(٢) ابن رشد
وبالرغم من أن ابن رشد «الشارح الأعظم» صاحب التقارير والتلخيصات والجوامع، إلا
أن بعض أعماله تصبُّ في تمثُّل الوافد تنظير الموروث.
(أ) ويُعتبر «الكليات» في الطب لابن رشد (٥٩٥ﻫ) من نفس النوع.
٢٠ ومن العنوان يمكن استنباط المضمون؛ فالطب صناعةٌ فاعلة من مبادئ صادقة،
عمل يقوم على نظر، مجموعة من القوانين العامة تنتظم جميع الأبدان بلا فروقٍ فردية
بينها؛ فالطب علمٌ طبيعي، وهو في نفس الوقت جزء من منظومة علوم الحكمة الثلاثية بعد
المنطق وقبل الإلهيات. يقوم على النظر والمنطق، وفي نفس الوقت يستند إلى التجربة
والمشاهدة، النظر في الأسباب والقيام بالمعالجات؛ فهو علمٌ يجمع بين الكليات
والجزئيات، بين البسيط والمركب، بين الأعلى والأدنى، وهي نفس الطريقة التي عُرض بها
بدن الإنسان في ترتيب الفصول من الأعلى إلى الأدنى طبقًا لقيمة الموضوعات. يدرس
ابن رشد التصورات الفلسفية في الطب، أي الكليات؛ ومن ثَم يعتمد الطب على المنطق،
والقسمة المنطقية. ويميِّز بين الأقاويل الجدلية والخطابية في الطب، ويُحيلها إلى
أقاويل برهانية؛ لذلك يرفض أن تكون أقوال الكنانيش مصدرًا للطب، مجرد المنقول دون
المعقول، وهي أقوالٌ جزئية دون قوانين كلية. تدرس الأمراض في كلياتها، أي أمراض
البدن وليست أمراضَ عضوٍ عضو، الطب العام قبل التخصصات الجزئية؛ لذلك يكتب ابن رشد
على سبيل الإيجاز والاقتصار مع تحقيق غرضه وقصده.
٢١ والقصد مزدوج، معرفة الصناعة، والتحقق من صدقها، ومراجعة أقوال القدماء
كاستطرادٍ ضروري يعود بعدها ابن رشد إلى الموضوع؛ لذلك تكثر أفعال البيان والتوضيح.
٢٢ ونظرًا لوحدة العمل تُضَم الأجزاء إلى الكل باستمرار بدايةً بالمنطق والقيمة.
٢٣
والأساس الثاني الذي يقوم على الطب هو التجربة والمشاهدة والملاحظة؛ فالعقل
والمنطق والقياس والبرهان لأحكام الخطاب الطبِّي في داخله، ولكن مادته تأتي من
الطبيعة والتجربة؛ لذلك كان الطب جزءًا من الطبيعيات التي تقوم على العلل والأسباب.
والجسم موضوعٌ مشترك بين الاثنين، علم الطبيعة وعلم الطب، وهو الطباع. وعالم
الطبيعة هو الذي يُعطي البرهان على المبادئ العامة لا الطبيب؛ فالجسم حالةٌ خاصة في
الطبيعة. وعن طريق معرفة العلل والأسباب يمكن التنبؤ بحالات المرض على ما هو معروف
في تقدمة المعرفة؛ أي العلم المسبق بوقوع الأحداث. وإذا كانت صناعة الأدوية جزءًا
من علم الطب جمعًا بين النظر والعمل، بين التشخيص والعلاج، ظهرت ضرورة التجربة مع
القياس، والجزئيات مع الكليات. ولو أن ابن رشد اقتصر على الكليات وترك الجزئيات
ليكتب فيها ابن زهر «التيسير» بناءً على طلبه. وقد كان ابن رشد يودُّ تأليف كتاب
آخر يطبِّق فيه قوانينه في الكليات ضامًّا الأجزاء إلى كلياتها إذا ما أنسأ الله في العمر.
٢٤
ويتقدم الوافد الموروث. وفي الوافد يتقدم جالينوس، ثم أبقراط، ثم أرسطو، ثم
أركيغانس وأندروماخوس وبولس وأرسطراطيس. ومن أسماء البلاد بلاد اليونانيين وبلاد الروم.
٢٥ والإحالة إلى الوافد استطرادٌ خارج الموضوع نظرًا لاعتماد الطب كعلَم
على الإبداع الداخلي دونما حاجة إلى النقل الخارجي، يظهر ويختفي طبقًا للمواضع
الفلسفية. ويُدافع ابن رشد عن جالينوس طول الوقت ليس تقليدًا له أو نقلًا عنه، بل
لأنه يمثِّل إجماع الأطباء. وفي نفس الوقت ينقد ابن رشد جالينوس في كتاب «المزاج»؛
لأن أقواليه غير برهانية، بعكس كتاب «الأسطقسات». ويدخل في ثنايا أقواله، ويعبِّر
عن المسكوت عنه. ويدرس الواقع الطبِّي ويُراجع عليه الأقوال.
٢٦ يُورِد براهين جالينوس العلمية بلفظ القول وفي حالة الاتفاق معها،
وبلفظ الزعم في حالة الاختلاف معها. ويدخل في مساره الفكري ليُراجع براهينه. ويرى
ابن رشد ما يراه جالينوس، ويصف مسار فكره للتحقق من صحة الاستدلال وصدق الرؤية؛
لذلك كثر استعمال ألفاظ نص، شهد، أدرج، حمد، قصد، وصف، أصبح، حكى، ظن، اعتاص، أنكر،
حمد، رأى، صرَّح، اعترف.
٢٧ ويُحاول التوفيق بينه وبين أرسطو؛ فأرسطو فيلسوفٌ طبيعي مثل جالينوس،
اعتمادًا على بعض مؤلفات أرسطو، مثل كتاب النفس، وعلى أرسطو راويًا ومؤرخًا للفلسفة
اليونانية، كما يروي جالينوس أيضًا عن الأطباء السابقين. يعتمد على أرسطو لتأكيد
الطابع العملي للطب مع تعليل أقواله دون الاكتفاء بنقلها. ولا فرق بين أرسطو
وجالينوس وأبقراط كفلاسفة للطبيعة على المبادئ العامة، إنما الخلاف في الأحكام
الجزئية وفي أنواع الأقاويل.
٢٨ ولا خلاف بين أبقراط وجالينوس إلا في التسمية أحيانًا، والمسمَّيات واحدة.
٢٩
ومن الموروث يتصدر الرازي، ثم ابن مروان ابن زهر، ثم بنو زهر، ثم الكِندي
وابن سينا، ثم ابن وافد وأبو نصر.
٣٠ ويُذكَر الرازي راويًا وليس طبيبًا، مصدرًا للأخبار الطبية، وينقد
الكِندي طبيبًا؛ لأنه ربط بين الطب والعدد والموسيقى، في حين يمدح ابن سينا، مع أن
طب الكِندي يمثِّل وحدة المعرفة نظرًا لارتباط الطب الجسمي والطب النفسي حتى عند
ابن رشد، ويمدح أسماء بني زهر. وتظهر موضوعاتٌ محلية، مثل اشتراك الاسم واختلاف
الأسماء على نفس المسمَّيات. كما يظهر التمايز بين الوافد والموروث، بين الأنا
والآخر، في تعبيراتٍ مثل «بلادنا»، «عندنا». وتظهر البيئة المحلية، مثل الصقلي
والعربي والأرميني والصيني والفارسي واليهودي والهندي، في مُقابل اليوناني
والروماني. ويتحدث عن أمراض العرب والبربر والأكراد فيما يقرب بالجغرافيا الطبية أو
الطب الجغرافي.
٣١ كما يتغيَّر الطب من عصر إلى عصر، ومن زمن إلى زمن؛ لذلك تتكرَّر عبارة
«حتى زماننا». هناك تطور للعلم من القدماء إلى المُحدَثين، ومن جالينوس إلى ابن رشد.
٣٢ ويكاد يخلو الكتاب من العبارات الإيمانية العادية باستثناء المقدمة
والخاتمة. كما لا تظهر آياتٌ قرآنية وأحاديث نبوية ولا إنشائياتٌ دينية، بل يغلب
الأسلوب العلمي الدقيق الذي يقوم على اقتناص العلل والأسباب.
٣٣
(ب) مقالات في المنطق والعلم الطبيعي. وقد ساهَم ابن رشد في مقالاته في تمثُّل
الوافد قبل تنظير الموروث؛ فمن ضِمن المسائل المنطقية الخمسة عشرة، اثنا عشر مقالًا
في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، وثلاث مقالات في تنظير الموروث، ومقالةٌ واحدة
إبداعٌ خالص.
ويأتي أرسطو في المقدمة في عدد المقالات المذكور فيها، سواء باسمه أو بلقبه
«الحكيم»، ثم الإسكندر وثامسطيوس، ثم ثاوفرسطس، ثم أوديموس، ثم أوميروش.
٣٤ ومن الطبيعي أن يأتي أرسطو أولًا؛ فهو واضع علم المنطق، ثم شُراحه، ثم
مادة الأمثلة. فالمنطق هو تحويل المادة الشعبية إلى أشكالٍ صورية. ويأتي أيضًا
أرسطو في المقدمة من حيث تردُّد ذكره مع نفس الترتيب، الإسكندر ثم ثامسطيوس ثم
ثاوفرسطس ثم أوديموس وأوميروش.
٣٥ وأكثر كتب المنطق إحالةً إليها القياس ثم البرهان ثم العبارة ثم
المقولات؛ مما يبيِّن أهمية القياس على البرهان؛ فالقياس وضع لأشكال الفكر أولا،
والبرهان هو أكثرها يقينًا. ولا يُحال إلى إيساغوجي، وكأن ابن رشد ليس في حاجة إلى
مدخل كما احتاج الفارابي من قبل. كما لا يُحال إلى منطق الظن كله؛ الجدل والسفسطة،
والخطابة والشعر؛ فلليقين الأولوية المطلقة على الظن.
٣٦ ومن حيث الكم تتفاوت المقالات المنطقية بين أطولها مثل المقول على
الكل، وأصغرها مثل حد الشخص. وواضح أن ما يهمُّ ابن رشد هو المنطق باعتباره علمًا
شاملًا. وفي مبدأ المقول على الكل تأتي كل أشكال القياس وأنواعه ونتائجه ومقدماته
وعكسه، والحدود في النهاية.
٣٧ ومن أسماء المجموعات يأتي المفسرون أولًا، ثم المشاءون، ثم الأطباء،
وأخيرًا المتكلمون؛ مما يبيِّن أولوية تمثُّل الوافد على تنظير الموروث.
٣٨
ومن الموروث يأتي الفارابي في المقدمة باعتباره المعلم الثاني، والذي هذَّب
المنطق، ثم ابن سينا الذي يعترف بأستاذية الفارابي، ثم ابن باجه وابن وهيب والفراء
ومسيلمة ومحمد، فيلسوف ولغوي ومتنبٍّ ورسول؛ لارتباط اللغة بالمنطق، والمنطق
بالوحي؛ فكلاهما معياريان يضعان قواعد تعصم من الخطأ على مستويين مختلفين؛ النظر والعمل.
٣٩ للفارابي الأولوية على ابن سينا ثلاثةَ أضعاف؛ لأنه شارح أرسطو،
وابن سينا مُنحرف عنه بأفلاطونيته وفلسفته المشرقية.
ولا يذكر ابن طفيل أستاذه ربما لإشراقياته، أو الكِندي ربما لعدم وصوله للأندلس،
وهو المنطقي الطبيعي مثل ابن رشد. ويُحال إلى عدة كتب، مثل «البرهان» و«الموجودات
المتغيرة» للفارابي، ثم شرح كتاب «القياس» وتلخيص كتاب «القياس» لابن رشد نفسه،
٤٠ ثم «العبارة» و«السفسطة» و«التحليل» للفارابي، و«النجاة» و«الشفاء»
لابن سينا، و«المسائل المنطقية» لابن رشد، وكتاب أبي عبد الله ملك بن وهيب وكتاب
الفراء. ومن المجموعات يُذكَر المفسرون، ثم المشاءون، ثم الأطباء، وأخيرًا المتكلمون.
٤١
ولا تُذكَر آيةٌ قرآنية واحدة أو حديثٌ نبوي أو إشارة إلى الدين تقلِّل من طابع
المقالات المنطقية التجريدية الصعبة على العامة ولا تُحركها، على عكس ثلاثية
ابن رشد الفلسفية «الفصل» و«المناهج» و«التهافت». كما لا توجد إحالات إلى العقيدة
أو إلى الشريعة. هناك فقط إحالة إلى المتكلمين من أهل زماننا، وهناك أيضًا تفسير عن
الطبيعة بلغة القيمة، الأشرف والأكرم والأفضل. والقيمة تنظير العقيدة، والأخلاق
أساس الدين؛ فالعقل كائنٌ شريف، والطبيعة تتَّجه نحو الكمال والأشرف، وفي التعالي
يتم الاتحاد بين الأخلاق والدين. ومن وجهة نظري العلم الطبيعي هذا خلاط بين
العلمين، بين الموضوعية والذاتية، بين الطبيعة والأخلاق، بين الإخبار والإنشاء، بين
العلم والدين. والحقيقة أن الطبيعيات إلهياتٌ مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعياتٌ
مقلوبة إلى أعلى، ويتم التعبير عن كليهما بلغةٍ إنسانية خالصة.
وبالنسبة للمقالات الطبيعية الثلاث، اثنان منها تمثُّل للوافد «في المزاج»، «في
البذور والزروع»، وواحدة فقط في المقالة السابعة والثامنة من «السماع الطبيعي»
لأرسطو في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث. يأتي أرسطو أولًا، ثم يحيى النحوي، ثم
أفلاطون، ثم أبقراط وجالينوس.
٤٢ ومن الموروث لا يظهر إلا الفارابي، ومن كتب أرسطو يُحال إلى القياس ثم
البرهان ثم الجدل ثم السماع الطبيعي والسماء والعالم، وشرح القياس لثامسطيوس.
ويُخطِّئ ابن رشد جالينوس ويصوِّب أرسطو. ومن الموروث لا يُذكَر إلا كتاب الموجودات
المتغيرة للفارابي. ومن المجموعات يُذكَر القدماء، ثم الفلاسفة المفسرون، ومعهم
المتكلمون «من أهل ملتنا».
