(١) ابن بختيشوع (٤٥٠ﻫ)
من أسرةٍ طبية مسيحية أسطورية من أصلٍ فارسي، مُعاصر لابن بطلان وصديق بعد أن
انتقلت مدرسة الإسكندرية الطبية إلى أنطاكية، ثم إلى حرَّان في النصف الأول من
القرن الثاني، ثم إلى بغداد في النصف الثاني منه. وكان أيضًا مؤرخًا أثبت أن
جالينوس ليس مُعاصرًا للمسيح. كتب «رسالة في الطب والأحداث النفسانية» لإثبات الصلة
بين الطب والفلسفة، والصلة بين الطب وعلم النفس كما يُوحي العنوان.
١
فقد نشأت مشادَّة كلامية في البصرة حوالَي (٤٢٩ﻫ) حول هل الطب صناعةٌ مستقلة عن
الفلسفة؟ وما فضائل الطبيب؟ اعتبر ابن بختيشوع والأطباء أن الطب صناعةٌ مستقلة،
وكتب هذه الرسالة ليبيِّن حجج الأطباء ضد الفلاسفة، وأن مكان الطب هو المستشفيات
وليس مدارس الحكمة. وتزعَّم الفريقَ الآخر ابنُ بطلان؛ فالطب ليس صناعةً مستقلة عن
الفلسفة، ولا يُطلَق لقب الطبيب إلا على من كان فيلسوفًا، وإلا كان مُتطببًا؛ أي
مُشتغلًا بصناعة الطب. وتجتمع الفلسفة والطب في لفظ الحكمة، والحكيم هو الفيلسوف
والطبيب في آنٍ واحدٍ كما هو المعنى العُرفي للفظ حتى الآن؛ لذلك نقد ابن بطلان
الدجَّالين والمُشعوذين الذين يُمارسون الطب كصناعة وحرفة دون فهم للأمراض وعللها.
الفيلسوف صاحب المنطق يعمل بالطب برؤيته الفلسفية واستدلالاته المنطقية مع الدخول
في الطب التجريبي؛ فالاثنان ليسا على التعارض أو التبادل، بل على الجمع، العقل
والتجربة، القياس والدربة، وهي سنة الأطباء الحكماء والحكماء الأطباء؛ لذلك فضَّل
المسلمون جالينوس الطبيب المنطقي الفيلسوف، على أبقراط الطبيب التجريبي.
٢ ليست الفلسفة حجر عثرة في سبيل العلم. وخطأ أرسطو وأفلاطون في الطب
يؤدي بالضرورة إلى انفصال الطب عن الفلسفة، بل إلى التحول من الطب التجريبي إلى
الطب الفلسفي. وتعارض آراء أفلاطون وأبقراط في الطب، كما لاحظ جالينوس، لا تعني خطأ
الطب الفلسفي، بل تعدد الآراء الموجودة حتى الآن في الطب التجريبي. ونقد جالينوس
لأفكار أفلاطون الطبية لا تؤدي إلى فصل الفلسفة عن الطب، بل تصحيح آراء الطب
الفلسفي بالطب التجريبي. وإن مخاطر الطب التجريبي الذي لا يقوم على تصورات فلسفة،
بل على التوحيد بين النفس والبدن، أعظم من مخاطر الطب الفلسفي الذي يقوم على
التمايز بينهما. الخلاف إذن فلسفي. خطورة الطب الفلسفي الغائية التطهرية أي
المثالية، وخطورة الطب التجريبي الوضعية المادية.
والقضية الثانية هي الصلة بين الطب البدني والطب النفسي، وحق دراسة الأطباء
الظواهر النفسية نظرًا لارتباط النفس بالبدن، وأثر الظواهر الجسمية في الظواهر
النفسية، أو أثر الظواهر النفسية في الظواهر الجسمية.
