أولًا: يحيى بن عدي، والعامري، ومسكويه، وابن سينا
«تمثل الوافد مع تنظير الموروث» نوعٌ أدبي ثالث، حالة افتراضية خالصة لا وجود لها
إحصائيًّا من حيث التعادل الكمي بين نتائج تحليل المضمون للوافد وتحليل المضمون
للموروث. هذا التعادل الإحصائي الكمي الدقيق لا وجود له تجريبيًّا، هذا النوع مجرد
معبِّر بين نوعين أدبيين مُتقابلين، تمثل الوافد قبل تنظير الموروث (الفصل الثاني)،
وتنظير الموروث قبل تمثل الوافد، وهو الفصل الأول من بداية التراكم الفلسفي (الباب
الثالث). ولا يعني التعادل التساوي الكمي المطلق، بل هو في الغالب أولوية تمثل الوافد
من حيث العمق؛ أي من حيث تردد بعض الأسماء، مثل ديسقوريدس أو جالينوس، وأولوية تنظير
الموروث من حيث الاتساع؛ أي عدد الأعلام المذكورة. تمثل الوافد عن طريق أسماء وأعلام
قليلة، وترداد الأول منها كثير، وتنظير الموروث عن طريق عدد أسماء أعلام كثيرة، وترداد
الأول منها قليل. وكان من الأفضل وضع حرف العطف «مع» أفضل من «و» بالرغم من إفادة كلٍّ
من الحرفين معنى التعادل دون أولوية أحدهما على الآخر. وقد يكون «مع» أكثر دلالة من «و»
حتى يتفق مع استعمالات حروف العطف الأخرى مثل «قبل» في «تمثيل الوافد قبل تنظير
الموروث» (الفصل الثاني)، أو تنظير المورث قبل تمثل الوافد (الفصل الأول من الباب
الثالث). ولم يُستعمل حرف «بعد»؛ لأن الأولوية باستمرار للقبل على البعد في النوع
الرابع تنظير الموروث قبل تمثل الوافد (الفصل الأول من الباب الثالث). وليس تمثل الوافد
بعد تنظير الموروث حتى لا يكون المعيار باستمرار هو الوافد، سواء كان قبلًا أو
بعدًا.
وقد يدل عدم التناسب الكمي بين الأنواع الأدبية الست على مراحل التحول من النقل إلى
الإبداع؛ فبينما يبدو «تمثل الوافد» (الفصل الأول) صغيرًا نسبيًّا، فإن «تمثل الوافد
قبل تنظير الموروث» (الفصل الثاني) يبدو ضعفه؛ نظرًا لأنه يتعامل مع مصدرَي الفكر،
الوافد والموروث، وليس مع مصدرٍ واحد. ويعود «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» إلى الصغر
النسبي؛ لأنه مجرد حالة افتراضية لا وجود لها إحصائيًّا، مجرد ممر أو انتقال من «تمثل
الوافد قبل تنظير الموروث» (الفصل الثاني في التأليف) إلى تنظير الموروث قبل تمثل
الوافد (الفصل الأول في التراكم).
وبطبيعة الحال ألا يظهر هذا التعادل بين تمثل الوافد وتنظير الموروث قبل القرن الرابع
الهجري؛ نظرًا لانشغال المترجمين والفلاسفة الأوائل إما بتمثل الوافد (الفصل الأول) أو
بتمثل الوافد قبل تنظير الموروث (الفصل الثاني)؛ فالتعادل بين المصدرين يحتاج إلى
معرفةٍ مُتساوية للاثنين، وهو ما تم عند العامري ومسكويه وابن سينا في القرن الرابع
الهجري.
(١) يحيى بن عدي
ويبدو «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» أيضًا عند المترجمين؛ مما يدل على أن
الترجمة ليست فقط تمثلًا للوافد قبل تنظير الموروث، بل إن تمثلها للوافد يُعادل
تنظيرها للموروث؛ لأنها تعمل بين ثقافتين، تنقل النص من ثقافة الوافد إلى ثقافة
الموروث.
فمن رسائل يحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ) «جواب عن كتاب أبي الجيش النحوي فيما ظنَّه أن
العدد غير مُتناهٍ»، يظهر تعادل الوافد، فيثاغورس، مع الموروث، أبو الجيش النحوي.
