(١) الرسائل
ويقع كثير من رسائل ابن باجه في هذا النوع، التعادل بين تمثل الوافد وتنظير
الموروث، مثل:
(أ) «ومن كلامه ما بعث به لأبي جعفر بن يوسف بن حسداي»؛
١ فقد ذُكر من الوافد بطليموس، ثم أرسطو والإسكندر، ثم ثامسطيوس. ومن
الكتب يُحال إلى السماع الطبيعي والكون والفساد. ومن أسماء الفِرق يذكر المفسرين.
٢ ويردُّ ابن باجه على من زعم أن ما أتى به أرسطو في الحركة والمحرك ليس
برهانًا، كما يضع ابن باجه نسقًا لأرسطو كله في موضوعٍ واحد غير مؤلفات أرسطو، كما
فعل في حد الأضداد الفاعلة والمنفعلة. وتبدو أهمية السابعة والثامنة في السماع أن
بها نظرية الحركة والمحرك، خاصةً المحرك الأول الذي لم يُرِد أرسطو بيانه بإطلاق
كما توهَّم المفسرون، بل المحرك الأول بالإضافة إلى حركةٍ مفروضة. يستشهد ابن باجه
بأرسطو بعد الدراسة وليس قبلها؛ تدعيمًا لموقفه وليس نقلًا عنه. لم يكن غرض أرسطو
ذكر المحرك بإطلاق؛ أي إن غرضه لم يكن الإلهيات، بل الطبيعيات. وأكمله المسلمون
كعلمٍ مستقل لدرجةٍ اعتبرها المفسرون خارج العلم، وهو ما صرَّح به ابن باجه في
المقالتين السابعة والثامنة ونقد ثامسطيوس وجالينوس في خلطهما معنى المحرك عند
أرسطو. وهو نفس موقف ابن رشد فيما بعدُ مع اختلاف التفاصيل.
٣ وقد دافع الإسكندر عن أرسطو، وزعم الناس أنه في الحركة والمحرك لم يأتِ
ببرهان؛ لأن البرهان منطقي؛ أي أن تكون أجزاء القياس، أي الحدود الوسطى، بالعرض.
وينقد ابن باجه الإسكندر، ويجعل الحد الأوسط ذاتيًّا. ويُحيل إلى «السماع الطبيعي»
بعد أن تحوَّل الكتاب إلى موضوعٍ مستقل عن صاحبه، وبعد أن تحوَّل إلى علم دون كتاب،
والعلم مشاع بين الجميع. ويُحيل إليه مسألتين رئيسيتين تؤخذ منهما المسائل الأخرى،
حد الأضداد الفاعلة والمنفعلة، وحد أرسطو لها حدودًا متأخرة في الكون والفساد، كما
يحلِّل ابن رشد الموضوعات بالإحالة إلى كل طبيعيات أرسطو. ويُشير ابن باجه إلى
الموروث الناقد للوافد، مثل الشكوك على بطليموس لابن الهيثم، استئنافًا للتراكم
الفلسفي.
ويظهر الموروث في اسم الرسالة، حسداي؛ فاليهود جزء من الأمة.
٤ وتدل المراسلة مع ابن حسداي على التعايش السلمي بين المسلمين واليهود
في الأندلس، والصداقة بين الفيلسوفين في مجتمعٍ ديني يقوم على الوحي بلا تمييز بين
مراحله، بل ويقدر تراث المجتمع الوثني الديني السابق، وهو في حد ذاته موقفٌ إبداعي.
ويتصدر الزرقالة، ثم ابن حسداي وابن الهيثم وأبو نصر. ويُحال إلى كتاب الشكوك على
بطليموس لابن الهيثم، وإلى مكان تأليف الرسالة، إشبيليا.
٥ والزرقالة بطليطلة معروفٌ بولد الزرقيان أو ولد الزرقيال في الأرصاد
والكواكب والأفلاك والآلات النجومية. وله صحيفة الزرقيال التي لم يفهمها المشرق.
وينقد ابن باجه نقد الزرقالي وابن الهيثم لبطليموس. والموضوع علمي يضع فيه ابن باجه
تجاربه الشخصية، وهو على وعي بمنظوره، وينقسم إلى موضوعاتٍ متقطعة انعكست على طريقة
التأليف في فقراتٍ مُتقطعة.
٦ ويصرِّح ابن باجه بأنه تعلَّم عن الفارابي المنطقي ضروب البرهان. وقد
تعلَّم منه ذلك متأخرًا بعد الرياضيات والفلك والموسيقى. وينقد ابن باجه الزرقالة
إبراهيم بن يحيى الأندلسي بأنه لم يكن من أهل صناعة الهيئة، بل كان يقول فيها بحسب
سوانحه ولوائحه؛ فتضطرب أقواله، ويُكثِر الكلام فيما لا معنى له؛ لذلك ناقض
بطليموس. فالزرقالة نموذج البعيد عن الصناعة بالرغم من كتابته مقالًا يُبطِل فيها
طريق بطليموس في استخراج البعد الأبعد لعطارد. فهو نموذج الهاوي في العلم لا
المتخصص. ينقد ابن باجه الموروث قدر تعامله مع الوافد. الزرقالة غير عميق في الفلك،
ذاتي غير موضوعي، ذو كلام مضطرب، كثير الكلام بلا دلالة، يذهب عليه بعض معاني
العلم، ويُناقض بطليموس. ويُدافع ابن باجه عن بطليموس في حين أن ابن رشد ينتصر
لأرسطو وينتقد بطليموس في مقالة اللام. يطهِّر ابن رشد الأصل الوافد، ويطهِّر
ابن باجه العلم الوافد؛ فالعلم ليس الإشراق، ومع ذلك يوضِّح الإشراق العلم. العلم
من الذات لا من الموضوع، من الداخل لا من الخارج. العلم تصوف العلم. يُعيد ابن باجه
تأويل العلم الطبيعي في الأندلس تأويلًا صوفيًّا، فكيف يُقال إن مشروع الغرب
الإسلامي كان عقلانيًّا وفيه ابن باجه وابن عربي ومدرسة ابن مسرة و«زهر» في التصوف
اليهودي؟ وخطأ الزرقالة هو خطأ ابن الهيثم، بل إن ابن الهيثم أسوأ من الزرقالة
وأبعد عن صناعة الفلك. ينقد ابن باجه موقف ابن الهيثم من بطليموس. ابن الهيثم مثل
الزرقالي في نقده لبطليموس، مع أن الهيثم أوضح والزرقالي مشوَّش. لم يقرأ
ابن الهيثم الصناعة إلا من أسهل الطرق، بل إنه أبعد منها عن الزرقالة؛ ربما لأنه
بصَري وليس فلكيًّا. ربما لم يكن لديه وقت أو نقله عن غيره، وكأن ابن باجه يجد له
الأعذار. المهم هو تحليل التراكم التاريخي الفلسفي والعلمي، ووضع الوافد والموروث
في وعيٍ تاريخي واحد، ولا يوجد هجوم مُماثل على الداخل على الأشعرية والكلام
والإشراق عند ابن سينا. وتظهر البيئة الجغرافية المحلية، مثل إشبيليا مدينة تعلم
صناعة الموسيقى.