وبمقارنة جدل الوافد والموروث في المقالات الثمانية عشرة يأتي الفارابي شارحًا
أرسطو قبل الإسكندر، ثم يأتي ابن سينا بعد الإسكندر، مع أن الانتقاد الأكثر
لابن سينا. ومن حيث الإحالات إلى أسماء الكتب تأتي الإحالات إلى كتب أرسطو قبل
الإحالات إلى كتب الفارابي، وكتب الفارابي قبل كتب ابن سينا، وكتب ابن سينا قبل كتب
ثامسطيوس وأبى عبد الله ملك بن وهيب والفراء جالينوس. فالإحالات إلى أرسطو أولًا،
ثم إلى الفارابي ثانيًا، ثم إلى ابن رشد ثالثًا، ثم إلى ابن سينا رابعًا، ثم إلى
ثامسطيوس وجالينوس وابن وهيب والفراء خامسًا.
٤٣
وأهمية تحليل المضمون الكشف عن توجهات النص وكيفية الإشارة إلى أرسطو وبأي أفعال،
القول أو البيان، كمؤشرات على مسار الفكر نحو الغاية والقصد. وميزة هذا التحليل
الكمي الكيفي لمعرفة كيفية التحول من النقل إلى الإبداع بأسماء الحكماء، وتردد
ذكرهم، وأسماء الكتب والمجموعات، وترددها أيضًا. وتقع الحيرة في اختلاف المقاييس
بين عدد الأسماء وعدد ترددها أيها أكثر دلالة؛ فقد تكون الأسماء أكثر وترددها ضعيف،
وقد تكون أقل وتردها أكثر. وفي هذه الحالة يتم الجمع بين عديد من المؤشرات لإصدار
الحكم العام حول جدل الوافد والموروث. ولا تدل كثرة ترداد الأسماء على التبعية؛ فقد
تعني النقد والهجوم، كما هو الحال في ذكر ابن رشد لابن سينا. كما يدل الانتهاء إلى
نفس النتيجة من قراءتين متباعدتين على صِدقها.
وتمثل هذه المقالات المنطقية والطبيعية مرحلةً أخرى للتحول من النقل إلى الإبداع،
وهي تأليفٌ صغير في موضوعاتٍ دقيقة لممارسةٍ عملية تمثُّل الوافد قبل تنظير
الموروث، وإحداث التقارب بين المحوي والحاوي، بين المادة والوعاء. وهو نوعٌ أدبي
جديد يشمل الأنواع السابقة؛ الشرح والتلخيص والجوامع والعرض والتأليف والتراكم. فيه
«قال أرسطو» اعتمادًا على النص، وفيها تجاوز أرسطو.
٤٤ واختيار الموضوع له دلالته، المنطق والطبيعة دون الإلهيات، وهي
الموضوعات التي يعتريها الشك وسوء التأويل من أجل التصحيح والعودة إلى
الأصول.
ولا يمكن فهم هذه المقالات إلا في إطار المشروع الكلي لابن رشد، التفسير والتلخيص
والجامع والعرض الجزئي والتأليف والتراكم، والمراحل من تمثل الوافد حتى الإبداع
الخالص، وهي أقرب إلى الجوامع منها إلى الشروح التلخيصات. هو تأليفٌ نقدي يتمثل
الوافد قبل تنظير الموروث. هي دراسة على دراسة، مع عودة إلى الأصل ومعرفة الحق
النقلي والعقلي والطبيعي. هو تأليف على تأليف، خطوة نحو التراكم الفلسفي، تعشيق
الوافد في الموروث. لا يوجد «قال أرسطو» بقدر ما يوجد نقد الشراح السابقين. مهمة
ابن رشد في كل الحالات تخليص النص مما عَلِق به من شوائب الشراح والمتكلمين،
والعودة إلى الأصول الأولى قبل انحرافها، وكما هو الحال في كل معركة إصلاحية تُنقذ
النص الأول من براثن الشراح. ويُعيد المراجعة على مدى فترات حياته، كما راجع بداية
المجتهد بعد عشرين عامًا، وأضاف إليه كتاب «الحجج» (عام ٥٨٤ﻫ). كما اقتضى تلخيص
القياس المراجعة، وكما تُحيل الجوامع إلى التفسير الكبير.
وموضوعات المقالات في المنطق والطبيعيات تبدو علميةً صرفة باردة مجردة لا حياة
فيها، بالرغم من أنها تجارب حية عند ابن رشد، تعيش في وجدانه، وتُظهر وحدة مشروعه،
الوافد والموروث والواقع، بالرغم من المقالات الصغيرة المُساندة في نقد التراث
المنطقي والطبيعي، وتأويلات الشراح القدماء والمُحدَثين التي شوَّهت تعاليم أرسطو؛
لأنها لم تدرك مقاصده في تحديد النتائج المتولدة عن المقاييس المركبة من المقدمات
الضرورية والمتعلقة والممكنة؛ لعدم فهم معنى المقدمات المطلقة والضرورية، وعدم
تنبُّههم إلى أن الأمر يتعلق بوجود القضايا لا مادتها.
٤٥ شروح ابن رشد دفاع عن صلة العقل بالنقل ضد الحشوية الذين يقولون بالنقل
دون العقل، وضد الغزالي الذي يُنكر على الحكمة استخدام العقل، وضد الشراح، يونان
ومسلمين، الذين يُسيئون تأويل أرسطو، وضد الباطنية الذين يقضون على النقل كليةً
لحساب التأويل الباطني؛ فصلة العقل بالنقل أو الحكمة بالشريعة وضرورة التأويل هو
مفتاح ابن رشد.
ويغلب على المقالات المنطقية، وهي أكبرها، منطق البرهان، المقولات، والعبارة
والقياس والبرهان، وليس منطق الظن؛ الجدل والسفسطة والخطابة والشعر. بالرغم من أن
جمع مقالات المنطق والطبيعة مجرد عرض من صنع الناشر، إلا أن دلالته الفكرية أعمق في
الصلة بين العقل والطبيعة، بين الذات والموضوع. وما الإلهيات إلا تطابق العقل
والطبيعة حتى تظهر الوحدة بين النص والعقل والطبيعة بعيدًا عن تشخيص الوحدة في
الإلهيات، والقضاء على العقل باسم الوحي، وتدبير الطبيعة باسم الإرادة
الإلهية.
ويغلب على المقالات الطابع النقدي؛ فتمثُّل الوافد لا يعني مجرد الاستيعاب وحسن
الاستقبال، بل التمثل الإيجابي؛ رفض الصحيح ونقد سوء التأويل
٤٦ ولا فرق في النقد بين الشراح اليونان والشراح المسلمين. وأغلب النقد
موجَّه لابن سينا، في حين يبدو الفارابي أكثر فهمًا لأرسطو. يبدو واضحًا لأنه هو
الوسيلة إلى أرسطو والشارح له، وهو أقرب إلى ابن رشد لاعتماده كليًّا على العقل
الصريح. وتكشف عناوين المقالات المنطقية الخمسة عشرة عن الخلاف بين أرسطو وشراحه،
يونان ومسلمين؛ فالشرح تأويل، والتأويل اتصال وانقطاع. ويمكن معرفة ذلك بتحليل
عناوين المقالات.
٤٧ ونقد الداخل أكثر من الخارج، وإن الهدف من تمثُّل الوافد هو نقد
الموروث. ونقد ابن سينا أكثر من الفارابي؛ إذ يظهر ابن سينا في عناوين ثلاث مقالات،
والفارابي في مقالين، والفارابي والإسكندر في مقال، وثامسطيوس في مقال.
٤٨
ويمكن إيجاز منهج ابن رشد في تمثل الوافد في عدة عناصر، مثل احترام القدماء،
والإحساس بالوعي التاريخي بالانحراف عن المسار الأول وضرورة تصحيحه، وهو موقفٌ
تحليلي ظاهر، وكأن كل تفسير ليس قراءة، وكأن هناك المنطق الخام خارج عمليات التأويل
والقراءة، وهو بعد الألفاظ، احترام العقل للاعتماد عليه وهو بعد المعاني، والأمر
نفسه واللجوء إلى الأشياء ذاتها وهو بعد الموضوعات، والموازنة بين المتخاصمين،
ومقارنة أدلة كل فريق، والتحقق من صِدقها، ثم إصدار الحكم المبني على
الحيثيات.
ويكشف تاريخ تأليف المقالات على انتشار التأليف على مدًى واسع في حياة ابن رشد ضد
التقسيم الأولي لحياته إلى ثلاث فترات، كلٌّ منها يختص بأحد أنواع الشروح، الأكبر
والأوسط والأصغر. ومعرفة التواريخ ليست مقصودة بذاتها، بل للتعرف على مسار فكر
الفيلسوف، والتحول من النقل إلى الإبداع في حياته.
٤٩ وليس ابن رشد مؤرخًا للفلسفة بمعنى الرصد الموضوعي لتاريخ الأفكار، بل
هو يُعيد قراءته مئوِّلًا أرسطو ومُحافظًا عليه. ولا فرق بين المؤلف والناسخ
والقارئ والحامل، الكل ينتسب إلى النص باعتباره عملًا حضاريًّا جماعيًّا، فيقدِّم
الناسخ العمل ويطلب الرحمة للمؤلف. ولما كان الناسخ يكتب ما يفهم، فقد توجد بعض
الأخطاء التاريخية في نسبة النص إلى صاحبه أو إلى موضوعه، وبطبيعة الحال تتفاوت
نشرات النصوص بين النشرات غير المحقَّقة في الهند، والنشرات المُغالى في تحقيقها في المغرب.
٥٠
(ﺟ) وتبيِّن كل رسالة على حدةٍ أولوية تمثل الوافد على تنظير الموروث؛ ففي رسالة
«في لزوم جهات النتائج من المقدمات» يتصدر الوافد على الموروث.
٥١ يأتي أرسطو أولًا، ثم الإسكندر، ثم ثاوفرسطس وثامسطيوس، ثم أودميوس.
وأسماء الفِرق كلها من الوافد، ثم المفسرون المتأخرون، ثم المتقدمون. كما أن كل
الإحالات من الوافد، مثل القياس والبرهان.
٥٢ الموضوع هو تبعية النتائج إلى جهات المقدمات في القياس. والمفسرون
فريقان؛ المتأخرون: الإسكندر وثامسطيوس وأبو نصر. والمتقدمون: ثاوفرسطس وأوديموس.
وقد توهَّم المتأخرون في تحديد المقدمات الوجودية عند أرسطو في الزمان؛ أي المقدمة
الموجودة بالفعل، بينما قال المتقدمون، مثل ثاوفرسطس، بوجود المحمول للموضوع
بإطلاق، لا فرق بين الفردي والضروري والممكن. وقد اتفق المفسرون على ذلك، مع أن
ظاهر كلام أرسطو يُوحي بتحديد زمان للمقدمات لأنها مطلقة. وتُطلَق المقدمة الوجودية
على الضروري والممكن معًا، ومع ذلك أخطأ المفسرون، مثل الإسكندر والفارابي، في
تحديد زمانها وأنواعها. يرى الإسكندر وتابَعه في ذلك أبو نصر أن المقدمات توجد في
زمانٍ محدود، وهو غير صحيح؛ فالمطلقة العامة ليست الوجودية المخصوصة. حجة الإسكندر
أن شرط المقول على الكل أن يكون له مادة، وأن تكون بالضرورة أو بالإمكان أو بالفعل،
وهو ما أوهم ابن رشد في شبابه، وجعله يعتقد شرط القول على الكل في المقدمة الضروري،
أي الكبرى، على مذهب الإسكندر. وكما حل الإسكندر الشكوك على أرسطو بعد خمسة قرون،
فقد حل ابن رشد شكوك الإسكندر بعد ألف عام. ويبدو أثر علم الحديث عند الشراح
المسلمين في تحديد زمان الرسل وزمان النصوص، وكأن المقدمة المنطقية رواية لها
زمانها وأجيالها المُتعاقبة، والمطلقة ليست هي الوجودية المخصوصة بوقت. ويعتمد
ابن رشد على الشراح المسلمين الفارابي وابن سينا في فهمهم لأرسطو، إن النتيجة تابعة
للمقدمة الكبرى، وإن كانت في المختلطة تابعة لأخس المقدمتين، بل احتجَّ ابن سينا
لمذهب أرسطو بالمقول على الكل كشرط لإنتاج القياس. وداخل الفارابيَ شكٌّ؛ لأنه أراد
أن ينتقل من صورة القياس إلى مادته في الإنتاج، فكيف يشترط أرسطو في إنتاج القياس
من قِبل صورته ما يوجد في مادته؟ أرسطو الصوري على حق في تبعية النتائج للمقدمات في
القياس من حيث صورته. ويُحيل ابن رشد إلى كتاب البرهان مفسرًا الجزء بالكل، والقضية
بالمذهب. ويبدِّد شكوك الشراح اليونان، مثل الإسكندر، وهو أن شرط المقول على الكل
عند أرسطو هو أن تكون «أ» ضرورية، و«ب» ممكنة بالفعل. وقد شكَّ أبو نصر أيضًا في أن
تكون المقدمة الكبرى ضرورية، والصغرى ممكنة، ولا يكون القياس باطلًا؛ فالأولوية عند
أرسطو للضروري على الممكن، وللوجودي بالفعل على الوجودي بالقوة، والأهم هو الكبرى
لا الصغرى؛ لأن الكبرى هي التي تحدِّد جهة النتائج. ويبدو ذلك في الشكل الأول، وفي
الشكلين الثاني والثالث بعد ردهما إلى الأول، وإعطاء الأولوية للأول على الثاني
والثالث؛ لأن الأول أشرف فكر ديني مقنع، وإسقاط للقيمة على أشكال القياس الصورية.
وهذا كله يبيِّن لمن ارتاض هذه الصناعة. والحكم بين أرسطو وشراحه في حاجة إلى خبرةٍ
طويلة بصناعة المنطق. وقد فهم ابن رشد أرسطو أخيرًا، فاكتملت الحكمة النقلية به
عندما أوتيت له، كما اكتملت الحكمة النظرية والعملية بالكِندي والفارابي
وابن سينا.
ويعتمد ابن رشد في نقده للشراح دفاعًا عن أرسطو على أرسطو نفسه بعد أن يكون قد
درس الموضوع بنفسه حتى يحكم بين الخصمين، ويرفض اقتراح الشراح بوجود خطأ في النُّسخ
كحلٍّ لحيرتهم وشكوكهم ما دام يمكن حل الشك عقلًا بالعودة إلى نص أرسطو وحسن فهمه،
وافتراض الصحة التاريخية وارد من علم الحديث وعلم أصول الفقه. يعرض حجج أرسطو وحجج
الشراح، مسلمين ويونان، ثم يبيِّن مدى اختلاف الشراح واتفاقهم مع مذهب أرسطو، ثم
ينقد الشراح لمخالفاتهم للمذهب. ويبيِّن أسباب سوء التأويل والفهم دفاعًا عن المذهب
بالرغم من اعتذار الكل بنص أرسطو تمحكًا به. وينتهي ابن رشد إلى حسن الظن بأرسطو،
ونهاية الشكوك والتأويلات الفاسدة من الشراح. وقد أتت هذه الشكوك إلى الشراح من جهة
اشتراك الاسم، وهو أمر في غاية الخفاء لخفاء المعنى إذا لم يصرِّح أرسطو في كتاب
«البرهان» بأن جهات النتائج تتبع جهات المقدمات الكبرى في مادتها وجهتها، بل من حيث
صورتها فحسب. وقد أطلق أرسطو القول ونبَّه على ذلك.
