(١) الطغرائي (٥١٥ﻫ)
له «حقائق الاستشهاد»،
١ وهي رسالة في الكيمياء للرد على ابن سينا وإنكاره لها. بداية لظهور
التراكم الداخلي كدافع على التأليف. ويعني العنوان الاستشهاد على أخطاء ابن سينا
اعتمادًا على نصوصه، وليس الاستشهاد في الفتوحات. تهدف إلى الرد على أعداء صناعة
الكيمياء، وتأييد أنصارها، والتمييز بين الكيمياء العلمية والسيمياء الخرافية التي
تهدف إلى تغيير جواهر الأشياء اعتمادًا على السحر والإضرار بالناس؛ فهي رسالةٌ
سِجالية يظهر فيها مسار الفكر واستدلاله، مقدماته ونتائجه.
٢ يتصدر فيها تمثُّل الوافد على تنظير الموروث في العمق والاتساع. ومن
الوافد يتصدر هرمس، ثم بليناس، ثم أفلاطون وفيثاغورس وديمقريطس، ثم أرسطو وسقراط،
أغاديمون، وزوسيموس، وجالينوس، وفرفوريوس، وأسفيدروس، وأرس. ومن الوافد الشرقي جاماسف.
٣ كل الحكماء، كأفلاطون وأرسطو، مشهود لهم بإتقان العلوم؛ أفلاطون وأرسطو
قديمًا، والفارابي وابن سينا حديثًا. وكثير من الكتب المنسوبة إلى أجلة الحكماء غير
صحيحة، مشكوك فيها، غير موثوق بها، بعيدة عن كلامهم، مضطربة النظم، وغير دالة على
معاني الحل والعقد والمزج والاستحالة، وهي العمليات الكيميائية، وقد قال الحكماء
كلهم بالطبائع الأربع. أما في أسماء الكتب المُحال إليها فيتصدر الموروث الوافد.
وذُكر الحكماء مرةً واحدة دون تمييز بين وافد وموروث. كما يضم لفظ القدماء الوافد
والموروث معًا بمعنى القدماء والمُحدَثين. ويتَّهم الطغرائي القدماء بالانتحال في
النظم وفي المضمون.
وهرمس هو شيخ الحكماء الذي وضع أسس علم الكيمياء وأصَّل الطبائع الأربعة، والماء
فيه سرٌّ كبير، ووضع قوانين التعفن، وكذلك عرفها الحكيم أرس، وهو ما عرفه جاماسف
أيضًا باعتباره الماء أصل الطبائع، وعبَّر عن ذلك فيثاغورس بطريقة العدد، وديمقريطس
بطريقة الجزء الذي لا يتجزأ، وأشار بليناس إلى لون الكواكب والأجساد المنسوبة
إليها. ويُحال إلى «مصحف الحياة» لأرس، وإلى كتاب «الرموز» للراهب.
وينقد الطغرائي الموروث الكيميائي بأنه مملوء بالخرافات والمُحالات، والدعاوى
الباطلة، والخلو من الفائدة، وقلب الجواهر حقيقة وليس صباغة. ويستشهد بأقوال
ابن سينا، وهو موضوع النقد، ضد السيمياء، ويسخر منه في كتاب «الشفاء»، ويُسميه
«صاحبك». وهي كتب خالد بن يزيد وجابر بن حيان وابن وحشية وابن زكريا. ويستعمل
ألفاظًا فقهية، مثل الحل والعقد، لتعني التحليل والتركيب.
٤
ويتصدر الموروثَ ابنُ سينا، ثم جابر بن حيان وابن وحشية والراهب، ثم الفارابي
وخالد بن يزيد وقدامة والرازي وإصطفن؛ فهم مشهود لهم أيضًا بالتدبير في إتقان
العلوم، مثل الفارابي وابن سينا. وكتب الإسلاميين، مثل خالد بن يزيد وقدامة وجابر
بن حيان وابن وحشية وابن زكريا، بها كثير من الخرافات ومُحالات يشهد الامتحان
ببطلان دعاويها، خالية من الفائدة، مُوهِمة بكتب الحكمة بألفاظها ومقاصدها؛ لذلك
نقدهم ابن سينا لأنهم يدَّعون تحليل الحجارة وتحويلها إلى مياهٍ رائقة. واحتار
الناس فيما سمَّوه الحلول والعقود والتراكيب والموازين والتشاميع والتصاعيد
والتكليس والأمزجة. وتابع إصطفن وجابر وابن وحشية كلام فيثاغورس في الأعداد، وعرف
إصطفن الألوان والأجساد الأربعة إثر هرمس في ذكر ألوان الطبائع.
٥ ويُحال إلى باقي أعمال الطغرائي، مثل «جامع الأسرار» و«مفاتيح الرحمة»،
ثم إلى كتاب «الشفاء» لابن سينا للاستشهاد بأقواله وإبطالها، ثم بكتاب «الرحمة»
لجابر بن حيان.
٦
ومن الموروث الأصلي تُذكَر آياتٌ قرآنية خمس وحديث تفيد الحكمة، وتحذِّر من خداع
النظر، والضلالة في خلق الله، وهدايته لكل شيء، ويحذِّر من الارتزاق بالعلم لأن
الرزق من الله. يُثبِت القرآن فضل الحكمة التي كانت غاية الحكماء؛ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا. أما الكتب الإسلامية المموهة فإنها
خالية من الحكمة، هي مجرد سراب يحسبه الظمآن ماءً، كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئًا. وتعتمد الحكمة على المبادئ العامة قبل تفصيلاتها، وبدونها
تستحيل المعرفة، وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. والطبيعة والصناعة على نسقٍ
واحد، مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ
تَفَاوُتٍ، وإنما يتفاوت الأثر بالأقل والأكثر والسلامة والدفاق
والمقادير، الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدَى. وكل شيء في الطبيعة يقوم على الانسجام والتأليف، «إن الأرواح
جنود، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
فالكيمياء علمٌ يقود إلى الإيمان، والحكمة تتوسط بينهما وتوحِّدهما، ومن اختص
بهذا العلم خصه الله بفضلٍ كثير، وما أعدَّه الله لعباده الصالحين. ويُثبِت هذا
الفن أن الله يرى العالم ويعمل لمصلحة البشر، فيُطلع العلماء على أسراره. والكتاب
مملوء بالإيمانيات من البسملة والصلاة على الرسول وآله وصحبه في البداية، حتى
الدعوة بالعون على الفهم والرزق بالاطلاع على حقائق العلم، إنه جواد كريم منَّان.
وخلال الرسالة كلها دعوات إلى القارئ وطاعته لله، وبأن يكون من الفائزين برحمته،
الحاصلين على حكمته، والعصمة من الخلل والزلل، والتمسك بالعهود والمواثيق مع الله.
