(١) ابن سينا
وتمثِّل بعض رسائل ابن سينا والبيروني هذا النوع الأدبي، تمثل الوافد قبل تنظير
الموروث.
(أ) ففي الرسالة «الأضحوية» لابن سينا (٤٢٨ﻫ)، يذكر أرسطو أولًا، ثم أفلاطون، ثم
فيثاغورس، والإسكندر حكيم اليونانيين،
١ كما يذكر برزجمهر من الوافد الشرقي، وثابت بن قرة، مُبينًا الواقع
المحلي، واعتمادًا على الترجمة وعصرها.
يذكر أرسطو في معرض مناقضته القائلين بالتناسخ من أجل إبطاله، والاستشهاد به في
إثبات أن النفس ليست من المفارقات، وإثبات خطأ ذلك في ما بعد الطبيعة. وإذا كانت في
حالٍ تُفارق المادة فليست من الهيئات المُتعلقة بالمزاج البدني؛ وبالتالي ليست
حادثة بحدوث البدن. وقد ذكر أرسطو في كتاب «النفس» أنها صورة للبدن وكمال له، وعدم
اتفاق الأنواع في الصورة الفضلية بالكمال؛ فمن قال إن النفس تدخل بدنًا غير الإنسان
فإنه جعل صورة الزمان جائزةً أن يدخل فيها آلهة الشجر. يُحارب أرسطو هنا معركة
ابن سينا لأبطال التناسخ، كما يُحارب ابن سينا معركته على لسان أرسطو. يُبين
ابن سينا جوهرية النفس في شرحه لكتاب أرسطو، والذي يبيِّن فيه أن النفس الإنسانية،
وهي النفس الناطقة، ليست منطبعة في مادة، ولا قائمة بالجسم؛ فالشرح لا يعبِّر فقط
عن المشروح بل عن الشارح، واستعمال المشروح، وهو أرسطو، لشرح موقف الشارح، وهو
ابن سينا. أرسطو هو الشارح لابن سينا، هو الجهاز العقلي الأمثل لتوضيح رأي ابن سينا.
٢ الشرح خطوةٌ نحو التأليف وتمهيد له. ذكر ابن سينا أرسطو دفاعًا عن شرحه
الخاص ضد أخطاء الشراح اليونان مثل الإسكندر؛ فالمسلمون أكثر فهمًا لأرسطو من
الشراح اليونان؛ فقد ظن الإسكندر أن النفوس الناقصة على الإطلاق تفسد بفساد البدن،
وهو غير صحيح، ولا هو مذهب أرسطو؛ لأن النفس باقية اضطرارًا. وقد اعتمد عليه
القائلون بتناسخ النفوس الناقصة بأن السبب فيه طلب الكمال بتوسط الآلات البدنية،
كما قال حكيم اليونانيين إن النفس هبطت لترثاش.
٣
ويئوِّل ابن سينا آراء أفلاطون وفيثاغورس في التناسخ على أنه رمز وتخييل وتصوير،
أي أنها أقوالٌ أدبية، دفاعًا عن موقف أرسطو. والتأويل منهجٌ إسلامي لرفع التناقض
بين النقل والعقل، بين أفلاطون وأرسطو. كما يستعمل ابن سينا دفاعًا عن أفلاطون
وبرزجمهر التشكك في الروايات المنقولة عنهما المتعلقة بالتناسخ، وهو أيضًا منهجٌ
إسلامي في التيقن من صحة الأخبار أولًا قبل تفسيرها أو تأويلها. ويختتم ابن سينا
بثابت بن قرة بمذهبٍ عجيب، انفصال النفس عن البدن في جسمٍ لطيف. ويعتبر ذلك مجرد
رمز أو صورة في حاجة إلى تأويل مثل أفلاطون وفيثاغورس. فالمترجمون فلاسفة أيضًا،
ويتفقون معهم في إبطال القول بالتناسخ. تلك صورتهم عند الفلاسفة، وليس مجرد نقلة.
والأحرى أن تكون هذه أيضًا صورة الحكماء عن أنفسهم وليس فقط عن غيرهم.
٤
ويُشير ابن سينا إلى الحكماء دون تحديد لهويتهم أو حضارتهم؛ مما يدل على أن المهم
هو الموضوع لا الشخص، الأفكار المنتشرة في البيئة الإسلامية حتى يتم احتواؤها إن
كانت مخالفة، أو الاستشهاد بها إن كانت موافقة. وقد لا تكون هناك شخصياتٌ تاريخية
بعينها، بل مجرد أفكار شائعة في البيئة الثقافية يذكرها ابن سينا؛ فالفكرة تخلق
قائلها بصرف النظر عن هويته كما هو معروف في الانتحال. ويذكر آراءهم في النفس ولا
يرفضها ما داموا لا يقولون بالتناسخ، منها التذاذ النفوس الخيِّرة ببعضها وألم
النفوس الشريرة ببعضها؛ فالطيور على أشكالها تقع. العاقل يعقل ذاته، ويعقل مثل ذاته
أضعافًا، يعقل مبادئ عقلية هي أسبابه. ومنها اتصال بعض النفوس بعضها بالبعض الآخر
على سبيل التأثير فيها خيرًا أم شرًّا؛ نظرًا لتعلق النفوس والأمزجة بما يُشابهها
دون تدخل الأبدان. ومنها الاتصال العقلي الروحي الصرف بلا أبدان؛ وذلك أن القوة
الوهمية تُفارق المادة بتوسط وبسبب القوة النطقية، فتكون مُطلعة على المعاني
الموجودة في عالم الحس؛ فالطبيعة لهذه المعارف بدن، والمعارف الجزئية لها صلة
بالأبدان، وليست المعاني الكلية. ومنها اعتماد البعض على القول بالتناسخ لتبرير
وجود الشياطين والجن؛ فالشريرة تقوم بأفعال الشر وعلى اتصال بالأشرار مثل الشياطين،
والخيِّرة منها تقوم بأفعال الخير وعلى اتصال بالأخيار مثل الجن. ويخصِّص ابن سينا
القول الأخير بقول بعض العلماء بين العموم والخصوص، وهو مصاحبة النفس بعد التجرد
لبعض الهيئات الطبيعية بسبب حمل القوة المُتوهمة؛ فهي عند الموت شاعرة بالموت، وبعد
الموت مُتخيلةٌ نفسها على صورة الإنسان الذي مات، سعيدةً أو شقية، ناقلةً ما كان
عليه حالها في الدنيا، قياسًا للغائب على الشاهد؛ فنشأ عذاب القبر ونعيمه، واعتُبرت
النشأة الثانية على هيئة النشأة الأولى، وكما هو شائع في تاريخ الأديان منذ قدماء
المصريين. فلا عجب أن تتخيل النفس كل ما في كتب الأنبياء من الجنان والحور العين
على ما شاهدته في الدنيا، وما أكثر الرموز والألغاز في ذلك. وهنا يتفق الحكماء مع
المعتزلة على تأويل الأخرويات على نحوٍ مجازي، قياسًا للغائب على الشاهد.
٥
ويظهر الموروث الأصلي من القرآن والحديث في خمس موضوعات إشراقية خالصة.
٦ وموضوع النفس موضوعٌ موروث. النفس مذكورة في القرآن وفي الكتب السابقة،
وتعرَّضت لها الأمم السالفة. يتحدث القرآن عن النفس المطمئنة ورجوعها إلى الله
راضيةً مرضية، ولا يتم الرجوع إلا لمن منه الورود. ويرفض ابن سينا تأويل آيات
القرآن بحيث تُفيد التناسخ؛ فالمعركة مع الموروث أيضًا وليست فقط مع الوافد ومع
أنصار الوافد في الموروث؛ أي التابعين للغرب اليوناني القديم. كما يستشهد بالقرآن
لمعرفة أين الحقيقة والمجاز فيه، وهي نفس الآيات المذكورة عند علماء الكلام في
موضوع التنزيه والتشبيه. كما يُعطي نماذج من سوء تأويل الفِرق الضالة للقرآن،
واعتبارها الحيوانات غير الناطقة أممًا مثل البشر، وهي كذلك بالقوة وليست بالفعل.
المعاد إذن هو المعاد الروحاني، وهو ما أثبتته العقائد. كما يستشهد ابن سينا
بالشريعة الإسلامية، وأنها أكمل الشرائع؛ وبالتالي كانت الملة الإسلامية خاتمة
المِلل بحديثٍ نبوي، أن الرسول إنما بُعث ليُتمِّم مكارم الأخلاق. ولا يريد
ابن سينا الإطالة في ذلك لأنه خارج موضوع علوم الحكمة طبقًا لتصنيف العلوم عند
المسلمين. والمعاد للنفس وحدها دون البدن.
٧
ويلجأ ابن سينا إلى اللغة العربية لتحديد ماهية المعاد استنادًا إلى المعنى
الاشتقاقي للفظ. الموضوع موروث، والمنهج موروث، واللغة موروثة. والمعاد اشتقاقًا
يُفيد المكان لا الزمان، من العود، أي للشيء وليس الوقت. العود هو المكان أو الحالة
التي كان عليها الشيء. أما عند الصوفية فالمعاد من العود إلى الأصل، والحنين إلى
عهد الذر الأول قبل الخلق. وفي اللغة حقيقة ومجاز، ويقع الخلط عندما لا يحدث
التمييز بينهما، ويمنع اتفاق فصحاء العرب على المجاز والحقيقة من هذا الخطر. ولم
يستعمل الوحي لغة الفلسفة المنزهة المجردة للتعبير عن التوحيد، بل عبَّر عنه
مجازًا، ولم يصرِّح به حقيقة. وإذا اختلف الحكماء في المعاني المجردة، فكيف حال
العبرانيين، أهل الوبر من العرب؟ وقد امتنع الوحي من استعمال لغة الفلسفة المنزهة
المجردة للتعبير عن التوحيد لعدم استطاعة العرب العاربة أو العبرانيين والأجلاف
فهمه، وإلا عاندوا واعتبروا الإيمان عدمًا. هذا هو سبب التشبيه في الوحي.
٨ وقد ضمَّ ابن سينا العبرانيين مع العرب على أنهما شعبَا الوحي. وقد
يكون ذلك نقدًا مبطنًا لعلم الكلام، أنه صعب على الجمهور، وكما عبَّر الغزالي في
«إلجام العوام عن علم الكلام».