٥٣
مسار الفكر في التاريخ هو سوء الفهم والانحراف والخروج على الأصل الأول. وكلما
توالت الأجيال فإن الجيل اللاحق يقلِّد الجيل السابق ويقع في أوهامه. هذا هو مصير
أرسطو بين الشراح اليونان أولًا والمسلمين ثانًيا، من المتقدمين مثل ثاوفرسطس
وأوديموس، ومن المتأخرين مثل الإسكندر وثامسطيوس وأبى نصر. ويقوم ابن رشد بمهمة
تصحيح الانحراف وتصويب الخطأ، والتحول من الظن إلى اليقين، وتلك مهمة الأجيال، وفعل
التقدم في التاريخ، من المتقدمين إلى المتأخرين بعد أن أضلَّ المتقدمون المتأخرين.
التاريخ قبل ابن رشد انهيار وتقليد، وبعده نهضة وإبداع. لقد أضلَّ مُتقدمو الشراح،
مثل ثاوفرسطس وأوديموس، المتأخرين، مثل ثامسطيوس وأبي نصر، وتابَع المتأخرون وهم
المتقدمين؛ فالتقليد يؤدي إلى الانهيار.
٥٤
ويتَّجه ابن رشد مباشرةً إلى الكشف عن غرض أرسطو وقصده مُستعملًا أفعال البيان.
ويُعاني مع أرسطو والشراح وكأنه الغزالي في «المنقذ من الضلال»، يبدأ بالشكوك،
ويتحدث في ضمير المتكلم الجمع تعبيرًا عن الأنا الحضاري. ويستعمل منهج التأويل لحل
الشك بعد البداية بحسن الظن بأرسطو، وأن نظره أعلى من الكل. وينتهي إلى أن الغلط
على الناس من جهة اشتراك الاسم طبقًا لمبحث الألفاظ عند الأصوليين. كما يستعمل
المنهج الرياضي في المطلوب إثباته؛ فرض المقدمات، ثم الاستدلال، ثم النتيجة.
٥٥
وقد خطَّأ فريقٌ آخر من الشراح، مثل ثاوفرسطس وأوديموس وكثير من قدماء
المشَّائين، أرسطو في جعله النتيجة تابعةً لجهة المقدمة الكبرى في المقاييس
المختلطة من الوجودية والضرورية، وأرادها تابعة لأخس المقدمتين. الخلاف في الرؤية
بين أرسطو وشراحه في سُلَّم القيم، القيمة الأعلى عند أرسطو، والأدنى عند الشراح،
وكأن المنطق أيضًا يخضع للقيمة.
وفي المورث يتقدم الفارابي ثم ابن سينا.
٥٦ خالف الفارابي الشراح اليونان في جعل النتيجة تابعةً لأخس المقدمتين
وجعلها تابعة للأشرف. كما شارك الإسكندر في جعل المطلقة هي الوجودية المخصوصة في
الوقت. وسبب خطئه عدم فهم معنى المقول على الكل عند أرسطو، وشكه عليه كيف يشترط
أرسطو إنتاج القياس من جهة صورته ما يوجد في مادةٍ دون مادة. ويستعمل ابن رشد برهان
الخلف لتفنيد حجة الفارابي؛ فلو كان هذا من شرط المقول على الكل لما نتج القياس من
الممكنين. إن شرط المقول على الكل عند أرسطو في الكبرى هو ما يُقرُّه الفارابي. خطأ
الفارابي ليس في القصد الحضاري الكلي مثل خطأ ابن سينا، ولكن في الجزئيات
والاستدلالات. خلاف ابن رشد مع الفارابي خلاف الصديقين، ومع ابن سينا خلاف
العدوَّين. خطأ الفارابي من الداخل، وخطأ ابن سينا من الخارج؛ فقد أخطأ ابن سينا في
استعمال حجج أرسطو لمخالفته في تبعية النتيجة لأشرف المقدمتين، وجعلها ابن سينا
والشراح تابعةً لأخس المقدمتين. وتغيب المقدمات والخواتيم الإيمانية من هذا المقال
نظرًا لطابعه المنطقي الصرف؛ لذلك يعيب ابن رشد على الشراح النصارى، مثل يحيى
بن عدي، خلط أرسطو بالدين.
٥٧
(د) وفي «المقول على الكل» يتصدر أرسطو، ثم الإسكندر، ثم ثاوفرسطس وثامسطيوس
وأوديموس. ومن أسماء الفِرق المشاءون والمفسرون، ثم المتفلسفون من النصارى
والمفسرون من القدماء.
٥٨ يحدِّد ابن رشد معنى المقول على الكل عند أرسطو تمامًا وبدقة، ويُثبِت
خطأ المفسرين في اختلافاتهم عليه. الغرض موضوع أرسطو في إحدى كتبه، وليس أرسطو
نفسه، وتحديد الموضوع بدقةٍ مُتجاوزًا الشخص إلى الموضوع وتحليله. يريد ابن رشد
تخليص أرسطو من براثن الشراح، ويُعيده إلى مساره الصحيح في التاريخ، ودفع التُّهم
عنه وتبرئته باعتباره قاضيًا، لا فرق بين الشراح اليونان، مثل ثاوفرسطس والإسكندر،
وبين الشراح المسلمين، الفارابي وابن سينا. لم يفهم المفسرون ما قاله أرسطو؛ لذلك
لم يُوافقوه في جهات نتائج المقاييس المختلفة.
٥٩
لقد أجمع المفسرون على أن مذهب أرسطو هو لزوم جهات النتائج لجهات المقدمات. وخرج
البعض منهم على هذا الإجماع اعتمادًا على وهم بعض المتأخرين، مثل الإسكندر
وثامسطيوس وأبي نصر، لا المتقدمين مثل ثاوفرسطس وأوديموس. ولم يُوافق الشراح على ما
يقوله أرسطو في جهات نتائج المقاييس المختلطة. ويعرض للشراح المسلمين مثل الفارابي
وابن سينا، كما يعرض للشراح اليونان. وقد ظنَّ ابن سينا أنه زاد على أرسطو ضروبًا
كثيرة من المقاييس. يذكر ابن رشد أرسطو بمناسبة تصحيح فهم ابن سينا له؛ أي بسبب
صورة الوافد في الموروث، وليس تعاملًا مع الوافد وحده. ويُعيد تأويل الشراح،
ويردُّه إلى أصله في أقوال أرسطو، فيضرب عصفورين بحجرٍ واحد. عيب المفسرين إغماض
الأمر حتى على فاهم أرسطو، والمعرفة عن طريق الوساطة دون الذهاب إلى أقوال أرسطو
نفسه، مع أن دور الشراح هو المساعد على فهم النص الأصلي، ودور الشراح المتقدمين
مساعدة الشراح المتأخرين؛
٦٠ لذلك يعتمد ابن رشد في تصحيحه للشراح على أرسطو نفسه وعلى أقواله عودًا
إلى الأصل، وفي نفس الوقت يعتمد على الأمر نفسه؛ أي على الموضوع ذاته وهو أصل النص؛
فالأصل قول أو شيء، والقول الفصل قول ابن رشد الذي يتَّحد بالشيء في صيغة «فنحن
نقول» تمايزًا بين الأنا والآخر.
ويحتجُّ الإسكندر بأن الأمثلة التي يستعملها أرسطو مقدمات طبيعية متوسطة بين
الضروري والممكن. ظن الإسكندر أن الوجودية التي عاناها أرسطو في زمان ومكان معينين،
وليست الموجودة في كل زمان ومكان؛ لأن الإطلاق عند أرسطو في المقدمة، متى وُجد
الموضوع وُجد المحمول. وقد ذهب ذلك على سائر المفسرين القدماء، واختلفوا في المقدمة
الوجودية. ويرى الشراح، ثاوفرسطس وأوديموس، أن الوجودية عند أرسطو تعمُّ الضروري
والممكن والموجود بالفعل، وعند الإسكندر الموجودة بالفعل في زمانٍ معين فقط. وعند
أوديموس وثاوفرسطس الوجودية تعمُّ الضروري والممكن والموجود بالفعل، على عكس
الإسكندر الذي يعني بالوجودية الموجودة بالفعل.
٦١
ويُحيل ابن رشد إلى باقي مؤلفات أرسطو شارحًا المنطق بما بعد الطبيعة؛ فالضرورة
والإمكان مقولتان في المنطق وموضوعان في ما بعد الطبيعة، وأحيانًا يرجع ابن رشد
أخطاء الشراح إلى أخطاء مادية في النُّسخ التي قرأها الشراح أو في الأصل القديم؛
فالمعنى هو الذي يحكم النص، وهو ما وقع لأبي نصر في تأويله على أرسطو أنه متى كانت
الكبرى ضرورية بالقوة في الشكلين الثاني والثالث كانت النتيجة ضرورية. وهو قولٌ
مُتناقض. وقد كان ذلك أيضًا نفس اعتذار الفارابي لأرسطو.
٦٢
ويعبِّر ابن رشد عن قصد أرسطو بطريقةٍ معيارية، ما ينبغي أن يكون عليه المعنى؛
لأنه يعرف الموضوع بتحليله الخاص؛ ومن ثَم يضبط معاني أقوال أرسطو من أعلى ومسبقًا.
لا تُفهَم أقوال أرسطو من الألفاظ إلى المعاني، بل من المعاني إلى الألفاظ. وما
ينبغي أن يكون عليه المعنى ينبع أيضًا من طبيعة العقل. ولما كان العقل هو الذي يجمع
بين أرسطو وابن رشد سهُل فهم المعنى واتفاق العقلاء عليه؛ فالمقدمة الكبرى هي التي
تحدِّد الجهة في النتيجة، والمعنى المعياري هو الذي يمنع الشكوك ويقضي على سوء
تأويل الشراح، وهو الحق في نفسه، الشيء في ذاته، ويتفق مع اللفظ. يختلف مع الشراح؛
ومن ثَم يُعارضون اللفظ والشيء في ذاته؛ لذلك لم يفهموا الأنواع الوجودية
والمُطلَقة والضرورية. وعندما يجد الشارح نفسه مُختلفًا مع أرسطو فإنه يعتذر عنه
ويئوله حتى يتفق مع قوله، وكأن ابن رشد هنا يقرأ الشرح بطريقة المتكلمين الذين
يئولون النقل طبقًا للعقل. وهذا ما فعله ثامسطيوس وأبو نصر.
٦٣
يتحدث ابن رشد عن هذا الرجل ويقصد أرسطو دون تبجيل أو تعظيم بلقب الحكيم أو
المعلم الأول، رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق دون تأليه أو تعظيم أو إعجاب.
ويشعر ابن رشد بمسئولية جيله وزمانه في تبديد الشكوك. وضعف نظر الناس وقلة حكمتهم
سبب التشكك عليه، ورد قوله بما يظهر لهم. ويزداد الضعف إذا لم يظهر للمتقدمين؛
وبالتالي يكون التاريخ جهلًا مركبًا، جيلًا وراء جيل. وأسوأ شيء للمتأخر الاضطراب
عن تعليم أرسطو وسلوك طريقة أخرى، وكأن ابن رشد يُدافع عن نمطية الفكر في التاريخ
دون بدائل. لقد انحرف الفارابي عن مسار أرسطو في المنطق كما انحرف عنه ابن سينا في
الطبيعيات والإلهيات.
ويتبع ابن رشد مسار فكر أرسطو من البداية إلى النهاية مستدلًّا معه وبمنطقه لبيان
اتِّساق الحجج وسلامة المنطق، وأن قول أرسطو واضح بذاته؛ فلم يُرِد أرسطو أن يكون
القياس منتجًا من سالبتين لا بالقوة ولا بالفعل. يبحث ابن رشد عن الوضوح وما هو
بيِّن بنفسه؛ فإن كان غامضًا أظهره، يبيِّن الاستدلال، ويضع المقدمات، ويستنبط
النتائج. ومسار التاريخ من أرسطو إلى المشائين مسار من الوضوح إلى الغموض، ومن
متقدمي المشائين إلى متأخريهم مسار من الغموض إلى الأكثر غموضًا، مع أن المتقدم
معين للمتأخر وليس سببًا في حيرته، وعامل مساعد له لاستخراج الحق؛ فتاريخ الحقيقة
سقوط وانهيار من الحق إلى الظن، ومن الصواب إلى الخطأ، ومن الحقيقة إلى الوهم.
وتكون مهمة ابن رشد التاريخية هو العود من الغموض إلى الوضوح، ومن الظن إلى الحق،
ومن الخطأ إلى الصواب، من الوهم إلى الحقيقة. ونادرًا ما يخطِّئ ابن رشد أرسطو
ويصوِّب الشراح. ويبيِّن ابن رشد غرض أرسطو وقصده؛ أي اتجاه أقواله؛ فالقول ليس فقط
لفظًا أو معنًى، بل هو اتجاه وقصد يجمع بين اللفظ والمعنى والشيء. ويصحُّ قول
ابن رشد إذا ما اتفق مع قصد أرسطو، ويصحُّ قول أرسطو إذا ما اتفق مع قول ابن رشد.
وتخطئ أقوال المفسرين إذا ما حادت عن قول أرسطو، ولكن لا يُخطئ قول أرسطو إذا ما
حاد عن قصد المفسرين؛ فالقول ليس خاصًّا فقط بأرسطو، بل إن ابن رشد أيضًا يقول كما
يقول السائل افتراضًا. وبيان القصد بطبيعته يكون موجزًا؛ لأنه يتَّجه إلى الكلي
وليس إلى الأجزاء.
٦٤ وربما كان ابن رشد قاسيًا على الشراح ظانًّا أن الشرح هو المطابقة وليس
القراءة، في حين أن الشرح هو قراءة للآخر من منظور الأنا، وإعادة كتابة للنص في
بيئةٍ ثقافية مخالفة ولأهدافٍ مُغايرة؛ فلا يوجد فهمٌ صحيح أو خاطئ، ولكن هناك
تأويل في ظروفٍ مُغايرة، وهو بداية الإبداع؛ فما يُسميه ابن رشد سوء تأويل ابن سينا
أو غيره قد يكون قراءة له أو ابداعًا منه.
