما من
مباحث الألفاظ عند الأصوليين، لتقييد ألفاظ أرسطو حتى تصبَّ في وعاء الموروث، وإطلاق
ألفاظ الموروث حتى تتسع للوافد. يتحدث أرسطو عن الملائكة والله سبحانه تعالى، جل وعز،
وعن الإبداع والعناية، وعن الصلاة والصيام.
١١ ويتم التعبير عن الإسلام بلغة المحبة والسعادة والصداقة والعقل والخير.
١٢
وبعد أن يتحوَّل أرسطو من الشخص إلى النموذج، ومن الواقع إلى المثال، يصبح الحكيم
الأول، أو الحكيم، أو هذا الرجل، أو الرجل الفاضل. وقد يعني الأول المتقدم في الزمان،
مثل الأولية بمعنى المتقدمين في مقابل المتأخرين، وقد يعني الأول في الرتبة والشرف في
مقابل الثاني أو الأخير. ويُستعمل الحكيم الأول كمثال أو استشهاد أو قول لإثبات شيء
يعرفه مسكويه من قبل، مجرد تشبيه أو استعارة أو اقتباس لنقد الفصل بين القول والعمل،
بين الرغبة والجهد، بين النية والفعل؛ فالدعوة إلى محبة الأفعال الجميلة لها ثمنها في
مجاهدة التَّرف والبطالة. كما يُشار إلى الحكيم في تقسيم أنواع السعادة إلى خمسة أقسام،
من اجتمعت له كان هو السعيد الكامل على مذهب هذا الرجل الفاضل، وهي مرتَّبة من الأدنى
إلى الأعلى؛ الأول: صحة البدن، ولطف الحواس، واعتدال المزاج. والثاني: الثروة والأعوان.
والثالث: تحسُّن أحدوثة الإنسان في الناس، ونشر ذكره بين أهل الفضائل، فيكون محمودًا
مثنيًّا عليه. والرابع: التنجيم في الأمور عن رويَّة وعزم. والخامس: جودة الرأي، وصحة
الفكر، وسلامة الاعتقاد. وأحيانًا يستعمل هذا الرجل كمرحلةٍ تاريخية في الفلسفة
اليونانية، ما قبله عند الفلاسفة السابقين عليه مثل فيثاغورس وأبقراط وأفلاطون وغيرهم،
وما بعده ابتداءً منه؛ فأرسطو هو الذي يقسم الفلسفة اليونانية إلى مرحلتين، التاريخ
والبناء، الاجتهادات والحقيقة؛ فقد اختلف الفلاسفة قبله في السعادة. ويجمع مسكويه بين
الرأيين، بين التطور والبناء، بين اجتهادات الفلاسفة في الحقيقة وبين انكشافها. كما
انتهى تطور الوحي من اليهودية إلى المسيحية واكتمل في الإسلام، يجمع أرسطو بين
السعادتين في الدنيا والآخرة، ويُعطي كلًّا من البدن والنفس حقَّهما كما يفعل الإسلام.
يراها الفقير في الثروة واليسار، والمريض في الصحة والسلامة، والذليل في الجاه
والسلطان، والخليع في الشهوات، والعاشق في المعشوق، والفاضل في المعروف. والفيلسوف يضع
كلًّا منها في مرتبتها عند الحاجة إليها، وهي كلها عند أرسطو وسائل لسعادةٍ أخرى هي
السعادة الحقة.
١٣
ويستعمل مسكويه نفس تشبيه أرسطو كأداةٍ حسية في التعبير؛ فالخطاف الواحد إذا ظهر
لا
يدل على طبيعة الربيع ولا يوم معتدل واحد يبشِّر به كذلك. وإذا خصَّ مدير المدينة
طائفةً بالنظر دون طائفة فإنه لا يستحق اسم الرياسة، وجذب شيء من كل الجهات ينشق
وينقطع، وتفسد المحبة المغشوشة كما تفسد الدنيا والدرهم المغشوشان. وقد يستعمل مسكويه
حِكم أرسطو، وهو المُولَع بالحِكم والأمثال والمواعظ، للاستشهاد بها على ما وصل إليه
هو
نفسه، مثل: من وجد السعادة الحقيقة فلا ينشغل بالسعادات الظاهرية، فالقديم تأكيد
للجديد، والنقل تأييد للإبداع. ولما كان الإسكندر المقدوني تلميذًا لأرسطو فإن مسكويه
يستعمل نادرة له في موضوع أسباب الغضب والسيطرة عليه برفض تأديب أحد أصحابه لنقده له
وانتقاصه منه وعيبه عليه؛ لأنه أبسط لسانًا، وأعذر عند الناس، وعفوه عن بعض أعدائه
الخارجين عليه.
١٤
وما زالت بعض الألفاظ اليونانية المعرَّبة، مثل الناموس،
١٥ ويعني في لغة أرسطو التدبير والسياسة، بالرغم من مدحه لنقل أبي عثمان
الدمشقي لكتاب فضائل النفس لأرسطو إلى العربية، وينتقل عنه لأنه فصيح في اللغتين
اليونانية والعربية، دقيق في المصطلحات، حريص في نقله الألفاظ والمعاني من لغة إلى أخرى.
١٦ وعند النقل من أرسطو يعلن مسكويه عن ذلك نظرًا للوعي الشديد بين النقل
والإبداع. كما ترك مسكويه المثل اليوناني الذي ذكره أرسطو، وهو نموذج الآلام مثل أيوب،
دون أن يستبدل به مثلًا عربيًّا كما فعل ابن رشد في تلخيص الخطابة.
١٧
وجالينوس عند مسكويه هو الأخلاقي، لا الطبيب أو المنطقي. وقد اقتصر التوسط بين
المذهبين المُتعارضين؛ الإنسان خيِّر بالطبع كما يقول الرواقيون، وشرير بالطبع كما يقول
الفلاسفة السابقون؛ وينقدهما، ويتوقف الأمر على طبيعة الأفراد، منهم من هو خيِّر بطبعه،
ومنهم من هو شرير بطبعه؛ ومن ثَم كان جالينوس أقرب إلى الإسلام. وقد حاجَج جالينوس كلا
المذهبين ببرهان الخُلف، إثبات فساد النقيض حتى يثبت النقيض الثاني؛ فلو كان الناس
أخيارًا بالطبع لتعلَّموا الشر، إما من أنفسهم لأن بهم قوةً تشتاق إلى الشر أقوى من
القوة التي تشتاق إلى الخير، وإما أن بهم قوةً تشتاق إلى الشر، أو تعلَّموه من غيرهم
لأنهم أشرار بالطبع. ولو كان الناس أشرارًا بالطبع لتعلَّموا الخير من أنفسهم أو من
غيرهم؛ وبالتالي يثبت وجود الخير. وهنا يبدو مسكويه مؤسِّسًا الأخلاق على قواعد المنطق
والبرهان. وينتهي إلى نفس الرأي المتوسط عند جالينوس مع مزيد من الترجيح بالبداهة
والتجربة بعد المنطق والبرهان. ويمكن تصور الناس على مراتب ثلاث كالهرم؛ في القاعدة،
وهم الأكثر، الناس أشرار بالطبع؛ وفي الوسط، وهم من على استعداد للخير والشر؛ وفي
القمة، وهم الأقلية، الأخيار بالطبع. وعلى هذا النحو جالينوس هو الذي يؤيد مسكويه، وليس
مسكويه هو الذي يؤيد جالينوس.
١٨
ويجمع جالينوس الأخلاق إلى الطب؛ فالأخلاق تبدأ بالطبيعة بنعمة الوجود ثم تتواتر
بعد
ذلك، تبدأ بالجسد ثم بعد ذلك بالإجادة؛ لذلك كتب جالينوس كتابَي «التشريح» و«منافع
الأعضاء»؛ فالطب مقدمة للأخلاق. وفي كتابه «أخلاق النفس» يبيِّن موافقة أهل الشر
للأشرار لإيجاد الأعذار لأنفسهم أنهم غير مُتفردين بهذا الرأي، بل ويُشاركهم فيه غيرهم
طبقًا لقواعد الجدل والإقناع، ثم يزيد مسكويه على جالينوس تعرُّف المرء على عيوب نفسه
بعد أن يعرفها؛ إذ إن عيوب نفس كل إنسان خافية عليه؛ ومن ثَم وجب أن يختار صديقًا
فاضلًا ويطلب منه أن يبيِّنها له دون أن يغضب من صراحته، بل يغضب من كتمانه، ويطلب منه
المزيد دون أن يتضجر أو يتضرر. ولعل العدو في هذا أنفع من الصديق؛ فعدوٌّ عاقل خيرٌ من
صديقٍ جاهل.