(ب) وفي «من كلامه على إبانة فضل عبد الرحمن بن سيد المهندس» يظهر من الوافد
أبولونيوس مع كتابه في المخروطات، وإقليدس وليس أرسطو.
٧ ويُقارن ابن باجه بين توليد القطوع عن ابن سيد والمخروط عند إقليدس في
آخر المقالة العاشرة من كتابه، بين الموروث العلمي والوافد العلمي. كما ينقد
أبولونيوس؛ لأن البرهان بيِّن أن التماس لا يكون بإحدى الجهتين اللتين ذكرهما
أبولونيوس. ويذكر ابن باجه مُحيلًا إلى المقالة الأولى من «المخروطات» دون ذكر اسم
مؤلفه أن كل سطح يلقى بسيط مخروط ولا يمر برأسه يقطعه، وغير ذلك من المسائل
الرياضية.
ومن الموروث يُذكَر ابن سيد، ثم ابن الإمام وابن الصائغ وابن النضر، مع ذكر مكان
إشبيليا. ويحكم ابن باجه على الداخل مع احترامٍ كامل للآخرين دون إزاحتهم كما يفعل
المغاربة المعاصرون. وهو موضوعٌ رياضي ينتمي إلى المرحلة الأولى، ويتضح ذلك من
المرسل إليه، وهو من أهل بلنسيا، عالم بالحساب والعدد والهندسة. ويستأنف ابن باجه
ما قام به ابن سيد المهندس من قبلُ بعد أن استأنف ابن سيد نفسه تراث المهندسين
قبله، ولكنه كان أقرب إلى الاتصال معهم دون أن يطور الموضوع وينقله نوعيًّا ربما
لعوائق عصره، أو لعمله بمفرده مما يحتاج إلى تطوير وإكمال. ومع ذلك استطاع ابن سيد
أن يختص بشيءٍ جديد بالإضافة إلى تراث القدماء، وهنا يدخل ابن باجه لاستئناف
الجديد، فالتراكم التاريخي شرط الإبداع.
(ﺟ) وفيما «كتب — رضي الله عنه — إلى الوزير أبي الحسن ابن الإمام» يبدو الوافد
أولًا في إقليدس، ثم ثامسطيوس وأرسطو والإسكندر وأبولونيوس وشاعر اليونان. ومن
الكتب يُحال إلى نيقوماخيا والبرهان وبارمنياس.
٨ والموضوع بين الرياضيات والمنطق. وذكر ابن باجه السياق التاريخي له؛
مما يدل على أنه يدرس موضوعًا ولا يشرح قولًا. وتبدو أهمية العلة الغائية، كما تظهر
القيمة في المنطق. ويبيِّن ابن باجه كيف لخَّص أرسطو موضوع الروية والاستعداد،
نشأتها وكمالها في السادسة من نيقوماخيا بالرغم من صعوبة وجود صناعة محدودة
للارتياض، أو إيجاد أسماء للأفعال الرياضية والتجريب من أصنافها. ويرى ابن باجه أن
وجود الفكرة البرهانية والروية في كل إنسان لم تلحقه آفته وله قوة على قبولها، وهي
بالاكتساب. ويستشهد بثامسطيوس أنها قد توجد لبعض الناس بالطبع في القياس في ذوي
الفطر الفائقة. ويستشهد بتسمية الإسكندر القياس الصادق البرهان المنطقي، وهو الذي
يستلزم الحد الأوسط، ويكون ما به قوامه، وإلا كان القياس مجرد دليل ليس ما به
قوامه. ويضرب المثل من إقليدس على أن الأقاويل الهندسية أمور بالعرض سهوًا وتسامحًا
من المهندس، مثل أن ضلع المسدس إذا اتصل بضلع المعشر انقسم الخط على نسبة ذات ونسبة
طرفين. وهو قلما يوجد في كتب المهندس، إنما تسامح إقليدس في ذلك أو فات عليه لتلازم
وجود ضلع المسدس ونصف القُطر بالتكافؤ لزوم الموجود؛ فإقليدس موضع نقد، قد يُخطئ عن
قصد أو عن غير قصد. ويبيِّن ابن باجه حد الخطوط الصم، وهو الموضوع الذي يتعرض له
إقليدس في المقالة العاشرة من كتابه. كما يبيِّن القطاع الثلاثة كما فعل أبولونيوس
في أول كتابه عن المخروطات لأن الحدين لم يكونا واضحين. مهمة ابن باجه إذن توضيح
الوافد العلمي؛ فهو الدارس، والوافد المدروس. وهو على علم بمطالب الموروث وبمكانه
في الوافد على وجه الدقة، وليس فقط بالإحالة إلى مقالات الكُتاب.