٧
(٢) اللوكري
وفي «بيان الحق بضمان الصدق» للوكري (٥١٧ﻫ)، يستمر تيَّار ابن سينا ومدرسته
الإشراقية، بل ومنهجه في التأليف، صمتًا عن المصادر. ويتكون من قسمين؛ الأول: العلم
الكلي. والثاني: الربوبيات، وهو العلم الربوني الذي يشمل المبدأ الأول وسائر
المفارقات الروحانية الملكية، وهو جزءٌ من مشروعٍ كلي في العلوم الحكمية.
٨ وهو مؤلف على سبيل التلخيص والشرح لابن سينا؛ فالشرح والتلخيص ليسا
قاصرين على الوافد، بل أيضًا للموروث. ويقل فيه ذكر أسماء الأعلام والاكتفاء
بالحديث عن «في اقتصاص مذاهب الأقدمين في التعليميات والسبب الداعي إلى ذلك»،
ضامًّا لهم جميعًا في وعيٍ تاريخي واحد.
٩
وله طابعٌ تجريدي نظري عام مثل «الشفاء»؛ مما يجعله يتراوح بين تمثُّل الوافد
والإبداع الخالص، بداية التأليف ونهاية التراكم، وهو أقرب إلى الصمت على مصادره مثل
ابن سينا. يتحول من التاريخ إلى الموضوعات المستقلة؛ فقاطيغورياس ليس كتابًا من كتب
منطق أرسطو، بالرغم من التقريب، ولكنه موضوع المقولات ذاته مستقلًّا عن مؤلفه، حتى
ولو كان أرسطو.
وموضوعه العلم الإلهي، وطريقته على سبيل التلخيص والشرح بشرط عدم الإخلال بشيء من
قوانينه، ولا تطويل شيء من فروعه، باستثناء المقالة الثالثة، النفس الإنسانية
ومعادها وانقطاعها عن الحالة البدنية، وحالها من العلم والجهل بالأشياء، على عكس ما
جرت به العادة في الكتب المألوفة بين أيدي الناس؛ فالنفس موضوع للإلهيات على عكس
أرسطو الذي جعلها موضوعًا للبدن، ثم تلحق بها فصولٌ متنوعة من علم الأخلاق في
اكتساب فضائل النفس الإنسانية وعقد المدينة الفاضلة.
١٠
لذلك قلَّت أفعال القول؛ لأنه ليس تعاملًا مع أقوال، بل مع الموضوعات ذاتها،
ومعظمها في صيغة المتكلم الجمع «نقول» دون تعيين القائل،
١١ أو في المبني للمجهول «قيل»، كما يظهر مصدر «القول»، ويظهر «قال»، كما
تظهر أفعال البيان في الأزمان الثلاثة، فعلًا ومصدرًا، ومعها أفعال الاستدلال، مثل
ظن، سأل، فرض، نظر، سلم، شرح.
١٢ ويظهر أسلوب الاعتراض على النفس من أجل إحكام الاستدلال وبيان اتساق
الفكر. وتتم مخاطبة القارئ بصيغة «اعلم»؛ فالفكر تجربة مشتركة.
١٣ وليس الكتاب مجرد تلخيص وشرح لابن سينا، ولكنه أيضًا له مواقفه الخاصة
واعتراضاته في فصول بأكملها.
١٤
ويتصدر الوافد الموروث، يتصدر المعلم الأول، ثم أفلاطون، ثم بطليموس، ثم سقراط
وثامسطيوس، ومن الفِرق الفيثاغوريون، ومن الكتب الربوبية «أثولوجيا» والمجسطي.
١٥ وعوضًا عن قلة الأسماء يتعرَّض الكتاب إلى المذاهب، «في مذاهب الناس في
وجود الجسم وفي إثبات الهيولى والصورة والإشارة إلى معنى الاتصال والانفصال»،
وأيضًا «في اقتناص مذاهب الأقدمين في المثل ومبادئ التعليمات والسبب الداعي إلى ذلك».
١٦ ويتم الحديث عن «قومٍ ظنُّوا»، «قومٍ قالوا»، «قال قوم من أهل العلم»،
«قال بعض الأوائل»، «قال قومٌ آخرون»، دون تعيين؛ فالمهم هو الموضوع وليس القائل
فردًا أو جماعة. والجماعة غير المُتعينة تدل على المذهب، والتحول من الشخص إلى
التيَّار أحد مظاهر التحول من النقل إلى الإبداع.
ومن الموروث لا يظهر إلا صاحب كتاب الشفاء، والشفاء، والرئيس أبو علي في الإنصاف،
ويدعو له «روَّح الله رمسه، وقدَّس نفسه».
١٧ كما يستشهد بآيةٍ قرآنية واحدة،
يَكَادُ زَيْتُهَا
يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٌ، وهي نفس
الآية التي يستشهد بها ابن سينا في «المبدأ والمعاد».
١٨
وكما يبدأ المؤلف بالبسملة، والصلاة على محمد وآله، والدعوة بالعون يا لطيف،
ينتهي بالحمدلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، في كلٍّ من الجزأين.
١٩ وفي نهاية الفصل تظهر التعبيرات الدينية، مثل «الله أعلم»، «والله أعلم بالصواب».
٢٠ وتظهر التعبيرات الدينية التشبيهية، مثل أن السماء حيوان مُطيع لله،
تعالى، وحده.
٢١
(٢) ابن باجه
(أ) وبالرغم من العنوان الإبداعي «تدبير المتوحد» لابن باجه (٥٣٣ﻫ)، إلا أنه في
الحقيقة أقرب إلى تمثُّل الوافد قبل تنظير الموروث،
٢٢ بل إنه أقرب إلى تمثل الوافد وحده نظرًا لحضور أفلاطون ثم أرسطو ثم
أبقراط وجالينوس ثم الإسكندر وأغسطس وسقراط وهرمس وهرقليطس، في حين لم يظهر
الفارابي إلا مرةً واحدة.
٢٣ ولا يُحال إلا إلى أسماء مجموعات الوافد، مثل «الأولون» و«المتقدمون».
٢٤ ولا يُحال إلا إلى أسماء كتب الوافد، ومعظمها لأرسطو.
٢٥ ومن حيث الألفاظ المعرَّبة لا يظهر إلا لفظٌ واحد؛ سقومنيا.