١٩
ويُحيل مسكويه إلى أفلاطون وسقراط وفيثاغورس عندما يؤسِّس الأخلاق على النفس
مُستعيرًا منه تشبيهًا للنفس الناطقة والنفس البهيمية، مثال الذهب في اللين والانعطاف،
والحديد في الصلابة والامتناع. كما استعمل مقالًا من بقراطس في موضوع التهور والجبن،
مجرد صورة فنية على كبح جماح النفس، مثال السفينة إذا عصفت بها الرياح وتلاطمت عليها
الأمواج، يمكن السيطرة عليها عن طريق الملَّاحين أكثر من السيطرة على القضبان المُلتهب.
وهؤلاء الثلاثة يمثِّلون تطور الفلسفة قبل اكتمالها في أرسطو، وقد أجمعوا على أن
الفضائل كلها في النفس، وأقسام السعادة، الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، في قوى النفس
العاقلة والغضبية والشهوية، وهي فضائل قائمة بذاتها لا تحتاج إلى البدن في شيء. وإذا
أشرقت العدالة أشرقت بها كل قوة من قوى النفس لأنها مجموع فضائلها، فتنهض النفس وتؤدي
غايتها في قرب الإنسان السعيد من الله تقدَّس اسمه. والعدالة توسُّط بين الأطراف؛ لذلك
أوصى أفلاطون طالب الحكمة بأن يموت بالإرادة حتى يحيا بالطبيعة في موضوع علاج الخوف من
الموت. وعلى الرغم من ارتباط الأخلاق عند أفلاطون بالنفس، وارتباطها عند جالينوس
وأبقراط بالبدن، إلا أن مسكويه يجمع بين الاثنين مُضافين إلى أرسطو في نظريةٍ مُتكاملة
للأخلاق، تقوم على قواعد البرهان وطهارة النفس وسلامة البدن.
٢٠
ويقتبس مسكويه نصًّا من سقراطيس في موضوع الصداقة بألفاظها، ويقطع النص إلى فقرات
حتى
يسهُل استيعابها وتمثلها، مُتعجبًا مما يعلِّم أولاده أخبار الملوك والحروب والضغائن
دون أن يعلِّمهم أمور المودة وأحاديث الألفة، وما يحدث للجميع من خير بالمحبة والأنس؛
إذ لا يستطيع أحدٌ أن يعيش دون مودة، حتى ولو كانت الدنيا كلها ضده، بل تكون حاجته إلى
المودة أشد، ولا يُعادل المودةَ شيءٌ في الدنيا حتى لو كانت ذخائر جميع الملوك وكنوز
قارون؛ مما يدل على انتحال النص؛ فسقراطيس لم يكن يعلم خزائن قارون، وقد تكون قراءةً
إسلامية لقولٍ صحيح، وكلاهما إبداع. ولا شيء يُعادل لوعة صديق، ولا شيء يقوم مقامه.
والسلطان إليها أحوج؛ لأنه بها يُباشر أمور الرعية أكثر من الاعتماد على أعوانه. عيون
الصديق أفضل من عيون الأمن. والنص له ما يُقابله في الموروث، ولكن الغاية منه تمثله
وابتلاعه في المحيط الواسع.
٢١
ويعي مسكويه تمامًا متى يكون ناقلًا نصًّا، ومتى يكون مُعلقًا وقارئًا لنص ثانٍ،
ومتى
يكون مُكملًا ومُبدعًا لنصٍّ ثالث. ويعلن عن ذلك صراحةً في فصل «تأديب الأحداث
والصِّبيان»، يعلن أنه نقل أكثره من كتاب بروسن حتى، ولو كان عنوانًا بأكمله دونما شعور
بحرج من قال، قلت، ولو كان أكثره نقلًا وأقله صفحتين من الكتاب كله، متفقين مع الجو
العام في نقطةٍ تطبيقية، جزء في كلٍّ، يمكن حذفه دون الإخلال بمنطق الكتاب، مجرد قوسين
عارضين يمكن تلخيصها وعرضها أو حذفها. وتصل بداهة هذه النصائح إلى حد البساطة بالرغم
من
اختلافها من حضارة إلى حضارة، ومن فرد إلى فرد، ومن مذهب إلى مذهب، ومن غاية إلى غاية.
والانتقاء أيضًا تأليفٌ غير مباشر ما دام متفقًا بين المنقول والناقل، الحديث عن النفس
بلسان الآخر. وهو موضوعٌ عملي صِرف، تأديب الأحداث والصِّبيان، قد لا يوجد ما يُقابله
في الموروث، ولكنه متفق في العقل والمصلحة. تبدو الأخلاق عند مسكويه هنا على مستويين؛
الأخلاق الإشراقية والأخلاق العملية، فضائل النفس والنصائح والمواعظ التربوية.
٢٢
ويقتبس مسكويه نصًّا ثانيًا من سقراط في موضوع كيفية اختيار الصديق يتعرَّف فيه
الإنسان قبل الصداقة على الصديق. صحيحٌ أن لأفلاطون محاورةً عن الصداقة، لكن النص في
أغلبه منتحَل، سقراط المثالي المعلم، الشيخ المربِّي الفاضل يقصُّ عن سقراط. يذكر النص
سيرة سقراط مع أصدقائه وإخوته وآبائه، وشكر من يُجيب شكره معنويًّا وليس ماديًّا، وميله
إلى الراحات والتباطؤ في الحركة، ومحبته للذهب والفضة، ومحبته للرياسة، والغناء
واللحون، وضروب اللهو واللعب، وسماع المجون والمضاحيك، وهي سلبيات في الصداقة. أما
الإيجابيات، فعدم الإكثار من الأصدقاء، والتسليم بعيوبهم؛ إذ لا يخلو صديق من عيب، وهي
قيمٌ إسلامية. والضحك الكثير يميت القلب، وأبو بكر صاحب الرسول. سقراط نموذجٌ عملي على
الصداقة والصديق. وقد ألَّف أبو حيان في الموضوع ولم يكتفِ بالاقتباس. وعندما يحلِّل
مسكويه علاج الحزن فإنه يستشهد بسقراط عندما سئل عن سبب قلة حزنه، فأجاب بأنه لا يقتني
ما إذا فقده يحزن عليه، مجرد استشهاد ومثل تاريخي للإيضاح.
٢٣
ويُحيل مسكويه إلى الرواقيين في معرض التساؤل عن طبيعة الإنسان خيِّرة أم شريرة؛
إذ
يرى الرواقيون أن الإنسان خيِّر بالطبع ثم يصير شريرًا بفعل المجتمع ودوره السلبي في
تربية الأفراد.
٢٤ وقد شاع الرأي المُضاد قبلهم، أن الإنسان شرير بالطبع ثم يصير خيِّرًا
بالتربية والتعليم، بفعل المجتمع ودوره الإيجابي. ثم يأتي جالينوس ويتوسط بين الرأيين؛
فالناس فيهم الأخيار بالطبع والأشرار بالطبع، بصرف النظر عما إذا كان تطور الجدل بين
الشيء ونقيضه والمركب بينهما تاريخيًّا أم بنيويًّا. ويُحال إلى الرواقيين أيضًا مع
جماعة من الطبيعيين جعلوا البدن جزءًا من الإنسان وليس مجرد آلة؛ لذلك جعلوا السعادة
في
النفس غير كاملة إذا لم تقترب بها سعادة البدن وما هو خارج البدن؛ أي الأشياء التي تكون
بالبحث والجد. السعادة عند أفلاطون وفيثاغورس وأبقراط في النفس فقط، وعند الرواقيين
والطبيعيين في البدن والنفس، وعند أرسطو ومسكويه في كليهما؛ فالوسط أقرب إلى أحد الطرفين.
٢٥
وبالإضافة إلى أعلام اليونان وفِرقهم يذكر مسكويه مجموع الحكماء أو الحكماء المتقدمين
استشهادًا بأقوالهم؛ فقد قال الحكماء إن الإنسان مدني بالطبع، وإن إصابة الهدف أعسر من
العدول عنه ولزوم الصواب، وإن صحة اللذة تسوق البدن من السقم إلى الصحة، ومن النقص إلى
التمام، والنفس من الجهل إلى العلم، ومن الفضيلة إلى الرذيلة، وحب الشر للأعداء الذي
يجعل صاحبه شريرًا. وتُذكَر أقوال الحكماء مسبوقةً ﺑ «لذلك» «ولهذا»، «على ما حكَت»؛
فالقول يؤكد ما انتهى إليه مسكويه وليس مصدرًا له. كما يستعمل أمثالهم كصيغ في التعبير
عن المخزون الفلسفي الأدبي وتشبيهاته، مثل: من يُهمل سياسة نفسه لسلطان الشهوة كمن يرمي
بياقوتةٍ حمراء من الذهب في نار حتى تصبح كاسًا لا منفعة فيها. وضرب الأمثال جزء من
حِكم الشعوب وأقوال الأنبياء. وكذلك: مثل الملك الموكول بالدنيا، والطرق الثلاثة فيها
طريق الخير، وطريق الشر، وطريق لا هو خير ولا هو شر، من عرفها نجا، ومن جهلها هلك، ليس
بالموت بل بالحياة. ومثل: الإنسان الشرير كالكهف الذي أُضرمَ فيه النار واختنق فيه
اللهيب، كلما كانت هناك محاولات للإطفاء زادته اشتعالًا وقوة.