٣ وهو موضوع الفصلين الأخيرين من الرسالة، وهي أكبر الفصول، مع أخذ نموذج
تطبيقي على العشق كمرضٍ يدرسه الطبيب.
٤
من الوافد يتصدر جالينوس ثم أفلاطون ثم أبقراط ثم أرسطو ثم أرخيجانس ثم سقراط
(بمفرده أو من داخل نص فولس) ثم فيثاغورس وتوقيذيذس وإيرقليس وأرميطوس وأوميروس
وقيطاوس وليطو وثامسطيوس، ويظهر تملوقون من داخل نص جالينوس.
٥ كما يذكر مؤلفات جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو.
٦
ويوصف جالينوس بلقب الجليل، وهو ممثِّل الطب الفلسفي، وأن الطبيب الفاضل فيلسوف.
صلة الفلسفة بالطب مثل صلة النظر بالعمل، فلا نظر بلا عمل، ولا عمل بلا نظر، بل إن
الفلسفة منطق لكل العلوم وليست للطب وحده. الفلسفة هي التي تضع المصطلحات الطبية
ومنطق الاستدلال للطبيب. الطب العلمي يقع في التجربة الساذجة؛ لذلك تحميه الفلسفة
من قِصر النظر وسطحية النظرة. يحتاج الطبيب إلى القياس والنظر، وهو ما تُعطيه له
الفلسفة. هناك إمكانيةٌ إذن للطب الفلسفي وليس الفلسفة غير الطبية (لأفلاطون)، أو
الطب غير الفلسفي (أبقراط). وقد نظر القدماء من الطبيعيين، أي الفلاسفة، ووجدوا
أيضًا ضرورة نظر الطبيب في الأسباب؛ مما يجعله فيلسوفًا.
وفي نفس الوقت ينقد ابن بختيشوع الطب الفلسفي عند أفلاطون اعتمادًا على جالينوس،
ودفاعًا عن أبقراط في نقده له. هناك إذن تطور للعلم من هوميروس إلى أفلاطون إلى
أبقراط إلى جالينوس إلى ابن بختيشوع إلى ابن بطلان؛ من الطب الأسطوري عند هوميروس،
إلى الطب المثالي عند أفلاطون، إلى الطب العلمي عند أبقراط، إلى الطب الفلسفي عند
أرسطو وجالينوس. وتأييد ابن بختيشوع لموقف جالينوس من أفلاطون خطوة لفصل الطب عن
الفلسفة. ومقارنته بين أفلاطون وأبقراط من أجل تدعيم أبقراط، وفصل الطب عن الفلسفة.
وأفلاطون هو نموذج الفيلسوف الذي يرفض تعلم الطب تجريبيًّا نظرًا لاعتماده على
الرياضيات، على نقيض اعتماد أبقراط على التجربة وحدها. والطب الفلسفي بين الاثنين
يقوم على القياس والتجربة. ومن السهل نقد ابن بختيشوع لآراء أفلاطون لإثبات آراء
أبقراط، والدخول في معارك القدماء، ولكن من الصعب إيجاد الحقيقة بينهما. لقد تحوَّل
أفلاطون إلى مذهبٍ مغلق فأضرَّ بالعلم. ونقد جالينوس لأفلاطون لا يجعل أبقراط على
حق؛ لأنه نقد أبقراط أيضًا. ومن الطبيعي أن يفضِّل جالينوس طب أبقراط على طب
أفلاطون، ولكنه لا يقع في الطب التجريبي الذي يدعو إليه أبقراط، بل يفضِّل الطب
التجريبي على الطب اللاعلمي في حالة الاختيار بين الاثنين، ولكن ابن بختيشوع يضمُّ
أبقراط إلى جالينوس في نقد أفلاطون من أجل اختيار أبقراط ودون نقد أبقراط بجالينوس.
ويضم ابن بختيشوع أرسطو وأبقراط وجالينوس ضد أفلاطون لإثبات الطب التجريبي.