ويُبرز ابن باجه الطابع المحلي اليوناني للوافد في ضرب الأمثلة على أن المهندس
الذي ليست له القوة على صنعة براهينها، واقتصر على حفظها، يصبح مثل الكتاب المبسوط
كما قال شاعر اليونان على طريق التشبيه. ويُحيل الموضوع إلى كتاب البرهان وإلى كتاب
بارمنياس، وكأنهما مرجعان سابقان وتراث سابق يُحال إليه دون تكراره.
ويظهر الموروث في العنوان بالإضافة إلى ابن سيد وأبي نصر وامرئ القيس، والإحالة
إلى أشعار العرب ونحويِّي العرب وشرح الخطابة من الوافد الموروث عند الفارابي.
٩ يكشف ابن باجه حقيقة الظنون التي قِيلت عن الفارابي، مِثل أن الأقاويل
الرياضية بلاغية، ويكشف عن سوء تأويل شرح الفارابي كما يفعل ابن رشد مع شراح أرسطو.
وكان ابن سيد قد استخرج بعض البراهين من نوعٍ هندسي لم يشعر بها أحد من قبله دون أن
يدوِّنها، بل لقَّنها شفاهًا لاثنين؛ الأول استُشهد في الجهاد، والثاني ابن باجه
الذي استخرجها وزاد عليها، وأضاف إليها مسائل برهن عليها وهو في السجن للمرة
الثانية. وكتب عنها إلى الوزير دون تفصيل إتمامًا لابن سيد واعترافًا بفضله؛
فالمحرك الأول له الفضل على المحرك الثاني. ويكشف السياق عن اشتراك العلماء في
الجهاد ضد الأعداء في الخارج حتى الاستشهاد، وضد الأمراء في الداخل حتى السجن
والاعتقال، وعن الأمانة العلمية لابن باجه في الاعتراف بفضل القدماء ونسبة الحق
إليهم دون نسبته إلى نفسه، واستعمال مصطلح المحرك الأول، وهو تصورٌ ديني، كتشبيهات
في تحليل الحركة في الطبيعيات. ويظهر الشعر العربي كمادةٍ محلية موروثة؛ فنسبة
المنطق إلى الرياضة كنسبة النحو إلى الشعر والخطابة. المنطق نحو الفكر، والنحو منطق
اللغة؛ لذلك يروض النحاة المتعلمين بإعراب أشعار العرب، كشعر امرئ القيس
وغيره.
(د) وفي «النفس النزوعية» من الوافد يُذكَر أرسطو، ويُحال إلى الثامنة من السماع
الطبيعي، ثم إلى السماء والعالم والحيوان.
١٠ والموضوع رياضي طبيعي استبعادًا للإلهيات وكأنها انحراف عن المنطق
والطبيعة. ويعود ابن باجه إلى الكندي مُتجاوزًا إشراقيات الفارابي وابن سينا؛ مما
ساعد مهمة ابن رشد في العودة إلى العقل والطبيعة أساسًا للوحي. المشروع الفلسفي في
المشرق العربي عند الكندي هو نفسه المشروع الفلسفي في المغرب العربي عند ابن باجه
وابن رشد، حصارًا لإشراقيات الفارابي وابن سينا في الشرق، وابن طفيل في
الغرب.
وابن باجه هو الدارس للشيء والرائي له، والاستشهاد بأرسطو هو إرجاع قوله إلى
الشيء المرئي عند ابن باجه. الموروث يوضِّح الوافد ويؤكِّده. ويُحيل إلى الثامنة،
ويُفهَم أنها من السماع الطبيعي؛ فقد أصبح كل مقال موضوعًا توخيًا للدقة وتمييزًا
للموضوعات عن الكتب. لكل متحرك محرك، ومحركه غيره؛ ومن ثَم تتوالى أجناس المحرك.
ويُحيل إلى السادسة في أن الحركة لا أجزاء لها. كما يُحيل إلى الثامنة في أن
الجمادات ليست تفعل بل تنفعل. ويُحيل إلى الخامسة وإلى الأولى من السماء والعالم
وإلى الحيوان. ابن باجه هو الدارس، ثم يتبين قول أرسطو بإظهار ابن باجه الشيء
المدروس.
ومن الموروث يُحال إلى أبي نصر وكتاب الموجودات المُتغيرة، كيف يصير ما بالقوة
الطبيعية أسفلًا أسفلًا بالفعل، وكيف يتحرك بحركة محركة؟ فالحكمة مشروعٌ متكامل بين
المشرق والمغرب، بين الفارابي وابن باجه. كما يُحال إلى لغة العرب لبيان خصوصية
اللغة. ويُحاول إيجاد أسماء عربية للمعاني الفلسفية، مثل النقلة للحركة في المكان.
وإذا قِيلت على باقي أصنافه تُسمى الانتقال. ويستعمل الأسلوب العربي في زيد وعمرو
للإشارة إلى الفاعل أو المبتدأ في النحو، أو الموضوع والمحمول في المنطق.
١١
(ﻫ) وفي «النزوعية» يظهر من الوافد أرسطو. ويُحال إلى «السماء»، ثم إلى «الكون
والفساد»، ثم إلى «الآثار العلوية» و«قاطيغورياس». ومن الفِرق يُحال إلى المفسرين.
ومن الموروث يُذكَر أبو نصر والمنصور، ثم عبد الله بن علي. كما تُذكَر العربية
والعرب والشرع والسنن؛ مما يدل على أولوية الفارابي وظهور بعض المصطلحات الموروثة.
١٢ ومن مؤلفات ابن باجه يُحال إلى رسالة «الوداع» تأكيدًا على وحدة
المذهب. ويضرب ابن باجه المثل بقتل المنصور عبد الله بن علي، وإن لم يفعل ذلك بيده،
على أن الآلة قد تكون متصلة بالفاعل وقد تكون منفصلة.
(و) وفي «المتحرك» من الوافد يُذكَر سقراط أولًا، ثم أفلاطون. ويُحال إلى السماع
الطبيعي.