٢٦
وأحيانًا تُذكَر أقوال الحكماء تعبيرًا عن براعة العقل، مثل تحليل الانتقام وأثره
على
القلب، ومتى يكون محمودًا عن شجاعة ومذمومًا عن جبن، وكذلك تحليل العدالة كفعلٍ اختياري
لتحصيل الفضيلة، والجور كفعلٍ اختياري لتحصيل الرذيلة. ومع ذلك يُترجم المثل في بعض
ألفاظه بألفاظ الموروث، مثل ترجمة الهياكل بالمساجد. كما يركِّب مسكويه قسمة الحكماء
على الموروث، ويجعلها مقامات الله عز وجل؛ الأول للمُوقنين، وهو رتبة الحكماء والعلماء.
والثاني للمُحسنين، وهي رتبة التوحيد بين العلم والعمل. والثالث للأبرار، وهي رتبة
المُعلِّمين خلفاء الله في الأرض. والرابع للفائزين، وهي رتبة المُخلِصين في المحبة،
ورتبة الاتحاد. لا فرق بين الوافد والموروث إلا في الألفاظ، وهي مقدمات الفلاسفة
والفقهاء والمجاهدين والصوفية.
٢٧
كما يُحيل مسكويه إلى القدماء ورأيهم في الخُلق، أو في رأي البعض أنه للنفس غير
الناطقة وحدها، بينما رأى البعض الآخر أنه قد يكون للنفس الناطقة بعد قسمة الخُلق إلى
طبيعي وعادي؛ الأول لا ينتقل من فرد إلى آخر، والثاني يمكن أن ينتقل بالتأديب والمواعظ
سريعًا أو بطيئًا. والانتقال السريع أفضل اعتمادًا على قوة التربية. ويعتمد على تشبيه
القدماء لقوى النفس الثلاث بإنسانٍ راكبٍ دابةً يقودها كلب أو فهد، إن استطاع الإنسان
قيادتها عاش سعيدًا. ويُعيد توظيف هذا المثل تنبيهًا للنفوس على ما وهب الله، عز وجل،
للإنسان ومكَّنه منه، تركيبًا للعقل على الوحي. كما اختلف القدماء في السعادة العظمى؛
إذ ظن البعض أنها لا تحصل للإنسان إلا بعد مفارقته البدن لأنها في النفس وحدها، وجعلوها
جوهر الإنسان دون البدن، وهم أفلاطون وفيثاغورس وأبقراط؛ بينما رأى البعض الآخر أنها
قد
تحصل في الدنيا، وهو رأي أرسطو ومسكويه.
٢٨
ويُحيل مسكويه أيضًا إلى المتقدمين في مقابل المتأخرين، ويستحسن آراءهم من أن الخير
مقصود الكل، والغاية الأخيرة، وقد يُسمى النافع كذلك. كما يستعمل لفظ الأوائل الذي لا
يُشير إلى اليونان بالضرورة، بل قد يُشير إلى الفُرس أيضًا؛ لأنهم لا يُسمون الملك إلا
من حرس الدين وقام بحفظ مراتبه وأوامره، وإلا فهو مُتغلب؛ فالإحالة إلى الأوائل موجَّهة
بدور الملك في رعاية الدين من تصور الخليفة أو الإمام. وفي أقسام المحبة عند الحكماء
يجعلها مسكويه تبدأ بمحبة الوالدين ثم محبة الحكماء؛ فهم بالنسبة لتلامذتهم كالوالدين
للنفوس، ثم محبة الله. وفي مرتبة الحكماء يصير العلم صحيحًا والعمل صوابًا؛ لذلك جعل
الحكماء الموت موتين؛ موتًا طبيعيًّا بانتهاء الأجل، وموتًا إراديًّا عن طريق إماتة
الشهوات، وكذلك الحياة حياتان؛ حياة طبيعية للبدن، وحياة إرادية بالنفس؛ فيُضيف مسكويه
البُعد الإلهي على بُعدِ الحكماء، ويجعل محبته لله قمة المحبة بعد محبة الحكماء.
٢٩
ويستعمل مسكويه بعض نوادر الفلاسفة للتعبير عن آرائهم الفلسفية، مثل ما وقع بين مملوك
وبعض الفلاسفة، والذي افتخر عليه بعض رؤساء زمانه بحالهم من الفضائل الخارجية، الفرس
والثياب، دون الداخلية الذاتية، ومثل دخول أحد الفلاسفة على بعض أهل اليسار والثروة،
وكان يحتشد في الزينة وأُبَّهة البيت، فبصق عليها؛ لأنه لم يجد أحقر منها؛ فالفضائل في
النفس وليست خارجها في موضوع العُجب والافتخار. ومثل تعمُّد أحد المُتفلسفين الذين
يُمارسون الفلسفة على نحوٍ عملي إيجادَ نفسه في مواطن الخوف حتى يعوِّد نفسه تحمُّل
المخاطر الخارجية بالتعرض لها، مثل ركوب البحر أثناء هيجانه حتى يعوِّد نفسه على
السيطرة عليها حين الغضب. وكلها أمثلة على انقلاب الفيلسوف من الخارج إلى الداخل في
تصوره للفضائل في موضوع الجبن والخور.
٣٠
ويستعمل مسكويه لفظ الفلاسفة للدلالة على فلاسفة الإسلام، وهو المعنى الخاص الضيق،
أو
كل الفلاسفة بما في ذلك اليونان وغيرهم، وهو المعنى العام الواسع، وآراؤهم هي ما يُسمى
فلسفةً بإجماع العقلاء؛ فقد أجمعوا على أن للإنسان كمالين؛ الأول نظري للمعارف والعلوم،
والثاني عملي لنظام الأمور وترتيبها؛ لأن له قوتين؛ علمية وعملية، ولكل قوة اشتياقُها،
كما أن المحقِّقين منهم يُجمِعون على تحقير البخت، ولا يجعلونه ضمن السعادة؛ لأن
السعادة أمرٌ ثابت يُنال بالإرادة، وليس مُتغيرًا يُنال بالمصادَفة، والأخس لا ينال
الأشرف. أما الحدث منهم، أي المُحدَثون، فإنهم جعلوا عبادة الله على ثلاثة أنواع
متدرجةً من أدنى إلى أعلى؛ الأول واجبات البدن، كالصلاة والصيام ومواقف المُناجاة لله.
والثاني واجبات النفس بالاعتقادات الصحيحة، كالعلم بالتوحيد. والثالث ما يجب حين مشاركة
الناس في المدن بالمعاملات والمزارعات والمناكحات وتأدية الأمانات والمعاونات
والمناصحات وجهاد الأعداء والذب عن الحريم وحماية الحوزة، وهي أيضًا عبادات، طريق إلى
الله. الأول طريق العبادات، والثاني الاعتقادات، والثالث المعاملات؛ لذلك يتدرج معنى
الفلاسفة من كل الفلاسفة منذ القِدم إلى بعض الفلاسفة، وهم المتحقِّقون منهم، إلى بعض
البعض، وهم المُحدَثون منهم. وقد يكون المقصود فلاسفة المشرق، ثم فلاسفة اليونان، ثم
فلاسفة الإسلام، وهي معرفة الله.
٣١
ويذكر مسكويه أخلاق الشعوب وعاداتهم، الغرب والهند والعرب، فيُشير إلى عادة ملوك
الفُرس في تربية أولادهم بعيدًا عن القصور، وإرسالهم إلى المناطق الخشنة ليتعوَّدوا على
أخلاق الرجولة، وهي عادةٌ عربية أيضًا نظر لها ابن خلدون فيما بعدُ في التمييز بين
أخلاق الحضر وأخلاق البدو. ويُشير إلى حكيم الفُرس وملكهم أردشير وقوله الشهير: الدين
والمُلك أخوان توءمان؛ فالدين أساس، والملك حارس، ومن لا أساس له مهدوم، ومن لا حارس
له
ضائع. وكأنها نظرية الإمامة أو الخلافة عند المسلمين في التوحيد بين الدين والدولة. كما
يُشير مسكويه إلى الهند، كتاب «كليلة ودمنة»، والحديث عن الأخلاق بلغة الأمثال
والوصايا؛ لما في ذلك من النفع العظيم عند السامعين الفضلاء، ولخوفهم من الضرر الذي قد
يقع عليهم إذا ما استهانوا بها. كما يذكر الأحباش والروم والنوبة في موضوع الغدر والضيم
عند بعض أجناس العبيد، ويمدح وفاء هذه الشعوب؛ فالشعوبية ليست سلبًا، بل هي أيضًا
إيجاب؛ فلا تُذكَر الرذائل وحدها، بل أيضًا الفضائل. وقد يوجد وفاء عند بعض العبيد أكثر
مما يوجد عند الكثير من الأحرار. كما يظهر الأعراب كعادات في الأخلاق؛ فمن ترك الشهوات
من المآكل والمشارب وسائر اللذات فإما لأنه ينتظر أكثر مما هو حاضر، وإما لأنه لا
يعرفها كما هو الحال عند الأعراب في الجبال والرعاة في البوادي وسفوح الجبال. كما اشتق
لفظ إنسان من الأنس، كما يؤيد ذلك النحو، وليس من النسيان كما يقول بعض الشعراء.