٧
ويرجع الخلاف بين المذهبين إلى تصور الصلة بين النفس والبدن. إذا وقع التمايز
بينهما نشأ الطب المثالي عند أفلاطون لدراسة النفس، والطب التجريبي عند أبقراط،
والذي يُدافع عنه ابن بختيشوع لدراسة البدن. ترتبط الظواهر النفسية بالنفس والظواهر
الجسمية بالجسم ولا تدخل بينهما. وإذا وقع الاتحاد بينهما نشأ الطب الفلسفي الذي
يدرس أثر النفس في البدن وأثر البدن في النفس عند جالينوس وابن بطلان. هناك نظامٌ
طبيعي يحكمه منطق العقل لمعرفة الصحة والمرض؛ فالضرر مثلًا إما يكون أوليًّا وهو
المرض، أو بواسطة وهو السبب، أو تابعًا وهو العرَض. ومع ذلك يتفق جالينوس وأبقراط
وأفلاطون على قسمة النفس الثلاثية؛ أي إنه يمكن للفلسفة والعلم الاتفاق على نفس
القسمة بشرط أن تكون الفلسفة علمية والعلم فلسفيًّا.
ونظرًا لارتباط النفس بالبدن كان من حق الطب دراسة الظواهر النفسية لدراستها
دراسةً علمية بعيدًا عن الخرافات والأوهام أو الجدل والسفسطة؛ فقد جعل جالينوس من
حق الطبيب الفيلسوف النظر في عوارض النفس بعيدًا عن صاحب التخاريف والخدع والكتب
الإلهية التي تمنع النفاق والمنافقين؛ فالعشق حالةٌ نفسية وليس إلهية، يدرسها
الطبيب الفيلسوف كحالة كما يفعل جالينوس؛ فالله تعالى ليس سببًا من الأمراض. وتلك
أهمية أبقراط في الطب التجريبي كما أقرَّ في كتابه «في تدبير الأمراض الحادة»، وفي
كتاب «المرض الإلهي». لقد ساوى جالينوس بين العشق والصرع، وجعله مرضًا نفسيًّا وليس
سماويًّا كما قال أرسطراطس. وقد ربط أفلاطون بين العشق والشهوة في حوار بين سقراط
وأغلوقون، وجعله لطلب الولد في «السياسة المدنية»، وجعله يتبع الطمع، والطمع يحرق
الدم؛ أي إنه يدخل باب الأخلاط. وعند أرسطو العشق ظاهرةٌ نفسية. ويعتمد ابن بختيشوع
على أرسطو الطبيعي المنحول، وهو «كتاب الفراسة»، لإثبات دراسة النفس من خلال البدن.
وعند سقراط العشق ظاهرةٌ نفسية يُدركها الطبيب، ويمكن مُداوته باللحون عنده وعند
فيثاغورس وأفلاطون.
٨ وقد وقعت مناظرة بين إيرقليس وأرميطوس حول ارتباط العشق بالشهوة، كما
روى هوميروس حكاية عشق ليطو لطيطاوس، فأكل قلبه من فرط الشهوة، وجعله فولس من أمراض
الدماغ. ولا تُذكَر أسطورة أفلاطون «أندروجين» في المأدبة.
ومن الموروث يُذكَر الحجاج بن يوسف، ثم ثياذوق، ثم حنين بن إسحاق والرازي
والأصفهاني، ثم إسحاق بن حنين، ثم الكِندي والطبري والجاحظ.
٩ وتُذكَر مؤلفاتهم.
١٠
ويعتمد ابن بختيشوع على حنين بن إسحاق لإثبات رأيه في الربط بين الظواهر النفسية
والظواهر الجسمية، وقد اعتبر ابن مندويه الحب غريزة تجمع بين النفس والبدن. ويعرِّف
العشق بحالة النبض كما حدث للحجاج مع جارية. أما الصوفية فيجعلون العشق محبةً
متبادلة بين الله والإنسان.