١ يعتمد يحيى بن عدي على برهان فيثاغورس لإثبات أن العدد مُتناهٍ، سواء
كان عن طريق الاتصال أو الانفصال، ثم يُضيف دليلًا جديدًا يقوم على إثبات تناهي
الكمية. والعدد كمي؛ فهو إذن مُنتاهٍ. ويُضيف دليلًا ثانيًا يقوم على قسمة العدد
إلى زوج وفرد، وكلاهما نوع مُتناهٍ. فالموروث يسأل والوافد يُجيب. الواقع يُثير
الشكوك، والوافد يُعطي اليقين دون الاكتفاء بالنقل، بل بزيادة براهين العقل؛ فالعقل
هو الجامع بين الوافد والموروث.
(٢) العامري
في «الأمد على الأبد» للعامري (٣٨١ﻫ) يتصدر الوافد على الموروث في العمق، بينما
يتصدر الموروث على الوافد في الاتساع؛ فمن الوافد يتصدر ذو القرنين أو الإسكندر، ثم
فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو، ثم سقراط، ثم أرشميدس وديوجانس الكلبي وديمقراطيس
الطبيعي وأوميروس وجالينوس وإقليدس وسقراط الطيب وبرقلس الدهري ويحيى النحوي، حوالي
خمسة عشر علمًا. ومن الكتب يُذكَر فادن وطيماوس، ومن أسماء الشعوب يُذكَر اليونان
ثم رومي.
٢ فالرسالة بهذا المعنى جمع بين أفلاطون وأرسطو ربما لصالح أفلاطون نظرًا
لذكر محاورتين له، وفيثاغورث مؤسس المدرسة الأفلاطونية. ويتضح من العنوان أيضًا نفس
الشيء الرغبة في الجمع بين الأمد والأبد؛ أي بين أرسطو الذي يمثل الزمان وأفلاطون
الذي يمثل الأبدية أو الخلود. وهي أيضًا رسالة في فلسفة التاريخ التي تبزغ من تمثل
الوافد مع تنظير الموروث جمعًا بين الفلسفة والكلام، تُحاول الجمع بين التاريخ
والبنية، فالتاريخ هو الأمد، والبنية هي الأبد، بل إنها أقرب إلى البنية منها إلى
التاريخ؛ إذ لا يتجاوز التاريخ ثلاثة فصول من عشرين فصلًا. كما يبدأ التنظير
المباشر للواقع في الظهور، ويتضخم على حساب الإقلال من الوافد في الاتساع ومن
الموروث في العمق. وتقسم عناوين العامري بهذا الإيقاع الثنائي الذي يدل على بداية
الإبداع وأولويته على العرض والتأليف،
٣ مثل: الآبار والأشجار، الإفصاح والإيضاح، العناية والدراسة. ويُحيل
العامري إلى باقي أعماله تأكيدًا على وحدة المذهب، الإبصار والمبصر.
٤ وأحيانًا يكون حرف العطف «و» حرف جر «عن»، مثل الأبحاث عن الأحداث.
وأحيانًا يتكون الجزء الثاني من إيقاعين جزئيين، مثل: الإبانة عن علل الديانة،
«الإعلام بمناقب الإسلام»، الإرشاد لتصحيح الاعتقاد، الإتمام لفضائل الأنام،
التقدير لأرجح التقدير، التبصير لأوجه التعبير. وأحيانًا يتكون الجزء الأول والثاني
من إيقاعين، مثل: النسك العقلي والتصوف المِلي، إنقاذ البشر من الجبر والقدر،
الفصول البرهانية للمباحث النفسانية، فصول التأدب وفضول التحبب، تحصيل السلامة من
الحصر والأسر. وتتميز عناوين برجسون أيضًا بهذا الإيقاع الثنائي، مثل: المادة
والذاكرة، الفكر والمحرك، الطاقة الروحية، منبعا الأخلاق والدين، المعطيات البديهية
للوجدان، الديمومة والمعية.
وحكماء اليونان خمسة؛ أبنادفليس تلميذ لقمان، ولكنه لم يأخذ المعاد، قال بالمحبة
والغلبة، وله مذهب في صفات الباري، وكأنه متكلم أو فيلسوف، واختلط عليه أمر المعاد.