يُحال إلى أرسطو كسابق على ابن باجه في نشأة اليقين في التصورات والتصديقات، كما
عرض أرسطو في الثانية من «الحس والمحسوس» ربطًا للجديد بالقديم، وللمُحدَثين
بالقدماء، وللأواخر مع الأوائل، استمرارًا للتراث الفلسفي. ويُحيل إليه مرةً ثانية
في نفس الموضوع، وإلى نفس المصدر. ويدرس التذكر والخطابة، وتأثير المتمثلين على
الشباب، وانخداعهم بهم، مُحيلًا إلى نفس المعد أيضًا. ويذكر كتاب الأخلاق في موضوع
الكمال والفضائل الفكرية، وهي العلم والعقل. ويميل إلى أخلاق نيقوماخوس في أن النقص
ليس من قِبل السن أو العامة أو الخلق، بل الأفعال الإرادية. كما يذكر هرمس كنموذج
للحكيم عند أرسطو. ومن خصائص المدينة الفاضلة التعقل. كما يشير ابن باجه إلى مثال
أرسطو في الانتحار بعد التيقن من غلبة العدو. وبالرغم مما قد يبدو في ذلك من إفراط
إلا أن إتلاف الجسم خير من مذلَّة الروح. ويُحيل إلى كتاب البرهان والمقولات
والريطوريقا لتصحيح الفكر، مثل الإحالة إلى القرآن وسائر الكتب المقدسة للاستشهاد
بها، وبيان حكم المختلف فيه؛ فالصور البرهانية قد تكون موضوعًا للمنطق والبرهان.
والكاذب لا يمكن أن يُعلَّم أصلًا؛ لأنه ليس له طبيعةٌ محدودة، كما تبيَّن في كتاب
البرهان. كما أن نسبة القضايا بعضها إلى بعض في كتاب المقولات، وانخداع الشباب
بالمُتحنكين في كتاب الخطابة. وتكثر الإحالة إلى «الحس والمحسوس» في موضوع الصور
الروحانية، وكذلك الظن الصادق والتصور والتصديق عند المحدث في الرؤيا الصادقة وفي
الكهانات. كما يُحال إلى شرح السادسة والسابعة والثامنة من السماع، وإلى كتاب
الحيوان وكتاب النفس له تأكيدًا على وحدة المشروع الفلسفي. كما يُحيل إلى «ما بعد
الطبيعة»، وإلى كتاب النفس والحس والمحسوس في العقول البسيطة الجوهرية التي يعقلها
الحكيم. ويُحيل إلى «نيقوماخيا» دون ذكر اسم أرسطو، انتقالًا من المؤلف إلى
التأليف، ومن الشخص إلى الموضوع. ويُحال إلى مذهب أرسطو كله، لا فرق بين المنطق
والطبيعيات والإلهيات، ولا فرق بين الطبيعيات والإنسانيات؛ فالطبيعة إنسانياتٌ
خارجية، والإنسانيات طبيعياتٌ داخلية، والحركة في الاختيار وفي الطبيعة. ويزيد
ابن باجه على أرسطو، ولا يكرِّر ما قاله بحيث يبدو أرسطو دائرةً منعزلة مع دوائر
أفلاطون وجالينوس مركزُها ابن باجه.
٢٦
ويستشهد ابن باجه بجالينوس في أن صلة الطبيب بعلاج البدن مثل صلة العالم المدني
بعلاج المُدن. هناك تشابه بين الطب والسياسة. ويُحيل إلى كتاب جالينوس في حفظ الصحة
أو استرجاعها إذا زالت عن طريق الطب. كما يستشهد به للتمييز بين الكيمياء وصناعة
النجوم، بين طب النفوس وطب الأبدان. أما الحكومة فإنها تضع طب المعاشرات. فجالينوس
الطبيب يقرأ النفس والمجتمع والسياسة قياسًا على الطب، كما هو الحال عند الفارابي.
ويضرب ابن باجه المثل بالإسكندر الأكبر وبأبقراط ملكًا وطبيبًا لحب طول البقاء
وزيادة العمر بالطبع، وكلما زاد العمر كان أحب للنفس. ويبيِّن ابن باجه أن أفلاطون
قد بيَّن تدبير المدن في السياسة المدنية وبيَّن معنى الصواب فيه، ومن أين يأتيه
الخطأ وعلى الآخرين الحكم على ما قاله. كما أنه يُكمل أفلاطون في الخامسة من كتاب
السياسة في موضوع القرابة؛ فكلها إنسانية، وأكثرها بالوضع والشريعة. ويستشهد بقول
أفلاطون إن الطبيعة لا تُخطئ فيما تختاره من النفس. ويستشهد بقول أبقراط إن البدن
الرديء كلما غذَّيته ازددته شرًّا، وبقول سقراط إن الإنسان إذا وصل إلى سنٍّ مُتقدم
وكان حكيمًا أصبح في جملة السعداء.
٢٧
ويستعمل ابن باجه أسماء الفِرق، مثل حكماء الطبيعيين على الخصوص، والحكماء على
الإطلاق، وهم الذين يعلمون حصول الغاية للفاضل في حين أن أكثر الناس لا يعلمها، كما
يُذكَر الفلاسفة والمتفلسفون دون تحديد انتمائهم للوافد أو الموروث بعد أن أصبح
الوافد موروثًا، فيما يتعلق بما يُسميه الجمهور التشكيك، وما يُسميه الفلاسفة
اشتراك الاسم، ومثل قلة استعمالهم لفظ روحاني. وما زال ابن باجه يستعمل بعض الألفاظ
المعرَّبة، مثل «السقمونيا».
٢٨
كما يظهر الوافد الشرقي الفارسي والهندي في مقابل الوافد اليوناني؛ فمن الوافد
الفارسي يُحيل ابن باجه إلى سيرة الفُرس الأولى المركبة من السير الخمس حكايةً عن
الفارابي؛ فالفرس مصدر للأخبار عن أنواع المدن؛ أي عن الفكر السياسي، ومصدر لعادات
البشر، مثل نكاح الأمهات. يتحدث عن فارس وهو في الأندلس؛ مما يدل على الوحدة
الجغرافية للعالم الإسلامي. ويظهر الموروث الهندي في كتاب «كليلة ودمنة» الذي أصبح
وافدًا هنديًّا، وترجمةً فارسية، وموروثًا عربيًّا، وهو جزء من الآداب النفسانية،
مع آداب حكماء العرب التي تشتمل على الوصايا والأقاويل المشهورة. كما يؤخذ نموذجًا
للآداب غير الصادقة الخيالية التي لا تُطابق الواقع، على عكس شعر امرئ القيس الذي
يتحدث عن وقائع تاريخية.
٢٩
ويظهر الموروث في سبع صور: الفلسفة، والتصوف، واللغة العربية، والشعر العربي،
والتاريخ، والجغرافيا، وأخيرًا القرآن والحديث.