١٣ وسقراط هو نموذج الشهيد في الوعي الإسلامي، خلود الروح وفناء البدن.
ويضرب ابن باجه المثل بأفلاطون في الحركة والمتحرك في ذم المحرك القريب أو مدحه
بدلًا من زيد وعمرو. والمتقدمون عند ابن باجه أفضل من المتأخرين طبقًا لتصور أهل
السلف. ويُحال إلى «السماع الطبيعي» في أن الحركة تكون أكثر من محركٍ واحد، وإلى
الثامنة في أن المحرك الأول الحقيقي هو محرك الحركة السرمدية من خلال حركات
الكائنات الفاسدة بالعرض لا بالذات، وإلى كتاب «الحيوان» وكتاب «النفس» في أن
المحرك الأول في الحيوان هو النفس. وواضحٌ كثرة الإحالة إلى الطبيعيات، والإحالة
إلى الوافد ضمن نظرية عامة في الإيضاح والإثبات عن طريق اللجوء إلى الأدبيات
السابقة تأكيدًا للقول بإرجاعه إلى الشيء، وإثباتًا للشيء بإبداع السابقين.
ومن الموروث يُحال إلى أبي مسلم والمنصور، ثم إلى جعفر والرشيد. ومن الألفاظ
الموروثة تظهر الشريعة.
١٤ ويُحال إلى أعمال ابن باجه تأكيدًا على وحدة المشروع الفكري، إما إلى
الشرح مثل الحيوان والنفس، أو إلى التأليف مثل رسالة «الوداع» و«سيرة المتوحد».
والموضوع هو الله المحرك الأول تعشيقًا للوافد في الموروث طبقًا لظاهر التشكل
الكاذب. ويظهر الأسلوب العربي الديني في لفظ «اللهم»، كما تظهر بعض الموضوعات
الدينية. وينقل ابن باجه مستوى التحليل الطبيعي للحركة إلى المستوى الإنساني
الشرعي؛ ومن ثَم تصبح الأفعال خاضعة للوم والحمد على ما حرك بالعرض. وفرقٌ في
العقاب بين القتل الخطأ والقتل العمد. ويضرب ابن باجه المثل بقتل الرشيد جعفرًا، أو
قتل المنصور أبا مسلم، على اتصال الحركة وانفصالها وعلاقة اليد بالآلة.
(ز) وفي «الوحدة والواحد» من الوافد يُذكَر أرسطو أولًا، ثم أفلاطون، ثم
الإسكندر. ومن المؤلفات يُحال إلى ما بعد الطبيعة أو الحروف أو الفلسفة الأولى،
وكلها أسماء لكتاب واحد، مرةً مترجَمًا، ومرةً معرَّبًا، ومرة معبِّرًا عن مضمونه
«الفلسفة الأولى»، وإلى كتاب الحروف للإسكندر. والموضوع أفلوطيني في الظاهر، إسلامي
في الباطن، التوحيد. ولا توجد فلسفة إلا وتتناول الواحد والوحدانية تنظيرًا
للتوحيد. ويضرب ابن باجه المثل بأرسطو والفارابي على الوحدة والواحد؛ مما يكشف عن
حضورٍ شعوري للوافد والموروث على حدٍّ سواء كتجارب حية في الوعي الفلسفي التاريخي.
كما يستحسن تشبيه أفلاطون وأرسطو، وليس أرسطو وحده. كما ذكر أرسطو الكامل مجملًا في
ما بعد الطبيعة، مرسلًا دون تفصيل في المقالة الأولى من «الفلسفة الأولى». ويظهر
مصطلح المرسَل من علم الحديث. ويفصِّل ابن باجه الموضوع الذي شبَّهه أفلاطون
بالدوائر اللولبية، وأرسطو بانحناء الخط المستقيم. ويضرب المثل بالإسكندر على الصور
الروحانية مثل زيد وعمرو، وبقوم تُبَّع المذكورين في القرآن.
ومن الموروث يُحال إلى الفارابي، ويُذكَر قوم تُبَّع ولسان العرب. والدلالة على
المعقولات غير معروفة في لسان العرب، وربما في باقي الألسنة، وهو المعنى الكلي الذي
يُقال على كثيرين؛ فالمنطق مرتبط باللغة، واللغة العربية إطارٌ مرجعي ومقياس للفكر.
هناك خصائص للمنطق العربي نظرًا لارتباطه باللسان العربي في مقابل المنطق اليوناني
وارتباطه باللسان اليوناني. ويستعمل ابن باجه الأسلوب العربي، مثل زيد وعمرو،
للدلالة على الفاعل والمبتدأ والخبر في النحو، أو المحمول والموضوع في المنطق.
١٥
(ﺣ) وفي «المعرفة النظرية والكمال الإنساني أو في الاتصال بالعقل الفعَّال»
يُذكَر من الوافد أرسطو والإسكندر.
١٦ وأرسطو هو نموذج العقل الكامل مثل الأولياء، نموذج الإشراقي الكامل،
وليس المنطقي الطبيعي، قراءة للوافد بألفاظ الموروث. ويستعير ابن باجه لوصف حالة
كون الفعل في ذاته وبذاته تشبيهَ الإسكندر للكامل ورجوع ذاته بذاته، الراجع
والمرجوع، الذات والموضوع؛ فيكون روحانيًّا لا جسمانيًّا، ولا يحتاج في وجوده إلى
جسم ولا قوة جسمانية.
ومن الموروث يُحال إلى أبي نصر والغزالي، ومن المؤلفات إلى كتاب الملة، ومن
الفِرق إلى الصوفية.