وفيثاغورس حكيمٌ أخذ من لقمان، وأتى إلى مصر فأخذ الحكمة من أصحاب سليمان، وتعلَّم
الهندسة ونقلها مخلوطة بالطبائع والدين إلى اليونان، وادَّعى أنه استفادها من
النبوة. ويتفق العامري مع فيثاغورس باستثناء أن الحكمة قبل الحق، كما خالفه في شأن
المعاد. وأضاف العالم أربعة عشر قسمًا، أربعة أرضية (العناصر) وثمانية علوية. وأخذ
سقراط الحكمة من فيثاغورس، وهو زاهدٌ خالف اليونان وحاججهم وقُتل. وزاد على
فيثاغورس أن كل إنسان شريف بالحكمة. كما يتفق العامري مع سقراط إلا في موضوعين، أن
الله حكيم؛ أي إن الله حق، وأن السماء تصير بالكواكب في النشأة الثانية. وأخذ
أفلاطون الحكمة من فيثاغورس. جمع بين الإلهيات والطبيعيات والرياضيات. العالم أبدي،
مثل برقلس الدهري الذي ألَّف في أزلية العالم، ونقضه يحيى النحوي. وسبب اشتغاله
بالهندسة ظهور وباء على الأرض، فتضرَّع الناس إلى الله، وسألوا أحد أنبياء بني
إسرائيل، فأوحى له الله بناء مذبح على شكل مكعب فزاد الوباء لأنهم لم يضعفوه،
فقرَّر أفلاطون دراسة الهندسة. والمشهور عنه أن معرفة الشيء مشروطة بمعرفة الله.
وأرسطو معلم الإسكندر الذي حارب الشرك دفاعًا عن التوحيد، وهو تلميذ أفلاطون، فحسن
قوله ورفع التناقضات فيها؛ فقد قال أفلاطون في «النواميس» إن للعالم مدبِّرًا. وقال
في «قيدون» إن النفس لا تموت، وفي «طيماوس» إنها تموت. أوضح حقيقة الصواب في الصلة
بين الحكمة والحق، بين فيثاغورس وسقراط، أيهما أصل وأيهما فرع؟ له منطق وطبيعيات
وإلهيات، ولكن كتبهم محشورة بالرموز والألغاز حمايةً للناس منها، وإبعاد الكسالى
عنها، وتشحيذًا للطبع. والمشهور عن أرسطو أنه قال إنه كان قبل اليوم يشرب ويظمأ،
فلما عرف الله، عز وجل، رَوِي بلا شرب. هؤلاء الخمسة لا يحترمون من لا يُقرُّ
بالصانع، ولا يوقن بالثواب، ويعتبرونه مُلحدًا. عيبهم خلافهم مع الملة الإسلامية،
ولا يعترفون بالبعث والنشور، ولا يؤمنون إلا بخلود الأرواح؛ لذلك حكم الإسلام عليهم
بالبغي والضلال، ولكنهم آمنوا وبرهنوا على إثبات الصانع ووحدانيته، ونفي الند والضد
عنه. والطب والهندسة والتنجيم والموسيقى لعمارة البلاد، ترجمتها الألسنة. والبعض
أصحاب صنعة وليسوا حكماء، مثل: أبقراط الطبيب، هوميروس الشاعر، أرشميدس المهندس،
ديوجانس الكلبي، ديمقريطس الطبيعي. وليس كل من قرأ إقليدس يصبح حكيمًا. أما جالينوس
فطبيب وحكيم، ولكنه يشكُّ في حدوث العالم والمعاد وخلود النفس. أما أوساخ الزنادقة
فيصطادون ضعاف العقول، ويوهمونهم بأنه لو كان الله موجودًا لعرفتهم هذه العقول.
ويتهم الجدليون بالتعطيل والإلحاد. النية صادقة، ولكن اتهامهم بالتعطيل قد يؤدي إلى
تزيين الإلحاد وتفخيم الزندقة؛ مما يقوِّي حيل البرية على الضعاف من البرية.
٥ وهذا كله «أسلمة» لليونان، ورؤية الآخر من منظور الأنا، وحكماء اليونان
ما هم إلا تلاميذ أنبياء بني إسرائيل؛ مما يجعل العامري تقليديَّ الاتجاه؛ فالعقيدة
أساس الحكمة.
ومن الموروث تتصدر آيات القرآن والأحاديث، ثم الأنبياء، آدم ثم موسى ثم سليمان ثم
المسيح ولقمان ثم الرسول وعيسى وإدريس (هرمس) ونوح وداود، والعذراء البتول وإبراهيم
وهود وأخنوخ. ومن تاريخ الأنبياء عاد وآدم وثمود.
٦ فآدم يأتي أولًا، وهو الأصل الذي اجتمعت فيه البشرية والنبوية؛ فلا
بشرية دون نبوة، ولا نبوة دون بشرية. وموسى هو النبي والقائد. وسليمان هو الحكيم.
ولقمان أول الحكماء، أخذ من الباطنية. ويؤسِّس العامري فلسفة للتاريخ ابتداءً من
قصص الأنبياء، وهم في الغالب أنبياء بني إسرائيل. ولا يذكر من الحكماء إلا الكندي
والرازي الطبيب والبلخي وأبا معشر المنجم.