١١ ويظهر التقابل بين العرب واليونان، بين الأنا والآخر، بين الجاحظ
وأفلاطون، بين العشق والحب، بين اللغة العربية واللغة اليونانية.
١٢ ويذكر الصابئة في شمال العراق وكأنهم يونانيون، وهم عرب. يعتقدون أن
الناس في ابتداء خلقهم كانوا مُتصلين في موضع السرر، وأن زاوس أمر بقطعهم لشدتهم
وقوتهم. كما يذكر التفسير الخرافي للهند للصرع والماليخوليا والعشق والجنون، بعضها
من قِبل الأرواح السماوية، وبعضها من قِبل الشياطين.
١٣ وتبدأ الرسالة وتنتهي كالعادة بالإيمانيات، وهو الطبيب النصراني؛
بالبسملة والحمدلة والدعوة، بدوام السعادة ودوام التوفيق، وتقديس الله للأرواح،
وطلب الرحمة والعون اعتمادًا على المشيئة.
١٤
(٢) علي بن رضوان
وفي «الكتاب النافع في كيفية تعليم صناعة الطب» لعلي بن رضوان (٤٥٣ﻫ) المصري
يتحول الطب من تأسيس للعلم على القياس والتجربة إلى كيفية تعليمه.
١٥ وبالرغم من نقل عمر بن العزيز الطب من الإسكندرية إلى أنطاكية وحران،
إلا أن مدرسة الإسكندرية بقيت في المدرسة المصرية عند ابن بطلان وابن رضوان.
كانت جوامع الإسكندرانيين تشمل ستة عشر كتابًا لجالينوس وأربعة لأبقراط بطريقة
السؤال والجواب من أجل تعليم الطب عن طريق الكتب، واستقصاء تاريخ الطب وتطوره؛ لذلك
كتب «الكتاب النافع» وكتبًا أخرى، مثل «مقالة في شرف الطب»، و«مقالة في مذهب أبقراط
في تعليم الطب».
١٦ كانت طريقة في التعليم قراءة الكتب لإسماع الشيوخ، والاقتصار على الطب
وحده دون النحو والعربية والآداب وأحكام النجوم، ونقد الدراسات الثانوية «الكنانيش»
والاختصارات من أجل العودة إلى الأصول الأولى عند جالينوس وأبقراط. وقد شرح خمسة
عشر عملًا لهما، مع أن مدرسة الإسكندرية كانت تقوم بتعليم المنطق والهندسة والحساب
والعدد والمساحة والموسيقى والنجوم للتعود على البرهان؛ فالعلوم الرياضية مقدمة
للعلوم الطبيعية.
١٧ تاريخ العلم جزء من العلم بعد مراجعة أو بيان، وعدم الاكتفاء بسماع
الرد على الشيخ دون قراءة أو نقد أو تعليق أو مراجعة، بل مجرد حفظ ونقل اللاحقين عن
السابقين. والانعكاف على نقل القدماء دون إبداع المُحدَثين انعزال وانكفاء وانطواء.
ثم يأتي دور القياس والتجربة وتصديق الأدبيات والتحقق من صدقها بجهد الطبيب؛ فأنواع
العلاج ثلاثة: القياس والتجربة والحيلة. لذلك يربط ابن رضوان بين الطب والصيدلة.
لذلك كان الباب الرابع كله في المقالة الأولى في بيان أغراض كتب أبقراط وطرق تعلمه؛
فقد أخفى أبقراط أغراضه؛ لأنه تكلَّم باللغز حتى لا يعلمه إلا لولده، كما أن الباب
الخامس في كيفية تعليم جالينوس.