٩
ولو كلَّف الله رسولًا إلقاء حقائق الأمور للعامة وللجمهور الغليظ الطباع المرتبط
بالحس من أجل إدخال الإيمان في قلوبهم ورياضة نفوسهم، لكلَّفه ما لا يُطيقه إلا أن
يدركه بخاصةٍ إلهية وإلهامٍ سماوي. حينئذٍ يكون الرسول في غنًى عنه، ويكون تبليغه
لا حاجة منه. والقرآن كتابٌ عربي، به استعارة ومجاز على عادة اللسان العربي، كما أن
الكتاب العبراني كله تشبيهٌ صِرف، ليس كله محرفًا؛ فهو موجود بين أيدي الأمة كلها
في أطرافٍ مُتنامية، وهم أمَّتان، يهود ونصارى، مُتعاندتان، وأهواؤهم مُتباينة.
يغلِّب ابن سينا التأويل للمتن على الشك في صحة الرواية، ورد الشرع إذن لمخاطبة
الجمهور بما يفهمونه بالتشبيه والتمثيل. والنتيجة أن ظاهر الشرع ليس حجة، ولا بد من
التأويل للتمثيل والتشبيه، وشرح الأمور البرهانية لفهمها وتقريبها إلى العامة؛ فلا
يكون شيءٌ حجةً على شيء إلا إذا كان من نفس النوع. تؤدي الحرفية في فهم اللغة إلى
المادية في تصور الشيء، ويؤدي التأويل في اللغة إلى الروحانية والمعنوية في تصور
الأشياء. هناك إذن خطابان؛ خطاب للعامة وخطاب للخاصة. الأول يقوم على التشبيه
والتمثيل، والثاني يقوم على التأويل والبرهان، انتقالًا من النقل إلى العقل، ومن
الكلام إلى الحكمة؛ وبالتالي يفتح الفلاسفة طريقًا للتعامل مع الكتب المقدسة عن
طريق التأويل على خلاف طريقة الفقهاء، ابن حزم مثلًا لإثبات التحريف. ويتفق طريق
الفلاسفة مع طريقة الأصوليين في مقاصد الشارع، وضع الشريعة للأفهام.
١٠
(ب) وبالرغم من أن «المبدأ والمعاد» لابن سينا في موضوعٍ موروث، الله والفيض
والنفس، تلخيصًا من إلهيات «الشفاء»، إلا أن الوافد يتصدر الموروث على غير عادة
ابن سينا في الصمت عن مصادره.
١١ ويتكون من مقالاتٍ ثلاث؛ الأولى: «في إثبات المبدأ الأول للكل
ووحدانيته وتعديد صفاته التي تليق به»، وتشمل اثنين وخمسين فصلًا، وهي أكبر
المقالات. والثانية: «في الدلالة على ترتيب فيض الوجود عن وجوده مبتدأً عن أول
موجود عنه إلى آخر الموجودات بعده»، ويشمل أحد عشر فصلًا. والثالثة: «في الدلالة
على بقاء النفس الإنسانية والسعادة الحقيقية الأخروية والتي هي سعادة ما وغير
حقيقية، والشقاوة الحقيقية الأخروية والتي هي شقاوة ما غير حقيقية»، وتشمل عشرين
فصلًا. والغاية التوضيح للغامض، والإعلان للمستور والمكتوم، وجمع المفرَّق وبسط
المجمل، في حدود قِصر العمر وهموم الزمان.
١٢ ويُراجع ابن سينا أخطاء السابقين، ويكتشف خطأ الأصول التي تقوم عليها،
١٣ ويرصد المغالطات، ويبيِّن الصحيح وأوجه الاستحالة في الأفكار الخاطئة،
ويتحقق من صحة المعاني بدقة وتفصيل.
وابن سينا هو الذي يقول دون غيره؛ فالمقال تأليفٌ مباشر؛ لذلك تكثُر صيغة «قلنا»،
و«نقول»، و«أقول قولًا مرسلًا». وقد تستهل صيغة المبني للمجهول «يُقال» حتى لا
يتشخص الفكر.
١٤ كما تظهر أفعال البيان في صيغة «من البيِّن»،
١٥ أو أفعال الإيضاح مثل «يتضح». ويُخاطب ابن سينا القارئ في صيغة
«واعلم»؛ فالفكر تجربة مشتركة، والحقيقة اشتراك بين طرفين.
١٦ والفكر يبحث عن الأسباب والعلل؛ فهو فكرٌ استنباطي استدلالي يعتمد على
اتساق النتائج مع المقدمات، وفكرٌ طبيعي يبحث عن العلل.
١٧ ويتخيل ابن سينا الاعتراض مسبقًا في صيغة «فإن قال قائل»، ويأتي جواب
الشرط «فإنا نقول».
١٨ والمقال كله قائم على قصدٍ واحد وغرضٍ يتَّجه نحوه الفكر، والذي يذكِّر
بالاستطراد كلما حاد الفكر عن المطلوب إثباته.
١٩
ويتصدر الوافد على الموروث. يأتي أولًا الفيلسوف، أي أرسطو غير مشخص، ثم بطليموس،
ثم الإسكندر وثامسطيوس وأفلاطون، ثم بوليموس شخصيةً أسطورية.
٢٠ ومن الفِرق المشَّاءون المحصلون، علماء المشَّائين، وهم الذين ورثوا
أرسطو، في الطبيعة وما بعد الطبيعة وأثولوجيا؛ أي الربوبية.
٢١ ومن أسماء الكتب: السماع الطبيعي، ما بعد الطبيعة.
٢٢ وما زالت تُستعمل بعض الألفاظ المعرَّبة، مثل «الأسطقسات».
٢٣
ومن الموروث محمد بن إبراهيم الفارسي الذي صنَّف له ابن سينا الكتاب، ملك من الساميين.
٢٤ ومن كتب ابن سينا يُحال إلى تلخيص كتاب النفس، وتلخيص كتاب الحس
والمحسوس، والكتب المنطقية، والبرهان.
٢٥ وتظهر عادة العرب في الإشارة إلى زيد وعمرو.
٢٦ وتظهر آيةٌ قرآنية واحدة، هي
يَكَادُ زَيْتُهَا
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ. وتظهر بعض
العبارات الإيمانية، مثل «تعالى الله الغني عن كل شيء».
٢٧ وبعد البسملة في البداية، والحمدلة في النهاية والصلاة على محمد وآله
الطاهرين، يدعو ابن سينا الله تعالى أن يُجنبنا الزلل والاستبداد بالرأي الباطل،
واعتقاد العُجب فيما نرى ونفعل، ونهاية باسم الناسخ وسنة النسخ.
٢٨ وبعد البسملة في البداية والحمدلة في النهاية، وتظهر العبارات
الإيمانية، مثل: والله المستعان، وبه الحول والقوة.
٢٩
(ﺟ) وفي «مبحث عن القوى النفسانية» يذكر ابن سينا أفلاطون ثم أرسطو وأسقليبوس
والقرآن، في الفصل السادس في تفصيل القول في الحواس الخمس وكيفية إدراكها.
٣٠ ذكر أفلاطون وأرسطو في سياقٍ واحد من أجل التوفيق بينهما في موضوع
البصر؛ فقد اختلف الفلاسفة في إدراك القوة المُبصِرة؛ شعاع من العين إلى الشيء عند
أفلاطون، أو شعاع من الشيء إلى العين مثل انطباع الصورة في المرايا وهو رأي أرسطو.
وهناك رأيٌ ثالث بالتقاء الشعاعين، القوة المتصورة والمحسوسات المرئية. ويؤيِّد
ابن سينا رأي أرسطو، وينقد رأي أفلاطون ببراهين عقلية وتجريبية تتشكَّك في وجود هذا
الشعاع ومكانه، خاصةً وأن أفلاطون يُنكر وجود الخلاء. في حين أن الفارابي قد أخذ
الرأي الثالث، الشعاع المزدوج، ومقابلة العين بالشيء. وقد لا يذكر أرسطو صراحةً
لأنه هو الحقيقة، ويذكر تعريفه للنفس دون اسمه ثم تكملة تعريفه بعبارةٍ شارحة
تُخرجه من مصطلحاته وأحكامه العقلية إلى معانٍ طبيعية حية يعرفها كل الناس، ويُحيل
الفكر من الخاصة إلى العامة. وبالرغم من وصفِ كلٍّ من أرسطو وأفلاطون بأنهما
فيلسوفان، إلا أن ابن سينا ينتسب إلى أرسطو دون أفلاطون، إلى الواقعية والموضوعية
والعلم دون المثالية والذاتية والإشراق؛ لذلك يُحاجج ابن سينا أفلاطون. فلو كان
الشعاع من العين إلى الشيء لما احتاج البصر إلى الضوء الخارجي، ولأدرك في الظلمة،
وأنار الهواء. ولو كان هذا الشعاع بالعين لكان خروجه مُحالًا، ولو بجسمٍ غير العين
فلا بد له من حامل، وهو وهم. وهذا الجسم إما أن ينبعث من العين وهو الافتراض الأول
الواقعي؛ وبالتالي لا يُبصر كل ما تحت السماء؛ لأن الجسم لا ينفُذ في الجسم إلا إذا
نقل الجسم الجسم، ولا يمكن القول بالخلاء لأن أفلاطون يُنكره، أو أن يُبصر الجسم
الجسم المُقابل له مثل الماء، أو أن يكون الجسم مُتوسطًا بين الذات والموضوع ليقوم
به الضوء. وكلما كان الجسم أقرب إلى العين كان الضوء أقوى؛ فلا حاجة إذن إلى جسمٍ
متوسط. ثم ينقد ابن سينا الرأي المتوسط الثاني، القوة المتصورة التي تُلاقي بذاتها
المحسوسات المبصرة لأنها كانت في الحس؛ فإنها لا تختلف كثيرًا عن أفلاطون. وأين يتم
هذا التلاقي، في العين أم في الشيء أم بينهما في الخلاء أو الملاء؟ وعيوب هذا الرأي
الثاني أنه لا يفرِّق بين الغائب والحاضر، بالإضافة إلى تعطيل الخلقة والتركيب
للعين؛ ومن ثَم لم يبقَ إلا صحة رأي أرسطو طبقًا لبرهان الخُلف.