٧ وينقد وصف الرازي بأنه حكيم مع أنه صاحب صنعة الطب. يقول بالقدماء
الخمسة. وكان أحمد بن سهل البلخي يرفض تسمية حكيم من يخرج على العقائد، وهو الموقف
السلفي الذي يتعاطف معه العامري. ولا يذكر الفارابي وهو الإشراقي. ومن الفِرق يذكر
المعتزلة، وأصحاب الرأي، وأصحاب الحديث، والشيعة، والخوارج.
٨ ويقول أهل الإسلام بالبعث والنشور والجنة، إلا المعتزلة التي ترى أن
النفوس الناطقة لا وجود لها بالحقيقة، والفلاسفة يهوِّلون بها على العامة، وأنه ليس
للإنسان إلا ما يُشاهده، وأن الحياة عرَض، والموت ضدها، وأن البدن بعد انحلاله لا
حياة فيه ولا موت. والله يجمع البدن في النشأة الأخرى، ويخلق فيه الحياة، جنة أو
نارًا. وهو رأي جمهور الإسلام أصحاب الرأي والحديث، والشيعة والخوارج. الأرواح
البشرية يتوفَّاها ملك الموت، تُفارق الجسد، وتُحاسَب ثوابًا أو عقابًا.
ويظهر تاريخ الأمم السابقة، اليهود والنصارى،
٩ أنبياء التوراة وشخصياتها، وغزو نبختنصر البابلي.
١٠ كما تُذكَر أسماء البقاع المحلية، مثل الشام ومصر، ثم بيت المقدس، ثم
القلزم وفلسطين.
١١ وتظهر الثقافة الفارسية الشرقية أيضًا، مثل فارس، ثم يزدجر بن شهريار،
ثم دارا وكيومرت وهرمزروز ومزوردين وزرادشت والمجوس،
١٢ بل تُذكَر الهند؛ فالغالب على الدهماء فيها أن الأجساد متى حُرقت
بالنيران تخلَّصت الأرواح من المذلة والهواية. وتبدأ الرسالة كما تنتهي بالحمدلات والبسملات.
١٣
(٣) مسكويه
وفي «اللذات والآلام» لمسكويه (٤۲۱ﻫ) يتساوى تقريبًا الوافد والموروث. من الوافد
يُذكَر الحكماء والطبيعيون دون تحديد لاسم بعينه؛ فالتأليف يمكن دون أرسطو. ومن
الموروث فليسوف الإسلام علي بن أبي طالب؛ مما يدل على تشيع مسكويه، وآية قرآنية
واحدة، وعمار بن ياسر يُخاطب عليًّا.
١٤ وهو موضوعٌ أخلاقي مثل موضوعات الرازي دون إحالة إلى الفارابي، وهو
فيلسوف الإنسان. وليس سؤالًا فقهيًّا كما هو الحال في «النفس والعقل»، بل تأليفٌ
مباشر. عند الحكماء الطبيعة عالم الآلام؛ لأنه عالم الحركة، في حين أن عالم العقل
هو عالم اللذات؛ لأنه عالم السكون؛ فالحركات آلام، والسكنات لذات. كما قالت الحكماء
إن لذة الخالق بذاته وفرحه وسروره بها لا تُقارنها لذةٌ أخرى أو فرحٌ آخر، ولذة
الفضلاء هي الثواب الموعود، والمقام المحمود في دار الخلود التي دعا إليها الأنبياء
وأثبتها الحكماء. وعند الطبيعيين اللذة رجوع إلى الحالة الطبيعية، ولا تصح في
الأمور النفسية أو الإلهية.