٣٠ ويُلاحَظ أولوية اللغة والشعر على الفلسفة والتصوف. كما يشير التاريخ
والجغرافيا، إلى البيئة العربية الإسلامية كمَواطن للتأليف. ومن الفلاسفة لا يوجد
إلا الفارابي، في حين من الصوفية إبراهيم بن أدهم وأويس القرني وهرم بن سنان. ويظهر
أبو نصر الفارابي راويًا عن الفُرس السير؛ فكان نافذة للعالم الإسلامي على الحضارات
الوافدة، الفارسية والتركية واليونانية. كما يشير إلى حِيل ابن شاكر في موضوع العمل
الخطأ الذي يُنال به غرضٌ آخر؛ فكل ما في الحيل أشياء يُقصَد بها التعجب وليس
الكمال الإنساني. الحيل نموذج لتوليد قصد آخر. ويستشهد باعتراف الغزالي بأنه أدرك
مدركاتٍ روحانيةً وشاهدها مُستشهدًا بقول الشاعر:
وكان ما كان مما لستُ أذكُره
فظُنَّ خيرًا ولا تسأل عن الخبرِ
ومع ذلك ينقد ابن باجه الصوفية، وما ظنُّوه غاية الإنسان، ودعاءهم «جمعك اللهم
ويمين الجمع»؛ لأنهم قصروا عن الصور الروحانية المحضة، وأخذوا بأشباهها؛ لذلك قال
الصوفية إن السعادة القصوى قد تحصل بلا تعلم، بل بالتفرغ والتذكر الدائم. وهنا تفوق
الحكمة التصوف؛ إذ يستحيل الحصول على الصور الروحانية بالرياضة والمجاهدة فحسب دون
تعلم ومع غياب العقل والبرهان. التصوف مجرد خيالات وليس عقلًا، خالٍ من مقياس للصدق
والكذب كما هو الحال في الحكمة المنطقية، وهم لا حقيقة، نزوع وليس عقلًا. ويصبح
الصوفية حكماء لو توجَّهوا نحو الروحانية العامة التي هي كمال النفس الناطقة.
٣١
ويظهر اللسان العربي والشعر العربي بعد الفلسفة والتصوف؛ فلفظ التدبير في لسان
العرب يُقال على معانٍ كثيرة أحصاها أهل لسانهم، وأشهرها ترتيب الأفعال نحو غاية
مقصودة. وفي بداية كل باب يبدأ ابن باجه بتحليلٍ لغوي لمعاني الألفاظ، مثل تدبير،
روح، روحاني، تتضح فيه ظاهرة التشكل الكاذب، بالتبادل مع ألفاظ للقرآن، مثل روح،
نفس، أسماء لا صفات، مثل روحاني، نفساني.
٣٢ كما يُحاول البحث عن اسمٍ عربي لوصف الحيوان، أو اختيارٍ أقرب للاسم
دون اللجوء إلى التعريب؛ فالروح يُقال في لسان العرب على ما تُقال عليه النفس، وهو
عند المُتفلسفين لفظٌ مشترك يُراد به الحار العزيزي، آلة النفس. وعند الأطباء
الأرواح ثلاث: طبيعي وحساس ومحرك. والروحاني من روح بالمعنى الثاني أي الحساس، أو
الثالث بمعنى الجوهر الساكن المحرك لسواه. وهو ليس جسمًا، بل صورة لجسم؛ لأن كل جسم
متحرك. وشكل اللفظ غير عربي، بل دخيل على لسان العرب، وعلى غير قياس النحاة؛ لأن
المقيس روحي. ويستعمله المُتفلسفون بمعنى الجسماني والنفساني. والهيولاني لفظٌ دخيل
على اللسان. وكلما كان الجوهر أبعد عن الجسمانية كان أخلق به، مثل العقل الفعَّال
والجواهر المحركة للأجسام المستديرة. وأحيانًا يوجد معنًى، مثل ما يتحرك إلى ما
يشتهيه إلى وقتٍ توجد له فيه الروية، ولا يوجد له اسم في لسان العرب، فيأتي بلفظٍ
دخيل. ومع ذلك أقرب الأسماء العربية إليه هو «اليفعة». ويحلِّل ابن باجه المصطلح في
اللسان العربي لرفع الخطأ؛ فشكل لفظ «مدرك» يدل على المحرك والمنفعل؛ لذلك كانت
المحركات أشخاصًا وليست كليات. كما يُحاول إيجاد ألفاظ عربية للمعاني الفلسفية، مثل
تسمية حال النشاط عند العرب نشاطًا، وبطء حركة الضعيف كسلًا؛ فإن لم يجد لفظًا
عربيًّا للمعنى فإنه يُحاول إيجاد لفظ، مثل تسمية الحيوان الذي يربِّي أولاده
المحصل الكامل، وتسمية الصور الروحانية التي لا عمل لها بأقرب الأسماء إليها، مثل
الوهم والخيال، دون الأسماء المركبة، مثل «ما لا يُبالى به». فالمصطلح لفظٌ أكثر
منه عبارة شارحة. الألفاظ العربية موضوعٌ سائد منذ نشأة المصطلح الفلسفي في عصر
الترجمة ومراحل النقل حتى إبداع لفظ عربي جديد في مرحلة الإبداع.
٣٣
ويلجأ ابن باجه إلى أشعار العرب كدليل على ما يقول، مثل نبوءات زرقاء اليمامة
وتأبط شرًّا؛ فالشعر مصدر للفلسفة مثل التصوف. الشعر برهان الحكمة، والتجربة
الشعرية تصديق للتأمل الفلسفي. وابن باجه شاعر، كما أن ابن رشد أديب. كما يستعمل
الشعر العربي لإثبات المعنى الحرفي للفظ الذِّكر عند العرب، وأن الخلود في الذكر
وليس في المال، في العمر الثاني وليس في العمر الأول، في البقاء وليس في البلى، وهو
ما تدل عليه أيضًا السير. وتُنال هذه الأفعال بالقوة الخيالية، وليس بالحس المشترك.
أما الأفعال الجسمانية فتقود إلى المذمَّة، ولا تُنال بها الأفعال الباقية بذاتها.
وبعضها يُحفَظ في ذاكرة الأمة باقترانها بأشياء أخرى، خاصةً إذا كانت سيرة الأمة
حفظ الأقاويل الموزونة، فيتداولها الناس والشعراء، كما فعل المحلبي بالأعشى الشاعر.
وقد يتداول الناس الأفعال لغربتها والإعجاب بها. ما يهمُّ هو اقتران الفعل
بالانفعال حتى يرويه الناس. وفي هذا الصنف تدخل أكثر التواليف والأشعار والخطب. ولا
يدخل مقصد الشاعر في العمل الفاضل، بل يدخل فقط الشوق أو الانفعال أو ما شابههما.