٣١
ويتم التزاوج العضوي بين اليونان والقرآن، بين «اعرف نفسك بنفسك» عند سقراط،
وتحويلها إلى «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، من البعد الأفقي إلى البعد الرأسي، من
الوعيِ الحالِّ إلى الوعي المُفارق، لا فرق بين أقوال الحكماء وأقوال الأنبياء، بين
الوافد والموروث؛ مرةً إيجابًا «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، ومرةً سلبًا «من عجز عن
معرفة نفسه فأخلِقْ به أن يعجز عن معرفة خالقه»؛ مرةً بلغة ما هو كائن، ومرةً بلغة
ما ينبغي أن يكون؛ مرةً بتقرير الوجوب، ومرةً بطريقة الأولى. إنما الفرق بين
الأوائل والأواخر هو الفرق بين العقل والوحي، بين الحكماء والأولياء. والوحي ليس
خاصًّا بالمسلمين، قد يكون أيضًا عند يونان. وليس بمستبعدٍ أن يكون الوحي قد هبط
على أسقليبوس؛ فقد كُتبت هذه العبارة «اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك» في مِحراب
هيكله، وهو يُعتبر عند اليونان من الأنبياء ومشهود له بالمعجزات، قدرته على شفاء
المرضى بصحيح الدعاء، وكذلك قدرة من تكهن في هيكله من الرهبان، ومنه أخذت الفلاسفة
علم الطب. وهو نفس المعنى في المخزون النفسي عند ابن سينا من الموروث الأصلي
نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ. لا فرق بين
المسلم والمسيحي نظرًا لقول المسيح «ماذا ستربح لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟» إنما
الخلاف بين الحكماء والأنبياء في أولوية العلة والمعلول. عند الحكماء، الأولوية
للإنسان «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، وعند الأنبياء تتداخل أولوية الله مع أولوية
الإنسان
نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ، وهو
الفرق بلغة العصر بين العلمانية والدين، بين العقل والإيمان، بين اليونان والقرآن.
ويستشهد ابن سينا بالآية تأييدًا لنفس المعنى، من نسي يُنسى، ومن ذكر يُذكر. القرآن
والحديث أصل الوافد، رافدان في التأليف معه، خاصةً وأن أقوال العلماء والحكماء
والأولياء والأوائل في الأنبياء عند الأنا وعند الآخر مُتشابهة، وتتلاقى على أهمية
موضوع النفس كمقدمة لمعرفة الله، إنما الخلاف في العلة والمعلول، عند الحكماء العلة
للنفس والله هو المعلول، وفي القرآن العلة لله والنفس هو المعلول، في حين أن الفعل
أيضًا، فعل النسيان أو التذكر، للإنسان أولًا. القرآن والحكمة إذن متفقان، لا فرق
بين الوافد والموروث. يؤكد الوافد على الإيجاب، الذِّكر، في حين يؤكد الموروث على
السلب، النسيان. كما تظهر ألفاظ الموروث، مثل الإلهي، الوحي، الأنبياء، المعجزات،
أكثر من ألفاظ الوافد. ولا فرق بين الإسلام والمسيحية، بين معجزات الأنبياء
والأولياء ومعجزات المسيح والحواريين والرهبان، بين الطب العلمي والطب النبوي. وقد
جمع الفلاسفة بين النوعين من الطب.
٣٢
(د) وكتاب «القانون في الطب» لابن سينا من نوع تمثُّل الوافد قبل تنظير الموروث.
٣٣ وقد كان الشائع أنه إبداعٌ ذاتي خالص لا يُحيل إلا إلى ذاته، إلا أن
تحليل المضمون يكشف أولوية الوافد على تنظير الموروث. والوافد الغالب هو الوافد
الشرقي على الوافد الغربي في المجلدات الثلاثة التي تضم الكتب الخمسة، أولوية للهند
والصين وفارس على اليونان والرومان، على عكس ما هو شائع من غلبة الوافد اليوناني.
٣٤ في المجلد الأول يتصدر الوافد الشرقي على الوافد الغربي؛ الهند ثم
الصين ثم العرب ثم الشام ثم فارس ثم أرمينيا ثم النبط ثم مصر ثم الخوزي واليمني
والمكي. وتظهر صفة العرب في الصمغ العربي وبلاد العرب وبلاد الشام.
٣٥ وفي المجلد الثاني الذي يشتمل على أمراض الأعضاء عضوًا عضوًا، يتصدر
الوافد الغربي على الشرقي، الهند ثم الصين ثم اليمني والعربي والأرمني. وفي المجلد
الثالث الذي يشمل الكتابين الرابع عن الأمراض الجزئية التي لا تختص بعضوٍ عضو،
والخامس عن الأدوية المركبة، يتصدر الوافد الشرقي من جديد على الوافد الغربي، الهند
ثم الصين ثم فارس والكندي ثم اليهود ثم الكرماني ثم العربي ثم أهل الإسكندرية
والسوري وآسيا والأرمن.
٣٦
ويظهر التمايز بين الأنا والآخر في استعمال الضمائر، ضمير المتكلم المفرد «أقول»،
أو الجمع «نقول»، «قلنا»، «عندنا»، في مقابل «يُقال»، «قال قوم»، «قال بعضهم»،
«قالوا». ولم يرد لفظ «يقول» على الإطلاق الذي أصبح عنوانًا على التبعية والتقليد
في الأحكام الشائعة. ويدل استعمال المبني للمجهول على أن المهم هو القول وليس
القائل. وقد يظهر هذا التمايز في عبارةٍ واحدة، مثل «فهذا قوله ونقول»، «قال ونحن
نقول»، «كلامنا في الأذهان في هذه الجملة على شرطنا». كما يعقد ابن سينا تقابلًا
آخر بين القدماء والمُحدَثين دليلًا على التواصل والاختلاف الحضاري في الزمان،
وعادةً ما يكون القدماء أفضل من المُحدَثين تواضعًا من العلماء.
٣٧
ومع ذلك فالدافع على تأليف الكتاب محليٌّ صرف بناءً على سؤال بعض الإخوان لتأليف
كتاب في الطب يشمل قوانينه الكلية والجزئية، بين الشرح والاختصار، وهو كتابٌ ضروري
لكل من يدَّعي صناعة الطب، ويريد التكسب بها. يضمُّ أقل القليل للطبيب دون زيادة
غير مضبوطة. وكان ابن سينا ينوي، إن أخَّر الله في الأجل، وساعده القدر، أن يُعيد
تأليفه؛ لأن الكتاب مجرد صياغة أولى.
٣٨
وبالنسبة للوافد اليوناني يتقدم جالينوس ثم ديسقوريدس ثم أبقراط ثم اليونان ثم
الروم ثم أرسطو. فلا يأتي أرسطو إلا مؤخرًا في المرتبة السادسة. في الكتاب الأول عن
الأمور الكلية يتقدم جالينوس، وفي الكتاب الثاني عن الأدوية المفردة يتقدم
ديسقوريدس. جالينوس هو الوافد الأول في الطب أي في التشخيص، وديسقوريدس هو الوافد
الأول في الأدوية في العلاج والصيدلة. ويقل جالينوس تدريجيًّا في التحول من النقل
إلى الإبداع، ويكثر ديسقوريدس في الأدوية؛ لأن النقل فيه أكثر من الإبداع، بل إن
جالينوس يتفاوت أحيانًا في تردده بين الكثرة والندرة في أول المجلد وآخره، ثم
يتلوها أبقراط وروفس ثم أرسطو. ومن حيث الثقافات يتقدم اليونان على الرومان.
٣٩ وفي المجلد الثاني الذي يضمُّ أمراض الأعضاء عضوًا عضوًا، يتصدر
جالينوس على أبقراط، وتقل أسماء الأعلام نظرًا لغياب أسماء الأدوية، ثم يذكر
أركاغيس وبولس وروفس، ولا يذكر أرسطو وأفلاطون وديسقوريدس إلا مرةً واحدة.
٤٠ وفي المجلد الثالث يتصدر أيضًا جالينوس وأبقراط، ثم صفة اليوناني
والرومي، ثم يظهر أرسطو والإسكندر وأرسطوماخوس وبولس، ثم أرسطراطس وفيلاكسانس
وقاطاجانس وفيلون الطرطوسي. كان الأطباء كثيرين، ولم يشتهر منهم إلا جالينوس
وأبقراط لأنهما يجمعان بين الطب والحكمة، في حين أن الآخرين مجرد أطباء مُمارسين.
٤١
ويغلب الوافد اليوناني في أسماء الأدوية؛ وذلك لترجمته مبكرًا عن طريق نصارى
الشام، ومعرفة مصطلحاته الطبية قبل معرفة الوافد الشرقي الهندي أو الصيني أو
الفارسي. كما أن الجوار الجغرافي والثقافي مع الشام كان أكثر قربًا من الجوار
الجغرافي والثقافي مع الهند والصين وفارس. كانت اللغة العربية لغة نصارى الشام؛ فقد
كانوا عربًا لغةً، ويونان ثقافة، ونصارى دينًا، ومسلمين حضارةً وموقفًا، في مُقابل
الاختلاف اللغوي والثقافي بين العرب يهودًا ونصارى ومسلمين من ناحية، وبين أهل
الهند والصين وفارس. كان العرب أهل شعر وفصاحة، بينما كان الهند أهل دين ورياضة،
والصين أهل علم وتجارة، والفرس أهل أخلاق وسياسة.
وتدل كثرة الأسماء الطبية على قدرةٍ فائقة على إيجاد مرادفات عربية للألفاظ
اليونانية والفارسية والهندية والصينية، وهو عملٌ إبداعي لغوي. ليس النقل مجرد
العثور على لفظٍ مقابل لفظ، بل فهم معنى اللفظ المنقول منه، وإيجاد ما يُقابلهم في
اللغة المنقول إليها؛ فإن صعُب النقل أخذ التعريب؛ مما يكشف عن المصادر اليونانية
والفارسية لأسماء الأدوية. وقد تُشتق الأسماء من أماكنها المحلية، مثل السوسي
والطرطوسي والنبطي والصيني والهندي والقرشي والقلزمي واليمني والبحريني والبالي
والمكي والعباداني. وقد تؤخذ من المناطق والأقاليم، مثل البحري والبري، أو من
الطوائف مثل اليهودي.
٤٢ وقد تُشتق من الوظائف، مثل المسخن والمبرد والمرطب والميبس. وقد تُنسب
إلى أسماء الأطباء، مثل كحل أرسطراطس، وحب أفلاطون، ودواء أندروماخوس، ودواء
لنياوس، ودواء جالينوس، ودواء ديسقوريدس.