٦٥
وفي الموروث يتصدر الفارابي ثم ابن سينا. ويُحال إلى كتاب القياس للفارابي.
٦٦ يبدو الفارابي شارحًا أرسطو؛ لأنه يأتي بعده مباشرة وقبل الإسكندر
وابن سينا. والإحالة إلى قياس الفارابي تُعادل الإحالة إلى قياس أرسطو. ويروي
الفارابي عن الإسكندر سوء تأويل موقف أرسطو في المقول على الكل؛ فمعرفة ابن رشد
بالإسكندر عن طريق رواية الفارابي، المعلم الثاني. والحقيقة أن كليهما، أبا نصر
والإسكندر، يُسيء تأويل أرسطو بطريقتين مختلفتين؛ فعند أرسطو يكون المحمول موجبًا
أو مسلوبًا من كل ما هو جزء للموضوع أو يتَّصف بالموضوع، عند الإسكندر بالفعل، وعند
الفارابي بالقوة وبالفعل. وقد ظن الإسكندر أن أرسطو أراد بالمطلقة الوجودية فقط،
وأنها مطلقة من اللفظ لا من الضمير؛ ويعني بذلك المقدمات الكلية المخصوصة بالوجود
في الزمان. وهذا كله سوء تأويل لأرسطو؛ فأرسطو يتحدث عن الأخلاق دون تحديد بزمان،
ولكن طبيعة الذهن البشري ومسار التاريخ يؤديان إلى الانتقال من الصوري إلى المادي،
ومن المطلق إلى المعين. لقد توهَّم الفارابي أن المقول على الكل ما وُصف بالموضوع،
وأنه معنًى زائد على مفهوم المقدمة الكلية، بين الدلالة الأولى والدلالة الثانية،
وهو في ذلك تابع لثاوفرسطس وأوديموس من القدماء، والإسكندر من المُحدَثين، مؤرخًا
لهم وراويًا عنهم، وشارحًا قول الإسكندر إن حذف الجهة دليل عليها. وهذا سائغ في
اليونانية وليس في العربية دون إشارة صريحة إلى التمايز بين اللغتين. يُعيد ابن رشد
الوافد إلى الموروث، ويتمسك بظاهر اللفظ وبمنطق اللغة. وقد عُني أرسطو بتقسيم
المقدمات إلى ثلاثة أقسام بحسب انقسام طبيعة الموجودات، وليس فقط حسب طبيعة
الاعتقاد؛ أي ما يوجد في النفس، توحيدًا من أرسطو بين المنطق والوجود، وكأن ابن رشد
يقرأ أرسطو قراءةً هيجلية. وقد خالف الفارابي أرسطو. ويعتذر ابن رشد عن ذلك بسوء
التأويل، وهو منهجٌ إسلامي خالص في اتفاق النقل الصحيح مع العقل الصريح دونما حاجة
إلى تأويل النقل حتى يتفق مع العقل. تأويل الفارابي تقوُّل عليه، وخروج على ظاهر
اللفظ وعلى الأمر نفسه. وقد توهَّم الفارابي أن الخطأ في القسمة حتى يشرع في
التأويل. هنا يبدو ابن رشد ظاهريًّا.
٦٧ لقد شرح الفارابي أرسطو ولخَّصه ابن رشد، وكان خطؤه أنه تصوَّر أن
الوجودية مخصوصة بزمانٍ معين. أراد الفارابي تحويل المنطق الصوري إلى منطقٍ مادي،
وإدخال الوجود والموضوع والزمان في مادة القضايا، وذلك ليس خروجًا على أرسطو، بل
تطوير له وإبداعُ فيه. وتلك علاقة الخلف بالسلف، إبداعًا لا تقليدًا، وتطويرًا لا
تبعية، مثل علاقة المسيحية باليهودية، وعلاقة الإسلام بالمسيحية. ويبدو المنهج
الإسلامي واضحًا في المقالات؛ العودة إلى النص الأول لأرسطو تطهيرًا له من سوء
تأويل الشراح، مثل العودة إلى النص القرآني الأول تخليصًا له من براثن المفسرين.
كما أن منهج الحكم بين المُتخاصمين، أرسطو وشراحه، ومقارنة أدلة كل فريق بأدلة
الفريق الآخر، والتحقق من صحتها ثم إصدار حكم بالبراءة لأرسطو وإدانة الشراح، هو
منهج أبي الوليد قاضي قضاة قرطبة. كما أن اللجوء إلى ظاهر قول أرسطو هو منهج القاضي
الظاهري. وتبدو الأمثلة الفقهية مُضحكة أحيانًا كما هو الحال في الفقه الافتراضي،
مثل «ولا مفكر واحد غراب» سالبة ضرورية لا وجودية. وربما تشير الوجودية إلى الإحساس
بضرورة الواقعية في المنطق، وأهمية المواد مع الإشكال.
٦٨
وقد أخطأ ابن سينا في معنى المقول على الكل، يشير إليه في بداية المقال وفي
نهايته، وظن أن هناك مقاييس اقترانية غير الحملية والشرطية، وجعل عددها كالحملية أو
قريبًا منها، وإخراج الحملية مثل الشرطية، وألَّف منها أقاويل ثم خلط الحمليات بها،
وظن أنه بذلك قد زاد على أرسطو، وقد اقتبسها من المتفلسفين من النصارى وليس من
المشائين. ابن سينا سارق وليس مُبدعًا، سارق من النصارى المتفلسفين وليس من
المشائين، وإن كان له إبداع فهو مُنحرفٌ تابع للفروع وليس للأصول. وظل تشكيك
ابن سينا وانحرافه حتى زمان ابن رشد. والزمان كفيلٌ بحل الشكوك حتى من أضعف الناس
حكمة وأقلهم نظرًا. التاريخ هنا عنصرٌ إيجابي لكشف الحقائق، انتقالًا من الزيف إلى
الصدق، ومن الخطأ إلى الصواب. كتب ابن سينا مملوءة بالتشكيك على أرسطو خاصةً في
المسائل الكبار، ومن أراد التعلم فعليه تجاوز كتب الفارابي المنطقية وكتب ابن سينا
الطبيعية والإلهية.
٦٩
ويضع ابن رشد تقابلًا بين لسانهم ولساننا، بين اليونانية والعربية، إحساسًا
بالتباين اللغوي، فما يسوغ في لسان اليونان قد لا يسوغ في اللسان العربي، بل يكون
مستكرهًا؛ فاللسان العربي هو أساس الذوق اللغوي، استحسانًا أو استكراهًا. ويبدأ
المقال بالبسملة والصلاة والسلام على محمد وآله، والدعوة بالتيسير والرحمة، مع
تحديد وقت الفراغ من التأليف، أربعة أعوام قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى؛ مما يدل
على أن التأليف كان على فتراتٍ متباعدة وغير مرتبط بفترةٍ معينة من حياته.
٧٠ والسؤال الآن: ما دلالة هذه القضية؛ معنى المقول على الكل، اتفاق جهات
النتائج مع جهات المقدمات؟ وما أهميتها؟ هل العلم للعلم؛ لذلك فضَّل الفقهاء
الانتقال إلى العلم النافع بالرغم من محاولات نقل المنطق من المستوى الصوري إلى
المستوى المادي بالأمثلة الفقهية والقياس الشرعي؟
(ﻫ) و«في المقاييس المختلطة» يتقدم أرسطو، ثم الإسكندر، ثم ثاوفرسطس. ويُحال إلى
كتاب القياس لأرسطو. والفِرق كلها يونانية، مثل المفسرين وقدماء المشائين والمتأخرين.
٧١ يبدأ ابن رشد بفحص غرض أرسطو في المقال بدايةً بالموضوع، ثم يبيِّن
مخالفة المشائين المتقدمين له، ومخالفة المشائين المتأخرين لأرسطو وللمتقدمين،
ويرجع إلى الأصل مُبينًا تطابق أرسطو مع الخلف، ومخالفة المتقدمين له أقل من مخالفة
المتأخرين. يحلِّل ابن رشد الموضوع وأرسطو يتفق معه وليس العكس. ابن رشد هو
المشروح، وأرسطو هو الشارح. ابن رشد هو الذي يقول وليس أرسطو، ثم يُعلن اتفاق الأمر
في نفسه، أي الموضوع، كما حلَّله مع أقوال أرسطو، ومخالفة أقوال الشراح له وللموضوع
على السواء، وهو أن المقاييس المختلطة من الوجودية والضرورية غير تامة، وأن جهات
النتائج فيها تابعة لجهات المقدمات. ولا يكتفي ابن رشد بإعلان الحكم النهائي مثل
القاضي، بل يُعطي الحيثيات؛ أي تعليل الحكم، وكل حكم يقوم على علة كما هو الحال في
منطق الأصول، وبناءً على مقياسين، أقوال أرسطو والأمر نفسه؛ أي الأصل والفرع. مهمة
ابن رشد إيجاد العلة وتعدية الحكم. ويستعمل أحيانًا في منطق الحكم برهان الخلف؛ أي
افتراض صحة موقف الشارح، ثم بيان مناقضة أرسطو له كنوع من الجدل في افتراض صحة
أقوال الخصوم. ويتحدث في ضمير المتكلم المفرد «أما أنا فلست أدري»؛ مما يدل على أن
الموضوع معاش في وعيه وليس مجردًا، حتى ولو كان موضوعًا منطقيًّا. وأحيانًا يأخذ
تأويل أرسطو الخاطئ، ويستخرج نتيجتين مستحيلتين منه من موقف الشراح، يونان ومسلمين؛
مما يدل على معرفة ابن رشد ببناء المذهب دون أن يكون الشراح طول الوقت على خطأ،
وأرسطو طول الوقت على صواب، مرةً لهم ومرةً عليهم؛ فالغاية الوصول إلى الحق الذي
يراه ابن رشد.
٧٢ ويهدف ابن رشد إلى التوضيح؛ يضع مقدمات الاستدلال وينتهي إلى نتائجه،
ولا داعي للتكرار. ومقياس معرفة أرسطو هو ظاهر قوله، والأمر في نفسه اللفظ والشيء.
يقوم ابن رشد بتوضيح المعنى، وهو الرابطة بينهما؛ فمستويات التحقق ثلاثة: اللفظ
والمعنى والشيء. اللفظ أي النقل، والمعنى أي العقل، والشيء أي الطبيعة؛ نظرًا
لاتحاد الوحي والعقل والطبيعة. والقول ليس مقصورًا على أرسطو، بل ممتدٌّ أيضًا إلى ابن
رشد.
٧٣
واشترط الإسكندر في المقول على الكل شرط الفعل كي يكون موجبًا. وقد يكون في ذلك
معذورًا؛ لأن أرسطو أتى برسمه في أول كتاب القياس. ويبدِّد ابن رشد هذا الشك ويجد
للإسكندر مخرجًا؛ فهو القاضي والحكم. ولم يتعدَّ ثاوفرسطس الظن في حين وصل ابن رشد
إلى اليقين، نفس يقين أرسطو في تطابق جهات النتائج مع جهات المقدمات. ونظرًا لاتساق
مذهب أرسطو وإحالة الأجزاء إلى الكل، فإن موضوع جهات النتائج في المقاييس المختلطة
يُحيل إلى موضوع المقول على الكل.
٧٤
وفي الموروث يتصدر الفارابي، ويُحال إلى كتاب القياس له أيضًا دون الاكتفاء بمجرد
السماع أو الشهرة؛
٧٥ فإذا تعادلت الإحالات إلى المصادر بين أرسطو والفارابي فإن الفارابي
يتصدر الإسكندر. وقد اعترض الفارابي على معنى المقول على الكل عند أرسطو بأن القياس
المركب من مقدمتين ممكنتين غير بيِّن الإنتاج، ويُحاجج ابن رشد الفارابي على مستوى
ظاهر قول أرسطو، وعلى مستوى الموضوع نفسه، بأن شرط الإنتاج غير شرط النتيجة.
ويستعمل ابن رشد لفظ «اللهم» كتعبيرٍ أدبي. ويبدأ المقال بالبسملة وطلب العون من
الله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، وينتهي بطلب التوفيق للصواب برحمة الله.
٧٦
(و) و«في المقدمة الوجودية أو المطلقة» يتصدر أرسطو، ثم الإسكندر، ثم ثاوفرسطس،
ثم ثامسطيوس، ثم أوديموس. ويُحال إلى كتابَي «البرهان» و«القياس» لأرسطو. والفِرق
كلها يونانية، المفسرون، ثم متأخرو المفسرين وقدماء المشائين.
٧٧ مرةً يبدأ ابن رشد بالخلاف مع الشارح الذي أساء تأويل أرسطو، ومرةً
يبيِّن موقف أرسطو ثم الخلاف مع الشارح، مرةً من الخصم ومرةً من النفس، ومرةً من
الآخر ومرةً من الأنا، مرةً من المتهَم ومرةً من المتهِم. يزعم كل مفسر أن مذهبه
مذهب أرسطو، فوقع الخلط بين الفرع والأصل، بل تم استبدال الفرع بالأصل؛ ومن ثَم
يكون مقال ابن رشد عودًا إلى الأصول، وهو الأصولي الفقيه. ويحتجُّ كل مفسر على
أرسطو إما من جهة الأمر نفسه أي الموضوع، أو من كلام أرسطو. ويُعيد ابن رشد دراسة
الموضوع وينتهي إلى نتيجةٍ مُخالفة للمفسر، ويُعيد تفسير كلام أرسطو، ويُثبِت سوء
تأويل المفسر له. مرةً يتجه ابن رشد إلى الشيء ومرةً إلى القول، مرةً يصحِّح الرؤية
ومرةً يصحِّح الشرح مستشهدًا بنص أرسطو الأصلي. يعرض حجج الشراح وينتقدها حجة حتى
تظهر صحة قول أرسطو المتفق مع صحة الرؤية المباشرة للموضوع، وهو منهجٌ علمي يقوم
على التحقق من صحة الفروض، وهي في هذه الحالة أقوال الشراح ومطابقتها مرةً على
الأصل، وهو نص أرسطو، ومرةً على الفرع وهو الأمر نفسه، مرةً في القول ومرةً في
الشيء نفسه. ويبيِّن ابن رشد أسباب خطأ الشراح، إما سوء فهم ألفاظ أرسطو؛ لذلك
يُورِد ابن رشد نص أرسطو بألفاظه، أو عادة أرسطو في الاستعمال والاستبدال والنقل
بين أشكال القضايا، أو تبعية الشراح بعضهم لبعض، والنقل عن بعضهم البعض، كما نقلوا
عن الإسكندر. وينتهي ابن رشد إلى كشف الحقيقة، حقيقة الموضوع كما رآه أرسطو، وحقيقة
قوله المُطابق لرؤيته، وخطأ تأويل الشراح لقوله؛ لأنهم لم يروا الموضوع، واعتمدوا
على شرح القول دون رؤية الشيء على الحجج النقلية دون العقلية، والنقل دون العقل ظن؛
لأنه يعتمد على اللغة ومنطقها، في حين أن البرهان نظرٌ في الأشياء. ويُحيل ابن رشد
الجزء إلى الكل، والقياس إلى البرهان؛ فلا يُفهَم الجزء إلا في إطار الكل كما هو
الحال في النص والسياق.