وقد يذكر الفضلاء الأمور الغريبة والسيرة للإعجاب، لا ليُذكَروا به، بل من أجل كمال
العمل، كما هو الحال عند كبار الأنفس ومدبِّري المدن. يستعملون الوعيد كما يستعملون
النقائض، كالرياء وباقي الأفعال الجسمانية. ويبدو أن هناك توجهًا قرآنيًّا من آية
الشعر في سورة الشعراء الشهيرة
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ
يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا
يَفْعَلُونَ؛ فالنص النازل يتحول إلى واقعٍ صاعد في الشعور. يستشهد
ابن باجه أيضًا بالشعر العربي لوصف بكاء الديار، وللحزن على الآثار، وهو أكثر الشعر
العربي لكثرة ما شاهده العرب؛ فالشعر مشاهدة، كما أن الحكمة تجربة. كما يستشهد
بالشعر العربي لبيان أن الصور الروحانية التي لا يفيدها الحس ولا الطبيعة يفيدها
الفكر أو العقل الفاعل قد تكون صادقة أو كاذبة، والكاذبة أكثر في بعض السير، ومنها
تدخل الأماني. ويضرب المثل لمن يُتلف صورته الجسمانية في طاعة صورته الروحانية في
الانتحار بشعر تأبط شرًّا في أن الموت أفضل من العبودية، وبشعر المرواني وما فعلته
الزباء مع عمرو، وملكة مصر مع أغسطس (وهو مثل أرسطو أيضًا)، وما فعلته فاطمة أم
الربيع وسائر بني زياد عندما لحق بها قيس بن زهير، وكما فعل حاتم الطائي عندما ذبح
فرسه ولم يطعم منه وأهله شيئًا.
٣٤ ويضرب المثل بامرئ القيس على تخيل الأمور البعيدة، كما يضرب نماذج من
الخيال الشعري على نسبة الصور للحس. والتصور والتصديق اضطرار وليس اختيارًا، وإلا
لعرف الإنسان ما يسوءه كما قال المتنبي شعرًا، وكما قال أيضًا في رثاء أخت سيف
الدولة. ويستشهد بشعر زيد بن عدي العبادي في معرفة القرين بالقرين. ويستعمل الأسلوب
العربي وضرب المثل بزيد وعمرو.
٣٥
ومن التاريخ يضرب ابن باجه المثل على اختلاف الناس في الإدراك، ثم تداركهم الخطأ
على تفضيل قوم معاوية على علي في الحزم، ثم تداركهم ذلك عندما ظهر الأمر على خلاف
ذلك. كما يضرب المثل بملوك الطوائف على المُتجملين الذين يُذهبون المال ويتوسلون به
في حوائجهم، ويتمدحون ويُمدَحون به وهو مذمَّة. وأكثر الناس يهواه في سره ويذمُّ في
جهره. ويضرب المثل لعمر بن الخطاب محدثًا؛ أي مخاطبة العقل الفعَّال تحقيقًا لظاهرة
التشكل الكاذب؛ فقدرة عمر على إدراك الوحي من الواقع تأكيد على وحدة التأويل
والتنزيل، العقل والوحي والطبيعة. ويضرب المثل لتصور الأفضل بالمهدي، وللأوائل بأبي دلامة
الشاعر؛ فعند كل واحد صورةٌ روحانية للآخر تُحركه؛ فصورة الشاعر تُحرك المهدي
إلى الراحة والضحك، وصورة المهدي تُحرك أيضًا دلامة إلى العبس والقوام، وصورة العبس
والقوام أفضل من صورة اللهو والضحك؛ فبصورة الأعلى يصير الأدنى أعلى، وبصورة الأدنى
يصير الأعلى أدنى.
٣٦
ومن الجغرافيا يظهر لفظ العرب كقوم لوصف عاداتهم في وضع البول بجوار الإبل.
وأحيانًا يظهر التقابل بين العرب والبربر طبقًا لعادة سكان المغرب في عادة رعاية
الأولاد للمنازل. وتظهر البيئة الجغرافية العربية في الإشارة إلى مصر والنيل
والفسطاط كمثال لصورة في الحس المشترك، الصور الروحانية دون مشاهدة في الواقع،
وصِدقها تطابقها مع الواقع، وإلا كانت كاذبة. أما الصور التي لم تمرَّ بالحس
المشترك، مثل يأجوج ومأجوج، فهي محض خيال.
٣٧
وتظهر الموضوعات الدينية، لُبُّ الحضارة الإسلامية، في التأليف، نصارى ويهود
ومسلمين؛ فما كانت العرب تحكيه عن زرقاء اليمامة وتأبط شرًّا كانت تحكيه عن النصارى
عن قومٍ يبنون الهياكل بأسمائهم، مع أنهم قتلوا ثم أحيوا ثم أحرقوا ثم أحيوا
تنفيذًا لأمرٍ إلهي، وهي معجزات البعث. ويشير إلى الزبور في قصد السمعة وكأننا مع
إخوان الصفا. والحقيقة واحدة، هي الفلسفة الإشراقية. كل شيء في كل شيء، ووحدة
الأديان. ويستعمل ابن باجه بعض مفاهيم الشريعة مثل الوضع. ويستشهد بآيتين قرآنيتين
لتصور الذين أخلدوا إلى الأرض البعيدين عن الصور الروحانية، مثلهم مثل الكلب الذي
يلهث مع صاحبه أو بدونه. ويستشهد بحديثين؛ الأول عن أن الأعمال بالنيات، والثاني عن
كمال الخلق دون فخر أو امتنان.
٣٨
وإذا كانت رسائل ابن باجه أقرب إلى التأليف، فإن «تدبير المتوحد» أقرب إلى
الإبداع؛ فلم يعُد فيه فرق بين الوافد والموروث، بل فكرٌ واحد يتَّجه نحو الواقع من
أجل الإبداع والتنظير المباشر له، فتجتمع الروافد الثلاث، الوافد والموروث والواقع،
في التأليف الإبداعي؛ فقد كتب «تدبير المتوحد» عن ظروفٍ تاريخية عصيبة. جاء
المُرابطون لإنقاذ الأندلس، إلا أن السلطة كانت في أيدى الفقهاء والمقلدين، ومن
الطبيعي أن تقوى المحافظة والانعكاف على الذات في لحظات الخطر وفي حالة العجز عن
المقاومة، وكان الغزالي ما زال مُسيطرًا على الحياة الثقافية في المغرب، وابن باجه
ما زال شابًّا؛ ومن ثَم استطاع كسر الطوق الذي فرضه فقهاء الأندلس في المغرب وسلطة
الغزالي في المشرق.