وابن سينا على وعيٍ تام بالفرق بين الأسماء والمسمَّيات، بين الألفاظ والأشياء،
بين الاصطلاح والموضوع. وقد تكون الإحالة إلى الوافد من أجل بيان نشأة التسمية، كما
بيَّن الفارابي من قبلُ اشتقاق كلمة الفلسفة. فالأمراض تلحقها التسمية إما من
الأعضاء الحاملة لها، مثل ذات الجنب وذات الرئة، أو من أعراضها كالصرع، أو من
أسبابها كالسوداوي، أو من التشبيه مثل داء الأسد والفيل، أو إلى طبيبٍ يذكره، مثل
قرحة طيلانة نسبةً إلى طيلانس، أو منسوبًا إلى بلدة بكثرة وقوعها فيه، مثل قروح
بلخية نسبةً إلى بلخ، أو إلى بلدةٍ مشهورة بالنجاح في معالجتها، مثل قرحة سيروتية،
أو من جواهرها وذواتها كالحمى والورم؛ فالأسماء الوافدة لا تدل على تبعية، بل على
كيفية اشتقاق الأسماء، كما هو الحال في المعاجم اللغوية للمصطلحات العلمية.
وأحيانًا تُترجم الأسماء حرفيًّا، مثل «سيقومورون»، ومعناه التين الأحمق.
لذلك يُشير لفظ «اليونانية» كصفة إلى الأسماء؛ أي إلى البعد اللغوي الصرف. وقد
ذُكر فعل «سُمي» ومشتقاته قبل معظم الأسماء، وكأننا ما زلنا في عصر الترجمة الأول،
مع التفرقة بين الاسم والمسمَّى، كما هو الحال في مبحث الألفاظ عند الأصوليين.
٤٣ قد ينشأ كثير من الخطأ بسبب الخلط في الأسماء. وتختلف الأسماء على نفس
المسمَّى؛ إما لاشتراك الاسم، أو لضعف التمييز كما هو الحال عند قدماء الأطباء.
ويُستعمل اللفظ بالضرورة في عدد من المؤلفات استعمالاتٍ مختلفة، كما يستعمل
ابن سينا بعض أشكال الحروف اليونانية لشرح الأمراض ووصف الأجسام، مثل حرف
C، وحرف ۸ أو حرف
H، كما هو الحال في استعمال الأشكال الرياضية.
٤٤ وتظهر الخصوصية في اللغة في التقابل بين الأسماء الإفرنجية والأسماء
العربية، بين الأسماء الوافدة والأسماء التي توجد في البلاد، في بلادنا، من أعشاب
نيل مصر أو من بلاد السند.
٤٥
وبصرف النظر عن مصادر ابن سينا، مدوَّنةً أو شفاهية، إعلانه أو صمته عنها، فإن
الإحالة إلى التراث الطبي السابق لا تعني النهل منه أو الاعتماد عليه أو تقليده
بقدر ما تعني معرفة الحالة الراهنة لعلم الطب والدراسات السابقة فيه، بصرف النظر عن
مصدره، شرقي أو غربي، هذا الطبيب أو ذاك؛ فلا جديد بلا قديم، ولا تجديد بلا تراث،
ولا إبداع بلا نقل. وتقدُّم العلم مرهون بمعرفة آراء السابقين ثم نقدها وتجاوزها،
ونقل العلم ذاته من مرحلة أولى إلى مرحلةٍ ثانية. العلم تراثٌ متصل لا انقطاع فيه.
٤٦ ولا يوجد تراثٌ طبي عظَّم تراث السابقين عليه كما فعل التراث الطبي
الإسلامي، ويتضح ذلك من الألقاب التي أُعطيت لأطباء اليونان؛ جالينوس الفاضل، فاضل
الأطباء، الحكيم الفاضل، ديسقوريدس الحكيم، الحكيم الفاضل، روفس الحكيم، أركيغانس
الحكيم، أبقراط مقدَّم الأطباء. ليس لقب الحكيم وقفًا على أرسطو. ولقب الفاضل لقبٌ
علمي يجمع بين العلم والأخلاق، النظر والصدق، الحكمة والأمانة، مثل الفاضل من
المهندسين. وأحيانًا يُذكَر الأطباء بلا ألقاب كأسماء فرضت نفسها على تاريخ العلم
دونما حاجة إلى تعظيم وإجلال.
٤٧
وبتحليل مضمون الأفعال التي تُذكَر قبل أطباء الوافد، خاصةً جالينوس وأبقراط،
يتَّضح تنوُّعها بين أفعال الذكر والتسمية والنسبة والحكاية والظن والرأي والشهادة
والزعم، وأن أقلها ذكرًا هي أفعال القول. يتعامل ابن سينا مع التراث الطبي السابق،
ويُراجعه، ويتحقق من صِدقه، وليس مجرد راوٍ أو ناقل له. تعني البداية بجالينوس
البداية بالتراث الطبي الإنساني؛ فهو أول من عرف تشريح أصابع الرجل، وأول من دل على
وجود العناية والحكمة في البدن بالعقل الخالص والتجربة الطبيعية، وإن لم يُسندها
إلى الوحي الذي لم يبلغه. ويُقارن بين رأي جالينوس ورأي الفيلسوف الأول دون الإفاضة
فيه؛ فقد اختلف أرسطو وجالينوس في سبب الشيب؛ فهو عند أرسطو الاستحالة إلى لون
البلغم، وعند جالينوس النكرج الذي يلزم الغذاء الصائر إلى الشعر. ويُقارن جالينوس
بديسقوريدس في الأدوية المفردة دون تبعية لأحدهما دون الآخر. كما يتحقق ابن سينا من
صِدق الرواية التاريخية التي تُنسب إلى جالينوس كما هو الحال في علم الحديث؛ فقد
يكون الخطأ في السند أو في المتن. ولا يُحال إلى أطباء اليونان فقط فيما أوردوه، بل
أيضًا فيما لم يُثبتوه إحساسًا بالإضافة إلى ما قاله القدماء والزيادة عليهم بما
تركوه. ويميِّز ابن سينا بين القول الخاص والقول العام؛ فمع أن جالينوس له رأيٌ خاص
في حالةٍ خاصة إلا أنه يُطلِق الحكم، وهو غير سديد. يُراجع ابن سينا الأحكام
ويُقارن بين موضوعاتها حتى يخصِّص العموم أو يعمِّم الخصوص، كما هو الحال في علم
أصول الفقه.
٤٨
ويُشير ابن سينا إلى أرسطو وإلى أطباء اليونان لبيان الفرق بين الأسماء
والمسمَّيات؛ فربما كان التمايز بين الموروث والوافد في الأسماء لا في المسمَّيات؛
فأرسطو أول من أطلق على الشريان الأكبر اسم أورطى. وقروح العين سبعة أنواع، أربعة
منها في سطح القرنية يسمِّيها جالينوس قروحًا. كما يُسمَّى الدواء باسم الطبيب، مثل
الصابون المنسوب إلى أسقليناوس، والدواء المنسوب إلى قسطيطيبوس، وكان لأبقراط
تسمياته الخاصة. ولا يذكر ابن سينا «قال جالينوس»، بل يدخل في أفعال الشعور وأنماط
الاعتقاد، مثل الظن والتوهم والرأي والزعم، أو من أجل الحسم واستعمال أفعال الجزم
واليقين. يصف ابن سينا ما يسبق وهم جالينوس، وينقد زعمه وزعم ديسقوريدس. ويُراجع
بنفسه التجارب كي يتحقق من صدق أقوال جالينوس أو أبقراط ومن منافع أدوية ديسقوريدس.
ويذكر تجارب السابقين ويُراجع على أقوالهم. والقول عبارة لها معنًى وتُحيل إلى شيء
في العالم، وليست مجرد ألفاظ منقولة وفهم يتمُّ نقله من حضارةٍ سابقة إلى حضارةٍ
لاحقة لإثبات إبداع السابق وتبعية اللاحق، كما هو الحال في الاستشراق القديم. كما
يصف ابن سينا ما يصفه جالينوس، ويشاهد ما يشاهده حتى يمكن التحقق من صدق القول.
ويذكر السابقين ليس تبعيةً لهم، بل مراجعة لأحكامهم ونقدًا لتراثهم وبناءً عليه
وتطويرًا له. «ويبين جالينوس»؛ أي إن عين ابن سينا على الشيء المرئي، ثم ينقلها على
العبارة المقروءة، ثم يحكم على قصد جالينوس وهو البيان. «يرى جالينوس» مع ابن سينا
تعني أن جالينوس هو الشاهد على رؤية ابن سينا، وليس ابن سينا هو الشاهد على رؤية
جالينوس؛ فالإشارة إلى جالينوس لا تعني تبعية ابن سينا له، بل شهادة جالينوس له
كحجة من التاريخ، وتواتر مصدَّق بين العلماء. وتكون الإشارة إلى أفعاله وليس فقط
إلى أقواله، كما هو الحال في تقسيم السنة إلى قول وفعل وإقرار، وبناءً عليه يرفض
جالينوس هذا الشراب أو ذاك. ولا يتردد ابن سينا لحظةً في تخطئة جالينوس أو بيان
تناقض مذهبه، وقد يكون أعلم بمذهب جالينوس من جالينوس نفسه.
٤٩
أما بالنسبة إلى الموروث فلا يذكر ابن سينا التراث الطبِّي السابق عليه؛ لأنه
كعادته في موسوعاته الثلاث صامت على مصادره، محاولًا تجاوز التاريخ إلى البنية،
والتحول من النقل إلى الإبداع، على عكس الرازي الذي يذكر التراث الطبِّي النصراني
الذي كان حلقة الاتصال بين الطب اليوناني والطب الإسلامي. ويستثني ابن سينا من ذلك
الكِندي والرازي. يذكر الكندي باعتباره طبيبًا، ولكن في أغلب الأحوال باعتباره
حكيمًا طبيعيًّا مستمدًّا منه بعض المصطلحات العربية الموروثة للعلل الأربعة،
المادية والفاعلية والصورية والتمامية، وهي الغائية كما استقر الأمر عليها فيما
بعد. كما يُحيل إلى حنين بن إسحاق الطبيب، وليس المترجم، مُعتمدًا عليه في جمع
مادته الطبية. ولا يُشير إلى علومٍ إسلامية نقلية أو عقلية نقلية أو عقلية خالصة
عند متكلم أو صوفي أو أصولي، بالرغم من تعرُّضهم أيضًا لبعض الجوانب الطبية، مثل
حديث المتكلمين عن الجسم، والصوفية عن الحواس، والأصوليين عن المنافع والأضرار
البدنية في الطهارة، كما لا يُشير إلى محدِّث أو فقيه أو مفسِّر يروي مأثورات الطب النبوي.