٧٨
ومع ذلك لا يبرِّئ ابن رشد أرسطو على طول الخط؛ إذ يكون أحيانًا هو المسئول عما
وقع فيه الشراح من خلط وسوء تأويل؛ فقد كان عليه أن يبيِّن جهة من جهات الوجود،
يذكر أحكامها في الإنتاج، وهي الوجودية خارج النفس، بل إن أرسطو يخلط أحيانًا ف
رؤيته للموضوع بين أنواع المطلقة كما خلط بين أنواع الممكنة. ومنهج ابن رشد في رفع
الخلط وسوء التأويل من الشراح منهجٌ معياري يقوم على معرفة الأمر في نفسه، أي رؤية
الشيء، ثم مطابقة قول أرسطو به ومخالفة أقوال الشراح له؛ لذلك كان مذهب أرسطو
باستمرار معروفًا بنفسه؛ أي بديهيًّا مُطابقًا للعقل عاريًا من الشكوك التي تلزم
الشراح وحدهم. عرفه أوائل الشراح أكثر مما عرفه أواخرهم؛ فالسلف خير من الخلف،
ومُطابق للواقع؛ أي التجربة والمشاهدة، جمعًا بين العقل والطبيعة. وهذه حكمةٌ أتاها
الله له؛ فالوحي والعقل والطبيعة نظامٌ واحد.
٧٩ معركة ابن رشد مع أرسطو، مشائين ومسلمين، مع الموروث الوافد والوافد
الموروث، فلا فرق بينهما في الشرح ووضعه في سياقه التاريخي. ويتبع منهج القاضي بين
المُتخاصمين؛ يُقارن بين أدلة كلٍّ من الطرفين ويتحقق منها، ثم يُصدِر الحكم القائم
على الحيثيات؛ فهو ليس فقط قاضيًا، قاضي قضاة قرطبة، ولكنه قاضٍ بين مُتخاصمين
فكريين في الفلسفة؛ بين الشراح من ناحية، وبين الشراح وأرسطو من ناحيةٍ أخرى، لا
ينحاز إلى فريق أو يميل لفريقٍ آخر. ويتحقق من الأدلة على مستوياتٍ ثلاثة؛ الأول:
تحديد معاني الألفاظ. والثاني: دقة المعاني. والثالث: الأمر نفسه. ويضع احتمال خطأ
الشراح حتى يصح أرسطو في النهاية.
ويبيِّن ابن رشد الغرض من المقال، وهو الفحص عن المقدمة الوجودية والمطلقة في حد
ذاتها أولًا، ثم معرفة أرسطو ثانيًا، ثم اختلاف المفسرين ثالثًا؛ فابن رشد هو
المؤلف الأول، وأرسطو هو المؤلف الثاني الذي تُطابق نتائجه نتائج المؤلف الأول، ثم
الشراح الذين أساءوا تأويل المؤلف الثاني؛ لأنهم بدءوا من القول وليس من الشيء؛ ومن
ثم يُراجع ابن رشد تأويلاتهم على الأمر نفسه أولًا، وعلى أقوال أرسطو ثانيًا.
والتفسير بالغرض جزء من المشروح كله عند ابن رشد، تحويل أرسطو إلى أغراض ومقاصد.
كما يبحث ابن رشد عن الواضح بنفسه، ويستدل من المقدمات على النتائج، ويُراجع ويتحقق
على مستويات التحقق الثلاث، اللفظ والمعنى والشيء، وابن رشد هو الذي يقول مع أرسطو،
وليس أرسطو.
ومن الموروث يتصدر الفارابي ثم ابن سينا، مع الإحالة إلى كتابين لابن سينا
«الشفاء» و«النجاة»، وكتاب واحد للفارابي هو البرهان.
٨٠ وهنا يصعب التفرقة بين الموروث والوافد؛ نظرًا لأن الموروث خاصةً
الفارابي راوٍ عن الوافد ومصنِّف لمذاهب الشراح اليونان؛ إذ يحكي أبو نصر أن مذاهب
الشراح في المقدمة الوجودية مُتعددةٌ مُتضاربة، مذهب أوديموس وثامسطيوس في مقابل
مذهب الإسكندر. الأول المقدمة المطلقة والوجودية هي التي حُذف منها جهة الإمكان
وجهة الاضطرار. والمطلقة عند ثاوفرسطس ليس لها إلا وجود في الذهن، فتكون قوتها في
ذوات الجهات إذا نُسبت إليها قوة المهملة في ذوات الأسوار أو نُسبت إليها. عند
ثاوفرسطس وأوديموس الوجودية عند أرسطو تعمُّ الضروري والممكن والموجود بالفعل، وعند
الإسكندر الموجودة بالفعل في زمانٍ معين فقط نظرًا للتمييز بين عالم الأذهان وعالم
الأعيان. وكالعادة يعرض ابن رشد حجج الشراح وموقف أرسطو على مستوى القول، ثم يعرض
الأمر كما هو في نفسه، الأشياء ذاتها. وثامسطيوس راوٍ في كتابه عن المفسرين شارحين
أرسطو، وله رأيٌ مُخالف لرأي الإسكندر. مذهب الإسكندر أن المقدمة الوجودية هي
المقدمة الممكنة إذا وُجدت بالفعل في الزمان الحاضر. يعسر وجودها كليةً، بل توجد
بالاتفاق في الزمان. وهو المذهب الذي مال الفارابي إليه. ليست الوجودية هي الأقلية
كما فهم الناس عن الإسكندر، بل ربما الأكثرية أو كلاهما معًا. ويرجع الخطأ إلى
احتمالين؛ الأول: أن الإسكندر لم يفهم معنى قول أرسطو، والذي يدركه ابن رشد جيدًا.
والثاني: أن الإسكندرانيين لم يفهموا ما فهم الإسكندر على وجه الصحة. ويرجِّح
ابن رشد الاحتمال الثاني. يبدو الفارابي هنا راويًا ومؤرخًا للفلسفة بعد الكِندي؛
مما يدل على ظهور الوعي التاريخي الفلسفي مبكرًا. ويميل الفارابي إلى مذهب الإسكندر
في المقدمة الوجودية بالفعل، أما المقدمة الممكنة في أقل الزمان والوجودية في أكثر
الزمان؛ أي يوجد محمولًا لكل موضوعها في أكثر الزمان، فإنها تُستعمل في العلوم.
ومنها المقدمات الضرورية وغير الضرورية.
٨١
وابن سينا له مذهبٌ مستقل في الموضوع يقوم على الخلط ابتداءً من تقسيمه الحمل
الضروري على أنحاءٍ خمسة طبقًا للمقدمات. خطؤه في متابعة الإسكندر دون الرجوع إلى
الأصل، وهو أرسطو، وهو منهجٌ إسلامي يلجأ إلى الأصل دون الفرع، كما هو الحال في
التفسير، وفي الأدلة الشرعية الأربعة. فخطأ المسلمين مزدوج بسبب فهم أرسطو من خلال
شراحه. وقد ناقض ابن سينا نفسه بين «الشفاء» و«النجاة». اعتبر في «الشفاء» أن
المطلقة هي التي محمولها موجود للموضوع ما دام المحمول موجودًا رأيٌ سخيف، ثم عاد
في «النجاة» وجعل المطلقة تُقال على الأربعة وعلى الثلاثة، وعلى هذا المعنى الذي
سخَّفه من قبل ونسبه إلى الإسكندر. ويدل ذلك على وعيٍ تاريخي عند ابن رشد، وفي نفس
الوقت على ضرورة اتساق الحكيم. وقد يكون التناقض ظاهريًّا نظرًا لتغيير السياق؛ فكل
تحليل ابنُ وقته متَّسق مع نفسه، وليس مع تحليل في موقفٍ سابق. هذا هو الخلاف بين
موقف «الشفاء» وموقف «النجاة» دون افتراض تغيير الرأي وتطوره بالضرورة. ليس
ابن سينا مؤرخًا، وإنما هو الذي بنى الحكمة وقسَّمها في ثلاث؛ لذلك كان صامتًا عن
مصادره. المهم البنية لا التاريخ.
٨٢
ويظهر الله كموضوع في قضيةٍ حملية يكون المحمول فيها وجود الموضوع دائمًا
وضروريًّا وبإطلاق، مثل: الله حق، والفلك متحرك أو أزلي. فالله موضوعٌ منطقي، كما
أن صفاته تُعزى إلى الطبيعة مثل الفلك أزلي. القضية الأولى طبيعياتٌ مقلوبة إلى
أعلى، والثانية إلهياتٌ مقلوبة إلى أسفل. ويبدأ المقال بالبسملة وطلب العون بلطف
الله، والصلاة والسلام على محمد وآله، وينتهي بالحمد لله رب العالمين، والصلاة على
محمد الكريم.
٨٣
(ز) و«في جهات النتائج» في المقاييس المركبة يتصدر أرسطو والحكيم، ثم الإسكندر،
ثم ثامسطيوس وثاوفرسطس، ثم أوديموس. ومن الفِرق يتصدر القدماء، ثم قدماء المشائين،
ثم المشاءون والمتأخرون.
٨٤ يعرض ابن رشد القضية ثم يُحاول التعرف على بنية المذاهب فيها. والقضية
هي مذهب أرسطو في جهات النتائج الحادثة عن المقاييس المركبة من مقدمتين مختلطتين
ذوات الجهات الثلاث، وهو المذهب الحق بالرغم من إمكانية نقده وتصحيح بعض دعاويه
واستدلالاته. يحب ابن رشد أرسطو، ولكن حبه للحق أعظم، وهو مذهبٌ يجعل نتائج
المقاييس المركبة في الشكل الأول من الضرورية والوجودية تابعة في الجهة لجهة
المقدمة الكبرى؛ فالإنتاج بحسب أشرف الجهتين. وخطأ الشراح أنهم جعلوه من جهةٍ أحسن
الجهتين، وكأن المنطق يخضع للقيمة، وأن أشكال القياس خاضع لسُلَّم القيم. ويستقي
ابن رشد مذهب أرسطو من مصادره الأولى، وليس من أقوال الشراح رجوعًا إلى الأصل. يرفض
تأويل الشراح ويعود إلى أصول أرسطو بلا تأويل. وهو موقفٌ ظاهري يرفض التأويل، مع أن
كل قراءة تأويلٌ، سواء من الشراح لأرسطو أو من ابن رشد للشراح لأرسطو، في حين أن
ابن رشد المتكلم الفيلسوف يقوم بالتأويل حتى تتفق النصوص مع اجتهادات الفلاسفة في
قِدم العالم وخلود النفس الكلية.
٨٥
ويحدِّد ابن رشد قصد أرسطو عن طريق تعميم الخصوص وتخصيص العموم كما يفعل الأصولي،
وهو صحة الإنتاج الذي يوجد فيه شرط المقول على الكل. ويُحيل إلى مقاله الآخر في
الموضوع. وقد صرَّح أرسطو نفسه بهذا القصد وهذا الشرط. غرض ابن رشد بيان أن مذهب
أرسطو هو الحق، وهو مذهبه في جهات النتائج الحادثة عن المقاييس المركبة من حقيقتين
مختلطتين من المقدمات ذوات الجهات الثلاث، لا ما توهَّم ثاوفرسطس وثامسطيوس وكثير
من قدماء المشَّائين طبقًا لظاهر قول أرسطو، لا على ما أوَّله الإسكندر أو
أبو النصر تابعًا له. يحدِّد ابن رشد الغرض من المقال، وهو إنقاذ مذهب أرسطو من سوء
التأويل عائدًا إلى قول أرسطو نفسه طبقًا لظاهر قوله. ويبدو ظاهريَّ النزعة ضد
التأويل إن كان إخراجًا للقول عن معناه الصحيح؛ وبالتالي فإن صحة مذهب ابن رشد ليست
قطعيةً مبدئية، بل تعتمد على فهم ظاهر المقول وبناءً على الأمر نفسه؛ أي تجريبيًّا.
ويبحث عن الموضوع، ويستدل من المقدمات على النتائج، ويصف مسار فكر أرسطو مُوازيًا
لمسار فكره. يقيِّم السابقين ويصحِّح تأويلاتهم، ويبحث عن الصواب والخطأ، ويحكم بعد
المداولة، مثل التحقق من الخصومة بين الفريقين. وابن رشد هو الذي يقول وليس أرسطو.
يشرح نص الشراح شارحين نص أرسطو على مستوى القول، وفي نفس الوقت يرى الموضوع نفسه
ويُراجع عليه القولين السابقين على النحو الآتي:
والحكيم والحقيقة شيءٌ واحد، أقواله حقيقة ونموذج ومعيار يُقاس عليه أقوال
الشراح؛ فالحكيم هو الحكم إذا اختلف الشراح فيما بينهم؛ ففي المقاييس المختلطة من
الوجودي والضروري تتبع النتيجة المقدمة الكبرى؛ لأنها المقول على الكل. وإذا كانت
المقدمات غير تامة فالنتائج كذلك. قد يتفق أقوال الشراح مع ظاهر كلام الحكيم أو
تخرج عليه بدافع تأويل بعيد. والتأويل منهجٌ موروث لدراسة علاقة أرسطو بالشراح،
الأصل بالفرع، النص بالشرح. يعود ابن رشد إلى الأصل وإلى النص للحكيم على الفرع
وعلى الشرح. كلام الحكيم هو الظاهر، وأقوال الشراح هو المئول، وكلاهما مقولتان
أصوليتان. وأحيانًا يئول ابن رشد كلام الحكيم حتى يتفق مع شرحه الصحيح. ويتصور
ابن رشد اعتراض الخصم من أجل معرفة سبب الشبهة والدفاع عن فهم أرسطو الصحيح. يدخل
في مسار فكر أرسطو ليتبع منطق استدلالاته؛ ومن ثَم يكون ابن رشد هو الحكم بين
المُتخاصمين في أرسطو. ينقد الفارابي لسوء فهم أرسطو، وينقد أرسطو لسوء فهمه
للحقيقة والواقع؛ أي الأمر في نفسه. ابن رشد هو المُراجع والمحقِّق والدارس والعالم.