١٨ وتحقَّق جالينوس من كتاب ديسقوريدس في الأدوية، وقاسها بالتجربة لمعرفة
أغاليطه. ويقتبس ابن رضوان نصوصًا من جالينوس لدرجةٍ توحي بانبهاره بالقدماء ونقمته
على المُحدَثين. وأرسطو هو الذي أعطى جالينوس المبادئ العامة للطبيعة. ويقوم
ابن رضوان بتحليل الطب على مستوى الشعور لمعرفة غرض كل طبيب؛ فالعلم قصد. ابن رضوان
وحده، مغرورًا، هو الذي فهم الطب، وصحَّح أخطاء السابقين. ولم يفهم أحدٌ جالينوس
مثله، قارئًا الرازي، قارئًا جالينوس، قارئًا ثاسلس، قارئًا أبقراط، مرايا أربعة
استطاع ابن رضوان أن ينفُذ إليها كلها.
١٩
ولا يتَّضح في النص فقط أولوية تمثُّل الوافد على تنظير الموروث، بل الانبهار
بالوافد ونقد الموروث. فمن الوافد يتصدر جالينوس، ثم أبقراط، ثم ثاسلس، ثم
ديسقوريدس أساسًا، ثم أفلاطون وأرسطو، ثم إقليدس وأغلوقون وبطليموس وأورباسيوس، في
حين يتصدر الموروثَ الرازي، ثم حبيش، ثم علي بن عباس المجوسي وعمر بن عبد العزيز
والمأمون، ثم أيوب الرهاوي وسرجس الراسي وأبو سعيد بن الكرجي والمصري والبطريق.
٢٠ وبقدرٍ ما يوجد المدح للوافد اليوناني، فجالينوس أفضل الأطباء والذي
يُحذى صنعه، حتى إنه ليستشيره في أحلامه، وأبقراط أول من أحكم مصطلح ومهنة الطب،
وديسقوريدس لاعتماده على التجربة، ينقد الرازي في الأخلاط، وأسلوبه خشن في نقد
مُعاصريه وسابقيه، مثل حنين بن إسحاق، كما يتضح ذلك في قسمة كتابيه إلى مقالين بلا
عناوين. ومع ذلك فالأول في الانبهار باليونان أبقراط وجالينوس، بل في عناوين
الأبواب، والثاني في بيان الأسباب المغلطة لكتب الطب بعد جالينوس حنين بن إسحاق
والرازي، والأولى أكبر والثانية أصغر.
٢١ يقيس حنين بجالينوس، والموروث بالوافد، ويحكم عليه بالجهل، مع أن الخطأ
بالطب لا يعني الجهل به. ويتحقق من خطأ الرازي بذكر النصوص المئولة.
٢٢
لم يستطع ابن رضوان قبول مناهج التعليم في عصره، ولا السفر إلى بغداد للتعلم،
فعكف على شرح الأصول بدايةً بجالينوس في كتاب «في آراء أبقراط وأفلاطون»، وأُعجبَ
بجالينوس؛ لأنه وجد أن صناعة الطب لا تقوى إلا بدراسة الهندسة أو المنطق لمعرفة طرق
البرهان، وللمساعدة على معرفة القرانين الكلية في صناعة الطب؛ لذلك كان منطقيًّا
وطبيبًا؛ فالطب المنطقي أفضل من غياب المعلم الجيد. وبالرغم من مساهمة المصريين
واليهود في الطب إلا أن جالينوس هو صاحب الفضل الأعظم فيه. ولقد عرف ابن رضوان
أبقراط وأفلاطون من خلال جالينوس الذي يعني باليونانية الفاضل أو المؤيد، كما يصفه ابن
رضوان.