٥٠
ويقلُّ الموروث شيئًا فشيئًا بالتحول من التشخيص في الأمور الكلية إلى الأمراض
الجزئية للأعضاء أو لغير الأعضاء، ويكاد يختفي في العلاج؛ أي في الطب العملي في
الأدوية المفردة والمركبة، فتقلُّ الإحالة إلى العناية الإلهية وتجلِّي حكمة الله
في الكون تعبيرًا عن
فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ، أو
رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا
بَاطِلًا سُبْحَانَكَ. وفي موضوع الراضعة وضرورة خلوها من الانفعالات
الرديئة، مثل الغضب والضجر والجبن؛ لأن ذلك يُفسد المزاج فيُفسد الرضاع، يُحيل
ابن سينا إلى نهي الرسول عن استظئار المجنونة؛ لأن سوء خلقها قد يؤدي إلى سوء
العناية بتعهد الصبي وإخلال مداراته.
٥١ هذا بالإضافة إلى مفاهيم الخلق والعناية والتي تتحول إلى مفاهيم طبية
علمية في منافع الأعضاء والأدوية، مع البداية بالبسملة والحمدلة والنهاية بها؛ مما
يُضفي على الكتاب روح الموروث بعد تمثل الوافد.
وكما أن هناك صلةً بين الطب والمنطق في القياس والتجربة هناك صلةٌ أخرى بين الطب
والإلهيات بظهور مفاهيم الروح والمحرك الأول والرؤيا الصادقة والخلق والعناية في
الاستعمالين العلمي والديني في اشتباه الميتافيزيقا بين العلم والدين، فيستعمل بعض
المفاهيم، مثل «الروح» و«النفس»، بالمعنى العلمي أكثر منها بالمعنى الديني، بالمعنى
الوظيفي وليس بالمعنى العقائدي. ويعني بالروح أو النفس المعنى الطبيعي، ما يسري في
البدن كقوةٍ مادية؛ فالغضب ينشأ من إثارة القوة في الروح. كما يظهر مفهوم «المحرك
الأول» عند الحديث عن حركة الأعضاء بعنصر النار، واجتماع الحار واليابس والخفة
والثقل؛ فالثقل أعون في كون الأعضاء وسكونها، والخفة أعون في كون الأرواح وتحركها،
والمحرك الأول هو المحرك للنفس بإذن باريها. وهنا تبدو الأشعرية الكامنة في نسيج
الفلسفة الإشراقية. وبمناسبة ما قاله جالينوس في الرؤيا يُضيف ابن سينا أن الرؤيا
الصادقة جزء من أجزاء النبوة، مُكملًا الوافد بالموروث وقارئًا له من خلاله.
٥٢
والفكرتان الرئيسيتان اللتان تتخلَّلان الكتاب هي الخلق والعناية؛ فالطبيعة
مخلوقة، والعناية فيها مِن صنع الله. الله هو الذي وضع المزاج المعتدل في الإنسان،
وهو الذي وضع في كل عضو مزاجَه الأصلح لأفعاله وأحواله بحسب إمكانياته، وذلك من
اختصاص الفيلسوف لا الطبيب. وأعطى الإنسان أعدل مزاج في هذا العالم مُناسبًا
لقُواه، وتلك حكمة الخلق، وكأن ابن سينا يشرح آية
فَتَبَارَكَ
اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ في الطبيعة وفي علم الطب، ويظهر اللفظان،
الخلق والعناية، على التبادل؛ الخلق أولًا والعناية ثانيًا. ويستعمل ابن سينا الآية
على نحوٍ حر تعبيرًا عن حكمة الخلق، والتي صاح بها كاتب الوحي حتى قبل نزولها
إحساسًا منه بجمال الخلق وحكمته في تكوين الجنين في رحم الأم. والخلق والخلقة من
نفس المصدر؛ الخلق طبيعة، والطبيعة خلق؛ ولا فرق في اللغة بينهما. وبعد أن يصف
ابن سينا وظائف الأعضاء وحركة الاخلاط فيها يمدح الخلق. يصف الأعضاء وخلقها والحكمة
في أجزائها ووظائفها طبقا للمنافع؛ فالخلق يقوم على زيادة المنفعة والإقلال من
الضرر. ويحلِّل حكمة الخلق في البدن، في العظام والغضاريف والمفاصل وباقي أجزاء
الهيكل العظمي لسهولة الحركة، كما يصف الحكمة في خلق الكتفين، تعليق للصدر وحمايته،
وخلق الأنفين الدقيقتين، والنخاع والعنق والقصبة الهوائية والرئتين والعينين
والأضلاع. ولا فرق في إدراك ذلك بين جالينوس وابن سينا، بين الحكمة اليونانية
والعناية الإسلامية، بين العقل اليوناني والوحي الإسلامي، بين تراث الآخر وتراث
الأنا، كلاهما يتوجهان نحو طبيعة واحدة. ولا فرق في حكمة الخلق بين خلق الإنسان
وخلق الحيوان. يتحدث ابن سينا عن الخلق لا الخالق؛ أي عن الطبيعة وليس تشخيصها في
فاعل، إجابة على سؤال «من؟» وهو أقرب إلى العلم منه إلى الدين. كما اقتضت العناية
الإقلال من الآلات؛ لأن الإكثار منها ضرر، وخلق الأمعاء الستة آلات لدفع الفضل
اليابس، وجعلها كثيرة العدد والتلافيف والاستدارات حتى لا ينفصل الغذاء سريعًا، ولا
يحتاج الإنسان إلى تناول الغذاء في كل وقت والتبرز الدائم والمشابهة بالبهائم. هناك
إذن حكمة في الطبيعة تتجلى في المخلوقات. وتتجلى حكمة الخلق في تشريح المثانة، وهي
وعاء يستوعب الماء مدة قبل أن يخرج من الحالبين ومن قضيب يتحكم فيه. وسبب ولادة
الجنين احتياجه إلى هواء وغذاء أكثر مما في رحم الأم.
٥٣ وقد خلق الله الدواء للمنفعة، كما خلق العضو للصحة والمرض، وهو دواءٌ
إلهي شافٍ بإذن الله. والأيارج اسم للمسهل، وتفسيره الدواء الإلهي لأنه عمل المسهل
أمرٌ إلهي. وهنا تبدو الأشعرية مرةً ثانية في ثنايا علم الطب. يأخذ مفهوم العناية
الإلهية إذن معنًى علميًّا بمعنى نظام الكون كما هو الحال في البدن الطبيعي؛
فالعناية الإلهية تتجلى في الطبيعة وفي الإنسان، وكأن العناية حالة في الطبيعة،
وكأن الطبيعة عاقلة وقاصدة إلى غايةٍ خيِّرة. ويستعمل ابن سينا لفظ «التسخير»،
اللفظ القرآني، لبيان هذه الوحدة بين الخلق والعناية.
٥٤
ويعبِّر عن هذا الجو الديني داخل علم الطب البدايات والنهايات الإيمانية،
البسملات والحمدلات في أوائل الكتب أو في آخرها، كما تتكرر لازمة «إن شاء الله
تعالى» بعد الإعلان عن النية والقصد. ويظهر لفظ «اللهم» كأسلوب في التعبير. ونفس
النهايات الإيمانية لصاحب المطبعة المتوسل إلى الله بالجاه، والطالب العون على أداء
واجب الصناعة. وقد أُسقطت أمثال هذه العبارات من الترجمات اللاتينية على أنها بنيةٌ
محلية غير علمية، فتأزَّم العلم الغربي، ووقع في التجريبية الخالصة بدعوى الفصل بين
حكم الواقع وحكم القيمة.
٥٥
(ﻫ) وتُعَد «أجوبة الشيخ الرئيس عن مسائل أبي الريحان البيروني»
٥٦ من أطول الرسائل، ومن أكثرها اشتغالًا باليونان وذكرًا لهم، وتدل أيضًا
على التراكم الداخلي العرضي، الحوار بين المعاصرين في الداخل بالرغم من أولوية تمثل
الوافد على تنظير الموروث، وفي صيغة السؤال والجواب كما هو الحال في علم الأصول.
الرسالة رد على سؤال البيروني حول بعض موضوعات الوافد. البيروني عالم، والحكمة
حاملة العلم.
من الوافد يتصدر أرسطو كاسم علَم في الغالب، أو اللقب مثل الفيلسوف وهو الغالب،
أو الحكيم صاحب المنطق، ثم أفلاطون، ثم ثامسطيوس وأنكسمندرس، ثم الإسكندر وطاليس
وهرقليطس وديوجانس ويحيى النحوي. ولم يذكر من الموروث إلا الرازي والفارابي.
٥٧ وقد ذُكر أرسطو في مقدمة المسائل مع تحديد اسم كتاب «السماء والعالم»
الذي به المشكلة. والسؤال حول السبب الفلسفي، وابن سينا هو الأقدر على الإجابة
نظرًا لتمثُّله ثقافة الآخر. لا يكفي علم أبي الريحان وحده دون حكمة أبي علي؛
فالعلم دون فلسفة لا يُبصر ولا يدرك ذاته. العلم دون فلسفة مادة بلا صورة، بدن بلا
نفس، والفلسفة دون علم صورة بلا مادة، نفس بلا بدن. ومن الأسئلة الثمانية عشرة ذُكر
أرسطو في تسع منها؛ أي في نصفها. والمسائل والأجوبة المذكور فيها أرسطو أربعة (أي
ثماني مرات)، وفي الأجوبة وحدها أربعة، وفي الأسئلة وحدها مرة واحدة، وكلها موجَّهة
إلى السماء والعالم.
٥٨
وذُكر من مؤلفات أرسطو «السماء والعالم»، ثم «السماع الطبيعي»، ثم «الكون
والفساد»، «سمع الكيان»، «الحس»، ثم «الميتافيزيقا»، و«الآثار العلوية». ومن
أفلاطون ذُكر «السياسات».
٥٩ وأحيانًا يُذكَر الكتاب باسمين؛ «السماء» و«السماء والعالم»؛ أي الأصل
اليوناني ثم إضافة الشراح اليونان والمسلمين؛ إذ لا يمكن تصور السماء دون العالم
والأرض. ولا يُحيل ابن سينا إلى كتابٍ واحد فقط الذي به موضع السؤال، بل إلى مجموع
كتب أرسطو وضعًا للجزء في الكل، والموضوع في النسق. ويُذكَر «السماع الطبيعي»، «سمع
الكيان»، الترجمة العربية عن اليونانية وعن السريانية. وفي نفس الوقت ذُكر من
الموروث «الجمع بين رأيَي الحكيمين» للفارابي. والاستشهاد بالكتب تأييد لتحليل
ابن سينا ومنعٌ للتطويل؛ أي الاعتماد على السلطة العلمية في ذلك الوقت. ويتم تحديد
الكتاب والمقال والموضع. والإحالة إلى مجموع الأعمال تدل على وحدة علوم الحكمة وعلى
فكر لا شخصي، أسماء علوم وليس أسماء أعلام. وتهدف الإحالة إلى إزالة اللبس وتحديد
المعنى كقصد.