٨٦
ويذكر ابن رشد ثامسطيوس وثاوفرسطس معًا؛ الأول من مُتقدمي المشائين، والآخر من
مُتأخريهم. ويقرن ثاوفرسطس بأوديموس أيضًا من قدماء المشائين، والغرض الدفاع عن
مذهب أرسطو في جهات النتائج ضد توهُّم ثامسطيوس وثاوفرسطس؛ فلثامسطيوس توهمات
بالنسبة لموضوع جهات النتائج عند أرسطو. وخطأ أرسطو جعل النتائج تابعة للمقدمات في
المقاييس المختلطة من الوجودية والضرورية، فظنُّ الشراح في مُقابل يقين أرسطو
وابن رشد. ويصحُّ فهم أرسطو إذا ما أُخذ على ظاهره دون تأويل كما يفعل
ابن رشد.
وكما أخطأ الإسكندر في التأويل وتبعه الفارابي في نفس الخطأ، يؤيد ابن رشد
الإسكندر إذا فهم أرسطو على ظاهره؛ لأن كلام أرسطو لا يحتاج إلى تأويل، وينقده إذا
ما أوَّل أرسطو؛ لذلك أخطأ الإسكندر عندما فهم الوجودية عند أرسطو أنها الموجودة
بالفعل. وقد أدرك الفارابي أن تأويل الإسكندر غير صحيح؛ فالشارح الإسلامي مرةً يتبع
الشارح اليوناني ومرةً يستقل عنه طبقًا لنص أرسطو أو طبقًا للأمر نفسه. الشرط عند
الإسكندر مادي، لا فرق بين وجودية وضرورية. شرط القول على الكل أن يكون الحد الأوسط
موجودًا بالفعل في المادة الوجودية والضرورية، لا في جميع المواد؛ وبالتالي يتبدَّد
شك الفارابي عليه.
ولا يخطِّئ ابن رشد إلا الشراح المتقدمين على الإسكندر، ولا يُصدِر حكمًا واحدًا
على الشارح في كل الحالات، بل طبقًا لكل حالة؛ فالشارح مرةً يُحسِن الفهم ومرةً
يُسيئوه، مرةً يأخذ الكلام على ظاهره ومرةً يئوله. مسار الشرح إذن من سيئ إلى أسوأ،
من تأويلٍ قريب من النص إلى تأويلٍ بعيد عنه، من الأشرف إلى الأخس، توحيدًا بين
المنطق والقيمة. ويُحاول ابن رشد العودة إلى الأصل في مسارٍ مُعاكس من التاريخ إلى
النص، ومن الشرح إلى الأصل، وكأنه أصولي بمعنيين، العودة إلى الأصول أي النص، وكما
هو الحال في التيار الأصولي، والعودة إلى الأصول أي الأول في الزمان، كما هو الحال
في التيار السلفي. والقدماء لفظٌ عام يُوحي بالبعد التاريخي للفكر؛ فقد توهَّم
القدماء وشكُّوا في كيفية جعل أرسطو النتيجة تابعة لجهة إحدى المقدمتين، وعدم
التفرقة بين المقدمة الكلية والمقول على الكل، وكأن ابن رشد يفصل بين مرحلتين
تاريخيتين؛ ما قبل القدماء وما بعد المُحدَثين.
٨٧
ومن الموروث يتصدر الفارابي الشارح الأول لأرسطو قبل الإسكندر.
٨٨ ولا توجد إحالة إلى مصادر إلا إلى شرح القياس. وقد تأوَّل الفارابي
أرسطو أيضًا كما أوَّله ثاوفرسطس من قدماء المشائين، والإسكندر وثامسطيوس من
مُحدَثيهم، خروجًا على مذهب أرسطو. لقد تابع الفارابي الإسكندر في تأويله لأرسطو في
معنى الوجودية وجعله الموجودة بالفعل. والفارابي راوٍ ومؤرخ للشراح خاصةً الإسكندر.
ومع ذلك خالفه في تأويل معنى المقول على الكل عند أرسطو، كما أنه حاد عن صحة بعض
تأويلاته. شرط الفارابي في جميع المواد إنما يصدق في مادةٍ واحدة هي الضرورية
والوجودية، وهو ما قصده الإسكندر بوجود الحد الأوسط بين الكبرى والصغرى؛ ومن ثَم لا
يصحُّ شك الفارابي على الإسكندر. يقوم ابن رشد هنا بدور القاضي الذي يحكم أحيانًا
لصالح الفارابي ضد الإسكندر، وأحيانًا أخرى لصالح الإسكندر ضد الفارابي. ويبيِّن
ابن رشد شرط المقول على الكل الذي اختلف فيه المفسرون مُراجعًا التاريخ وعائدًا به
إلى أصوله الأولى عند أرسطو. وبالرغم من رفض الفارابي مذهب الإسكندر في المقول على
الكل إلا أن ابن رشد يرفض رفض الفارابي استئنافًا لعملية التطهير لنص أرسطو؛ إذ
يُسيء الفارابي أيضًا تأويل أرسطو، وعذره رغبته تصحيح أرسطو بعد أن تحقَّق أن أمر
المقول على الكل غير صحيح؛ لأنه كان سبب استبعاد بعض المقاييس غير التامة. ويستأنف
ابن رشد تبرير الفارابي لأرسطو مصححًا فهمه بأن المقول على الكل عنده بالمعنى العام.
٨٩
ويبدو موقف أرسطو مُتفقًا مع الفطرة الإسلامية؛ أي الفكر الطبيعي الذي يجعل
الطبيعة قيمة. ويبدأ بالبسملة والصلاة على محمد وآله وصحبه، وينتهي بالدعوة إلى
الله بالتوفيق للصواب سبحانه لا إله إلا هو وحده. وتختلف الدعوات والابتهالات
والمقدمات الإيمانية بحسب الأمزجة والعادات. ويتم تحديد مكان النسخ وزمانه، إشبيليا
والدعوة لها بأن يُجيرها الله؛ مما يُثير الأشجان والأوجاع ثمانية وعشرين عامًا قبل
رحيل ابن رشد؛ مما يدل على امتداد فترة التأليف على فترات حياته كلها.
(ﺣ) وفي «القياس الحملي والشرطي، ونقد القياس الاقتراني عند ابن سينا»، يتصدر
أرسطو والحكيم، ثم ثامسطيوس. ويُحال إلى القياس وأنالوطيقا الأول، ثم إلى الجدل.
ومن الفِرق يُحال إلى المفسرين وحدهم.
٩٠ ويؤلِّف ابن رشد في موضوعات أرسطو، حتى ولو لم يختلف عليها الشراح، من
أجل تدعيمها وعرضها وفهمها وتنظيرها وبيان معقوليتها، مثل استحالة طلب مجهول أول
بقياس شرطي منفصل أو متصل؛ ولهذا لم يُثبته أرسطو في كتاب القياس مُحيلًا الجزء إلى
الكل. يبدأ ابن رشد بالفاعل «أرسطو» ثم بالفعل «يرى»، بالمؤلف الأول، أرسطو، وليس
بالمؤلف الثاني، ابن رشد نفسه. عيبها أنها لا تتكون من ثلاثة حدود؛ لأنها ليست
مقاييس حملية؛ لذلك لا تدخل تحت حد القياس المطلق، بل في كتاب الجدل. لا تُسمى
قياسًا إلا باشتراك الاسم، ولا يُطلب منها مجهول بالرغم من استعمال أرسطو في كتبه
مقدمات جدلية بصيغ شرطية؛ فكل قياس إما حملي وإما شرطي وإما مركَّب منهما، وهو قياس
الخلف. والصيغ الحملية هي الصيغ التقريرية الوصفية، في حين أن الصيغ الشرطية هي
الصيغ الاحتمالية. وقد قدَّم أرسطو ذلك بناءً على تحليله الأمر نفسه، أي الأشياء
ذاتها، وليس بناءً على رأي خاص أو وجهة نظر شخصية.
٩١ ويبحث ابن رشد عن الوضوح، ويستدل من المقدمات على النتائج، ويرفض
الهذيان. وابن رشد يقول، وليس أرسطو وحده.
٩٢ ويستغرب من تبعية الشراح للحكيم أحيانًا دون التشكيك عليه حتى يُثير
الفكر، ويبرز الخلاف، ويحكم بين المُتخاصمين؛ فإذا أجمع المفسرون على شيء واضطربوا
في شيءٍ آخر، فالإجماع حجة ودليلٌ شرعي.
ومن الموروث يتصدى الفارابي ثم ابن سينا. ويُحال إلى التحليل والبرهان للفارابي،
وإلى المقدمات لابن سينا. ومن الأسماء يتصدر النبي ومحمد، ثم مسيلمة. ومن التعبيرات
الدينية «يوحى إليه»؛ مما يدل على أن الموروث ليس الفلسفي وحده، بل أيضًا الديني العام.
٩٣ وقد شكَّ الفارابي على أرسطو في القياس المطلق شاملًا الحملي والشرطي
معًا، وشارَكه ابن سينا في هذا الشك؛ إذ إن ابن سينا يُخالفه أحيانًا ويتفق معه
أحيانًا أخرى. وإذا كانت نِسب أجزاء البراهين الشرطية مثل نِسب ما أُلف في الحملية
إلا أن صيغة الشرطي تقتضي بذاتها الشك في المستثنى؛ مما يتطلب ألا يكون قياس شرطي
ما كان المستثنى فيه بيِّنًا بنفسه. وبالرغم من موافقة ابن سينا على ذلك إلا أنه لا
يرضى ببرهانه وتشكك فيه. ويحكم ابن رشد بينهما، ويرجِّح كفة الفارابي، ويُعطي
حيثيات الحكم. ويستشهد ابن رشد بنصوص أبي نصر وليس بنصوص أرسطو إلا من أجل التوفيق،
ويؤيد الفارابي ويُهاجم ابن سينا كرجل وشخصية، وليس فقط كأفكار.
٩٤
ويتفق ابن سينا مع الفارابي في حد القياس المطلق الذي يشمل القياسين، ويتمايز
ابن رشد عنهما بالرغم من أنه أقرب إلى موافقة الفارابي أولًا ثم مخالفته ثانيًا، في
مقابل هذيان ابن سينا في «الشفاء». ويرفض ابن رشد اقتراح ابن سينا بوجود قياس
اقتراني بالإضافة إلى الحملي والشرطي، وهو مأخوذ من النصارى المتفلسفين وليس
إبداعًا، خاصةً وأن ابن سينا صامت عن مصادره؛ فنظرًا لرغبة ابن سينا في التجميع ضم
المتفلسفين النصارى ظانًّا أنه رد على أرسطو القياس الاقتراني، كما يعترف ابن سينا
نفسه في «الشفاء»، وهو تناقص؛ لأنه يرى أن كل قياس حملي يمكن أن يتحول إلى قياس
شرطي، وأن كل قياس شرطي يمكن أن يتحول إلى قياس حملي، ومع ذلك هما قياسان مختلفان.
وأقيسة ابن سينا خارجة عن الطبع لا يمكن للعقل استعمالها، ولا تعبِّر عن الفكر
الإنساني بالطبع كاستعمال الحملية؛ فكل أنواع الشرطيات المتصلة تعتمد على مقدمات
خارج الطبع؛ لذلك يُكثر منها ويملأ الشفاء بها، ويعترف أن صِدقها بالاتفاق مع أن ما
بالاتفاق غير مُتناهٍ لا تنظر فيه أية صناعة؛ لأن مقدماته مُتعاندة. وصحيحٌ يُثير
قياس الشفاء الدهشة من هذه الأشكال المتبعة، مصادرها وطرق إبداعها وأوجه استعمالها.
ويُحيل ابن رشد إلى كتاب ابن سينا «المقدمات»، ويعني به بارمنياس. ويستعمل بعض
الأمثلة المحلية من الموروث قبل فعل «يوحى إليه»، وأسماء النبي محمد، ومسيلمة، في
أشكال القضايا الحملية تقريبًا للأفهام، بدلًا من هوميروس والأمثال اليونانية.
ويبدأ بالبسملة، ويطلب العون من الرب، والصلاة على محمد وآله، والحمد لله رب
العالمين.
(ط) وفي «كتاب الحد» يتصدر الإسكندر ثم أرسطو؛ أي الشارح على المشروح؛ مما يدل
على أهمية تخليص أرسطو من براثن الشراح، ثم الإسكندرانيون ومتأخرو الإسكندرانيين
إحساسًا بالتاريخ، وأن السلف خير من الخلف، والأوائل أفضل من الأواخر، حيث أرسطو ما
زال حيًّا في القلوب مثل النبوة قبل أن يُصيبها التحريف والتغيير في الزمان، وقبل
أن تتحول الخلافة إلى مُلكٍ عضود.
٩٥ يبدأ أرسطو بالموضوع الأرسطي، تعريف الحد، ثم يبيِّن تشويه الشراح
اليونان والمسلمين له. وبعد المقارنة بين أقوال أرسطو وأقوال الشراح يبرِّئ أرسطو
ويتَّهم الشراح. والصلة بين النص والشرح هي الصلة بين الأصل والفرع، بين الاستقامة
والانحراف. ويستمر الانحراف كلما تقدَّم الزمان؛ فمُتقدمو الشراح أفضل من متأخريهم
نظرًا لقربهم من النص، ومتأخرو الشراح أسوأ من متقدميهم نظرًا لبعدهم عن النص. مسار
التاريخ إذن من الكمال إلى النقص، ومن اليقين إلى الظن، ومن الوحدة إلى التعدد.
يقوم ابن رشد بتصحيح المسار والعودة إلى الأصل والاستقامة واليقين والوحدة الأولى
في النص الأرسطي.
يرجع ابن رشد التاريخ من المتأخر إلى المتقدم عودًا إلى الأصول. يُعيد متأخري
الإسكندرانيين إلى متقدميهم، ومتقدمي الإسكندرانيين إلى الإسكندر، والإسكندر إلى
أرسطو. ويُظهر البريء أمام المتهمين الشراح على اختلاف أجيالهم. يظهر الإسكندرانيون
أتباع الإسكندر، منهم المتقدمون والمتأخرون، إحساسًا من ابن رشد بالزمان عكسيًّا؛
فالمتقدم خير من المتأخر، والسلف خير من الخلف. وبالرغم من اتهام الفارابي
الإسكندرانيين بتحريف كلام الإسكندر إلا أنه يشارك في نفس التصور، أن الخلف انحراف
عن السلف. لا خلاف في ذلك بين الشراح المسلمين والشراح اليونان. ولو أن الشراح
المسلمين اتبعوا المتقدمين مثل الإسكندر أكثر من اتباعهم المتأخرين، فالسلف خير من
الخلف، والأوائل أفضل من الأواخر. يُدافع أبو نصر عن الإسكندر ضد الإسكندرانيين،
وجعل ما طلبه الإسكندر شرطًا يُذهب أي شك في المقدمة. ويرفض ابن رشد زيادة الإسكندر
العُرضة للنقد؛ لأن رسم أرسطوطاليس ليس ناقصًا كما رآه الإسكندر، بل كامل لا يحتاج
إلى تمثيل؛ ومن ثَم يكون حد أرسطو للحد حدًّا تامًّا لا ينقصه تمثيل كما توهَّم
الإسكندر وأبو نصر، في حين أن زيادة الإسكندر فيها زيادة ونقص. يُدافع ابن رشد عن
الرسم التام عند أرسطو، وأنه ليس في حاجة إلى تمثيل كما يقول الشراح؛ فالمقدمة، وهو
الحد، تنحل بالذات إلى الموضوع ومحمول دون حاجة إلى تمثيل. الموضوع هو أن اقتران
الموضوع بالمحمول، وهو شرط المقدمة، ليس حدًّا عند الإسكندر.
