(١) المجوسي
كامل الصناعة الطبية، ويُسمى أيضًا «الملكي»؛ لأنه مهدي لعضد الدولة كما هي
العادة في أمهات التآليف.
١ وللمؤلف عدة ألقاب، ومع ذلك فهو المُتطبب؛ أي الذي يُمارس الطب دون أن
يكون بالضرورة حكيمًا؛ فالطب فرع من الطبيعيات من علوم الحكمة.
٢ ويتكون من جزأين؛ الأول في الطب النظري، والثاني في الطب العملي. الأول
في فلسفة الطب باعتباره من الطبيعيات؛ لذلك تتضمن مقالاته العشر المفاهيم الطبية
الرئيسية، مثل القوى والأفعال والأرواح والعلل والعلاقات والتمييز بين ما هو طبيعي
وما هو خارج عن الطبيعي، وطرق الاستدلال.
٣ والثاني في الطب العملي؛ أي في العلاج والأدوية. وهنا تتغلَّب الأدوية
المحلية العراقية والفارسية والهندية والبابلية، كما تقل الإحالة إلى أسماء الأعلام
من الموروث أو الوافد، وهو أكبر من الأول من حيث الكم؛ لأنه تجميع أكثر منه تنظيرًا.
٤ وبالرغم من الطابع الشمولي للكتاب وتفصيلاته الشديدة إلا أنه يُحيل إلى
السابق ويذكِّر به، ويعدُ باللاحق ويوعد به.
٥ ويغلب زمن الماضي على الحاضر والمستقبل. وأيضًا يبيِّن الفكر نفسه
بغيةَ الوضوح؛ لذلك تكثر أمثال عبارة «وقد بيَّنا» و«قد شرحنا».
٦ كما تُستعمل أفعال القول في ضمير المتكلم «فنقول»، «فأقول»، «قلنا»، في
أقل القليل. ومعظم الفقرات تبدأ بالأشياء، العلل والأسباب.
٧ ويعتمد الملكي على بعض الاقتباسات تنتهي بعبارة «انتهى» التي تُعادل
قفل القوسين عند المُحدَثين.
٨ ويُخاطب القارئ من المتخصصين في صيغة «اعلم ذلك»، وتكثر في الطب النظري
عن الطب العملي، أو في صيغة «افهم».
٩
وفي التصدير يصف المجوسي الحالة الراهنة للطب في عصره؛ فأبقراط إمام الصناعة، حوى
كل شيء في كتاب «الفصول» إلا أنه سلك طريق الإيجاز حتى غمض كثير من معاني كلامه مما
يحتاج إلى تفسير. وجالينوس مقدم فاضل وضع كتبًا كثير، ولكنه طوَّل وكرَّر وجادل
وعارض؛ مما يحتاج إلى اختصار وتركيز في كتابٍ واحد يُوفي بغرض الصناعة. ولا يوجد
كتابٌ وسط بين التفريط والإفراط إلا «الملكي». وأوريناسيوس قصر في كتابَيه لابنَيه
ولعوام الناس؛ فلم يذكر شيئًا من الأمور الطبيعية والأسباب، وكذلك لم يذكر قوليوس
في كتابه من الأمور الطبيعية إلا اليسير، وبالغ في بيان الأسباب والعلامات وأنواع
المداواة والعلاج باليد، دون أن يتبع طريق التعليم. هذا في الوافد.
وأما المُحدَثون، أي في الموروث، فلا يوجد إلا كتاب هارون الذي وضع فيه كل شيء،
ولكن على طريق الإيجاز من غير شرح واضح. وترجمته سيئة تُعمي على القارئ كثيرًا من
المعاني، خاصةً من لم ينظر في ترجمة حنين؛ فكتاب هارون وافد أصبح موروثًا. ولم يذكر
سرابيون في كتابه إلا المداواة والتدبير، وأسقط العلاج باليد، وترك كثيرًا من
العلل، ووضع مسيح كتابًا مثل هارون، ونحا نحوه في قلة شرح الأمور الطبيعية وغير
الطبيعية، مع سوء وقلة معرفته بالكتب السابقة. وهذه مرحلةٌ متوسطة بين النقل
والإبداع، مرحلة تأليف الأطباء السريان باليونانية أو السريانية.