٣٩
والتدبير هو ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، وله معنيان؛ خاص لأفعال البدن، وعام
لكل أفعال الإنسان. هو نظامٌ عقلي خاص بالإنسان وحده؛ لأنه هو الذي يختص بالفكر
والعقل، يُخطئ ويُصيب. التدبير عملٌ عقلي، انتقالًا من العدل الإلهي عند المعتزلة
إلى العدل السياسي. والعقلانية قدرٌ يحظى البعض به أكثر منها اتجاهًا إنسانيًّا، هي
أقرب إلى الاستعداد الفطري منها إلى النظام الاجتماعي. أما البيئة والعلم والتاريخ
والدين والحضارة، فهي عوامل مُساعدة في تكوين العقل؛ لذلك جاءت فلسفته إنسانيةً
عامة مثل الفارابي، وليس تصوريةً حرفية مهنية. تقوم على وحدة العقل والمحرك الأول
والواحد، وهو الله، في شكلٍ هرمي تقليدي. ويخلُد العقل بفيض الصور العقلانية عليه؛
فلا يوجد خلودٌ جزئي للأفراد، بل خلود كلي للعقل، مثل ابن رشد فيما بعد. ويتصل
الأنبياء بالعقل الفعَّال بالرغم من أن ابن باجه نادرًا ما يشير إليهم، على عكس
إخوان الصفا. يكتفي بمجرد إشارات غامضة نظرًا لتفوق الفلاسفة على الأنبياء في
الاتصال، ولا يتحدث عنهم إلا في صيغة الجمع، ونظرًا لتطور النبوة واكتمالها دون أية
أفضلية للاحق على السابق أو للمتأخر على المتقدم. ولا توجد ميزةٌ خاصة لخاتم
الأنبياء لشخصه، بل لاكتمال النبوة. كل مرحلة قد أدَّت دورها وتلك خاصيتها.
٤٠ ومراحل الارتقاء الثلاث عند ابن باجه مُشابهة لمراحل الصعود والارتقاء
في التصوف؛ من الطبيعة إلى النفس إلى العقل عند ابن باجه، ومن الأخلاق إلى النفس
إلى الفلسفة في التصوف.
ويقترب «تدبير المتوحد» من التوحيد بين الفلسفة والتصوف؛ فالتوحيد تأملٌ صوفي أو
تصوفٌ إسلامي، كردِّ فعل على الغزالي في «المنقذ من الضلال»، التصوف الخالص الخالي
من التفلسف؛ فالمتوحد هو الحكيم، والتدبير هو الطريق، والتوحد هو الله؛ ومن ثَم
يأتي الإنسان المتوحد شبيهًا بالله؛ فلا فرق بين الله الأحد والإنسان المتوحد،
الواحد والمتوحد، والأوحد والوحيد.
٤١ وبالرغم من تلقِّي المتوحد الفيض من العقل الفعَّال إلا أن ابن باجه
ينقد الصوفية؛ لذلك جمع ابن باجه بين عقلانية أرسطو وروحانية أفلاطون، بين موضوعية
أرسطو وذاتية أفلاطون، ومع ذلك كان أقرب إلى أفلاطونية أرسطو، في حين كان ابن رشد
أقرب إلى أرسطو.
٤٢ يظهر اتفاق العقل والوحي عند ابن سينا وابن طفيل، ويظهر اتفاق العقل
والوحي والطبيعة عند ابن باجه وابن رشد.
التدبير طريق الصوفية الذي يتبعه الغزالي أيضًا، ولكن ابن باجه يعتبر الغزالي من
مفكري الدرجة الثانية رغم ادعائه الحصول على الحقيقة والوصول إليها؛ فالهجوم على
الغزالي ورد الاعتبار للتصوف التأملي في «تدبير المتوحد» سابقٌ على رد اعتبار
ابن رشد للفلسفة في «تهافت التهافت». وإذا كان مشروع ابن باجه هو إحياء التراث
الفلسفي في الأندلس خاصةً، وفي الحضارة الإسلامية عامة، فإن «تدبير المتوحد»
وإشراقياته العقلية خروج عن الموضوع، وتركيز على الصور الروحانية أكثر من التركيز
على العلم المدني مثل إخوان الصفا. وهذا هو أحد أسباب عدم نجاح مشروع الإحياء
الأندلسي، تصوف ابن باجه. وإذا كان ابن رشد استئنافًا لمشروع الإحياء فإنه لم ينقد
التصوف، واكتفى بالهجوم على الغزالي أشعريًّا؛ لأن الأشعرية سند التصوف؛ ربما
لصحبته لابن عربي أو لتصوفه الخاص.
كما يبدو من العنوان «تدبير المتوحد» غلبة الجانب الفردي الصوفي على الجانب
الاجتماعي السياسي؛ فإذا ما قسَّم ابن باجه المجتمعات فإن العقل هو مقياس التقسيم،
أو الآراء بمعنى الفارابي؛ فالمجتمع الذي يسوده العقل هو المدينة الفاضلة، والنبي
خارجها، والفلسفة مصدر السعادة فيها، والفيلسوف، وليس النبي هو المحقق لها، على عكس
الفارابي وابن سينا اللذين جعلا النبي الفيلسوف أو الفيلسوف النبي رئيسًا للمدينة.
ولا يتساءل ابن باجه عن الشريعة أي النظام الاجتماعي، وعن السياسة أي عن السلطة
السياسية. والمجتمعات التي لا يسودها العقل مدنٌ بسيطة؛ فالبساطة هنا بمعنًى قدحي،
وهي أربعة: مجتمع المال الذي ذكره الفارابي وأفلاطون من قبل، ومجتمع الجماعية أي
الشيوع والقبلية، ومجتمع التغلب أي التسلط، ومجتمع الإمامية أي محبة التقدم وليس
الكهنوتية، مجتمع رجال الدين.
ومع ذلك يظل السؤال: هل موضوع «تدبير المتوحد» السياسة أم الأخلاق، المجتمع أو
الفرد؟ هل استطاع ابن باجه استئناف مشروع الفارابي الاجتماعي في المدينة الفاضلة،
أم أنه استأنف مشروعه المعرفي دون الاجتماعي؟ عند الفارابي الإنسان مدني بالطبع،
ولكن عند ابن باجه متوحد بالطبع؛ وبهذا المعنى ربما يدل «تدبير المتوحد» على عدم
نجاح الفلاسفة في السياسة العملية وبعد نظرتهم عن الواقع. قد يكون تراجعًا
مأساويًّا يعبِّر عن هزيمة التصوف التأملي بعيدًا عن الواقع، والبداية بالنفس بدلًا
من المجتمع، وبالفرد بدلًا من الجماعة، عودًا من «المدينة الفاضلة» إلى «تدبير
المتوحد». ربما أراد ابن باجه القيام بخطوة إلى الوراء من أجل التقدم إلى الأمام،
العودة إلى الفرد من أجل التوجه نحو الجماعة، حتى تصبح المدينة الفاضلة مُمكنة
التحقيق. التدبير خطة العاقل في المجتمع الذي لا يسوده العقل، وهي المجتمعات
الأربعة الناقصة، والتي لا يدين المتوحد لأيٍّ منها كردِّ فعل على الفشل السياسي
ومحنة الأندلس. المتوحدون مثل النوابت، لا ينسحبون من المعركة، ولكن لا يدخلون
إليها قبل الأوان. التوحد إعداد الذات وتربية المُواطن قبل تأهيل الجماعة وبناء
الوطن. المتوحد هو «العاكف على شأنه، الخبير بأهل زمانه». ومع ذلك يعكس العنوان
التوحد ضد التجمع، التوحد أولًا والتجمع ثانيًا. ويبدو أن قبول الواقع والبداية به
جعله ينعكس على ذاته ويرتدُّ إلى نفسه صوفيًّا إشراقيًّا كنوع من المقاومة السلبية
على المجتمع؛ فالمتوحد يذهب إلى المدنية بعقله، وإلى التصديق بقلبه، لا يهرب بجسده،
بل بروحه؛ ومن ثَم تتم المصالحة بين العقل والقلب، بين الفلسفة والحياة.