ويتصدر الفارابي بمفرده. كما يظهر كلام العرب لإبراز الموروث اللغوي. يُوافق
الفارابي الإسكندر في سوء فهمه لأرسطو، ويُتابع تحريف الإسكندرانيين، وكلاهما
مُتوهمان. أما ابن رشد فإنه يعود إلى الأصل؛ فالأصل أصدق من الفرع، وهو مِقياس
أصولي لحل مشكلة التعارض والتراجيح؛ فحد أرسطو هو الحد التام لا ينقصه شيء، لا
زيادة ولا تمثيل، كما توهَّم الإسكندر وأبو نصر.
٩٦
ونص أرسطو قصير، وهو جوهر المسألة. يقوم ابن رشد بنقد الوافد والموروث عند الشراح
المسلمين والموروث الوافد عند النصارى، ويُحاول فض النزاع بين المتخاصمين كقاضٍ
عالم. لم يُخطئ أرسطو الا نادرًا، ويعود خطؤه إلى الشراح. وبالرغم من أنه يقول
أحيانًا «زعم» أرسطو، فإنه لا يعني تخطئته، بل تطهيره من سوء التأويل في الحضارتين
اليونانية والإسلامية، كما طهَّر الإسلام العقائد المسيحية من الخلافات العقائدية،
والعودة إلى الأصول الأولى، والوضوح العقلي، والأمر نفسه، إعادة دراسة الشراح نوع
من عذر أرسطو، وإكمال الناقص أو الجمع بينه وبين أفلاطون كما فعل الفارابي، أو عذره
بسبب اللغة اليونانية ونقلها إلى اللغة العربية.
ويُحيل ابن رشد إلى كلام العرب حتى في مقالات المنطق، ولو بدرجةٍ أقل من شروحه
وتلخيصاته وجوامعه؛ لأنها أقرب إلى منطق العرب منها إلى منطق اليونان. مثال ذلك
غياب الرابطة في القضية الحملية إلا الضمير، وهو الميدان الذي تألَّق فيه الفارابي.
٩٧ وينتهي المقال بالدعوة إلى الله بالتوفيق للصواب، والصلاة والسلام على
محمد وآله وصحبه.
(ي) وفي «كليات الجواهر وكليات الأعراض» يتصدر أرسطو وحده، ولا يظهر فعل القول
إلا مرةً واحدة في زمن المضارع تعبيرًا عن حقيقة، وليس رواية لتاريخ قبل أن يرصد
ابن رشد تأويلات الآخرين له، إبرازًا للموضوع، جسم الجريمة قبل اتهام المئولين
والدفاع عن أرسطو.
٩٨ وكلام أرسطو أوضح وأبسط وأسهل من شروح مُئوليه. يستعمل ابن رشد برهان
الخلف في تفنيد التأويلات الخاطئة لأرسطو من أصل إثبات المُحال الذي ينتج عنها،
وينتهي إلى بُعدِ غَور أرسطو وفطرته الفائقة وقدرته على الوصول إلى الحق. والعمق
والفطرة مقياسان إسلاميان، العمق والوضوح، الباطن والظاهر. يهدف ابن رشد إلى معرفة
الشيء وتأويلاته القديمة عند اليونان والجديدة عند المسلمين، فيقوم بتصحيحها
والعودة إلى أصل أرسطو.
والحقيقة أن الفارابي وابن سينا كانا يقومان بعملياتٍ حضارية، النقل والاستيعاب،
وابن رشد الفقيه يريد العودة إلى النص الأصلي في الفلسفة، مثل ابن حزم وابن تيمية
في الكلام. وهذا انتصار لأرسطو لاتفاق قوله مع قول ابن رشد مع الأمر نفسه الذي تم
اكتشافه في حضارتين مختلفتين وعبَّر عنه فيلسوفان.
ومن الموروث يتصدر الفارابي ثم ابن سينا؛ فالشارح أكبر من المشروح؛ ومن ثَم يكون
هذا المقال أقرب إلى تنظير الموروث قبل تمثل الوافد بفارقٍ ضئيل. يئول الفارابي
الكليات ويجعلها ضربين كمذهب ثانٍ في مقابل المذهب الأول، والمذهب الثالث هو تأويل
ابن سينا. ويجمع ابن رشد بين التأويلات الثلاثة، القديم والفارابي وابن سينا، ليفصل
بينهما كما يفعل القاضي بين المتخاصمين، حتى لو اضطرَّه ذلك إلى الدفاع عن ابن سينا
بعد اكتشافه خلل الفارابي. وتأويل ابن سينا هو اعتبار المقول على الكل محمولًا لا
على كثيرين؛ وبالتالي يكون مفهوم القول على ضربين، الأول يشير إلى الموضوعات ذاتها،
والثاني ليس في موضوع. كما يئول ابن رشد أرسطو عن طريق الخلف. لو أراد الشراح ما
قاله أرسطو لذهب مذهب أبي نصر مُفسرًا الأصل باستحالة الفرع. ومناهج هذه القراءات
المتداخلة والمتراكمة أهم من موضوعاتها؛ فالأزمة والحل في المنهج أكثر منها في
الموضوع. وكما يبدأ المقال بالبسملة، وطلب العون من الله، والصلاة والسلام على محمد
وآله، ينتهي بالدعوة إلى الله بالتوفيق.
(ك) وفي «المقاييس الممكنة» يذكر الحكيم وأرسطو ثم ثامسطيوس. فالرمز له الأولوية
على الشخص، والشارح يُعادل المشروح. ويُحال إلى كتاب السفسطة لأرسطو.
٩٩ وابن رشد كالعادة ضد ثامسطيوس ومع أرسطو؛ فلما احتجَّ ثامسطيوس على
أرسطو مُسيئًا تأويله وعدم فهم موضعه، أظهر ابن رشد حجج أرسطو ضد شراحه اليونان
والمسلمين؛ فبيان أرسطو كليٌّ توهَّمه ثامسطيوس جزئيًّا، وكذلك شك الفارابي، ودون
أن يحل شكه في قول أرسطو بأنه لا يكون قياس من ممكنتين في الشكل الثاني. ويتم
الانتقال من الشخص إلى اللقب، ومن أرسطو إلى الحكيم. يُخالف ثامسطيوس الحكيم في
المقاييس الممكنة الصرفة في موضعين؛ الأول أن القياس الذي يتكون من مقدمتين سالبة
وموجبة لا ينتج ممكنة سالبة ولا موجبة في رأي الحكيم، وللحكيم حجة في الإنتاج أو
عدمه لهذا الشكل أو ذلك في هذه المادة أو تلك، مرةً سالبة ضرورية، ومرةً موجبة
ضرورية. الحكيم هنا رمز للحقيقة، للأشياء ذاتها، والبرهان العقل. والحكيم يقظ
ومنتبِّه وذكي، لا يرد عليه إلا من كان في منزلته من اليقظة والانتباه والذكاء، وكل
رد عليه ممن هو أقل منه يكشف صحة أقوال الحكيم وخطأ أقوال نقاده؛ لأن أقوال الحكيم
تتفق مع مجرى الطبع والعادة، بالإضافة إلى ما تقتضيه طبيعة البرهان. يعرض ابن رشد
الموضوع الخلافي، ويتحقق من صدق الخصمين، ثم الانتصار لأرسطو دون الشراح، للأصل دون
الفرع، حتى ولو كانت موضوعات الخصومة نظرية وليست عملية كما هو الحال في الفقه.
وكثيرًا ما تنتهي دراسة ابن رشد لننفس الموضوع الخلافي إلى نفس النتائج التي توصَّل
إليها الحكيم نظرًا لاتفاق الوحي والعقل والطبيعة. وقد خالف ثامسطيوس الحكيم في
توهُّمه أن البيان الذي استعمله أرسطو جزئيًّا وليس كليًّا، وأرسطو بريء من هذا
الاتهام. وثامسطيوس يُعانده باحتجاجات لا تُقنع. كان لدى القدماء صناعات غير
برهانية مثل صناعة النحر والذبائح. يمثِّل القدماء مرحلة التفكير غير البرهاني، ولا
فرق بين قدماء المشائين ومتأخريهم. ويُحيل ابن رشد إلى السفسطة والخطابة دون تحديد
هل يشيران إلى الكتاب أم إلى العلمين.
وفي الموروث يتصدر أبو النصر؛ فهو وحده الشارح وليس ابن سينا، ويُحال إلى شرح
القياس له أيضًا، ويُعادل الشارح الإسلامي أبو النصر الشارح اليوناني، بل والمشروح نفسه.
١٠٠ وقد أجاب أبو نصر على شك ثامسطيوس في المقاييس الممكنة في الشكلين
الأول والثاني، ولكنه لم يُجِب على شكٍّ آخر أجاب عنه ابن رشد الذي يستمر في عملية
التطهير التي بدأها الفارابي. وقد أجاب الفارابي بأن المقدمات الممكنة على التساوي
يمكن استعمالها في الخطابة، في حين أنه في الجدل قد يسأل سائل عن مقدمات سالبة
أقلية، فإن سلَّم بها الخصم تتغلب عليه إذا ما تحوَّلت إلى الأكثرية، وهي شبيهة
بقياس الأولى عند الأصوليين. كما يبحث ابن رشد عن السبب كأصولي يبحث عن العلل، ويعد
حجج العناد، ويبيِّن أخطاء هذا الرجل وذاك، يونانيًّا مثل ثامسطيوس، أو إسلاميًّا
مثل ابن سينا، وما وقعا فيه من تخليط وتشويش. وابن رشد هو الذي يقول، وليس أرسطو
وحده. ويظهر العلم الإلهي كعامل محدَّد وللعلم الطبيعي، فإذا كان الممكن الأكثري
معلومًا بنفسه بفعل الأكثرية في مقدماته، فإن الممكن الأقلي يمكن أيضًا أن يكون
معلومًا بنفسه اعتمادًا على مقدمات أقلية، أو استنادًا إلى معلوم بنفسه مثل العلم
الإلهي الذي يعتمد على الأقل من الآيات الطبيعية لإتيان الأكثر وهو الله؛ فالممكن
الأقلي يؤدي إلى الضروري الأكثري. وهنا يبدو أيضًا أن المنطق إلهياتٌ، منطق عقلي في
الخارج، كما أن الإلهيات منطقٌ عقلي في الداخل، كما أن الطبيعيات إلهياتٌ مقلوبة
إلى أعلى، والإلهيات طبيعياتٌ مقلوبة إلى أسفل. هناك علم واحد، نسق واحد يظهر في
الوحي والعقل والطبيعة، في المنطق والطبيعيات والإلهيات.
(ل) وفي «القول محمولات البراهين» يتصدر أرسطو والحكيم تحولًا من الشخص إلى
الرمز، ويغيب الشراح اليونان الثلاث. ويُحال إلى البرهان لأرسطو.
١٠١ يُعيد ابن رشد عرض منطق أرسطو بمصطلحات الأصول؛ فقد أعطى أرسطو في أول
كتاب البرهان السبارات التي تسير بها المحمولات، والسبر مصطلحٌ أصولي؛ أي التعرف
على مواطن التعليل في منهج السبر والتقسيم. ويشرح ابن رشد أقوال الحكيم للشراح
بتحليل الأمر في نفسه ورؤية الأشياء ذاتها إذا ما سأله أحد على طريقة أحكام السؤال
والجواب، والمُفتي والمُستفتي في علم الأصول مثل السؤال حول اشتراط الحكيم في
البراهين أن تكون محمولاتها أولية، أو قوله إن المحمولات في أكثر الأمر أعم من
الموضوعات. ويستدل ابن رشد من المقدمات على النتائج، ويبحث عن العلل والأسباب
كأصولي يبحث عن العلل، وهو ما يربط النتائج بالمقدمات كالحدود الوسطى في الأقيسة.
وابن رشد هو الذي يقول أيضًا، وليس أرسطو وحده. كما يُحيل إلى كتبه، مثل البرهان
والمسائل المنطقية؛ مما يدل على وحدة الرؤية ودخول الأجزاء في كلٍّ واحد.
ومن الموروث يتصدر أبو النصر وحده مُعادلًا لأرسطو.
١٠٢ ظنَّ أبو نصر أن الجوهر يتبرهن لأن الأجناس تتبرهن بالفصول مع أن
الجوهر لا يتبرهن، ويظنُّ أنه يكفي في البراهين أن يكون الحد الأوسط سبب الطرفين أو
لأحدهما، وهو غير صحيح؛ لأن السبب يقتضي وجود الشيء. يبدو الفارابي منطقيًّا يريد
البرهنة على كل شيء، وابن رشد عالمًا طبيعيًّا يبحث عن علل الأشياء. ويبدأ الكتاب
كالعادة بالبسملة، وطلب العون من الرب، والصلاة والسلام على محمد وآله، وينتهي
بالحمدلة والصلاة على محمد.
(م) وفي «من كتاب العبارة» يتصدر الحكيم النموذج لا الشخص، ثم أوميروش، ويغيب
الشراح اليونان. ومن الفِرق يأتي المفسرون ثم المشاءون. ومن الكتب يُحال إلى
سوفسطيقي والسفسطة لأرسطو.