٦٠ كما ذُكرت الفِرق والمجموعات، مثل: المفسرون ثم الفلاسفة ثم المهندسون
والسوفسطائية والفضلاء في صناعة الهندسة وأصحاب العلم الرياضي.
٦١ كما يُذكَر الجناح الشرقي في أجوبة الشيخ الرئيس على مسائل أبي
الريحان؛ إذ ترد الهند في السؤال؛ لأن أبا الريحان كان على اطلاع على ثقافاتها
ودياناتها. فما هو معلوم عند أهل الكتاب وما يُحكى عن الهند، أن الفلك غير ثابت،
عكس ما ادَّعاه أرسطو. ثقافة الشرق وثقافة الوحي متفقتان على حركة الفلك عند أرسطو
الذي يقول بثباته.
وتبدأ المسائل بأرسطو باستمرار؛ لأنه يمثِّل آخر ما وصلت إليه ثقافة العصر.
٦٢ وأرسطو في الفلسفة اليونانية يدل أيضًا على آخر ما وصلت إليه الفلسفة
اليونانية؛ لذلك بدأ يؤرخ لها. والتاريخ رصد للبداية علامة على الاكتمال وبداية
النهاية، كما أن الإسلام آخر مرحلة في النبوة اكتمالًا لمراحل الوحي السابقة؛
فأرسطو آخر الحكماء كما أن محمدًا آخر الأنبياء؛ لذلك يبدوان متفقين في الرؤية، لا
فرق بين حكمة ونبوة.
والمسائل المذكور فيها أرسطو أربعة، الثانية والرابعة والخامسة والسادسة؛ فالسؤال
الثاني عن اعتماد أرسطو على أقاويل القرون الماضية والأحقاب السالفة في الفلك،
واعتبارها حجةً قوية على ثبات الفلك ودوامه. ومن لم يتعصب لأرسطو يعلم أن ذلك غير
صحيح، وهو ما يعرفه أهل الكتاب، وما يُحكى عن الهند وأمثالهم من الأمم نظرًا لتعاقب
الحوادث على مكان المعمور من الأرض، إما جملة وإما على التناوب. اعتمدت شهادة
القدماء على حال الجبال وشهادة المُحدَثين على وقوع الأحداث. وهو سؤال الثبات
والتغير في العالم. ورد ابن سينا دفاعًا عن أرسطو بأنه لم يورد ذلك على سبيل
البرهان، بل على سبيل المقارنة بين السماء والأرض، وأن الجبال وإن بدت ثابتة في
كلياتها إلا أنها مُتغيرة في جزئيتها، وهو ما لاحظه أيضًا أفلاطون. وقد أثار هذا
الاعتراض من قبل يحيى النحوي الذي موَّه على النصارى وزايد في الدين على حساب العلم
والعقل إظهارًا لمخالفته لأرسطو. لقد افتعل يحيى النحوي آخر كتاب «الكون والفساد»
لأرسطو الخلاف معه في هذه المسألة. كذلك تجاوز الرازي المتكلف الفضولي قدره في
شروحه في الإلهيات، وعرضه الخراج، ونظره في الأبوال والبرازات، وكشف عن جهله بنفسه.
وواضح من السؤال والجواب نقد البيروني لأرسطو، وأنه لا أحد معصوم من الخطأ. وهو
نقدٌ علمي لرأي أرسطو في ثبات الفلك، بل وضد النظرة السكونية للعالم على الإطلاق.
٦٣ ويقوم ابن سينا بدور القاضي الحصيف بين البيروني وأرسطو، وكما سيفعل
ابن رشد فيما بعد بين الغزالي والفلاسفة، والمعتزلة والأشاعرة، والمذاهب الفقهية،
مُبينًا نوع كلام أرسطو، وأنه ليس برهانيًّا بل خبري، وتأييد قول أرسطو استشهادًا
بأفلاطون؛ فلا إعجابًا بأرسطو وحده، بل عرضًا لتصورٍ حضاري للعالم يشارك فيه
اليونان مع الإحالة إلى المصادر، كتاب «السياسات» لأفلاطون، وأغلب الظن أنها محاورة
«الجمهورية». مصدر الاعتراض سوء نية يحيى النحوي المُنافق الذي يُزايد في الدين،
ويتملَّق النصرانية ضد أرسطو ليُظهر التعارض بين الإيمان والكفر، مع أنه وافق أرسطو
في تفسيرٍ آخر له لكتاب «الكون والفساد». رفض ابن سينا إذن التفسير النصراني لأرسطو
باسم الإسلام دفاعًا عن الحق وأكثر فهمًا للدين، وكذلك وافقه الرازي بالرغم من
تجاوزه في البرازات، لا فرق بين الداخل والخارج؛ فالكل يصبُّ في مخزونٍ نفسي واحد.
المعترض إذن جاهل، ويُضمِر سوء النية. ويُنهي ابن سينا جوابه دفاعًا عن أرسطو في
قوله إن العالم لا بدء له؛ بمعنى لا فاعل له. هناك فرق بين البداية والفعل درءًا
لتهمة قِدم العالم أو التعطيل على ما يقول المتكلمون. لا يجوز إذن الاستخفاف بأرسطو
أو ادعاء المدافعين عنه تعصبًا والإصرار على الباطل لأنه قبيح.
٦٤
والسؤال الرابع لماذا استشنع أرسطو القول بالجزء الذي لا يتجزَّأ بالرغم من عيوب
هذا القول عند المهندسين، وموقف الرافضين له أشنع من موقف القائلين به؟ ويُجيب
ابن سينا على ذلك بتحديد موضع رفض أرسطو للجزء الذي لا يتجزَّأ، أو قيام هذا الرفض
على براهين منطقية قوية. قد تُوحي المقالة الخامسة من «السماع الطبيعي» بالإثبات،
ولكن المقالة السادسة واضحة في النفي. وقد اعترض أرسطو على نفسه هذا الاعتراض من
قبل وأجاب عنه، ولا يعني باعتراضه أنه يقول إن الجسم يتجزَّأ إلى ما لا نهاية
بالفعل، بل يعني أن كل جزء له وسط وطرفان؛ ومن ثَم أمكنه التخلص من شناعة القائلين
به وشناعة الرافضين له. والخطأ سوء فهم أرسطو من المفسرين والشراح، ووقوعهم في
السفسطة والمغالطة. والحقيقة أن المسألة كلامية، ثم تعشيق نقد أرسطو لمذهب أصحاب
الذرة عليها؛ فالفلسفة متأخرة في الظهور على الكلام، والكلام سابق عليها. ورفض
أرسطو للجزء الذي لا يتجزأ مثل رفض الفلاسفة وبعض المتكلمين له اتفاقًا بين
الحضارتين، واعتراض أرسطو على نفسه مثل اعتراض الأصوليين على أنفسهم والرد عليه
مسبقًا. وينتهي ابن سينا بوضع اللوم على الشراح والمفسرين وضرورة العودة إلى الأصول.
٦٥
والسؤال الخامس لما استشنع أرسطو أن يكون هناك عالمٌ آخر خارج هذا العالم على
طبيعةٍ أخرى يجمعها برزخ؟ ويرد ابن سينا على ذلك مُحددًا الموضع الذي قال فيه أرسطو
ذلك مُنكرًا أن يكون ذلك في «السماء والعالم»، ومُحددًا سياق قول أرسطو، وهو رده
على من قال بوجود عوالم موافقة لهذا العالم بالنوع والطبع، مُغايرة له في الشخصية.
وقد نقل الفيلسوف حجج هذا القول في كتاب «السماء» مُبينًا تناقضاته؛ لأن العلل التي
يُسميها الفلاسفة الطبيعة والعقل والعلة الأولى لا تنقل النظام إلى لا نظام، بل
اللانظام إلى النظام، وكما بيَّن أرسطو ذلك «سمع الكيان»، وفي تفسير ابن سينا
للمقالة الأولى من كتاب «ما بعد الطبيعة»، وفي المقالة الخامسة من «السماع الطبيعي»
وتفاسيره؛ فالحركات الطبيعية مُتناهية، إما من المركز أو إلى المركز في جميع
الأجسام بالدليل العقلي. أما الكيفيات المحسوسة فهي تسع عشرة كما بيَّنها الفيلسوف
في المقالة الثالثة من كتاب «النفس» وشروح ثامسطيوس والإسكندر وغيرهما. يبحث
ابن سينا هنا عن دوافع أرسطو وليس مجرد تخطئته. والسؤال هو زيادة في الإيضاح لفهم
أرسطو وليس نقضًا له؛ لذلك اعتمد رد ابن سينا على الوضوح والاتساق العقلي، ودلَّل
على صحة موقف أرسطو، وأنه ليس مجرد دعوى؛ فإن ما لا دليل عليه يجب نفيه في منطق
الأصوليين، وبيَّن أن موقف أرسطو أكثر علمية، ومتفق مع شهادة الحس، وأكثر واقعية عن
الافتراض النظري الوهمي لوجود عوالم أخرى مفترَضة خارج هذا العالم. كما يستوثق من
الرواية عنه طبقًا لمناهج النقل عند المسلمين. ويستعمل بعض المصطلحات القرآنية مثل
برزخ. يربط بين العالم الواقعي والعالم الوهمي بالرغم من ظهور لفظ «أسطقسات»
المعرَّب عدة مرات، وكذلك لفظ «ماطافوسيقا» قبل ما بعد الطبيعة جامعًا بين التقريب والنقل.
٦٦ ويشرح أرسطو بأرسطو كما يشرح المفسِّرون الكتاب بالكتاب.
٦٧
وفي المسألة السادسة يرد ابن سينا على الاعتراضات على أرسطو مُخطئًا إياها
ومُصوبًا إياه على طول الخط تعصبًا وتحزبًا له، بل يعترف أحيانًا بتقصير أرسطو،
ويتعجب من صاحب المنطق، ويحترم ابن سينا المُعترض ويدعو له بطول العمر دون سبه أو
لعنه كما يحدث هذه الأيام. يحدِّد ابن سينا بدقةٍ مكان الاعتراض، ويبيِّن أنه أيضًا
قد وجَّه هذا الاعتراض من قبل إلى أرسطو، كما اعتذر عن ذلك المفسرون. وقال ثامسطيوس
بضرورة تأويل قول أرسطو على أحسن وجه. وإن بداهة المُعترض ونباهته في الرياضيات
والهندسة قادرة على الإجابة على مثل هذه الاعتراضات.