٤٣
ومع ذلك يظل «تدبير المتوحد» أقرب إلى الفرد منه إلى الجماعة. الباب الأول في
العلم المدني منذ البداية، وفي الباب الثاني تتحول السياسة إلى النفس، ويظل السؤال
قائمًا: ماذا يعني «تدبير المتوحد»؟ هل هو الإنسان الطبيعي الذي أفسده المجتمع
فيترك المدن الجاهلة حرصًا على نقائه؟
٤٤ وفي هذه الحالة كيف يتم تحقيق المدينة الفاضلة في الواقع؟
(ب) وفي «رسالة الوداع» يتصدر تمثُّل الوافد على تنظير الموروث، ويتصدر أرسطو
الوافد، ثم أفلاطون وسقراط. ومن أسماء الفِرق المفسرون المشَّاءون. ويُحال إلى
نيقوماخيا، ثم إلى الأخلاق والحيوان وفادون (أفلاطون)، ثم إلى السماع والسياسة والنفس.
٤٥
ويفصِّل ابن باجه ما تركه أرسطو مهملًا في الحادية عشرة من «الأخلاق»؛ لأنه لا
يوضِّح دائمًا ما يريد إبطاله. وفي نفس الوقت يبيِّن ابن باجه مواطن التطويل
والإطناب في أرسطو وأفلاطون؛ فمهمة التأليف إجمال المفصل، وتفصيل المجمل، ومعرفة
وجه إبطال أرسطو للشيء. يدرس ابن باجه موضوعًا ثم يتحقق من صدق قول أرسطو أو
الاستشهاد به، تأكيدًا للإجماع الحضاري أو إجماع العقلاء، كما هو الحال في علم
الأصول. كما يستشهد بأرسطو في السادسة من نيقوماخيا على أفعال العقل التي توجِّهها
الحكمة، وبهرمس نموذج الفاضل في جميع الفضائل الشكلية. كما يُحيل إلى كتاب الحيوان
ارتباطًا بالتراث السابق، وتفاديًا لتكرار القديم، مع استمرار ظهور بعض المصطلحات
الأولى منذ عصر الكندي، مثل «القنية». ولا يستأنف ابن باجه تحليله لما فعله أفلاطون
في السياسة، وفي محاورة «فادون». ويستشهد بسقراط وسبب قوله بتناسخ الأرواح في
المحاورة، ويقرؤها إسلاميًّا. ويستشهد بنار هرقليطس (أبوقليطس) وضوئها على ذهاب
السن وانقضاء العمر، وأن لكل أجل كتابًا، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا
يستأخرون. ولا يهمُّ إذا كان أبوقليطس هو هرقليطس؛ فليس المقصود هو التحقق
التاريخي، بل المثل كحامل، وليس المهم المثل بل الممثول.
٤٦ كما يشير إلى المفسرين دون تحديد الوافد أو الموروث، وهم أهل الاختصاص
في علم النفس في موضوع حدوث صورة للنزوع الغريزي في الخيال.
٤٧
ومن الموروث يتصدر الفارابي، ثم الغزالي قبل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية،
وصاحب الشريعة، وبعض أسماء الأعلام بين أمير وعالم وشاعر، والأماكن من البيئة
المحلية، وأسماء الكتب والفِرق.
٤٨
ويمثِّل الفارابي بداية الوعي التاريخي الفلسفي؛ لذلك يرتبط ابن باجه به بالرغم
من ندرة كتبه في الأندلس؛ مما يدل على فضل المشرق على المغرب.
٤٩ كان ابن باجه حلقة اتصال بين المشرق والمغرب من خلال الفارابي وشروحه،
مثل شرح نيقوماخيا، بل إن ابن باجه يقتبس من أبي نصر دعاءً للتخفيف من ألم الشك في
المعرفة وطلب اليقين.
٥٠ ويأخذ ابن باجه نفس الموقف من الغزالي الذي أخذه في «تدبير المتوحد»،
ولكن في سياقٍ آخر؛ فيُسميه «الرجل المعروف بأبي حامد الغزالي»، وكتابه الذي سمَّاه
«المنقذ من الضلال»، وقال إنه شاهد أمورًا إلهية، وهي كلها ظنون ومثالات الحق
وخيالاته؛ فهو رجل مُغالط يدَّعي أن عجائب العالم العقلي أفضل من عجائب العالم
المدني. ويمكن تصويب رأي الغزالي بما قيل في نيقوماخيا إن الأشرار متى خلوا إلى
أنفسهم يتأملون، على عكس الأخيار، وكما هو الحال في المقالة الحادية عشرة. ما يقوله
الغزالي في حاجة إلى برهان. كان هدفه التثبت فقط من صحة اعتقاده، وأنها لا عناد
فيها. يُدافع ابن باجه عن العالم العقلي، أما العالم الروحي عند الغزالي فمجرد
خيال. يمكن إذن تصحيح تصوف الغزالي بأخلاق أرسطو. فإذا كان ابن باجه قد نقد الغزالي
الصوفي لغياب البرهان، فإن ابن رشد قد نقده كأشعري لسوء البرهان. ومع ذلك ظل
الغزالي صامدًا على مدى ألف عام. كان ابن باجه يريد الجمع بين مشاهدات الصوفية
وبراهين الحكماء، كما يروي عن اللقاء بين ابن عربي وابن رشد واقعًا أم خيالًا.
الأول يُشاهد ما يعلم الثاني، والثاني يعلم ما يُشاهد الأول. ويضرب ابن باجه المثل
بداود من بلاد بريطانيا المتقلب في الأديان، وتشوقه لاجتماعه به في مرسيه على معرفة
الحق والالتذاذ بالعلم.
٥١
ويستعمل ابن باجه أسلوب الفقهاء في السؤال والجواب والاعتراض والرد عليه مسبقًا.
كما يستشهد بالشعر العربي على التشوق الفكري، تشوق الصواب الذي للإنسان خاصة؛ لذلك
يُقال: نزعتني نفسي، قلت لنفسي في خلاءٍ ألومها، وقول قطري الشاعر. كما أن القوة
الفكرية والقوة النزوعية يدل عليهما بالنفس كما قال المعري في شعره. فالتجربة
الشعرية مِصداق للتجربة الفلسفية.