٣٢
أما الموروث فقد ذكر الكندي أولًا، ثم علي بن أبي طالب مما يبيِّن أصوله الشيعية،
ثم
الحسن البصري وأبا بكر الصديق وعثمان الدمشقي، ثم امرأ القيس والنابغة والنبي أيوب،
الأنبياء مع الشعراء.
٣٣ يأتي الكندي في المقدمة؛ مما يدل على استمرار التراكم التاريخي ابتداءً من
الكندي كبديل للوافد، مع أن الكندي لم يركِّز كثيرًا على الأخلاق، واستبعاد الفارابي
وابن سينا، وهما اللذان أوغلا في الأخلاق، ربما للحسد المعروف بين مسكويه وابن سينا،
وربما لرغبة مسكويه تأسيس الأخلاق على العقل والعلم، كما فعل الكندي في تأسيس الفلسفة
بعيدًا عن إشراقيات الفارابي وابن سينا. والغريب أيضًا عدم الإحالة إلى الرازي الذي
حاول تأسيس الفلسفة أيضًا مثل الكندي ابتداءً من العقل والعلم. وقد تكون الإشارة إلى
الكندي، وليس إلى الرازي أو الفارابي السابقين عليه، أو ابن سينا المعاصر له، إما
تخفيًا وتقيةً من التشيع، أو اختيارًا للكندي الأخلاقي، وليس الرازي الطبيعي، والفارابي
المنطقي، وابن سينا الإشراقي. ويستشهد مسكويه بالكندي في موضوعين؛ معرفة المرء عيوب
نفسه، والحيلة لدفع الأحزان، ويذكره بعد جالينوس وكخاتمة له؛ فالوافد بداية الموروث،
والموروث نهاية الوافد؛ الوافد وسيلة، والموروث غاية. ويقتبس مسكويه نصًّا للكندي
بألفاظه، وهو ربما الوحيد الذي يقتبس نصًّا من المخزون الموروث فاصلًا بين ما له وما
لغيره دون التجميع الذي يخلط كل شيء مع كل شيء. ويذكره باسمه الكامل، أبو يوسف
ابن إسحاق الكندي. ويقطع نص الكندي حتى يسهل إعادة توظيفه واستعماله، ويُعلن عن النص
مرتين في بدايته وفي نهايته. والموضوع كيف تكون الأنا مرآة للآخر، والآخر مرآة للأنا،
في التعرف على الفضائل والرذائل؛ حتى لا ترى الأنا عيوب الآخرين دون عيوبها، ولا تدرك
فضائلها وإغفال فضائل الآخرين؛ فإذا فعل الآخر سيئة كان تحذيرًا للأنا، وإذا فعل حسنة
كان تشجيعًا للأنا. تُراجع الأنا أفعالها كل يوم لتقييمها وتصحيحها. ودون هذه المرآة
المزدوجة يصبح الإنسان في مواجهة الكتب والدفاتر فقط، تُفيد غيرها وهي عادمة لها.
٣٤ وفي موضوع الحزن يقتبس أيضًا نصًّا من الكندي يُفيد أن الحزن ليس من
الأشياء الطبيعية، وأسبابه ليست ضرورية، بل يجلبه الإنسان ويضعه وضعًا، مثلُ فقد مملوك،
المِلكية سبب الحزن حرصًا عليها وخوفًا من فقدها، ومن لا يملكون لا يحزنون، والقضاء على
الحزن مرهون بالقضاء على المِلكية والعودة إلى الحالة الطبيعية.
٣٥
ثم يأتي الموروث الصوفي بعد الموروث الفلسفي، الحسن البصري نموذجًا في أقواله
المأثورة عن آفة النسيان في موضوع اللذة التي تُطيقها الشريعة، قليلة الحروف، كثيرة
المعاني، فصيحة البيان، مستوفية شروط البلاغة؛ فالحسن البصري مصدر للأخلاق كما هو الحال
في الحكمة الشعبية، لا فرق بين الصوفية والخلفاء. كما يستشهد بأقوال علي بن أبي طالب،
كرَّم الله وجهه، ويصفه بألقاب أمير المؤمنين والإمام، صلوات الله عليه، في حقيقة
الشجاعة، وإنَّ ألف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة الفراش. كما تؤخذ شخصيته
نموذجًا في المزاح والدعابة حتى لقد عابه البعض عليه. ويضرب به المثل، علي ونسله، في
ضرورة الموت؛ لأن الأرض لا تسع للأحياء كلهم في موضوع علاج الخوف من الموت. وقد يكشف
ذلك مرةً أخرى عن تشيُّع مسكويه وولائه لأهل البيت. ويستعمل أيضًا قول أبي بكر الصديق
إن الملوك أشد الناس فقرًا، بل إنهم أشقى الناس في الدنيا والآخرة؛ فالملك يزهد فيما
في
يده، ويرغِّب فيما يد غيره؛ يشطر أجله، ويشقِّق قلبه، ويُحسَد على القليل، ويُسخَط
بالكثير، ويُسأم الرخاء، ولا يُضار إن انقطعت عنه اللذة، ولا يسكن إلى الثقة، جَلْد
الظاهر، حزين الباطن، واقع تحت الحساب مع قلة العفو؛ لذلك كانوا أوجب الناس بالرحمة.
ويُحال إلى ابن عثمان الدمشقي، مترجم أرسطو، باعتباره عربيًّا؛ فالمترجمون عرب، حلقة
الصلة بين الوافد والموروث.
٣٦
ويذكر مسكويه امرأ القيس والنابغة في مَعرِض الحديث عن الشعر وصلته بالأخلاق، وهو
الموضوع الشهير في سورة الشعراء عن الصلة بين الشعر من ناحية، والغواية والخيال والفصل
بين القول والعمل من ناحيةٍ ثانية؛ فرواية الشعر الفاحش وقَبول أكاذيبه واستحسان قبائحه
ونيل لذَّاته، كما هو الحال في شعر امرئ القيس والنابغة، ثم إقرار ذلك من الرؤساء،
وإجزال العطايا للشعراء وأقران السوء الذين يساعدون في اللذات الجسمانية؛ ومن ثَم
يحذِّر مسكويه من معاشرة أهل الشر والمجون، والمُجاهرين باللذات وركوب الفواحش،
والمُفتخرين بها، والمُنهمكين فيها، أو الإصغاء إلى أخبارهم ورواية أشعارهم وحضور
مجالسهم؛ لإضرار ذلك بالنفس، بحيث لا يكون علاجها بعد ذلك صعبًا، ويحتاج إلى زمنٍ أطول.
وكانا سببَي فساد الفاضل المحنَّك، وغواية العالم المُستبصر، وفتنة للحدث الناشئ الذي
يتُوق إلى النصح والإرشاد. ويحذِّر النظر في الأشعار السخيفة التي تذكر العشق وأهله،
والذي يوهم بأنه ضرب من الظرف ورقة بالطبع معه مع أنه مَفسدة للأحداث، إنما تتطلب
الأخلاق سماع محاسن الأخبار والأشعار التي تبعث على الأدب وحفظها. وينقد مسكويه لا
أخلاقية الشعر، وارتباطه بالشرب والمجون، والتكسب به عند الأمراء. وفي نفس الوقت يُطالب
الأطفال بحفظ الشعر الجيد القائم على الأخلاق.
٣٧ ويستشهد مسكويه بالشعر المُرسَل غير المنسوب فيما يعنُّ له من موضوعاتٍ
أخلاقية، مثل الحديث عن الإنسان وأنه أشرف الموجودات، ونقد المبالغة والتقصير كطرفَي
نقيض، والحذر من عداوة الصديق، وعدم الخلط بين الحقيقة والزيف، بين السمنة والورم، وفي
نقد المزاح والحذر منه؛ فالشعر نوع من الإحسان العرَضي، وليس الباقي الذاتي، ويكون
سفهًا وغضبًا ورذيلة إذا ما كان رفضًا للطبيعة وهجاءً للقمر. أما الأمور الممكنة فإنها
مَدعاة للخوف، سواء وقعت أو لم تقع.