١٧ وصورة الفارابي عند ابن باجه أنه شيخ يدعو إلى تصفية النفس بذكر الله
وتعظيمه في كتاب «الملة». ويؤيد ابن باجه الغزالي بالرغم من نقده له في «تدبير
المتوحد» وفي «رسالة الوداع»؛ فطريق الصوفية، طريق الغزالي، مُوصل إلى المعرفة
والسعادة ومأخوذ من النبي. ولا يوجد نقد لهم مع أن ابن باجه نقدهم من قبلُ مع
الغزالي؛ فهو طريق قاصر على بلوغ الصور الروحانية. ويستشهد بقول بعض رؤساء
المتصوفين: «ولو وصلوا ما رجعوا.» ومن ثَم يغيب البرهان وإيصال الحقائق للناس. وقد
أفرط الصوفية في وصف هذه الحالة، الخيالات التي توجد في نفوسهم حسب الظن دون التيقن
من صدقها أو كذبها، مجرد نفس نزوعية لا تتصل إلا بالنفس الوهمية، ولا يتحقق من
الصدق والكذب بالنزوعي المنطقي الذي يُصيب النفس بحالة الفرح. أما النزوعية فهي
أقرب إلى البهيمية.
وتظهر بعض الموضوعات الدينية، مثل الوحي والكهانة والرؤيا والفيض والملائكة
والرسل والكتب، وهي موضوعاتٌ موروثة خالصة. قد تكون الرؤيا الصادقة بالوحي أو
بالكهانة، ولا حرج من الاعتراف بأشكال النبوءات الأخرى. كما يتم العلم بالفيض على
الملائكة، ومن الملائكة على عقول الإنسان طبقًا لاستعداده، كما هو الحال عند
الصالحين المخلصين المؤمنين بملائكته وكتبه ورسله، وعملوا بما يرضيه، فيُفيض الله
عليهم بواسطة ملائكته في الرؤيا وحوادث العالم العجيبة. كل ذلك في موضوع النبوة
وتركيب نظرية الاتصال عليها، والخيال في موضوع «بين العقل والقوة المتخيلة واتصال
العقل الإنساني بالأول» على النحو التالي:
هناك إذن علاقة متبادلة بين العقل والخيال، كلٌّ منهما مصدر للآخر. وهو خليطٌ
إشراقي من الصوفية والغزالي وأبي نصر مع الاتصال مع الوحي.
(ط) وفي «الفطر الفائقة والتراتب المعرفي» يظهر من الوافد أرسطو وحده، نموذجًا
للمتديِّن الكامل الإشراقي، وتوارى أرسطو المنطقي الطبيعي.
١٨ ولا يظهر من الموروث إلا آية قرآنية واحدة. والفطر الفائقة المعَدَّة
لقبول الكمال الإنساني معَدَّة لقبول العقل الإنساني؛ فالكمال هو العقل، قبول العقل
الإلهي المستفاد من الله، وهي الفطر التي تعلم الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم
الآخر والسعادة والبقاء والسرور. والعلم رؤية ببصيرة النفس، موهبة من الله. ويؤدي
بلوغ الكمال الإنساني إلى العلم الإلهي والكمال العقلي، وهما أيضًا بصيرة للأشياء؛
فلا فرق بين العلم النازل والعلم الصاعد، بين التنزيل والتأويل. ويتفاضل الناس في
هذه الموهبة التي هي بصائر القلوب، وأعظمها بصائر الأنبياء، يعلمون بها الله
ومخلوقاته دون تعلم أو اكتساب، علمًا كليًّا بالله وملائكته، ثم يأتي الأولياء بعد
الأنبياء. يأخذ أصحاب الفطر الفائقة علمهم من الأشياء، ما يوصلهم إلى العلم بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة القصوى. ويظلون كذلك حتى يروا العلم
بأنفسهم، ويرونه ببصائرهم حسب درجات الموهبة من الله؛ فيأنسون بالعلم، ويلتذُّون
بالفكر، وينعمون بذكر الله، سواء نطقت بذلك ألسنتهم أم لم تنطق. يُفيض الله عليهم
بحسب الرؤيا جزءًا يسيرًا مما وهبه الله للأشياء من الاطلاع على المعنيات. ومن
الأولياء صحابة النبي، وكل من أخلص وصدق. وبعد الأولياء طائفةٌ وهبهم الله بصائر
يتحقَّقون بها تدريجيًّا حتى يصلوا إلى اليقين بالمخلوقات والعلم بالله وملائكته
وكتبه ورسله والدار الآخرة. تبرَّءوا من البدن، وحصل لهم الكمال، وهي السعادة
القصوى، بقاء بلا فناء، وعز بلا ذل. يدرك الإنسان أجلَّ مطلوباته، وهو العلم بالله
والالتذاذ به، يرضى به ولا يُحاكيه. وبفطرته وبصيرته يهتدي إلى علم الأنبياء، فيَصل
إلى العلم الواحد من طريقين. ويفسِّر سورة الفاتحة، فيجعل المنعَمين عليهم الذين
وهبهم الله المعرفة، والمغضوب عليهم الذين وهبهم الله الموهبة ولكن يتبعون هواهم،
والضالين الذين عُدموا الموهبة.
والرسالة كلها خطابٌ ديني مطعَّم بآية قرآنية، سورة الفاتحة، بالإضافة إلى آياتٍ
مرسَلة حتى أصبح موضوع الرسالة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مضمونها
الفقهي. تتأرجح بين الفطرة والاكتساب كما هو الحال في الأشعرية؛ لذلك كان الصوفية
أدق عندما جعلوا الأحوال مواهب والمقامات مكاسب. كما تتأرجح بين المعرفة والوجود،
بين العلم بالغيب والعلم بالواقع والمشاهد، بين الإيمان التعليمي والاستدلال الفعلي
كما هو الحال في حكمة الإشراق. تجعل قدرات الأنبياء نظرية أكثر منها عملية، فهل
الأمر لذة المعرفة أم شقاء الجهاد؟ ويتصور ابن باجه مدينةً إلهية قمتُها الأنبياء
ثم الأولياء ثم فلاسفة الإشراق والصحابة والأولياء، ويستعمل مصطلحات الصوفية مثل
الفناء والبقاء، ولغة اللذة والعشق، حرمانًا من الدنيا وإشباعًا في الآخرة، تطهر
وثنائية مانوية وكأننا في «رسالة الطير» لابن سينا، أو رسائل إخوان الصفا. يفسِّر
الفاتحة تفسيرًا صوفيًّا صِرفًا، والوحي على نحوٍ إشراقي، والسؤال: كيف يكون هذا
الظن والفلسفة يقينًا وبرهانًا؟ وتبدأ الرسالة بالفطرة الفائقة المعدة لقبول الكمال
الإنساني المعدة لقبول العقل الإنساني، ثم العقل الإلهي، وهو عقل مستفاد من الله.