٦٨
أما المسائل الأربعة الأخرى، الثالثة والثامنة والتاسعة والعاشرة، فإن أرسطو
مذكور فيها في الأجوبة وحدها دون الأسئلة، وكأن السؤال علمي والإجابة أرسطية؛ لأن
أرسطو كان هو العلم في عصره. المسألة الثالثة سؤال عن كيفية إدراك البصر دون إدراك
ما تحت الماء، وشعاع البصر ينعكس على الأجرام الصقيلة، وسطح الماء صقيل. والجواب عن
ذلك أن الإبصار عند أرسطو ليس بخروج شعاع من العين، وكما ظهر ذلك عند المفسرين
للمقالة الثانية من كتاب «النفس»، وكتاب «الحس»، وكما هو الحال عند أفلاطون.
والحقيقة أنه لا فرق بين الاثنين؛ لأن قول أفلاطون عامي، في حين أن قول أرسطو علمي.
وقد بيَّن ذلك الفارابي في «الجمع بين رأيَي الحكيمين». لا يُشير السؤال إلى
اليونان أو إلى التراكم الفلسفي للموروث، ولكن الجواب يُشير إلى الوافد والموروث مع
تحديد المواضع. ويكشف ابن سينا في رسائله عن مصادره، في حين أنه يصمت عنها في موسوعاته.
٦٩
وفي المسألة الثامنة يستعمل ابن سينا فعل «زعم» لعرض أقوال المُعترض عندما ينسب
إلى أرسطو ما لم يقله، مثل جعل النار العنصر الذي يتكوَّن منه العالم طبقًا للتحقق
من صحة الرواية، كما هو الحال في علم الحديث. قد يصدق الاعتراض على فلاسفةٍ آخرين
جعلوا الأسطقسات شيئًا واحدًا من الأربعة أو اثنين أو ثلاثة منها، مثل الماء عند
طاليس، والنار عند هرقليطس، والجوهر بين الماء والهواء عند ديوجانس، والهواء عند أنكسمندريس.
٧٠
والمسألة التاسعة مجرد استفسار عن تعريف أرسطو للضوء، وهو لونٌ ذاتي للمُشف من
حيث هو مُشفٌّ، وكما حدَّه في المقالة الثانية من كتاب «النفس» في المقالة الأولى
من كتاب «الحس».
٧١
والمسألة العاشرة يُحيل فيها ابن سينا لمزيد من التفصيل إلى المفسرين في شروحهم
على «الكون والفساد» و«الآثار العلوية» و«المقالة الثالثة» من «السماء»، ويعتمد
عليهم، ويقتبس من أمثلتهم لتأييد قول أرسطو في الكون والتغير من جزئيات الطبيعة.
ليس الشراح على خطأٍ دائم أو على صوابٍ دائم، بل يُخطئون ويُصيبون.
٧٢
والمسألة الأولى مذكور فيها أرسطو في السؤال دون الجواب؛ مما يُوحي بإمكانية
الجواب عن أرسطو دون ذكره؛ فالعلم مستقل عن الشخص. وهي السؤال عما أوخذ على أرسطو
وعما أشكل على قرائه، هو سؤالٌ نقدي استفهامي. لمَ أوجب أرسطو للفلك عدم الخفة
والثقل؟ والإجابة لعدم وجود حركة من المركز أو إليه، في حين أن الوهم يسوق إلى أنه
من أثقل الأجسام. ويظهر من كثير من الأقوال التمويه والسفسطة، ويجر إليه الخلاف في
اللفظ بالرغم من الاتفاق في المعنى، حيث تُعتبر الحركة إلى المغرب ضد الحركة إلى
المشرق؛ فإذا ما تم تجاوز الألفاظ ظهرت المعاني. الحل إذن في جدل اللفظ والمعنى،
وفي دور الوهم والسفسطة. حل المسألة إذن في المنهج واللغة أكثر منه في الموضوع
والاستدلال.
(و) وفي «جواب الشيخ الرئيس على سؤال أبي الحسن أحمد السباعي عن علة قيام الأرض
وسط السماء» يبدأ التراكم الفلسفي الداخلي، وتبدأ الأسئلة من الواقع الفلسفي، لا من
الوافد ولا من الموروث مباشرة.
٧٣ تبدأ الأسئلة من الداخل؛ فقد أصبح الواقع مخصَّبًا والأرض حُبلى، وهو
سؤالٌ علمي عن العلة؛ فالعلم هو علم بالعلل، وهو لونٌ جديد من ألوان التأليف أشبه
بالفتاوى الفقهية وأحكام السؤال والجواب، مثل فتوى «فعل المقال» لابن رشد. ولم يذكر
في أرسطو لأنه ليس همًّا ولا ضرورة ولا مصدرًا وحيدًا للعلم، بل ذكر فيثاغورس
وديمقريطس إفرادًا لهما بالتعيين في معرض ذكر آراء القدماء للإجابة على السؤال، وهي
إجابات ثمانٍ لعللٍ محتملة. ويُذكَر أصحاب فيثاغورس، أي الفيثاغوريون، كفرقة وتيار،
وليس كشخص أو فرد، ويُذكَر كلاهما في سياقهم التاريخي مع أقاويل العلماء القدماء أو
العلماء والقدماء، طائفة منهم بقول، والبعض الآخر بقولٍ آخر؛ فهما يدلان على
تقسيماتٍ فئوية لتياراتٍ فكرية وآراءٍ فلسفية. السؤال من الحاضر التراكمي،
والإجابات متعددة ومحتملة من الماضي الوافد، ومعظم الآراء الثمانية الواردة أقل
علمية من تحليل ابن سينا العلمي. ذكر آراء القدماء من أجل تجاوزها، انتقالًا من
تاريخ العلم إلى العلم، من التطور إلى البناء، كما هو الحال في تطور الوحي حتى
اكتماله في المرحلة الأخيرة. وقد جمع ابن سينا ذلك كله في فصلٍ خاص هو الفصل العاشر
لتعديد أقاويل العلماء القدماء، كما فعل أرسطو ذلك من قبل مؤرخًا لآراء السابقين
ودون تطويل في المناقضة. نقد القدماء وارد وإن لم يكن مُستفيضًا. يأتي التاريخ بعد
اكتمال الموضوع عند الفصل الأول في التاسع، وكأننا أمام قانون الطفو. ظهور الموضوع
على السطح بعد تراكمه في التاريخ، اليقين أولًا والظن ثانيًا، الحقيقة أولًا
والتاريخ ثانيًا، الاكتمال أولًا ثم التطور ثانيًا.
وتُسمى الطوائف على العموم دون تحديد ثقافاتهم، يونان أو مسلمين. المهم الرأي
والموقف والاتجاه، وليس أصحابه ومُمثليه وقائليه. إنما تكون الألفاظ بين العموم
والخصوص، القدماء الأعم والعلماء الأخص. للقدماء أقاويل وللعلماء آراء. والأقاويل
أقل علمية وبرهانًا من الآراء. وهي آراء يستحضرها ابن سينا من الذاكرة، وبها كثير
من الإسقاط والصور. فسبب قيام الأرض وسط السماء لأنها متحركة على الاستدارة
(فيثاغورس) وهابطة إلى أسفل، أو أنها ساكنة. ثم تنقسم الآراء في علة السكون، قيامها
على الهواء وضغطه عليها (ديمقريطس)، قيامها مثل الحبة عليه، طفوها مثل طفو الصفيحة
من الرصاص الواسعة، وإلا رسبت إن كانت صغيرة، أو لاستحقاق الجهات بها على التعادل،
أو إدارة الفلك وحركته كما يتحرك التراب في قارورةٍ تدور، أو جذب الخلاء، أو تحركها
إلى الوسط عشقًا لكليتها.
٧٤
وتبدو آليات الإبداع في وصف مسار الفكر في الماضي والحاضر والمستقبل، وبيان
مراحله وخطوات استدلاله المنطقي. وهذا الربط بأزمنة الفعل تدل على أن ابن سينا
يتعامل مع أفكار وليس مع عبارات، وتتم المراجعة واستبعاد التناقض بحثًا عن الاتساق،
ليس فقط اعتمادًا على اتساق المقدمات والنتائج، واعتمادًا على البراهين، ولكن أيضًا
مع المشاهدة والتجربة. والاختصار أفضل من التطويل بعد بيان القصد، ليس فقط لدوافع
العلم والفكر، بل لكثرة المشاغل وقِصر العمر، ولوجود التفصيلات في مؤلفاتٍ أخرى،
ولافتراض ذكاء القارئ وحسن قريحته، وما لديه من علمٍ يُغنيه عن التطويل. وتدل
الإحالة إلى باقي المؤلفات على وحدة الموضوع واحتواء الفكر له. والتأليف أيضًا للسلطان.
٧٥
(٢) البيروني
ويمثِّل عملان للبيروني (٤٤٠ﻫ) تمثُّل الوافد قبل تنظير الموروث.
(أ) الأول في الفلك «كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم». ويكون تمثل الوافد في
العمق؛ أي أعلام قليلة العدد وكثيرة التردد، مثل بطليموس واليونانيون والروم،
بالنسبة للوافد اليوناني، والهند والمجوس بالنسبة للوافد الشرقي، ويعظم الوافد
الشرقي على الوافد الغربي، ويدل على ذلك أسماء الشعوب والبقاع. ويكون تنظير الموروث
على الاتساع؛ أي كثرة الأسماء وقلة التردد، مثل السريان والنصارى والعرب والصابئة
والحرانيون والقبط.
٧٦ ويدل النص على ارتباط الفلك بالرياضة، الحساب والهندسة والجغرافيا
والتاريخ؛ أي تكامل العلوم الرياضية والطبيعية وتفاعلها على الأرض. وهو في علم
التنجيم أكثر في علم الفلك؛ أي العلم الشعبي المأخوذ بالتقليد أكثر منه في العلم
الرياضي الطبيعي. كُتِب بطريقة السؤال والجواب، أسلوب الفقهاء من أجل تعلم
المصطلحات، فالعلم هو المصطلح، وبناءً على طلب امرأة.