ويستدعي مسكويه تاريخ الأنبياء، أيوب، وإبراهيم، وقارون؛ فأيوب نموذج للبلايا التي
لا
تُخرِج الحكيم عن مرتبة السعادة التي وصل إليها، وأموال وكنوز قارون لا تُغْني عن قدر
المودة، ومن أحب الله وتقرَّب إليه يصبح مثل إبراهيم خليل الله.
٣٨
ويستشهد مسكويه بالموروث الأصلي، القرآن والحديث،
٣٩ ويعظِّم الآيات القرآنية ذات المنحى الإشراقي التي يستشهد بها الصوفية،
وتتكرر آيةٌ واحدة ثلاث مرات تَعِد الأخيار بما أُعدَّ لها من قرة أعين، أو تصف واقع
إيمان أكثر الناس بالله وهم مشركون، أو استعارة بعض أمثال القرآن، مثل رجلين لأحدهما
جنتان من أعناب فأصبحت خاوية على عروشها مما أنفق، ومثل الحياة الدنيا كالماء من السماء
المختلط بالأرض فيصبح هشيمًا تذروه الرياح في موضوع العُجب والافتخار، إلا أن أولياء
الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في موضوع الحزن. وتبيِّن الأحاديث أن الإنسان أشرف
الجواهر، وأنه فرد بين المجموع، كالراحلة بين الإبل، وأن الناس سواسية كأسنان المشط أو
الحمار، يتفاضلون بالعقل، ولا خير في صحبة لا يُعرَف فيها فضل الصاحبين، ورجحان أمة
الإسلام على باقي الأمم، وأن النخل من طينة آدم احترامًا للزرع، وأن في الجنة ما لا
عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن الناس بأعمالهم لا بأنسابهم، وأن
المزاح المعتدل محمود؛ فقد كان الرسول يمزح ولا يقول إلا حقًّا. وبصرف النظر عن صحة هذه
الأحاديث تاريخيًّا إلا أنها جزء من المخزون النفسي الجماعي.
٤٠
وأخيرًا تظهر المقدمات والخواتيم التي تعبِّر عن البيئة الدينية للتأليف، مثل البسملة
والحمدلة، وطلب التأييد من الله، فالخير بيده، وهو نعم الوكيل، والبداية بعون الله،
فالرسول هو النموذج التطبيقي للتهذيب والتربية الإلهية، وإلى الله يتوجه مسكويه
بالدعوات وطلب الرضا واستجداء العون، ويبدأ كل مقالة بمعونة الله.
٤١ وبعد الدعاء لله يبدأ الدعاء للسلطان وواليه، مع ذكر التاريخ الهجري وحده
في طباعته قبل أن يزدوج مع التاريخ الميلادي في وعينا التاريخي الحديث، والمشرف على
الطباعة ونسبه ووظيفته.
٤٢
وبالإضافة إلى الوافد والموروث يظهر عند مسكويه بدايات التنظير المباشر للواقع،
والاعتماد على التجارب الذاتية، وتحليل العقل الخالص، تحولًا من النقل إلى الإبداع؛
فقوى النفس الثلاث ليست من الوافد، أفلاطون فحسب، ولا من الموروث، النفس الأمَّارة
بالسوء، والنفس اللوَّامة، والنفس المُطمئنة فقط، بل هي تجربةٌ شخصية عند مسكويه،
وإبداعٌ ذاتي من تحليله الخاص وتنظيره المباشر للواقع. يصف مسكويه تجارِبه الخاصة
وتجارب الآخرين. يُلاحظ ذاته واكتساب العادات وجهادها، ويعبِّر عن خلاصة ما انتهى إليه
للقُراء لنصحهم؛ فليست الغاية المعرفة وحدها، بل التوجه العملي أيضًا، وإسداء الرأي
والنصح للناس في إطار تجربة حضارية مشتركة وهمٍّ مشترك وغايةٍ واحدة. يبزغ الإبداع عند
مسكويه من تجاربه ومشاهداته، ثم يصدِّق الوافد أو الموروث على ما عرفه بنفسه معرفةً
مباشرة خاصة، وأن الموضوعات إنسانيةٌ خالصة، مثل الحزن والخوف، وفي ذهنه أحداث العصر.
٤٣
ويُشرِك مسكويه القارئ في التجربة والمشاهدة. لم يعُد الأمر بين مسكويه وأرسطو، ولكن
مع القارئ أيضًا كطرفٍ ثالث في تجربةٍ مشتركة واحدة وموسَّعة؛ لذلك يتحدث مسكويه بضمير
المتكلم المفرد والجمع تعبيرًا عن التجربة الشخصية. الخطاب موجَّه إلى القارئ والمستمع،
وليس حديثًا مجهولًا، معادلات رياضية بلا متكلم ولا مخاطب، فيقول: ذكرنا، وصفنا، وعدنا.
الفلسفة مشروعٌ حضاري جماعي يعبِّر عنه الفيلسوف، خطاب أمة.
٤٤ يدل أسلوب مخاطبة القارئ على أن الفكر تجربةٌ مشتركة بين الكاتب والقارئ،
وأن القراءة جزء من الكتابة، وأن الكتابة تهدف إلى أن تتحول إلى واقعٍ يتحرك، وتغيُّر
فعلي. الكتابة فعل. والانقياد إلى الشريعة شيءٌ بديهي يمكن رؤيته في سلوك الآخرين،
وكذلك استعداد الصِّبيان لقبول الأدب أو نفورهم منه، وما يظهر فيهم من الإباحية
والحياء، والقسوة والرحمة، والجود والبخل؛ مما يُساعد على معرفة مراتب الإنسان إلى
الفضيلة، وأنهم ليسوا على رتبةٍ واحدة؛ ففيهم السهل السلس والصعب الممتنع. يكفي الكاتب
الكليات، ويترك الجزئيات للقارئ. العلم في النفس وليس في الخارج، والتعلم من النفس وليس
من المُعلم. ويتحقق بالفعل، فيصير الإنسان خليفة الله، الموجود التام والدائم والباقي،
يقبل الفيض منه بحيث لم يعد بينه وبينه حجاب. والقارئ على نفس المستوى والأهلية لما
يطلبه الكاتب، والذي سرعان ما ينضم إليه ويصبح جزءًا من الدعوة، كما هو الحال في التشيع
والتبليغ. القارئ على نفس مستوى الكاتب، وقادر على أن يحقِّق وصاياه، القيم الذاتية،
وليست الأشياء الخارجية في موضوع العُجب والافتخار. ويعرض المؤلف للقارئ الموقف بحيث
لا
يكون هناك مجال إلا لاختيارٍ واحد، إن شاء القارئ أن يختار الفضيلة والسعادة، مثل تقسيم
النفس إلى بهيمية وسبعية وناطقة، ومطالبة القارئ أيها يختار، وكأن الحلقة أو الطريقة
قد
تحوَّلت إلى تدوين. لا يعلن المؤلف عن حقيقة، بل يولِّدها من باطن القارئ.
٤٥ أمام الإنسان طريقان؛ طريق البهائم وطريق الملائكة وطريق السباع، فأيها
يختار؟ على القارئ أن يقوم بقلب النظرة من الخارج إلى الداخل حتى يصبح الاختيار واضحًا،
وإذا تأمَّل القارئ هذا الجوهر الشريف فيه لعرف أنه باقٍ غير فانٍ. وفي النفس الناطقة
يتم الاتصال بالله، وتتلقى منه العون، على أن تقوم كل قوة بالسيطرة على القوة التي
تحتها؛ فتُسيطر السبعية بما فيها من حميَّة وغضب، على البهيمية بما فيها من لذَّات
وشهوات، ثم تُسيطر الناطقة بما فيها من عقل ورجحان على السبعية.