٢٣
وتظهر البيئة اليونانية في أسماء الأماكن وتحديد الأقاليم والزمان القديم، في
مُقابل البيئة العربية الإسلامية التي تضم اليهودية والنصرانية وفلسطين ومصر والفرس
والهند. وقد توحي الإحالة إلى مصر إلى وجود مدرسة مصرية في الطب في التصور العام
لارتباطه بالبيئة في الطب الجغرافي لحديثه عن وضع مضار الأبدان عن أرض مصر وهواء
مصر، وأزمنة الأمراض، والإشارة إلى بدايات الطب عند قدماء المصريين، وتعلم جالينوس
في مصر، وكون بعض الأطباء اليهود النصارى من مصر. ولما ظهرت ملة النصارى كف الناس
عن الاشتغال بالطب، وضعفت الصناعة، وذهب البعض إلى فارس. فلما جاء الإسلام أحيا عمر
بن عبد العزيز الصناعة، ثم ظهر حنين في عصر المأمون، ثم ظهر المُترجمون، مثل سرجس
الراسي وأبو سعيد ابن الكرجي وأيوب الرهاوي والبطريق، ولا ينسى دول المغرب والعرب
والجناح الشرقي كله في فارس والهند. ولا تظهر آياتٌ قرآنية أو أحاديث نبوية،
والعبارات الإيمانية قليلة للغاية لا تتجاوز البسملة والصلاة على محمد وآله
والمشيئة الإلهية.
٢٤
(٣) عمر الخيَّام
ولا يقتصر تمثُّل الوافد قبل تنظير الموروث على العلوم الطبيعية وحدها، الطب
والكيمياء، بل يشمل أيضًا العلوم الرياضية مثل الهندسة، الرياضيات مع المنطق والطب
مع الطبيعيات، مثال ذلك «مصادرات إقليدس» لعمر الخيام (٥١٥ﻫ)،
٢٥ وكلها ضمن علوم الحكمة التي يشتغل بها المشايخ والأئمة؛ فالعلوم
الطبيعية والرياضية جزء من علوم الحكمة وفروع عليها.
٢٦ والأصل يقيني، وقد تكون الفروع ظنية. الحكمة مضبوطة يمكن معرفتها،
وأسبابها مُتناهية بالعقل. أما الفروع فأسبابها غير مُتناهية ولا تُحيط بها العقول.
تقوم الحكمة على العقل، في حين تقوم علومها الفرعية على التخيل والوهم.
٢٧
وترتبط الرياضيات بعلوم الحكمة، بالفلسفة والإلهيات، وهي أسهل أجزاء الحكمة
إدراكًا وتصورًا وتصديقًا؛ فالحساب ظاهرٌ بديهي، والهندسة لا يخفى منها شيء على
سليم الفطرة، ثاقب الرأي، جيد الحدس، منفعتها شحذ الخاطر وتقوية النفس على البرهان،
وهي وسيلة ليست غاية. العلوم مُتدرجة من أسفل إلى أعلى، من الطبيعيات إلى
الرياضيات، إلى الحكمة والمنطق، إلى الإلهيات.
ومعلوم من البرهان في المنطق أن كل صناعة برهانية لها موضوع للبحث عن أعراضه
الذاتية ومقدمات، إما أولية مثل الكل أعظم من الجزء، أو مبرهَن عليها في صناعةٍ
أخرى، وإما مصادرات؛ فالبرهان جزء من المنطق الذي هو جزء من الحكمة.
ثم يتم تطبيق ذلك على كتاب «الأصول» لإقليدس، وهو أصل جميع الرياضيات للبرهنة على
ما ظنَّه إقليدس مصادرة؛ فأصول الرياضيات عند إقليدس إما النقطة والخط والزاوية
والسطح والدائرة، وإما مقدمات غير أولية، مثل انقسام المقادير إلى ما لا نهاية
والخط المستقيم بين نقطتين، وهو ما يحتاج إلى برهان من الحكيم، وإما المصادرات، مثل
المثلث والمربع والمخمس. مهمة الخيام البرهنة على ما ظنَّه إقليدس مصادرةً، مثل كل
خطين مستقيمين يقطعان خطًّا مستقيمًا على نقطتين خارجتين منه في جهةٍ واحدة على أقل
من زاويتين قائمتين يلتقيان في نفس الجهة. وقد ترك المتقدمون، مثل إيرن وأرطوقس،
هذه المسألة، كما حاول المتأخرون، مثل الخان والشتي والتبريزي، البرهنة عليها؛
فتاريخ العلم مُتواصل من اليونان إلى المسلمين. أراد الخيام أن يُراجع الموروث لولا
كثرته، فاتَّجه إلى الأصول مباشرة. وقد حاول ابن الهيثم ذلك أيضًا في كتابه «حل
شكوك الغاية الأولى»، ولكنه تكلَّف البرهان وخرج على أصول الصناعة. وقد يكون السبب
بترًا في المخطوط أو خطأً من النُّساخ.