٧٧ ويُحيل إلى باقي الكتب؛ مما يدل على وحدة المشروع العلمي، وتكثر فيه
الجداول التوضيحية من أجل عدم التشكك في علم التنجيم الذي لا يقوم إلا بعد استيفاء
العلوم الرياضية الأخرى. وهو علم العامة، وليس للخاصة التي لها علم الفلك. ويعطي
النص صورة لعادات الشعوب وتقاليدها وخرافاتها وأعيادها وعلومها وآلاتها، خاصةً
الهند التي تُعتبر نقطة الإحالة الأولى مع اليونان، الشرق والغرب.
والإيمانيات قليلة للغاية، مثل ظهور الصلاة ومعرفة القبلة ودور الفقه كأحد
البواعث على تأسيس علم الفلك، مثل الصوم ومعرفة أوائل الشهور. وتبدو مقارنة الأديان
واضحة؛ فالعلم جزء من الدين، وكلاهما تعبيران عن الحضارة. وتظهر العبارات
الإيمانية، مثل الدعوة بالتوفيق، والاستعانة بالله، والحمد لواهب الحياة، والصلاة
على الرسول وآله.
٧٨
(ب) والثاني «الآثار الباقية عن القرون الخالية». وهو في علم التاريخ الذي يشمل
الجغرافيا والفلك والحساب والتنجيم ومقارنة الأديان والفلسفة؛ فالتاريخ علم الإنسان
على الأرض، هو العلم الشامل للعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية؛ ومن ثَم فهو جزء
من علوم الحكمة وإن لم يدخل في قسمتها الثلاثية التقليدية القديمة.
٧٩ وهو المعنى الشعبي للتاريخ الذي يجمع كل شيء، ثقافات الشعوب، عاداتها
وتقاليدها ودياناتها وأشعارها وأساطيرها وخرافتها، لا فرق بين تاريخ طبيعي وتاريخ
إنساني. هو أقرب إلى تاريخ الحضارات المقارنة مع احترام كامل لها جميعًا، سواء كانت
ثقافات الغالب أم ثقافات المغلوب.
٨٠ ولقد كان التاريخ القديم هو تاريخ صراع استعماري بين الفرس والروم،
وتحقير كلٍّ منهما لثقافة الآخر. ولو كان لفظ التاريخ اشتفافًا من لفظٍ فارسي، إلا
أن الحضارة الإسلامية أعطته مضمونًا مُخالفًا، وهو تاريخ الشعوب والحضارات القديمة
بمساواةٍ كاملة.
ويتكون من أقوالٍ دون أبواب أو فصول، تتفاوت من حيث الكم، أكبرها السادس؛
٨١ ربما بسبب وفرة المعلومات أو ندرتها، وربما للأهمية التاريخية، وربما
لميولٍ طائفية أو شعوبية؛ إذ يبدو المؤلف شيعيَّ الاتجاه فارسي الأصل، يدعو لأن
يحرس الله الجماعة والأئمة.
وترد التواريخ كلها إلى التاريخ الهجري، وضعًا لتواريخ الآخر من منظور الأنا، وقد
كانت البدايات الأخرى إما خلق العالم، أو نزول آدم على الأرض، أو تاريخ الإسكندر
بعد أن تحوَّل الإسكندر إلى مثال ونبي وإله وأمه قديسة. التاريخ الداخلي مقياس
التاريخ الخارجي.
٨٢ وقد كان التاريخ الهجري اقتراحًا من عمر بن الخطاب.
وسبب التأليف معرفة أخبار الأمم السالفة وأنباء القرون الماضية وذكر بقايا
آثارهم، ولا يمكن معرفة ذلك بالقياس على المحسوسات والاستدلال بالمعقولات، بل
بالاعتماد على أهل الكتب والملل وأصحاب الآراء والنِّحل، ثم قياس هذه الآراء بعد
تطهير النفس، وتخليصها من الأهواء والتعصب والتظاهر واتباع الهوى والتغالب
بالرئاسة، وتنقية الروايات من الأباطيل، كما فعل ابن خلدون فيما بعد، وإبطالها
بالحوادث الطبيعية، والابتداء بالأقرب والأشهر من الأمم، ومعرفة أخبارهم من
مصادرها. ويبدو البيروني هنا على وعيٍ تام بمنهج كتابة التاريخ.
ثم يتخصص التاريخ من التاريخ العام إلى التاريخ الخاص، من تاريخ الحضارات إلى
تاريخ الأديان، كما فعل البيروني من قبلُ في «تحقيق ما للهند من مقولة»، ويركز على
الديانات الشرقية، اليهودية والنصرانية والإسلام، وديانات فارس، المانوية والمجوسية
والزرادشتية، بالإضافة إلى ذكر ديانات الصين ومصر وخوارزم؛ أي أواسط آسيا حيث
انتشرت ديانات الهند، الهندوكية والبوذية. وتاريخ الأنبياء جزء من التاريخ المقارن
للدين، ويعتمد على الكتب المقدسة؛ أي المصادر الأولى لمعرفة الديانات وترجماتها
المختلفة.
ويعتمد على العقائد الإسلامية كمعيار لتاريخ الأديان؛ نظرًا لأن القرآن مصدرٌ
تاريخي صحيح لم ينله التحريف أو التبديل كما نال باقي الكتب المقدسة؛ فالمسيح رفعه
الله إليه، والاختلاف في أنسابه مثل أنساب آلهة اليونان واللاتين. وقد وصل سهم
زرادشت إلى مناجاة الله بأمر الله وإرشاده. ويفيض البيروني في ذكر الآريوسية ورأيهم
في المسيح القريب من رأي الإسلام والبعيد عما يقوله كافة النصارى، ويُقارن بين
العقائد النصرانية والكهنوت النصراني، والتشيع، ونشأة عقائد المضطهدين
ومؤسساتهم.
ويبدو منهج البيروني في كتابة التاريخ في عدم الاعتماد على الدليل النصي؛ فتحديد
وقت الصيام ليس بالنص بل بعلم الفلك،
٨٣ وكذلك الحدثان. وبناءً على الواقع والعلم يمكن نقد النصوص. كما أن
التاريخ ليس مجموعة من الحوادث، بل له قانونٌ ينتظمها؛ لذلك يتحدث البيروني عن
ماهية التاريخ وماهية اليوم والشهر؛ أي إنه بحث في ماهيات التاريخ؛ معناه وبنيته
وقانونه وغايته.
٨٤ وتدخل الأسطورة في التاريخ كفنٍّ شعبي، مثل ما نُسِج حول الأنبياء
والأبطال مثل الإسكندر وهرمس، وأولاد آدم ونوح وإبراهيم، والأئمة مثل الحسين.
وأحيانًا ينقد البيروني الكذب في التاريخ وما يقوم به المُنجمون والقصَّاصون.
٨٥
ويُحيل البيروني إلى باقي أعماله تعبيرًا عن وحدة المشروع، التاريخ والفلك
والرياضيات والطب والحكمة والمعادن. كما ينهل من الشعر العربي كمصدر للتاريخ،
أوزانه وشطراته.
٨٦ وفي نفس الوقت يصف مسار فكره ووحدة عمله، ويذكِّر بما فات وينبِّئ بما
هو آتٍ.
٨٧ ويُضيف كثيرًا من الجداول والرسومات التوضيحية التفصيلية عن التواريخ
والزيجات الفلكية.
٨٨ كما يميل إلى عديد من المصادر المكتوبة والنصوص المقدسة.
٨٩ ومع ذلك فالكتاب مملوء بالأسماء والحوادث، الملوك والقُواد والأنبياء،
والأساطير والأماكن والقبائل؛ مما يجعل تحليل المضمون له شِبه مستحيل. يكفي التحليل
الكلي للمقاصد والتوجهات العامة. أحيانًا ينقض الترابط المنطقي. غلب التاريخ على
فلسفة التاريخ، وأصبح أقرب إلى التاريخ منه إلى علوم الحكمة.
ويبدو الوافد قليل التردد في الاتساع، وكثير التردد في العمق، على عكس الموروث
الكثير التردد في الاتساع، القليل التردد في العمق؛ فالأسماء العربية تفوق عشرة
أضعاف الأسماء اليونانية من حيث العدد.
٩٠ ومن الوافد يأتي بطليموس وجالينوس وهرمس في الصدارة، ثم المجسطي
والإسكندر، ثم هيبارخوس وهيبوقراط، ثم يأتي أرسطوثيون الإسكندراني في المرتبة الثالثة.
٩١ ويتصدر الوافد الشرقي على الوافد الغربي كالعادة عند البيروني. ويأتي
أشكنبار وجهانبار وجم ونبجتنصر في المقدمة، ثم الحرانيون، ثم فريدون والصابئة، ثم
الأفستا والهنود.
٩٢ ومن الموروث يأتي حمزة بن الحسن الأصفهاني في المقدمة، ثم أبو الفرج
الزنجاني، ثم سنان بن ثابت، ثم أبو معشر وعماد الدولة علي ابن البويهي، ثم على
بن أبي طالب، ثم الزقاق والكِندي والجهيني، وتتوالى الأسماء تباعًا بالمئات.
٩٣
ويستشهد البيروني بخمس عشرة آية قرآنية خاصةً في البداية ليبيِّن تطابق العلم
والدين، الطبيعة والقرآن؛ فالكتاب يصدِّق الطبيعة، والطبيعة تصدِّق الكتاب.
٩٤ العلم وسيلة لفهم الوحي، والوحي طريق إلى تأسيس العلم. ويضرب البيروني
المثل بالزمان. وبالرغم من تحريف الكتب المقدسة إلا أن البيروني يستشهد بها، خاصةً
التوراة بعد تصحيحها بالقرآن كمصدر للأخبار. وإذا كان التاريخ موضوعًا للأهواء
والمصالح، كما تبدو في الروايات، فإن القرآن رؤيةٌ موضوعية للتاريخ، ليس بالضرورة
كنصٍّ حرفي، بل كتوجهٍ عام، كما يستعمل الحديث أيضًا بنفس الطريقة.
٩٥ تُستعمل ثمانية أحاديث حول الزمان والأمية والصوم والفطرة ويوم الخندق
ووراثة اليهودية وأنبياء إسرائيل.
٩٦
ويتجلى الموروث الديني في المقدمات والخواتيم الدينية في البسملات والحمدلات،
والاعتماد على المشيئة الإلهية، والدعوة بالتوفيق للصواب، والاستعانة بالله وعلم
الله المُطلَق. وتؤدي الدعوة إلى الله إلى الدعوة للسلطان أو الإمام، ووصف الله من
السلطان بنفس الصفات والألقاب.
٩٧