ثم بدأت مرحلة التأليف عند الرازي في كتابة «المنصوري» حاويًا كل شيء، إلا أنه لم
يستقصِ شرح ما ذكره، واستعمل طريقة الإيجاز والاختصار، ووضع في «الحاوي» كل شيء إلا
أنه لم يذكر شيئًا من الأمور الطبيعية ولا وجوه التعاليم. وتعني الأمور الطبيعية
المسائل النظرية كالأمزجة والأخلاط والأسطقسات، ونقصه الترتيب إلى جمل وأبواب
وفصول، ولا أورد ما يوجبه القياس. وجاء عائق الموت قبل إتمامه، مع أنه طوَّل فيه
بغير حاجة، جمع فيه ما قاله الأطباء، قدماء ومُحدَثين.
١٠
وكردِّ فعل على هذه الحالة الراهنة للتأليف الطبي في عصره بين الإطناب والإيجاز،
وبين النظرية والممارسة، وبين الوضوح والغموض، أتى «الملكي» جمعًا بين الطرفين،
بالإضافة إلى الاعتماد على الطب المحلي في العراق وفارس، وليس فقط على طب اليونان.
١١
ويحدِّد «الملكي» مناهج البحث الطبي، أي النحو التعليمي، عن طريق القسمة؛ لأن
أنحاء التعليم خمسة: التحليل بالعكس، التركيب، الحد، الرسم، ثم القسمة. فالتحليل
بالعكس يقوم على وصف الشيء في الوهم من أوله إلى آخره، وهو التحليل، ثم من آخره إلى
أوله، وهو العكس. والتركيب هو إعادة جمع الأشياء التي تم تحليلها في الطريق الأول.
والحد هو تصور الشيء ووضعه في أجناسه وأنواعه وفصوله. والرسم هو وصف الشيء من
أعراضه دون جوهره؛ أي من كيفياته دون ذاته. أما طريق القسمة فهو قسمة الشيء إلى سبع
جهات، قسمة الجنس إلى أنواع، وقسمة النوع إلى أشخاص، وقسمة الكل إلى الأجزاء، وقسمة
الاسم المشترك إلى معانٍ مختلفة، وقسمة الجواهر إلى أعراض، وقسمة الأعراض إلى
جواهر، وقسمة الأعراض إلى أعراض.
١٢
وتتم مخاطبة القارئ بصيغة «اعلم» لمشاركته في العلم؛ فهو يكتب للمُتخصصين. وتتخلل
الكتابَ بعضُ الرسوم التوضيحية للآلات الطبية، مزيدًا في الإيضاح.
١٣
ويتعادل فيه تمثل الوافد مع تنظير الموروث؛ ففي الوافد يتصدر أبقراط، ثم جالينوس،
ثم أوريناسيوس، ثم فولس وأنطات وقولبيوس وأرسطو. ومن الشرق أنوشروان.
١٤ وغالبًا ما ترد أسماء الوافد في التسميات والمصطلحات، وكأن المجوسي
يعرف المسمَّيات ويريد فقط إطلاق الأسماء عليها. ولما كانت الأسماء والمصطلحات في
الغالب يونانيةً عند أطباء اليونان تمَّت الإحالة إليهم؛ فالكتاب تأليف في الموضوع
أي الطب، وليس شرحًا أو تلخيصًا أو جوامع لطب اليونان. ومع ذلك تظل الأسماء قليلة
بالنسبة لحجم الكتاب، وكأنه أقرب إلى الإبداع منه إلى التأليف.
ومن المؤلفات يذكر كتاب «الفصول» و«حفظ الصحة»، ولأبقراط كتاب «تقدمة المعرفة».
ويُحال إلى «القدماء من الأطباء» إحساسًا بتطور علم الطب من القدماء إلى
المُحدَثين. ولا يذكر ديسقوريدس لأنه لم يكن قد تمَّت ترجمته بعد. ويستشهد بكسرى
أنوشروان على أهمية العلم. فإذا كان النقل من الغرب اليوناني، فالوجدان في الشرق الفارسي.