١٥
ومن الموروث يستشهد مسكويه بقولين لفيلسوف الإسلام علي بن أبي طالب؛ الأول: أن
اللذات خادعة؛ لأنها ليست طريقًا إلى الله، وفي الأمور الطبيعية خدعة للحيوان، مثل
السفسطة والدواء المر المحلي للصِّبيان؛ فتزين المرأة أحسن شيء فيها وهو وجهها،
وتريد أقبح شيء فيها وهو فرجها. والثاني: أن لذَّات الدنيا خمس؛ مأكول، وأفضله
العسل، وهو في ذبابة. ومشروب، وأفضله الماء، وهو أهون موجود. وملبوس، وأفضله
الديباج، وهو لُعاب دود. ومشموم، وأفضله المِسك، وهو دم فارة. ومنكوح، وأفضله مبال
في مبال. أما المبصَرات والمسموعات فهي من ملذات الآخرة، تُعرَف في الدنيا تشوقًا
لها في الآخرة. ولكن ألم تُصوَّر الجنة أيضًا على أنها لذات حسية من المأكول
والمشروب والملبوس والمنكوح والمشموم؟ أليس المسموع والمرئي من محرمات الدنيا
والموسيقى والرقص؟ وماذا عمن لا يذوق العسل ولا يحبه؟ ولماذا الماء أهون موجود وهو
ينحت الجبال ويولد الطاقة؟ ولماذا احتقار الدنيا إلى هذا الحد؟ وهل يمكن أن يُقال
ذلك للفقراء؟ ومن الموروث تُذكَر آية قرآنية واحدة عن لذة المعرفة الإلهية فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، بالذوق
المباشر، بالتخلي عن العلائق، والانقطاع عن الدنيا، والتوجه نحو الكمال والغاية.
وتبدأ الرسالة بالبسملة، وتنتهي بالحمدلة والصلاة والسلام على محمد النبي
وآله.
وآليات الإبداع في «اللذات والآلام» بسيطة،
١٦ تقوم على القدرة على رؤية الأمور بعين الوحدة، والذهاب إلى ما وراء
الألفاظ بعد عرض الآراء المختلفة كما فعل الفارابي في «الجمع بين رأيَي الحكيمين»،
وفي نفس الوقت القدرة على تصور الحياة، ارتقاءً، ونشأة، وتطورًا، واكتمالًا، بدايةً
بعالم الكون والفساد والحركة، وتوسطًا بعالم الشهوة والنزاع والمحبة والعشق،
ووصولًا إلى عالم اللذة والكمال، اثنان فأربعة فاثنان. عالم الطبيعة هو عالم كمال
الآلام، وعالم العقل هو عالم اللذات. والموجود بالنسبة للمعشوق ثلاث مراتب: ما لا
يُعطى، وهو الجماد والنبات والحيوان. وما يُعطى بالقوة، وهو الإنسان. وما يُعطى
بالفعل، وهو الملاك. والرسالة كلها خطاب في البيان.
١٧
(٤) ابن سينا
(أ) وفي رسالة «إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم» لابن سينا (٤٢٨ﻫ)، يُذكَر
أرسطو، ثم أفلاطون، ثم فيثاغورس وسقراط والإسكندر. فقد عذل أفلاطون أرسطو لإذاعته
الحكمة وإظهاره العلم، حتى قال: اعترف أرسطو أنه بالرغم من أعماله العديدة إلا أنه
ترك فيها مهاوي كثيرة لا يقف عليها إلا الخاصة من العلماء والعقلاء. وهو ما قاله
الفارابي من قبلُ في الجمع بين رأيَي الحكيمين. ولا تهمُّ الحقيقة التاريخية؛
فأفلاطون سابق على أرسطو؛ وبالتالي يستحيل تعذيله وتوبيخه لإذاعته الحكمة، بل تهمُّ
الدلالة، وهي أن الحكمة لا يقدر عليها إلا الخاصة دون العامة، كما صرَّح الغزالي من
قبلُ في «المضنون به على غير أهله»، و«إلجام العوام عن علم الكلام»، بل هو إجماع
العلوم الإسلامية كلها، الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، هي علوم للخاصة وليست
للعامة، علوم التنزيه في الكلام، والتأويل في الفلسفة، والذوق في التصوف،
والاستدلال في الأصول. ويُذكَر أفلاطون وفيثاغورس وسقراط وفلاسفة يونان في هذا
السياق؛ فقد قال أفلاطون في كتاب «النواميس» بضرورة تأويل رموز الرسل حتي ينال
الملكوت الإلهي. وقد استعمل فلاسفة يونان وأنبياؤهم المراميز والإشارات. وهنا
يوسِّع ابن سينا مفهوم الفلسفة ليشمل النبوة، ويضم الأنبياء إلى فلاسفة يونان،
قراءةً للنفس في الآخر، وإكمالًا للآخر بالنفس. ويميِّز ابن سينا بين كتاب
«النواميس» الرمزي الإشاري الصوفي النبوي، وكتاب «السياسة»؛ أي «الجمهورية» لأفلاطون.
١٨ الأول للخاصة والثاني للعامة. الأول أقرب إلى الموروث، فيتمُّ تعشيق
الاثنين فيه، والثاني أقرب إلى الوافد. ويظهر المصطلح الفلسفي الجديد مثل المراميز
جمعًا لرمز. واعتُبر فلاسفة اليونان وحكماؤهم، مثل فيثاغورث وسقراط وأفلاطون، أقرب
إلى الأنبياء والرسل لما في أقاويلهم من رموز وإشارات. كما يستشهد بأرسطو لشرح اسم
النور الذاتي وليس المستعار؛ أي أرسطو العالم الطبيعي، والمستعار من اللغة العربية.