وتنتهي بالمعقولات الأولى التي يعملها الله للإنسان المعَدِّ لأن يعلم بها بالموهبة
من الله. وهو دورٌ منطقي، لا يعلم الإنسان الله إلا بالموهبة التي يُعطيها الله له،
وكأن الله هو المهيِّئ للمعرفة وموضوع المعرفة، وأن الإنسان ليس له دور إلا السير
في الطريق المرسوم له.
(ي) وفي «الفيض والعقل الإنساني والعلم الإلهي»، من الوافد لا يُحال إلا إلى اسم
كتاب «إيضاح الخير» دون مؤلفه، وهو منحول على أفلوطين أو برقلس؛ فالمهم الموضوع لا
الشخص، حتى ولو لم يتم التعرف عليه تاريخيًّا ونسبته إلى صاحبه. ومن الموروث لا
يُحال إلا إلى عيون المسائل للفارابي دون ذكر اسمه، مقارنًا بالغزالي في تأويل
الكتاب واتفاقهما في الفيض من العلم الإلهي إلى العقل الإنساني، وهو موضوعٌ أقرب
إلى روح أفلوطين الإشراقي منه إلى روح أرسطو المنطقي الطبيعي. الرسالة كلها وثنية
الطابع. إذ يُفيض الله من علمه على موجوداته ومخلوقاته العلم والعمل، فيتقبَّل كل
موجود حسب مرتبته من كمال الوجود. والعقول تقبل من العلم حسب مراتبها، وكذلك
الأجرام تقبل الأشكال والصور النفسانية حسب مراتبها، ومراتبها حسب أمكنتها. ولكل
جِرم سماوي خاضع للكون والفساد عقل ونفس. بالنفس يفعل الأفعال الجزئية المحسوسة على
جهة التخيل، وبالعقل يعلم الإنسان العلوم المنزَّلة عليه من الله ما يتعلق بالماضي
وبالمستقبل وما لم يشاهده بالعيان، غيب لا يُطلِع عليه إلا من يشاء من عباده بواسطة
الملائكة. ويحدث العمل عنه في الأجرام بواسطتها؛ لأن أعماله بذاته عن علمه أو
بتوسطٍ عقلي أعلى من الإنسان؛ فالعمل فيض من الله مثل العلم، وفيض على العقول
والأجرام، وليس على الإنسان جهد أو إبداع؛ ونتيجةً لذلك سينشأ الإيمان بالقضاء
والقدر. الرسالة كلها تصرف ودعاء ودعوات. تحوَّلت من المنطق الطبيعي إلى الفلسفة
الإشراقية والمواعظ الأخلاقية. لا فرق بين برقلس والغزالي والفارابي وابن باجه. وفي
البداية يُحيل ابن باجه إلى القضاء والقدر لتقدير الفيض والعلم، وفي النهاية
يتحسَّر على الضلال، ويأسف للشغل بالأحوال والأهل، ويدعو القارئ إلى اغتنام التفرغ
حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
١٩
(٢) آليات الإبداع
ويمكن جمع آليات الإبداع في رسائل ابن باجه كلها في منطقٍ واحد. يظهر فعل القول
كعادةٍ متَّبَعة في أسلوب التأليف، الأقل منها لأرسطو، والأكثر للمؤلف أو للرد على
الاعتراض مسبقًا «فإن قيل … قلنا». المؤلف هو الذي يقول أساسًا بضمير المفرد أو
الجمع، وليس فقط الآخر الفعلي أو الآخر المتوهم في الاعتراض المسبق. وهو قول موجز،
وليس شرحًا أو إسهابًا. الإسهاب نقل، والإيجاز إبداع. وكثيرًا ما يُذكَر القول
بمفرده دون نسبته إلى أحد، الأنا أو الآخر. وقد يُفهَم أنه قول الأنا وليس قول
الآخر من السياق وإضافة ضمير المتكلم المفرد أو الجمع لاسم فعل آخر. وقد يُستعمل
فعل القول كمبني للمجهول؛ فالمهم ما يُقال وليس من قال. وقد يخلو مقال بأكمله من
فعل القول ومشتقاته، مثل «تدبير المتوحد»؛ لأنه لا يوجد فيه حوار بين الأنا والآخر،
بل تعامل مع الواقع المباشر.
٢٠
وقد يقصد المؤلف القول، ويكون للعبارة قوة «أقول» مع فعل آخر، مثل: قصد، فرغ،
وقف. ويظهر القصد والغرض باعتباره موضوع الفكر. لا يتعامل الفيلسوف مع القول، بل مع
القصد، والغرض من القول؛ لذلك يظهر فعل «قصد» واسم «غرض» كثيرًا. وقد يُضاف إلى
القصد ضمير المتكلم المفرد أو الجمع. وقد يعبَّر عن القصد أو الغرض سلبًا بأنه ليس
كذا. ويتضح بالتأمل حتى تظهر المعاني القصدية.
٢١ وتُستعمل أفعال البيان في الأزمنة الثلاثة لإظهار القصد، وكذلك تُستعمل
أفعال الظهور والكشف؛ فغاية البيان الظهور.