٢٨
ويتصدر الوافد الموروث في العمق لكثرة الإشارة إلى إقليدس وأن تصدر الموروث
الوافد في الاتساع لكثرة اسماء اعلام الموروث.
٢٩ ويتصدر الوافد الموروث في الإحالة إلى الكتب.
٣٠ وبالرغم من مدح أصول إقليدس وذكر نصوصه، إلا أن الخيام يبحث عن الأسباب
التي من أجلها جعل إقليدس بعض مصادراته من غير برهان؛ ربما لغلبة الظن على إقليدس؛
وبالتالي فإن مهمة الخيام تحويل الظن إلى يقين. كان هدف إقليدس إرجاع الهندسة إلى
الفلسفة، والظن إلى اليقين، والرياضة إلى المنطق، والفرع إلى الأصل، والانتقال من
التناسب المشهور لإقليدس إلى التناسب الحقيقي عند الخيام. ونظرًا لأهمية اللغة
واشتقاق الأسماء يشرح الخيام الألفاظ لتوضيحها ورفع اللبس في معانيها. كما ينقد
إطناب إقليدس بلا لزوم. كما خلط إقليدس بين الحساب والهندسة؛ لأنه يودُّ أن يكتب
كتابًا شاملًا في الرياضيات لاحتياجه إلى علم الحساب في المقالة العاشرة. ويُقارن
الخيام إقليدس مع بطليموس وأبولونيوس وضعًا له في تاريخ الرياضيات عند اليونان.
وبالرغم من أنه يُسميه هذا الرجل في معرض النقد إلا أنه يجد له الأعذار لاعتماده
على أرسطو الحكيم. لم يستطع الشُّراح اليونان حل هذه الشكوك.
٣١ ويصف الخيام مسار فكر إقليدس، مقدماته ونتائجه واستدلالاته، مستعملًا
أفعال البيان أكثر من أفعال القول.
٣٢ ويُخرج معاني إقليدس بالقوة، من المنطوق به إلى المسكوت عنه. ويدعو
القارئ إلى مشاركته في الفهم.
٣٣
وسبب خطأ المسلمين غفلتهم عن مبادئ أرسطو، واعتمادهم على إقليدس وحده، وفصل
الهندسة عن الحكمة، وفصلهم بين إقليدس وأرسطو. كان نقد ابن الهيثم له نقدًا ضعيفًا،
وأخطأ في نقده. وقد حاول المتأخرون، مثل الخان والشتي والتبريزي أيضًا، دون الوصول
إلى برهانٍ نقي. أما ثابت والحجاج فقد قاما بالنقل دون النقد، وإن كان ثابت أفضل
مُكتفيًا بالإصلاح الجزئي. كما غفل المتأخرون عن التمييز بين الموضوع والمحمول،
واكتفى التبريزي ببرهان الخلف دون البرهان الصحيح.
٣٤ ويبدأ الكتاب وينتهي كالعادة بالبسملات والحمدلات، وطلب التوفيق
والعون، والصلاة على الرسول، واعتبار طلب العلم وسيلة للنجاة ونيل السعادة الأبدية؛
فالعلم هو القوانين العامة والكليات التي يتم بها إلى التوصل لإثبات المعاد وخلود
النفس، ومعرفة أوصاف واجب الوجود، وترتيب الخلق، وإثبات النبوة.