ويُدافع عن أرسطو ضد سوء تأويل الإسكندر الأفروديسي بجعل العقل الكلي الإله الحق
الأول. كما يستشهد بأرسطو في آخر كتاب «سمع الكيان»، أن نهاية الموجودات الجسمانية
الفلك التاسع، فلك الأفلاك، وأن الله هناك وعليه لا على حلول. ففي موضوعٍ موروث مثل
الألوهية والنبوة يظهر اليونان؛ إذ إنهم يمثِّلون ثقافة العصر واستعمالها من أجل
موضوع موروث، كما تُستعمل الآن ثقافة العصر في العلوم السياسية من أجل علم الكلام
السياسي والشريعة والقانون والاجتماع والعلوم الإنسانية بوجهٍ عام.
١٩
ومن الموروث يتصدر القرآن والحديث القدسي، ثم اسم محمد والنبي.
٢٠ ولا يظهر متكلم أو فيلسوف أو صوفي أو أصولي أو فقيه أو مفسِّر أو
محدِّث. يتعامل ابن سينا مع الأصول الأولى وحدها لتنظيرها وكأنها موضوعات، وكأن
علوم الحكمة أصبحت بديلًا عن علوم التفسير. الآية الأولى هي آية المشكاة
اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، يستعملها الصوفية،
ويفسِّرها الغزالي، ويمكن من خلالها عرض نظرية المعرفة الإشراقية، شرح كلمة كلمة
وعبارة عبارة.
٢١
والآية الثانية
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ. وتتضمن صورًا فنية لموضوعٍ غيبي قريب الشَّبه
بموضوع الاستواء في علم الكلام؛ فالعرش نهاية الموجودات المبدَعة الجسمانية، وليس
كما يقول أنصار التشبيه من المتشرعين، أي الفقهاء، من حلول الله فيه وجلوسه عليه.
نهاية الموجودات الجسمانية الفلك التاسع، فلك الأفلاك؛ ومن ثَم فلا حلول كما بيَّن
أرسطو. وهنا يستعمل أرسطو دفاعًا عن التنزيه. أما الحكماء الفقهاء فقد أجمعوا على
أن العرش هو هذا الجِرم، وأن الفلك يتحرك بالنفس حركةً شوقية؛ لأن الحركات إما
ذاتية وإما غير ذاتية، والذاتية إما طبيعية وإما نفسية؛ فنفسه ناطق كامل فعَّال،
والأفلاك لا تفنى ولا تتغير، كما ذاع في الشرع أن الملائكة أحياء، فهي مثل الأفلاك؛
ومن ثَم صح أن العرش محمول على الأفلاك الثمانية. والحمل نوعان؛ بشري من حامل
ومحمول، وطبيعي كحمل الماء على الأرض والنار على الهواء، وهو المقصود بحمل العرش
دون التماس. وتحديد الحمل بالساعة والقيامة لأن من مات قامت قيامته. ولما كانت
النفس الإنسانية مُفارقة ارتبطت بوقت المفارقة، الوعد والوعيد. يحول ابن سينا
الكلام إلى الفلسفة، والشرعيات إلى كونيات، ويفسِّر الاستواء على العرش بالأفلاك،
ويعتمد على النقل والعقل مُفسرًا الشرع بالشرع، والنص بالنص، والكتاب بالسنة. وفي
نفس الوقت يُثبِت المعاد، الوعد والوعيد والثواب والعقاب. يؤكد على الزمان في
«يومئذٍ»، ويهرب من المكان في «فوقهم». لم يتخلَّ ابن سينا عن التصور المكاني
كليةً؛ فالعرض نهاية الموجودات المبدَعة الجسمانية، فهل هو أول الخلق أم آخره؟
مخلوق أم غير مخلوق؟ وأين كان الله يستوي قبل الخلق؟ وإذا كان العرش قديمًا فهل
يوجد قديمان؟ وهي مسائل نظرية لا حل لها إلا في التأويل المجازي كما قال المعتزلة،
أو في الصورة الفنية والتخييل كما قال الحكماء دون الوقوع في تأسيس علم كلام فلسفي
جديد، بالرغم من السخرية من علم الكلام القديم عند المتشبهة والمتشرعة.