١٠٣ والحكيم والحقيقة شيءٌ واحد. إذا اجتمعت المحمولات المفردة أو تفرَّقت
فإنها تصدُق مجموعةً أو مفردة، والمحمولات المجموعة مركَّبة، وهي صنفان؛ المحمول
بالعرض والمحمول بالذات؛ فالحقيقة مستقلة عن أرسطو. الحقيقة هي الحكمة بعد أن يتحول
الشخص إلى الرمز، وأرسطو إلى الحكيم، والرمز إلى الحقيقة، والحكيم إلى الحكمة. وفي
كل الحالات ابن رشد هو الذي يدرس ويستشهد بقول الحكيم. وأحيانًا يتفق الشراح فيما
بينهم على قول الحكيم، بينما يتأوَّل البعض مثل ابن سينا على معنًى آخر. وابن رشد
يعرض قصد الحكيم لإثبات انحراف الشراح عنه. وقد يكون إثبات كذب مفهوم من جهة
الاستعمال أو العادة، وليس من جهة الأمر في نفسه. وذلك لا يمنع من توجيه بعض الشكوك
إلى الحكيم وإلى الشراح من بعده، بشرط أن تُفهَم أقواله فهمًا صحيحًا دون تأويلها.
ويبحث ابن رشد عن الوضوح، ويستدل من المقدمات على النتائج، ويبدِّد الشكوك، ويكشف
الكذب والوهم والغلط. وابن رشد يقول أيضًا، وليس أرسطو وحده.
ومن الموروث يتصدر ابن سينا ثم أبو نصر. ويُحال إلى كتاب السفسطة للفارابي.
١٠٤ وابن سينا أكثر حضورًا من الفارابي؛ لأنه موضوع النقد. والمقال كله نقد
لابن سينا بالرغم من غموض العنوان؛ هل هو كتاب العبارة لأرسطو أم للفارابي أم
لابن سينا؟ والأرجح أنه لأرسطو؛ فالمقالات كلها في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث.
وقد شك ابن سينا على أرسطو وعلى جميع الشراح ووبَّخهم، واعتقد أنه إذا كان المفهوم
من اللفظ في الإفراد، وهو المفهوم بعينه في التركيب، كان المفهوم من الإفراد صادقًا
حقًّا، وذهب عليه أنه ليس بإفراد، بل هو تركيب بالقوة؛ لذلك تكذب بعض المقدمات
بالضرورة إذا أطلقت بطبيعة الإطلاق، لا من قِبل الوهم والعادة كما ظن ابن سينا.
يقتضي الحل والتركيب بذاته نقلة الفهم من الإطلاق إلى التقييد، ومن التقييد إلى
الإطلاق، ومن الوحدة إلى الكثرة، ومن الكثرة إلى الوحدة، وليس لأن المفهوم واحد أو
مُغاير كما اعتقد ابن سينا نقلة بالعرض. عيب ابن سينا هو حسن ظنه بنفسه، والثقة
الزائدة بها دون شك أو ارتياب؛ وبالتالي يستعمل تحليل الشخصية في النقد. والعيب كله
من المفسرين لأرسطو مثل ابن سينا نقلًا عن الفارابي من كتاب السفسطة. والحقيقة أن
الفارابي وابن سينا كانا يقومان بعمليات التمثل لدَرْء أخطاء الوافد، وابن رشد يقوم
بعمليةٍ أخرى بعد التمثل، وهي النقد التاريخي دفاعًا عن أرسطو ضد الشراح المسلمين.
ويقوم بدور القاضي بين المتخاصمين على تركة أرسطو. كان الشراح اليونان يمثِّلون
الموروث الوافد، بينما كان الشراح المسلمون يمثِّلون الوافد الموروث. ويشكُّ
ابن سينا شكًّا على المشائين يتوجه إلى أرسطو نفسه، وإلى من أتى بعده من المفسرين.
لم يكن ابن سينا مشائيًّا تابعًا، بل هو مشائي مُبدِع. ويدرك ابن رشد مدى اتصاله
وانفصاله عن المشائين. وقد أجمع المفسرون على مذهب الحكيم رواية عن ابن سينا وشرحًا
من الفارابي. ويستعمل ابن رشد بعض الأمثلة العربية للتوضيح، مثل: «زيد طبيب». ويبدأ
المقال بالبسملة، وطلب العون من الله، والصلاة والسلام على محمد وآله.
(ن) وفي «السابعة والثامنة من السماع الطبيعي» يتصدر أرسطو، ثم يحيى النحوي، ثم
أفلاطون، ثم أبقراط. فشارح أرسطو هو يحيى النحوي، وليس الإسكندر أو ثامسطيوس. وظهر
أفلاطون حتى تكتمل الصورة الأفلاطونية؛ فالشراح أحد أسباب الانحراف عن أرسطو،
وأيضًا علماء اليونان مثل أبقراط. ويُحال إلى السماء والعالم لأرسطو «مرةً واحدة»،
كما يُحيل ابن رشد إلى باقي أجزاء الكتاب إلى المقالتين الثانية والثالثة تفسيرًا
للجزء بالكل نظرًا لوحدة الموضوع ووحدة العمل.
١٠٥ ومن الموروث يُحال إلى الفارابي، ثم إلى كتابه «الموجودات المتغيرة»،
ثم إلى المتكلمين من أهل ملتنا، مع ذكر إشبيليا مكان التأليف.
١٠٦
والسؤال هو: لماذا كتب ابن رشد فقط مقالًا في السابعة والثامنة من السماع
الطبيعي؟ وما سبب الاختيار، الموضوع الدقيق أم الإشكال الخاص، كل مُتحرك له مُحرك،
وهو أساس البرهان على وجود الله في الفكر الديني ولتصحيح فهمه حتى يقوم الفكر
الديني الكلامي أو الفلسفي على أساس عقلي متين؟ يُثبت ابن رشد التمايز بين
المطلوبين في السابعة والثامنة دون تحديد المطلوب. والغرض من التمييز رفع الخلط،
وإحكام الاشتباه، وبيان المجمل، كما هو معروف في منطق الأصول.
يعرض ابن رشد مقدمات أرسطو، ويستنبط معه نتائجه، ويصف مقاصده، ويستأنف استدلالاته
لبيان صحة قول أرسطو، واتساق مقدماته مع نتائجه. كل شيء له محرك، والمحرك الأول لا
يتحرك. ولا يوجد «قال أرسطو»؛ لأن التأليف معالجة للموضوع نفسه وإعادة دراسته، سواء
اتفق أو اختلف مع أرسطو بعد أن أصبح غامضًا بفعل الشراح المسلمين، مثل أبي نصر،
والنصارى مثل يحيى النحوي، الذين أسرعوا بالتشبث بالموضوع من أجل الإسراع في تبرير
الخلق وتمرير وجود الله؛ فالمهم ليس أرسطو بل الدين، ليس الوسيلة بل الغاية،
والغاية تبرِّر الوسيلة. وتظهر أيضًا أفعال الشعور، مثل الفهم والبيان والفحص،
ومسار الفكر البداية والنهاية، ووضع المقدمات واستنباط النتائج، ومراجعة فهم
المفسرين ومقتضيات المنطق المعياري. ويكشف ابن رشد نقد البداية عن الغرض من قول
أرسطو إن كل متحرك له محرك في السابعة والثامنة ومقارنة القولين؛ فبالرغم من
التمايز بينهما إلا أنهما يشتركان في نفس الموضوع، فلا زيادة عند أرسطو ولا تكرار،
لا ترويد ولا تحصيل حاصل. كما يبحث ابن رشد عن الوضوح. وهو الذي يقول، وليس أرسطو
وحده. وينقد ابن رشد الشراح بأرسطو دفاعًا عن أرسطو، وشارحًا أرسطو بأرسطو مثل شرح
القرآن بالقرآن. ولا يُشير ابن رشد إلا إلى المفسرين مرةً واحدة لبيان عدم فهمهم
أمر الثقيل والخفيف وحركتهما من غيرهما.
وطريقة ابن رشد هو نفس طريقة أرسطو في فهم الحركة، لا طريقة الفارابي أو يحيى
النحوي؛ فقد فهم أبو النصر أن القوة على الحركة تنقصها بالزمان، ولا تتسلسل
المحركات بعضها عن بعض إلى ما لا نهاية، في حين أن ابن رشد يُثبِت أزلية الحركة كما
هو الحال عند أرسطو. وخطأ الفارابي أنه ظن أن أرسطو يحدِّد الحركة بالزمان. وكذلك
عارض يحيى النحوي أرسطو بحركة الأسطقسات من ذاتها في مقابل قول أرسطو بأزلية
الحركة؛ فالقوة التي تتقدم الحركة توجد في الجسم وليس خارجة عنه. وقد فهم يحيى
النحوي بطريقةٍ مخالفة لفهم ابن رشد لأرسطو، وتابعه أبو نصر، وهي أن القوة على
الحركة تتقدم الحركة بالزمان، وعارض أزلية الحركة عند أرسطو. وقد تعرَّض ابن رشد
ليحيى النحوي في الطبيعيات وليس في المنطقيات. يؤيد الفارابي أزلية الحركة، ولكنه
يُسيء تأويل أرسطو، ويُعارضها يحيى النحوي؛ فالشارح الإسلامي أكثر التزامًا بأرسطو
من الشارح النصراني، وأكثر قدرة على التمييز بين العقل والنقل، بين الوسيلة والغاية
باسم الوحي، في حين أن يحيى النحوي ضحَّى بالعقل في سبيل الإيمان، وبالوسيلة من أجل
الغاية. ويقوم ابن رشد بدور القاضي بين الاثنين، الفارابي الذي يُسيء تأويل أرسطو
لإثباته أزلية الحركة بارتباطها بالزمان، ويحيى النحوي الذي يُثبت نهايتها، ويعود
إلى أرسطو؛ أي إلى الموضوع ذاته. وأقوى شك ليحيى النحوي على أرسطو صاغه في قياس من
ثلاث مقدمات ونهايته على النحو الآتي:
كل جسم مُتناهٍ،
والسماء جسم،
وكيف يقبل السماء قوة غير مُتناهية؟
∴ إما أن السماء أزلي، وإما
أن القوة مُتناهية.
وفي القياس التقليدي من قياسين على النحو الآتي:
كل جسم مُتناهٍ، السماء مُتناهٍ،
السماء جسم، والمُتناهي لا يقبل قوة غيرمتناهية،
∴ السماء
مُتناهٍ. ∴ السماء لا يقبل
قوة غير متناهية وإلا كان أزليًّا.
ولم يصرِّح أرسطو بهذا الظهور، ولكن الشراح هم الذين جعلوا الواضح غامضًا. أرسطو
إذن بين يدَي الشراح اثنان: أرسطو الإشراقي الأفلاطوني الذي روَّج له يحيى النحوي
وأبو نصر والمتكلمون من أهل ملتنا، وأرسطو الطبيعي كما هو عليه وكما فهمه ابن رشد.
لذلك يميِّز ابن رشد بين تيَّارين في فهم أرسطو؛ الأول: التيار الإشراقي
الأفلاطوني، وهو تيار يحيى النحوي والفارابي. والثاني: التيار الطبيعي، وهو تيار
ابن رشد. ويفصل ابن رشد صراع الفارابي ضد يحيى النحوي، الأزلية ضد الحدوث، كأن
الفارابي المسلم أقرب إلى أرسطو الذي يقول بقِدم العالم من يحيى النحوي النصراني
الذي يقول بالحدوث إثباتًا للخلق. الفارابي أكثر التزامًا بالفلسفة منه بالدين
الشعبي، في حين أن يحيى النحوي أكثر دفاعًا عن الدين ضد الفلسفة. وكتاب «الموجودات
المتغيرة» للفارابي الذي يُحيل إليه ابن رشد مفقود.
ولا يُحيل ابن رشد إلى أصل الموروث في الكتاب والسنة أو إلى العقائد الكلامية إلا
أن القيمة تعقيل للعقيدة؛ إذ تدل ألفاظ الشرف في مقابل الخسة والكرم في مقابل
الوضاعة، كما تدل أفعال التفضيل، مثل «أكرم» و«أفضل» و«أشرف»، على هذا التعالي في
الشعور. القيمة تعقيل للعقيدة، والأخلاق أساس الدين. للقيمة وجود في الطبيعة،
والطبيعة قيمة تتَّجه نحو الأشرف.
وقد ظن أفلاطون أنه لا يمكن أن تكون حركة قبلها حركة لإثبات المحرك الأول، وهو
قولٌ صحيح إن وُضع بالذات، وكاذب إن وُضع بالعرَض. والخطأ أخذ ما بالعرض على أنه
بالذات؛ لأن الحركة الأزلية لا أول لها بالذات، وتعرض الشكوك إذا أُخذ بالعرض؛ لذلك
اتَّجه شراح أرسطو اتجاهين؛ الأول: التفسير الإشراقي عند أفلاطون ويحيى النحوي
والفارابي والمتكلمين من أهل ملتنا. والثاني: التفسير العقلي الطبيعي عند ابن رشد
وأرسطو على حقيقته. وبالرغم من أن موضوع الحركة موضوعٌ طبيعي إلا أن دلالته إلهية؛
مما يدل على أن العلمين الطبيعي والإلهي علمٌ واحد، مرةً إلى أسفل ومرةً إلى أعلى.
ويثبت ابن رشد ضرورة أن يكون المحرك الأول بسيطًا؛ لأن المركَّب يقبل التغير،
والإنسان يألم لأنه مركَّب، ولو كان بسيطًا لما تألَّم؛ ومن ثَم تثبت بساطة الله
بإثبات تركيب الإنسان؛ مما يدل على أن الإلهيات إنسانياتٌ مسقطة إلى أعلى، وأن
الإنسانيات إلهياتٌ مسقطة إلى أسفل. ويكشف تعبير «المتكلمون من أهل ملتنا» تبعيتهم
إلى أفلاطون في تصورهم للحركة، مثل يوحنا النحوي كتيارٍ مُضاد للتيار الأرسطي
الطبيعي. المتكلمون في مقابل الحكماء، واللاهوتيون في مقابل الطبائعيين، والدين في
مقابل العلم. يُثبت المتكلمون الحركة بإرادة، والمحرك بإرادة، حركة أولى ليس قبلها
حركة، لا في ذاته ولا في المتحرك، وهو أمرٌ مستحيل عند ابن رشد الذي يُدافع عن
أزلية الحركة؛ فالمتحرك من ذاته لا يتحرك إلا وتتقدمه حركةٌ أخرى، إما في جسمه وإما
في نفسه. وهذا هو الصراع بين نمطين من التفكير، الديني الكلامي الطولي الذي في حاجة
إلى محرك أول بذاته، والعلمي الدائري الذي يقول بقِدم الحركة. وما زال لفظ
«الأسطقسات» معرَّبًا. ويختلف تعريب يحيى النحوي، مرةً يحيى ومرة يوحنا. ويذكر
الناسخ مكان النسخ إشبيليا؛ مما يُثير أشجان النفس، يا زمان الوصل بالأندلس، ثلاث
سنوات قبل رحيل ابن رشد. ويبدأ المقال بالبسملة، وطلب العون من الله الرب، والصلاة
والسلام على محمد وآله.