٥٢ كما يستعمل الأسلوب العربي، زيد وعمرو، كفاعل أو مبتدأ؛ مما يدل على
التأليف والأسلوب غير المباشر. ويضرب المثل بعنقاء مغرب وعنز أيل على تصوراتٍ غير
موجودة وغير مطابقة للواقع.
٥٣ ويظهر أسلوب الكُنى في مخاطبة القارئ، وتظهر الأندلس كبيئةٍ جغرافية
محلية، وليس الوافد؛ فكتب الفارابي كلها لم تصل إلى الأندلس.
٥٤
وتظهر بعض الموضوعات الدينية؛ فيضرب ابن باجه أمثلةً من علم العقائد على الزمان
المتصل، مثل نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، وأن عدم الله كان متصلًا قبل خلق الله
العالم. ويستشهد بآيتين قرآنيتين؛ الأولى عن الراسخين في العلم لإثبات حض الشريعة
على العلم، والثانية عن خشية العلماء من الله؛ لأن من علم الله تقرَّب إليه.
ويستشهد بحديثين نبويين؛ الأول عن أن خير الأمور الوسط، والثاني الحديث القدسي
المشهور على أن أول ما خلق الله خلق العقل. ويضرب المثل على إهمال البدن بمحمد
بن عبد السلام من بلنسيا، والمستظهر من بني أمية في الأندلس. كما يضرب المثل على
الاعتناء بالبدن والخوف عليه بعلي ابن السلمي.
٥٥
وتتميز رسالة الوداع بجمال الاسم وشجنه وطابعه العاطفي الذي يعبِّر عن هموم قِصر
العمر؛ فالإنسان قادم ومُغادر، ويترك رسالة للأصحاب في اليوم الأخير في حياة سقراط
الذي يُحاور فيه تلاميذه عن خلود النفس، أو الليلة الأخيرة في حياة المسيح الذي
يلتقي فيها بحوارييه، ويبلِّغهم أن نفسه حزينة حتى الموت. موضوعها علم النفس أو
اللذة العقلية، أقرب إلى الموضوعات الفردية دون الاجتماعية. وتعتمد على تفضيل
الفارابي العامل الجاهل على التارك العالم في «فصول المدني». كان العلم في ذلك
الوقت العلم بكتب أرسطو. ويعتزُّ ابن باجه بمعلِّمه الفارابي وبمكانته في العلم،
بالرغم من ندرة كتبه في الأندلس، وإن وُجدت فإنها قد يشوبها النقص الذي يُكمله
ابن باجه؛ فمسار الوعي الفلسفي من نقل الأصل الأرسطي إلى شرح الفارابي تحولًا من
النقل إلى الإبداع إلى إبداع ابن باجه وإعادة بناء الموضوع كله. ومع ذلك هناك قلق
في التأليف؛ مما يدل على أن الإبداع لم يُحكَم بعد.
٥٦
(ﺟ) وفي «اتصال العقل بالإنسان» يُحال إلى أرسطو، ثم أفلاطون، ثم سقراط وهرمس
والإسكندر. ومن مؤلفات أرسطو يُحال إلى كتاب «النفس»، ثم إلى «ما بعد الطبيعة»، ثم
إلى باري أرمنياس والمقولات والحيوان ومنافع الأعضاء.
٥٧ ويرفض ابن باجه نظرية المُثل عند أفلاطون، مثل رفض أرسطو لها، ويبيِّن
ما ينتج عنها من محاولات؛ مما يكشف عن نزعةٍ واقعية مشتركة بين الحضارة الإسلامية
وأرسطو. ويشير إلى أسطورة الكهف عند أفلاطون، وهي ألغازٌ مناسبة لأحواله، ووصف
السعداء الناظرين إلى الشمس. ويستشهد بقول الإسكندر إن المحرك هو المتحرك بعينه في
كتاب الصور الروحانية، وإنه واحد بالعدد تأرجحًا بين الفلسفة والتصوف. ويستشهد بقول
سقراط في الصورة إنها الخير والجميل وليس المعنى، وهي قراءةٌ أفلاطونية لسقراط؛
فأفلاطون يقول بالصورة في حين أن سقراط يقول بالمعنى.
٥٨
ومن الموروث يُحال إلى الفارابي وربيعة بن مكرم، ثم جرير وامرئ القيس، لا فرق بين
الفلاسفة والشعراء. يحيل ابن باجه إلى معاني الواحد في ما بعد الطبيعة، والتي
لخَّصها الفارابي في كتابه في الوحدة. كما يُحيل إليه في القوة الناطقة التي تُقال
على الصورة الروحانية؛ لأنها تقبل العقل، كما تُقال على العقل بالفعل؛ لذلك تشكَّك
الفارابي عما إذا كانت موجودة في الطفل تمنعها الرطوبة أم توجد فيما بعد؛ فابن باجه
يتعامل مع الوافد بعد أن أصبح موروثًا. ويرفض قول أهل التناسخ في الصور الروحانية
الواحدة، ووجود المعقولات في أجسامٍ واحدة، وهو ما رفضه أهل التناسخ أنفسهم.
ويستشهد ابن باجه بحذف الرابطة في القضية المحلية، والتي تشير إلى فعل الكينونة،
على عكس باقي الألسنة، وهي القضية التي عالجها الفارابي.
٥٩ ويضرب المثل بتاريخ الطبري على التأليف الواحد، وربيعة بن مكرم على
الواحد بالعدد، مثل السعداء. كما يُحيل إلى مؤلفاته هو، مثل كتاب التوحيد ورسالة
الوداع والوحدة.
٦٠ ويُحيل من أسماء الفِرق إلى المتصوفين، ثم إلى العرب وأهل التناسخ.
٦١
(د) وفي «الوقوف على العقل الفعَّال» يظهر الوافد عند جالينوس ثم الحكيم. ويُحال
إلى «حيلة البربر» وإلى «السماع».
٦٢ وينقد ابن باجه جالينوس لأنه ظن أن البهائم تدرك الأنواع، وأخطأ في
قوله إن الحمار يدرك الطريق الكلي خالطًا بين العقل والخيال؛ وذلك بسبب قلة المراس
وتعظيم الطب والمنطق في آنٍ واحد. ويُحيل إلى الثانية من «السماع» في التمييز بين
الجسم الذي لا يتكوَّن ولا يفسد، والجسم الذي يتكون ويفسد. ويستشهد بقول الحكيم عن
العتبي إن آخر الفكرة أول العمل، وآخر العمل أول الفكرة، في موضوع الصلة بين النظر
والعمل. وما زال لفظ الأسطقسات مستعملًا. ومن الموروث يُحال إلى أبي نصر وإلى
البرهان في موضوع تحصيل الأصناف الثمانية.
٦٣