٤٦
ويتم التأليف المزدوج من الوافد والموروث وتجاوزهما إلى التجربة الشخصية أو التنظير
المباشر للواقع عن طريق آليات التأليف. التأليف المزدوج ليس تجاورًا للمصدرين، بل
توظيفٌ معنوي عضوي لهما في عمليات الإبداع. ويمكن وصفها عن طريق تحديد المسار الفكري
للعمل، بداياته ونهاياته، مقدماته ونتائجه، خطواته واستدلالاته. ويمكن الكشف عنها عن
طريق تحليل أفعال الفقرات وأزمنتها وصياغاتها وأسمائها وحروفها؛ فالأفعال المستعملة
كلها قبل فعل القول أو معه، أفعال البيان والإيضاح، مثل: بان، وضح، علم، ظهر، حدد، عرض؛
أو أفعال التقديم، مثل: ذكر، قدم، رأى، رتب، سمى، وصف، فحص، وقف. وتدل كلها على أن
الفكر موضوع يقدَّم بوضوح وتفصيل واستقصاء. كما تدل الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل،
على مسار الفكر، ما تمَّ وما يتمُّ وما سيتمُّ في مراحل ثلاث. وأحيانًا يتم الجمع بين
فعلين، الماضي والمضارع، ما تم وما يتم، ما بان وما يتبين، وأحيانًا مع الماضي في
المستقبل. والفعل المضارع مواجهةٌ مباشرة مع القارئ، ووضع الاستنتاج أمامه، ومطالبته
برؤيتها بعد الاستدلال السابق؛ فهي النتيجة بعد المقدمة. وكثيرًا ما يرتبط المضارع
بالماضي على التبادل، وهو مسارٌ معياري للفكر يعبِّر عن نفسه بأفعالِ يجب وينبغي. ويأتي
المستقبل بعد الإعلان عما تم في الماضي وما يتم في الحاضر انتظارًا للنتيجة، وغالبًا
يأتي بمفرده ومرتبطًا بالمشيئة الإلهية. الغالب على العبارات إذن أنواع الأزمنة الثلاثة
التي تحدِّد مسار الفكر ومراحله، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، من المقدمات إلى
الاستدلال إلى النتائج. الزمان هنا زمان الاستدلال؛ أي لا زمان. وإذا كان هناك خطأ في
المسار يتم تصحيحه عن طريق إعادة ترتيب المقدمات وتحديد الغاية والقصد وتحقيق اتساق الفكر.
٤٧
مسار الفكر كله نظرية في الإيضاح. وقد يطول الربط بين الفقرات ويصبح تلخيصًا للسابق
واستعدادًا للقادم، إعلانًا لوحدة الفكر وتكامل العلوم، ولحصار الاستطراد بين قوسين،
ومع ذلك تأتي أهمية الإيجاز، ويتم التذكير بالعودة على البداية لحصار الاستطراد والخروج
على الموضوع؛ مما يدل على وحدة الفكر والقصد والغاية. ومسار الفكر مسارٌ إشكالي، يعرض
الإشكال وحله، القضية وعلاجها، المادة وإكمالها؛ مما يتطلب وضوح الغاية والقصد، وتحديد
المسار بدقة من المنطلقات الأولى حتى النتائج الأخيرة.
٤٨ ونظرًا لأن التفكير تجربةٌ مشتركة بين المؤلف والقارئ، فتظهر صيغة الأمر
على أساس أنه فعلٌ مشترك، خطوة ضرورية إما في الشخص الثاني المخاطب، مثل «فاعلموا»، أو
في الشخص الأول المتكلم، مثل «فلتعلم»، أو الغائب «فليعلم» مفردًا أو جمعًا. وهي نتيجةٌ
أمرية للبرهان، وضع للشعور أمام موضوعه، ودعوةٌ مباشرة إلى الرؤية.
٤٩ ونظرًا لأن مسار الفكر استدلال واستنتاج تظهر حروف التعليل، لذلك، لهذا.
وتذكر ألفاظ التعليل صراحةً، مثل الأسباب. فالفكر البرهاني والفكر العلمي كلاهما يقوم
على التعليل في المنطق وهو الاستغراق، وفي العلم وهو العلية، ويجمع القياس الشرعي بين
الاثنين.
٥٠ كذلك تظهر حروف الشرط والاستنتاج، مثل «ولما»، وأفعال الشرط وجواب الشرط؛
فلا مقدمات بلا نتائج، ولا نتائج بلا مقدمات.
٥١ وأحيانًا تبدأ الفقرات بالأسماء تتلوها الأفعال، وليس بالأفعال وحدها
تتلوها الأسماء؛ مما يدل على أن المؤلف يتعامل مع موضوعات وليس مع أقوال، مثل الغاية،
القصد، الغرض الذي يبين اتجاه مسار الفكر نحو غاية. كما يبيِّن اسم الموضوعات، مثل:
الإنسان، الفضيلة، السعادة، الكمال، قوى النفس، العدالة، الصداقة كمبتدأ في الجملة
الاسمية يكون الفعل خبرها.
٥٢ بل يشترك الناسخ مع المؤلف في إعادة إخراج النص وتقطيعه إلى فقرات حتى يسهل
فهمها والتعرف على استدلالاتها، مقدماتها ونتائجها. ويذكر أمام كل فقرة باسم المؤلف مع
طلب الرحمة له. وأسلوب القول هو أسلوب المؤلفين وليس الشراح فقط، يستعمله المؤلف طلبًا
للتوفيق. وأسلوب التأليف عربيٌّ جيد؛ مما يميِّز التأليف على العرض، ويميِّز كليهما على
الشرح والتلخيص والجوامع، وهو مكتوب للخواص. وهناك إحساس بقِصر العمر وطول المشروع؛
فالبيان جهد لا يتوقف. ويقوم العلم على الاتساق.
٥٣
(ب) «في النفس والعقل»، ويقوم تمثل الوافد على سؤال عن الوافد والإجابة عليه بوصفه
في
الموروث المباشر أو في التصور العام للموروث، مثال ذلك «في النفس والعقل»؛ فإنها جواب
على سؤال وحل شكوك في الجوهر، وهو موضوعٌ مشترك بين الوافد والموروث، قضية الحس والعقل
عند الغزالي، وحجج أنصار الحس لإنكار العقل والمعاني الكلية والموضوعات المفارقة،
وأنصار المنهج الاستقرائي الذين يريدون الانتقال من الجزء إلى الكل عن طريق الحواس،
وليس إدراك المعاني العقلية بالعقل، وضرورة إثبات الوعي الخالص تحت العقل وفوق الحس،
والشعور بالله في النفس. وهو نوعٌ أدبي فقهي، أحكام السؤال والجواب، يتجاوز الوافد
والموروث إلى بداية الإبداع الخالص بالتوجه نحو الموضوع وسبر غوره والتعبير عنه.
٥٤
ومن الوافد يتصدر روفس الطبيب، ثم أرسطو والحكيم، ثم أفلاطون، ثم جالينوس، ثم أبقراط
وسقراط، ثم ثامسطيوس والإسكندر.
٥٥ وروفس الطبيب نموذجُ الشاكِّ القديم في المعرفة، بصرف النظر هل هو وضع سؤال
الشك في الحس والعقل أم أن ذلك تأييد سؤال الشك الأعم بواقعة تاريخية خالصة. يعتمد
السائل الشاك على قول روفس وحجته في كتاب «الماليخوليا»، الذي يتضمن أساس الشك التام
بناءً على خطأ الحواس والوهم والتخيل. ولما كان العقل يعتمد على مادة الحس السابقة عن
طريق التذكر فإنه يكون أيضًا عُرضة للخطأ؛ فهناك أوهام لا يمكن مشاهدتها بالحس؛
وبالتالي يمكن الشك في الجواهر الروحانية لأنها جزئيات لا تُدرَك بالحس. الشك في الحواس
إذن مقدمة لإنكار الجواهر الروحانية، أو ما يُسمى بالإلحاد حاليًّا.
٥٦ ولا يرفض مسكويه حجج روفس كلها، بل ينقد منها ما يستحق النقد ويقبل ما
يستحق القبول، مثل عدم إدراك الكليات لعدم إدراك الجزئيات. ويخطئ عندما يستعمل لفظ
«ماليخوليا» عامًّا، ويُطلِقه على كل فكر على أنه خاص بمعنى المرض، مع أن الذي يميِّز
الإنسان عن الحيوان هو قوة التمييز. ويستعمل مسكويه حجةً جدلية مؤدَّاها أن علم روفس
الطبيب ليس ماليخوليا بمعنى المرض، أو الوهم بمعنى الفكر، ثم يُعطي حجةً إيجابية ضد
الشك تقوم على إثبات أن النفس جوهرٌ روحاني لطيف لا كل لها ولا جزء. ويُقال نفس الشيء
في العقل، استغناء العقل عن المحسوس في البرهان عند العاقل. وينتهي روفس إلى إنكار
الوحي والقوى الإلهية والكهانة، ربطًا للوحي بالنفس والعقل، أي بطريق المعرفة والسعادة،
أكثر من ربطه بالواقع الاجتماعي وحاجة الناس إلى شريعة.
٥٧ يبدو مسكويه هنا فيلسوفًا خالصًا أقرب إلى الإبداع منه إلى النقل، وأقرب
إلى الفارابي في اعتماده على العقل الخالص. والعجيب غيرة ابن سينا منه، ونقد أبي حيَّان
له؛ حسده ابن سينا، وشوَّه التوحيدي صورته.
٥٨ وتُعتبر هذه المقالة نموذج العمل الفلسفي؛ الدعوة ونقضها.