٢٢
ويفسِّر ابن سينا الآية الثالثة
عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ بأن الجحيم هي النفس الحيوانية، باقية دائمة في جهنم، وهي
قسمان: إدراكية وعملية. والعملية قسمان: شوقية وغضبية. وهي تصورات الخيال،
المحسوسات بالحواس الظاهرة الستة عشرة، والقوة الوهمية حاكمة على تلك الصور حكمًا
غير واجب، واحدة ذاتيًّا فيكون المجموع تسعة عشر. يُحاول ابن سينا إيجاد التجارب
الإنسانية المُقابلة للأعداد، سواء الثمانية السابقة أو التسعة عشرة الحالية. تصف
الآية واقعًا إنسانيًّا كما هو الحال في تحقيق المناط عند الأصوليين. يلجأ ابن سينا
إلى هذه الموضوعات الغيبية التي تسمح بالتأويل الفلسفي كما تفعل الصوفية. الجحيم هو
الجهل، والنعيم هو العلم. وهو تأويل يفيد مجتمعات الجهل التي تريد أن تتحول إلى
مجتمعات العلم. أما الملائكة، فهي القوة اللطيفة غير المحسوسة، صورة فنية للتعبير
والتأثير. ويبدأ ابن سينا الآية بأنها ما بلغ النبي محمدًا عن ربه، ثم يُئولها
تأويلًا إنسانيًّا؛ فالإلهي إنساني على مستوى التبليغ والفهم كما يقول المعاصرون؛
لذلك يذكر اسم النبي محمد، ويصلي ويسلم عليه في التبليغ، وصحة دعوته للعاقل، وفي
إيصال رسالته إلى العرب الأجلاف.
٢٣
والحديث القدسي الأول «إن للنار سبعة أبواب وللجنة ثمانية أبواب» تبليغ من الله
إلى النبي؛ فالأشياء المدرِكة إما مدركة للجزئيات، الحواس الخمس الظاهرة، ثم إدراك
الصور مع المواد أو بدون المواد في خِزانة الحواس، وهو الخيال، وقوة حاكمة عليها
حكمًا غير واجب وهو الوهم، وقوة حاكمة عليها حكمًا واجبًا هو العقل؛ فهذه ثمانية
إذا اجتمعت أدَّت إلى السعادة السرمدية والدخول في الجنة، وإن نقصت إحداها أدَّت
إلى الشقاوة السرمدية والدخول في النار. وفي اللغة المؤدي إلى الشيء يُسمى بابًا؛
لذلك سُميت أبوابًا، السبعة المؤدية إلى النار والثامنة المؤدية إلى الجنة. وإذا
كان العدد الرمزي سبعة، فلماذا زِيد واحد في الجنة؟ ولماذا أخذ ابن سينا ثلاث حواس
باطنية فقط ولم يأخذ الخمسة كلها مثل التذكر والحس المشترك؟ وهو أيضًا موضوعٌ غيبي
يُمارس فيه ابن سينا منهجه في التأويل بتحويله إلى دلالاتٍ إنسانية قياسًا للغائب
على الشاهد. لقد استطاع ابن سينا تحويل النصوص إلى تجارب إنسانية ومعاني عقلية على
أوسع نطاق من العمومية والشمول، ولكن ظل التأويل مُرتبطًا بثقافة العصر، علم الفلك
القديم، وعلم النفس، وطرق المعرفة القديمة. فإذا ما تغيَّرت ثقافة العصر تغيَّر
التأويل. وهل يمكن تجاوز تشخيص الطبيعة إلى الإنسانيات مباشرة وإعطاء تأويل إنساني
عام لكل العصور، أم أن التأويل بطبيعته فهم للنصوص في ثقافة كل عصر؟
ويئول ابن سينا الحديث القدسي الثاني «إن على النار صراطًا صفته أنه أحدُّ من
السيف وأدق من الشعر، ولن يدخل أحدٌ الجنة حتى يجوز عليه؛ فمن جاز عليه نجا، ومن
سقط عنه خسر» كمناسبة لتحويل الغيبيات إلى مشاهدات، والوحي إلى تجارب إنسانية.