ويبدو المسار الفكري وكأنه نظرية في الإيضاح في مشتقات لفظ البيان اسمًا أو
فعلًا، في الأزمنة الثلاثة تأكيدًا على تواصل المسار الفكري. وقد يكتفي بالجمع بين
زمانين الماضي والمستقبل لمَّا كان الحاضر مجرد ممر من الأول إلى الثاني. تكشف كثير
من التعبيرات عن المسار الفكري لابن باجه، وعن وحدة مشروعه الفكري. يُحيل الموضوع
إلى موضوع آخر لمزيد من الإيضاح والتفصيل، يُحيل إلى موضوعٍ سابق أو لاحق. ويمكن
تصنيف هذه التعبيرات طبقًا للزمان أو الموضوع أو العموم والخصوص. وأغلب الإحالات
إلى الكتب المعينة في الماضي. ويدل المستقبل على تأجيل تفصيل الموضوع إلى وقتٍ
لاحق. ويبدو من المسار الفكري استنباط النتائج من المقدمات في استدلالٍ منطقي.
ونظرًا لطول العبارة استبدل بها المهندسون العلامات. وتظهر أنماط الاعتقاد من شك
وظن ويقين.
٢٢
وتتم الإحالة في الماضي إما إلى مواضيع عامة سابقة، أو إلى كتاب من الكتب المؤلفة
سابقًا، أو إلى علم من العلوم التي تم التأليف فيها سابقًا، أو إلى الموضوع إجمالًا
أو تفصيلًا. وقد تكون الإحالة إلى الماضي في صيغة المبني للمعلوم لأحد مشتقات فعل
القول أو بصيغة المبني للمجهول. وأحيانًا يظهر أحد مشتقات فعل البديان، وهنا ترتبط
الإحالة بنظرية الإيضاح. وتكشف الإحالات إلى أعمالٍ أخرى عن وحدة العمل كله، أو
وحدة المذهب الذي يميل إليه ابن باجه في باقي أعماله لمزيد من البيان والإيضاح؛ مما
يدل على وجود مشروع فكري عام مُتكامل لابن باجه. وأكثر ما يُحال إليه تدبير
المتوحد، ثم رسالة الوداع، ثم كتاب النفس، ثم المقولات والحيوان والنبات. وقد يشير
إلى العلم مثل العلم المدني.
٢٣ والإحالة إلى كتاب النفس تأليفًا وليس شرحًا لأرسطو، فتحوُّل الكتاب من
أرسطو إلى الشراح إلى الموضوع أو العلم هو تحوُّل من النقل إلى الإبداع. تكون
الإحالة من كتاب النفس إلى النفس انتقالًا من الكتاب إلى الموضوع، خطوةً في التحول
من النقل إلى الإبداع. ويتمُّ نفس التحول عند ابن باجه انتقالًا من «كتاب التوحد»
إلى «تدبير المتوحد». ويمكن عن طريق الإحالة إلى المؤلفات معرفة ترتيبها الزماني.
وواضحٌ أن الإحالات إلى المتأخرة كثيرة ومعتدة. وتدبير المتوحد من أواخر الكتب.
٢٤
ومؤلفات ابن باجه لا تنفصل عن حياته؛ فكره قدره، وعلمه تجاربه، ولا يقتصر ذلك
عليه وحده، بل هي سمة عامة عند الحكماء منذ الكندي حتى ابن رشد. الحديث عن النفس،
والعلم تجربة. التعاليم الشفاهية بجوار المصادر المدوَّنة، ليس استعراضًا ذاتيًّا
أو خروجًا عن الموضوعية، بل بيان لنشأة العلم وتكوينه في الشعور. ويكشف التطور
الفكري لابن باجه عن اشتغاله أولًا بالموسيقى ثم بالفلك. والموسيقى علمٌ رياضي،
وكذلك الفلك والهندسة. ويذكر إشبيليا مدينة الموسيقى والغناء؛ مما يدل على الطابع
الموروث المحلي للعلم والثقافة والفن، ثم اشتغل بالعلم الطبيعي قدر اشتغاله بالمنطق
اعتمادًا على الفارابي. وتشمل التجارب الأسفار والأماكن والزيارات؛ فقد كانت
المعرفة تأتي من الواقع المباشر في مرحلة التأليف كما أتت من النص في مرحلة النقل،
وأتت من العقل الخالص في مرحلة الإبداع. كما ينقد ابن باجه سابقيه ومُعاصريه؛ فهو
مرحلة من وعيٍ تاريخي، وليس فقط من وعيٍ اجتماعي. يُحاور الماضي كما يُحاور الحاضر،
ويتجاوز الأمر مجرد الطابع الشخصي في التأليف، رسالة إلى صديق أو إلى فيلسوف،
الكندي والمعتصم، ابن رشد والأمير، ابن باجه والوزير، ابن سينا والبلخي. يتَّحد
الموضوع بالذات، والذات بالموضوع، والعلم بالتجربة، والتجربة بالعلم. ولا يعيب ذلك
البداية الموضوعية بالعلم؛ فالعلم تجربة وحياة، هم بين قِصر العمر وطوله. وأهم شيء
في السلوك البشري هو الغاية. وهي التي وضعها الحكماء السابقون وأكَّد عليها
أبو نصر. ومع ذلك منعت ندرة كتبه في الأندلس من الاطلاع عليها؛ لذلك يستأنف
ابن باجه التأليف، إبداعًا لا نقلًا، وذاتيًّا لا موضوعيًّا. وإن ما تركه أرسطو في
الحادية عشرة من الأخلاق مجمل جدًّا لا يكفي، وهذا هو دافع التأليف، استكمال ما
بدأه القدماء، الوافد أو الموروث، ويشتدُّ هذا الشجن، اللقاء والوداع، في رسالة
الوداع. ولا ينفي ابن باجه تعلُّمه على أيدي المشارقة بالرغم من بعد المشرق؛ فالعلم
يتجاوز المناطق والجهات، وإن لم يصبح المشرق رمزًا كما هو الحال عند ابن سينا في
«منطق المشرقيين»، وابن طفيل في «أسرار الحكمة المشرقية»، أو ابن عربي في «عنقاء
مغرب». والفيلسوف موقف معرَّض للمخاطر. البدن رقيق، والإنسان وصحبه يستطيع به
الأسفار والتحرك واللقاء. ومع ذلك، الأخطار مُحدِقة، أخطار سياسية واجتماعية،
وإغراءات دنيوية.