ويعتمد مسكويه على أرسطو لتنفيذ حجج الشك عند روفس، من الذاكرة إذا ما غلبت الكتب؛
فأرسطو قابع في الوعي الحضاري الجديد. ويُحال إلى كتاب النفس في نظرية المعرفة وليس
الأخلاق. يبدأ مسكويه بقول أرسطو، قول الآخر على لسان الأنا، ويعبِّر عن معاني أرسطو
بألفاظه، كما يعتمد على شراح أرسطو ومُفسري كتبه، أرسطو في الوعي الحضاري القديم، خاصةً
ثامسطيوس. العقل والحس لا يتعارضان، ولا ينفي أحدهما الآخر؛ فكلاهما في النفس. ولقد جمع
بينهما الإسلام.
٥٩ وقد بيَّن ذلك الحكماء، أن فعل العقل الذي به يدرك من الحواس، بل يدرك
كلياتها فحسب، وهو علم العلم، علم ذات العقل الذي يدرك إدراكه؛ فالعقل عاقل ومعقول،
وعلم من العلوم الأوائل التي لا تحتاج إلى براهين لأنها وضح من البرهان. وإن عدم وضوحه
راجع إلى العين التي لا ترى، كالخفاش إذا نظر إلى عين الشمس فإنه يغشى ولا يرى؛ لنقصان
في عين المُبصِر وليس في المُبصَر. يستعمل مسكويه مثل أرسطو لبيان أن العيب في الذات
لا
في الموضوع. والانفعال الحسي والانفعال العقلي مُتمايزان؛ لأن الحس لا يدرك المحسوس
الضعيف أو القوي، في حين أن العقل قادر على تصور ما هو دونه. الحس لا يخلو من الجسم،
في
حين أن العقل لا يُفارقه. العقل يدرك ذاته، والحواس تدرك غيرها؛ لذلك كان العقل هو جوهر
الإنسان بالحقيقة، وحياته هي الحياة الفاضلة السعيدة. وكان العقل عند الحكيم أبديًّا
مُفارقًا، لا يُفسر بفساد الإنسان، بل جوهرٌ قائم بذاته يستعمل المزاج كآلة له. إن
اعتدل حيي الإنسان، وإن انحرف أو بطل مات. والعقل جوهرٌ مُفارق، مثل الله والعلة
الأولى. ولأول مرة في علوم الحكمة يقتبس مسكويه نصوصًا من أرسطو دون خلطها وتعليقه
بشرحه، إحساسًا بالفرق بين النقل والإبداع، بين الآخر والأنا، كما فعل ابن رشد بعد ذلك
في «تفسير بعد الطبيعة»، وكما فعل الفارابي من قبل في «شرح البرهان»، وابن باجه في شروح
السماع الطبيعي، احتواء للشرح داخل التأليف.
٦٠
كما يذكر أرسطو في معرض الجمع بينه وبين أفلاطون، وكما فعل الفارابي من قبل في الجمع
«بين رأيَي الحكيمين» ودون الإشارة إليه، ردًّا على سؤال هل العقل يأخذ على جهة التذكير
أم على جهة الانقداح. وقد اختار أفلاطون الرأي الأول في نظريته في أن العلم تذكُّر
والجهل نسيان، واختار أرسطو الرأي الثاني عن طريق المحسوسات. ولا خلاف بين الطريقين؛
تذكر العقل بالمعقولات ونسيانه بالبدن، وهو طريق أفلاطون، وإدراك العقل من خلال الحس،
وهو طريق أرسطو. إنما الخلاف في كيفية النظر إلى المعرفة من أعلى كما يفعل أفلاطون، أم
من أسفل كما يفعل أرسطو؛ استنباطًا عند أفلاطون، أو استقراءً عند أرسطو؛ من الله إلى
الإنسان عند أفلاطون، أو من الإنسان إلى الله كما هو الحال عند أرسطو. أرسطو يعلم
الحكمة من الترقِّي من الأشياء الطبيعية، وأفلاطون ينحدر من الأمور الإلهية؛ ومن ثَم
يجمع مسكويه المنظومتين في منظومةٍ واحدة طبقًا لمنهج التوحيد بين الجزئيات. ويشارك
سقراط أفلاطون في منظوره الإشراقي، طرح البدن، والانصراف عن الانشغال بالحواس حتى يدرك
الأمور الروحانية. ويقتبس مسكويه نصًّا من سقراط كي يتحدث بلسانه أو يتركه هو يعرض رأيه
بألفاظه، ويعتمد سقراط على ذلك لإثبات أن النفس مُفارقة للبدن.
٦١
وكما يجمع مسكويه أفلاطون وأرسطو في منظورٍ واحد، كذلك يجمع بين العقل والحس، بين
أفلاطون وأبقراط في منظورٍ واحد، بين العقل والمزاج؛ فمن الطبيعي أن يجعل أبقراط الطبيب
القوى كلها عن المزاج، أن ينظر إلى المبادئ الطبيعية دون الذهاب إلى ما وراءها. ومن
الطبيعي أن يجعل أفلاطون الفيلسوف المزاج مجرد آلة. العقل وحده هو القادر على الذهاب
إلى ما وراء الطبيعة للنظر في المبادئ كلها إلى أن ينتهي إلى مبدأ المبادئ، وهذا لا
يتأتَّى إلا بإماتة شهوات البدن للحصول على الحياة الأبدية؛ لذلك قال أفلاطون: «مُتْ
بالطبيعة، تحيا بالإرادة.»
٦٢ كما يُحيل مسكويه إلى جالينوس الذي يرى أن التفكير يفسد، كما فسد تفكير
مشَّاط الصوف ثاوسيس حين ظن أن البساط يتألم، فرمى به من فوق ليؤلمه لما غضب عليه. هناك
فكرٌ خاطئ يصحِّحه الفكر الصحيح بعد أن يعرف علة الخطأ. أما الروحانيات فليست فكرًا
فاسدًا مثل مشَّاط الصوف ما دُمنا لا ندركها جزئيًّا ولا كليًّا؛ ومن ثَم تكون موضع شك
كما قال روفس. هنا يُعيد مسكويه تفسير جالينوس لحمايته من نظرية روفس المادية. كما يذكر
مسكويه الشكوك التي أوردها البعض على الإسكندر احترامًا لآراء الآخرين، وإعطاء كل ذي
حق
حقه بالنسبة إلى العقل المُفارق، مع أنه أيضًا رأي مسكويه. ويضرب المثل بالإسكندر
الأكبر وزمانه، وهو زمان الآخرين، على زمن حركات الأفلاك ونسبة بعضها لبعض.
٦٣
ويُحيل مسكويه إلى الحكماء على الإطلاق، لا فرق بين حكماء اليونان وحكماء المسلمين؛
فالحكمة تجمعهم. فمن كلامهم أن للعقل فعلًا خاصًّا به، جهة من النظر ليست مبادئ للحواس.
ليس العقل فقط العلم، بل علم العلم، علم العقل بذاته. كما يُحيل إلى الطبيعيين وإجماعهم
على أن اثنين من العناصر الأربعة فاعلان، هما الحرارة والبرودة، واثنين مُنفعلان،
الرطوبة واليبوسة، وكل واحد من هذه الأربعة أصل في نفسه لا يتولد عن الآخر، وإنما
يستحيل بعضها عن بعض. ويُحال إلى كتاب النفس وإلى الأخلاق والجوامع.
٦٤ وما زالت بعض الألفاظ معرَّبة، مثل ماليخوليا.
٦٥
ومن الموروث لا يُذكَر علَمٌ واحد، بل ذُكِر شيخ الفلاسفة والمتكلمون وبعض الأئمة؛
٦٦ فالمُتكلمون هم واضعو لغة ومصطلحات وإن لم يضعوا موضوعات، والموضوع واحد في
كل العلوم. الله ليس جسمًا ولا جزءًا من جسم؛ أي ليس بذي عظم، ولا شاغلًا لحيز، ولا
محمولًا في جسم؛ أي عرَض بعبارة المتكلمين. وذُكر أحد الأئمة لقوله إن الله لا يُعرَف
بشيء، بل ويُعرَف كل شيء بالله. وذُكر أيضًا شيخ من الفلاسفة عندما سأل رجلًا أكمه عما
يتصوَّره من البياض، فقال «خلو.» وكذلك من فقد قوة العقل في معقولاته فإنه لا يتصور
منها أشياء، ولا تنفعه أوهامه التي حصلت فيها من المحسوسات. ويظهر الأسلوب العربي
الشائع في التأليف مثل: اللهم، لعمري. كما تحدث مقارنة بين الحكيم والنبي، الأول يعرف
بالعقل، والثاني بالإلهام وبعنايةٍ إلهية.