٢٤ وهي صورةٌ فنية للعقاب ودون فهم العقاب أولًا. وبدون التجربة الإنسانية
لا يمكن فهم الصورة الفنية المتضمَّنة في النص. الصورة الفنية وسيط بين الوعي
والنص، بها من الوعي الشعور أو الخيال، وبها من النص الحروف والكلمات. الثواب هو
البقاء في العناية الإلهية الأولى، ولا يحصل إلا بعد الكمال العلمي والعملي، وذلك
عن طريق مجاهدة النفس الحيوانية في أفعالها العملية وإدراكاتها العلمية. ويكون
الهلاك بمطابقة الوهم للقوى الحيوانية في غيبة الحواس، وتكون النجاة بمطابقة العقل
للصور العقلية الشريفة. ويمكن على هذا الأساس فهم الجنة والنار؛ فالعوالم ثلاث:
عالم حسي، وعالم خيالي ووهمي، وعالم عقلي. العالم العقلي هو المقام في الجنة،
والعالم الخيالي الوهمي هو الحطب، والعالم الحسي هو القبور. ولما كان العقل في حاجة
إلى استقراء الكليات من الجزئيات، فإنه يحتاج إلى الحس الظاهر الذي يقدم المحسوسات
إلى الخيال والوهم. وهذا هو طريق جهنم، الصراط الدقيق. فإذا توقَّف الإنسان ولم
يتجاوز الوهم والخيال إلى العقل وقف على الجحيم وسكن في جهنم. يحوِّل ابن سينا
الأخرويات من مستوى الكونيات إلى مستوى المعرفة؛ فالصراط ليس شعرةً حسية، بل طريق
للمعرفة يؤدي إلى الوهم أي إلى النار، أو إلى العقل أي إلى الجنة. التأويل إذن هو
إرجاع الخارج إلى الداخل، والموضوع إلى التراث، والشيء إلى المعنى، والواقع إلى الفكر.
٢٥ لقد توجَّهت علوم الحكمة إلى السمعيات كي تُحيلها إلى عقلياتٍ مُتجاوزة
علم الكلام، محوِّلة الصور الفنية إلى علوم نظرية وسلوك عملي، ومتجاوزة المصادفة
والسير على الصراط عندما تتكافأ الأدلة، وكأن المؤمن بهلوان تُساعده الملائكة كي
يقع في الجنة أو تدفعه الشياطين كي يقع في النار. وقد اختار ابن سينا الآيات
القرآنية والأحاديث القدسية من نفس النوع الغيبي الأخروي الذي يسمح له بالتأويل
الإشراقي، وليس الآيات والأحاديث العملية التي تنفع الناس في الدنيا، وكما نحتاج
هذه الأيام في مجتمعات الضلال والتخلف. حوَّل ابن سينا الأخرويات إلى إنسانيات،
الثواب والعقاب، السعادة والشقاء.
(ب) وفي «سر القدر» ذُكر الحكيم تحولًا من الشخص إلى الرمز، وأفلاطون في المقدمة
الثالثة، إثبات المعاد للنفوس وليس في المقدمتين الأوليين، نظام العالم وحديث
الثواب والعقاب. يُنكر الحكيم وجود الشر القصدي في العالم على عكس الخير؛ فالشر
إعدام وليس وجودًا. وهي نظرةٌ مُتفائلة تُشبِه نظرة الإسلام، على عكس أفلاطون الذي
يرى أن الشر والخير مقصودان استشهادًا بالآية القرآنية
يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى
رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً كمقدمةٍ نقلية؛ فالموروث وعاء للوافد،
والوافد مادة للموروث ومضمون لها. ولا يستشهد بالقرآن إلا في المقدمة الثالثة بعد
الأولى في نظام العالم، والثانية حديث الثواب والعقاب، إثبات المعاد للنفوس؛
فالمعاد دعوة للنفس المطمئنة. ويعود ابن سينا إلى المسألة الصوفية التي سئل عنها
«من عرف سر القدر فقد ألحد» إلى الأصل في الحديث «القدر سر الله، ولا تُظهروا سر
الله»، بصرف النظر عن صحة السند أو المتن، مع أن صيغة «ما رُوي»، وليس حديث الرسول
أو قال الرسول، تشكِّك فيه. والأقوال الثلاثة المنسوبة إلى علي تحتمل الشك أيضًا؛
إذ إنها تدور حول نفس المعنى بصياغاتٍ أدبية متعددة مما قد يكشف عن الإبداع الذاتي،
الفكرة التي تخلق صورها. وقد يدل استشهاده بعلي ثلاث مرات على تشيعه. كما يستشهد
بحديث أو قول مأثور «اعملوا فكل ميسَّر لِما خلق الله». وتظهر بعض التعبيرات
القرآنية تعبِّر عن المخزون الأدبي لابن سينا، كما تظهر العبارات القرآنية وأساليبه
في الخطاب مثل الشراب الطهور، وضرب الأمثال، ولا يُسأل عما يفعل، وكل شيء هالك إلا وجهه.
٢٦