ولأن العلم تجربةٌ حية يُخاطب المؤلف القارئ؛ فالتأليف عملٌ مشترك، رسالة متبادلة
بين المُعطي والمُستقبل. وفي مخاطبة القارئ يظهر قول المؤلف كما تظهر غايته وقصده
حتى البيان والإيضاح، وهو القارئ العادي، دعوةً له للمشاركة في نفس التجارب والتأمل
في النفس للانتهاء إلى نفس النتائج مع غاية الأدب والاحترام له، وكأن ابن باجه
يعبِّر عقليًّا عن آية
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ
* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
٢٥ ويقوم الفن الشعبي أيضًا على تجربةٍ مشتركة بين الفنَّان والمشاهد، مثل
قراءة القرآن، كتجربةٍ جمالية مشتركة بين المُقرئ والمُستمع. ويترك للقارئ الاختيار
بين طريقين؛ طريق الكمال المادي بالآلات واليسار، وهو كمال العبيد حتى ولو كان
الإنسان حرًّا، وهو كمال وهمي وإن بدا في الظاهر كمال الصحة، هو كمال الفضائل
الشكلية التي يخضع فيها الإنسان لمدبِّرٍ آخر سواه، فيخرج عن مرتبة الإنسانية إلى
مرتبة أشرف الحيوان غير الناطق، كالأسد في الجرأة. وقد يحدث الكمال بالصناعات
العملية لخدمة إنسان آخر بتوسط مثل الأعداد للخيل، أو دون توسط كالكلب. والأفضل
الكمال النفسي وبالذات، وهو أشرف مراتب الكمال، عندما تستمد الذات وجودها من ذاتها.
وهذا هو طريق الحكماء السابقين واللاحقين في وعيٍ تاريخي متصل، من الأنبياء إلى
الحكماء، دون تجريح للقدماء أو غلق باب الاجتهاد على القادمين. هو خطاب لمن هو أهل
له، اعتراف من حكيم إلى حكيم، وتوجيه من شيخ إلى مُريد. وينتهي الخطاب بآيةٍ قرآنية
مرسلة عن هذا الوعي التاريخي من السلف إلى الخلف، من رضي الله عنهم ورضوا عنه،
وفازوا بالفوز العظيم، طريق التأمل متصلٌ قبل ابن باجه ومعه وبعده. يشير ابن باجه
إلى معاصريه ولمن لديهم الفطرة على السير فيه. قد يكون القارئ مُتميزًا، وزيرًا
مثلًا، ومُريدًا طالب الحكمة مع الدعاء له بطول العمر والبقاء والعزة والعافية.
يُخاطب المؤلف القارئ، ويجعله طرفًا في عملية الفكر في تجربةٍ حضارية مشتركة،
ومشاركة المؤلف القارئ ودعوته له تجعل القارئ يكتشف الحقيقة بنفسه استجابةً لدعوة
المحبة والود والدعوة لطلب الكمال واقتناء الفضائل. وأفضل علم ما تم نقله شفاهيًّا
من الشيخ إلى المريد؛ فإن تعذَّر لقاء الأبدان يكون لقاء الأرواح عن طريق التدوين.
إذا عزَّت الأذن حضرت العين. وأحيانًا يكون العلم استيضاح المدوَّن، سواء من المؤلف
أو القارئ؛ مما يتطلب تغيير ترتيب العبارة والأسلوب على نحوٍ أفصح؛ لذلك يشرح
المؤلف لمزيد من الإفهام، ويرسل إلى القارئ المدون نفسه؛ فالعلم تبادل، بل إن
المؤلف يسمح للقارئ بأن يحسن العبارة ويجعلها أكثر فصاحة وأنصع أسلوبًا؛ فالقضية
واحدة، والهدف مشترك. العلم إذن على ضربين؛ صناعي وطبيعي. الصناعي ما يتعلَّمه
المتعلم من الآخرين، والطبيعي ما يكتشفه المعلم بنفسه. الأول داخل للنقل، والثاني
خارج للإبداع. والعلم مشقة ومُعاناة، ممكن بالرغم من زحمة الحياة وضيق الوقت وقِصر
العمر. العلم هداية من الله وتوفيق منه. فالمتعلم ليس فقط في حاجة إلى الصدق الإلهي
لأن العلم كله من الله، وهو أسلوب التأليف منذ الكندي بالرغم مما في الأسلوبين من
عجمةٍ لغوية وألفاظٍ عربية قديمة لم تستمر؛ ربما لأنه أول فيلسوف بالمغرب، مثل
الكندي أول فيلسوف في المشرق.
ولا يقلُّ دور الناسخ عن دور القارئ في صياغة النص؛ فالناسخ هو الذي يقدم النص،
ويقطعه إلى فقرات، كلٌّ منها مسبوق بقال فلان بكنيته أو بلقبه.
٢٦ «قال» «يقول» عادة من الناسخ؛ لأنه جزء من الحضارة، وينتمي إلى النص،
ويعتبر نفسه مسئولًا عنه مسئولية المؤلف. يتم ذلك مع الموروث والوافد. تعبير «قال
أرسطو» لا يدل على تبعية لأرسطو أو تقليد لأقواله، بل هي عادة تقطيع النص إلى
وحداتٍ صغرى طبقًا للموضوعات. هو عملٌ إبداعي يدل على فهم تفصيلات الموضوع بتعبير
المغاربة المُحدَثين. وقد يقوم الناسخ بإضافة مقدمة أو خاتمة قبل فعل القول. ويشعر
الناسخ بأن ابن باجه مفكر مسلم ينتمي إلى الحضارة الإسلامية، فيطلب رضا الله عنه.
وهو يقطع كلامه في بداية المقال وفي نهايته مع البداية بالبسملة، والدعوة بالتوفيق
من الله، والنهاية بالحمدلة والترحم عليه.