٦٧
إنما ذكر الموروث الأصلي، القرآن دون الحديث، ثلاث آيات من القرآن الكريم؛ الأولى
لتأييد عدم احتياج المعقولات للحسيات للبرهنة عليها عند العاقل، واحتياج الذي لم يرتَضْ
لذلك بالرغم من المسافة الشاسعة بين المثل والممثول، مثل:
اللهُ
نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا
مِصْبَاحٌ. والثانية أهمية المثل لفهم المعقولات، مثل العقل في النفس
كالعين في البدن، أو الربَّان في السفينة؛ فالمثل ينبِّه الإنسان، ويوجِّهه نحو مطلوبه،
ويتدرج به من الحس إلى العقل
وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. والثالثة إثبات أن أوائل العقول لا
تحتاج إلى برهان، وإلا تسلسلت البراهين إلى ما لا نهاية، وكذلك الانتهاء إلى معرفة
الله، فإن الناس تظن أنهم عرفوه، ولكن
إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا،
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. وكما تبدأ الرسالة بالبسملة والترحم
على المؤلف، وطلب التوفيق والاعتماد على المشيئة والعون والقوة وسط الرسالة، تنتهي
الرسالة بالحمدلة والصلاة والسلام على النبي وآله.
٦٨
(ﺟ) آليات الإبداع. وتظهر آليات الإبداع في الأجوبة والأسئلة كنوعٍ أدبي، وهو نوعٌ
فقهي معروف في أحكام السؤال والجواب في علم الأصول. هو سؤال من شاكٍّ في قدرة العقل على
معرفة الكليات، والحس على معرفة الجزئيات، لضرورة وجود كلٍّ منهما، الحاس والمحسوس،
مُرتبطًا بالآخر.
٦٩ وإذا كان الحس أو العقل مصدرًا للعلم، فكيف تكون الثقة بالأمور الخارجية عنهما؟
٧٠ ويعتمد الشاك كلمة حق يُراد بها باطل، قول أرسطو «من فقد حسًّا فقد فقد
علمًا». والأخطر في السؤال هو الانتقال من الشك في المعرفة إلى الشك في الوجود، ومن
الشك في أدوات المعرفة، الحس والعقل، إلى الشك في موضوع المعرفة، العالم الخارجي أو
الوجود المطلق، وما يترتب على ذلك من إنكار الوحي لمعرفةٍ تفوق الحس والعقل وإنكار وجود
الله، الجوهر البسيط القائم بنفسه.
٧١ ويرد مسكويه على اعتراض الشاك بطريقتين؛ الأولى منهجية، والثانية موضوعية؛
فالسائل أخطأ في المنهج؛ فليس كل العقل في الحس.
٧٢ هناك أوائل العقول. صحيحٌ أن الكل والجزء إضافيان، ولكن لا يرد الكل إلى
الجزء. والأوائل هي التي تحكم على الحس وليس العكس. كما أن عدم تحديد معاني الألفاظ سبب
الأخطاء في الفهم طبقًا لمنطق الأصوليين؛ ومن ثَم أتت أهمية تحديد معاني الألفاظ،
المطلق والمقيد، والمجمل والمبين، كما هو الحال في معنى ماليخوليا. المطلق أي الفكر
الصحيح، والمقيد أي المرض والوهم. وتنشأ الفلسفة من التعبير بالألفاظ الشائعة عن
المعاني العويصة. كان يمكن للشاك ملاحظة عيوب وضع سؤاله ويرد عليه بنفسه، ولكن مسكويه
يرد عليه بالعقل وبالنقل، بالبداهة وبالنصوص، لإثبات إمكانية المعرفة؛ وبالتالي اليقين
الذاتي الموضوعي، المعرفي والوجودي.
٧٣
أما الطريقة الموضوعية فإنها تقوم على التمييز بين العقل والحس، وجعل العقل مستقلًّا
عن الحس وليس تابعًا له. وبالرغم من ظهور الحس قبل العقل في الزمان إلا أن العقل مقدَّم
على الحس بالذات.
٧٤ والفرق بين الحس والعقل أن في الحس الحاسَّ غيرُ المحسوس، في حين أنه في
العقل العاقل هو المعقول. العقل وعي بذاته، عقل وعاقل ومعقول. ثم أطلق التشبيه على الله
في عملية التشكل الكاذب. والنفس حس وعقل، والشيء هيولاني وروحاني؛ ومن ثَم يتطابق الذات
مع الموضوع، المعرفة والوجود. تبدأ نظرية المعرفة بتحليل وسائل المعرفة، الحس والعقل،
حتى يثبت موضوع المعرفة الصور المفارقة والجواهر الروحانية، وإن إثبات هذا الجوهر
الروحاني موجود لدى كل الشعوب وإن اختلفت طريقة التعبير عنه. ويقسِّم مسكويه السؤال إلى
عشرة أقسام، تفكيكًا له وتحليلًا للموضوع، ابتداءً من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة،
لمعرفة الهدف النهائي للشك، وأنه في الظاهر نظرية في المعرفة، وفي الحقيقة نظرية في
الوجود، أطولها القسم العاشر عن الإلهيات، يتلوه القسم الأول عن الحس والعقل، وأصغرها
القسم السادس عن الروحانيات الخارجية من الحس، والسابع عن الطبيعيات الدالة على ما بعد
الطبيعة، والتاسع من الطبيعيات إلى ما بعد الطبيعة.
والتأليف كله نظرية في البيان والإيضاح وإثبات العلم اليقيني؛ لذلك ظهرت أفعال البيان
في معظم الفقرات في الأزمنة الثلاثة، بينا، نبين، سنبين؛ أو أسماء البيان، مثل مبين،
تبيين. وكذلك أفعال الشرح، مثل شرح، كشف، وضح، في الأزمنة الثلاثة وفي الأسماء.
٧٥ وهو اللفظ الرئيسي في رسالة الشافعي في علم الأصول. وفي نفس الوقت يرتبط
المسار الفكري بمنطق البرهان والاستدلال بدايةً ووسطًا ونهاية؛ مما يبيِّن أهمية
الفواصل في النسق والخطاب المنطقي بلا فجوات أو قفزات حتى الوصول إلى الغاية القصوى،
السؤال العاشر، الحديث عن الله والأفعال قبل الذات. ومنطق البرهان يفرض نفسه، سواء كان
دائريًّا كما هو الحال في البرهان العلمي، أو طوليًّا مستقيمًا كما هو الحال في البرهان
الديني والانتهاء إلى علةٍ أولى. ويُحافظ مسكويه على المستوى الرفيع للمناقشة احترامًا
للسائل وافتراضًا لمستواه العالي في الذكاء، سواء كان ذلك حقيقة أم تهكمًا، تريبة له
أم
استمالة، موضوعيًّا أم ذاتيًّا؛ تأدبًا من مسكويه.
٧٦
ويتَّضح المسار الفكري في وضوح القصة وتحديد الغاية والهدف، وعدم الخروج على الموضوع،
والتنبيه على الاستقراء، والعود إلى الموضوع، وبعد استيفاء مرحلة يَعِد مسكويه ببيان
الجزء الثاني فيما بعد، بعد الفراغ من هذه المرحلة. وبعد استيفاء الموضوع يكتفي بهذا
القدر منه. ويُحيل إلى السابق تأكيدًا على وحدة العرض والموضوع؛ فالفكر له مساره
ومراحله، في الماضي والحاضر والمستقبل، كخطوات في منطق الاستدلال، وانتقالًا من العام
إلى الخاص. كل ذلك في تجربةٍ مشتركة بين المؤلف والقارئ، وفي عملٍ مشترك؛ فالعلم قضية،
والقضية واحدة. العلم عالمٌ شعوري مملوء بالشجون والهموم التي تعبِّر عن نفسها في أقواس
وافتراضاتٍ مطلوبٍ نفيُها أم إثباتها. الرسالة وحدةٌ موضوعية واحدة، يُحيل المتقدم فيها
إلى المتأخر، أهم ما فيها الجزء العاشر من السؤال، نهاية المطاف، وأطول الأقسام.
٧٧
وقد تم تقطيع النص من الناسخ عدة مرات، والإعلان عن لقبه واسمه مع الترحم عليه،
٧٨ وأكثرها قال أبو علي رضي الله، ولا يذكر قول أحد بإحدى صيغ فعل القول إلا
ويرد عليه مسكويه بقول في صيغة المفرد «أقول»، أو الجمع «قلنا». ويقوم مسكويه بتقطيع
السؤال حتى يتم تفنيده جزءًا جزءًا، يشرح القول الداخلي من السائل ثم القول الخارجي من
أرسطو.
٧٩ ونظرًا لصعوبة معرفة الترتيب الزماني لأعمال مسكويه إلا إذا أشار هو إلى
ذلك، فإن «في اللذات والآلام» و«في النفس والعقل» يدلان على عمق ونضج؛ مما يدل على
بداية التحول من النقل إلى الإبداع، من إخوان الصفا والتقابل بين العالم الكبير والعالم
الصغير، حتى ابن رشد والتفرقة بين الأقاويل الجدلية والخطابية.
٨٠