١٥
ومن الموروث يتصدر بطبيعة الحال اسم المؤلف على ابن العباسي المجوسي، ثم أستاذه
أبو ماهر موسى المجوسي، ثم عضد الدولة الذي كتب له المجوسي كتابه «الملكي»، والكندي
وهارون، ثم حنين بن إسحاق، وإسحاق بن حنين، ويوحنا بن سرابيون، ومسيح، والرازي،
ويحيى النحوي، ومحمد، عليه السلام.
١٦ وواضحٌ أن الأطباء السريان كانوا مرحلةً متوسطة بين النقل والإبداع
بالتأليف في المنقول باليونانية أو السريانية أو العربية. ولا يذكر الكندي إلا في
العلاج، وكأنه ليست له نظريات في الطب.
١٧
ويظهر الموروث أكثر في تصور العالم أكثر من أسماء الأعلام؛ فالطبيعة من خلق الله،
وعلم الطب هو الكاشف عن الخلق، كما أن علم الطبيعة في الكلام هو الكاشف عن حدوث
العالم. ويبدو الخلق في التصور الوظيفي للأعضاء؛ فكل شيء في البدن من أجل وظيفة،
والوظيفة هي الغاية، وهو ما يُسميه علم الكلام العناية؛
١٨ لذلك كان الطب أكرم صناعة كرَّم الله بها — عز وجل — خلقه؛ فقد خلق ما
خلق من أجل الإنسان؛ لذلك تكثر تعبيرات «الله أعلم»، «الله تعالى أعلم»، خاصةً في
الطب النظري، وتعبيرات «بإذن الله تعالى» في الطب العملي.
١٩ ويبدأ الكتاب بحمد الله والثناء عليه والشكر له، خالق الخلق بقدرته،
وباسط الرزق بحكمته، والمنَّان على عباده بفضله، والمُعطي لهم ما يقدرون به على
إصلاح معايشهم في الدنيا والفوز في الآخرة. هو العقل سبب كل خير، ومِفتاح كل نفع،
والسبيل إلى النجاة، وفضله على سائر ما خلق من نبات وحيوان.
٢٠ وتنتهي كل مقالة ﺑ «حمد الله وعونه»، و«الله الموفق للصواب»، وغيرها من
العبارات الإيمانية التي قد تطول وتقصر. وتغلب الإيمانيات أيضًا على المصحح، وذكر
التاريخ الهجري. وتظهر البسملة وسط الكتاب في بداية بعض المقالات.
٢١
وهو أيضًا مهدًى إلى السلطان لدرجة تسمية الكتاب الملكي.
٢٢ والسلطان والعالم قديمًا الذي يشجِّع العلم والعلماء زينة البلاط خيرٌ
من السلطان الجاهل حديثًا الذي يزين مجلسه بضباط الجيش والشرطة.
(٢) ابن البيطار
واستمر تمثل الوافد مع تنظير الموروث في القرون المتأخرة، السابع والثامن، في
الطب والرياضيات. مثال ذلك «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» لابن البيطار (٦٤٦ﻫ).
٢٣ وغرض الكتاب استيعاب القول في الأدوية المفردة والأغذية المستعجلة في
الاحتياج، وإسناد الأقوال لأصحابها، وإثبات صحة النقل فيما ذكره الأقدمون
والمتأخرون، وتصحيح ذلك بالمشاهدة، كما سيكرِّر ذلك ابن خلدون في التحقق من روايات
السابقين في أول «المقدمة»، واستبعاد التكرار إلا عند ضرورة البيان، والترتيب
الأبجدي لسهولة المعرفة، والتنبيه على الأغلاط في الدواء والمراجعة والتصحيح، وذكر
أسماء الأدوية بسائر اللغات وأماكنها، بالبربرية واللاتينية، وهي أعجمية الأندلس
المشهورة عند العرب، وموجودة في الكتب، وتشكيل الأسماء منعًا للخطأ؛
٢٤ لذلك سُمِّي «الجامع» بين الدواء والغذاء. جمع فأوعى، واختصر فاستقصى.
وهو مجرد قاموس طبقًا للحروف الأبجدية، مثل تفسيره للأدوية المفردة لجالينوس. وقد
تختلط أسماء الأدوية وأسماء الأعلام نظرًا لأن كثيرًا من أسماء الأدوية منسوبة إلى
أصحابها. واسم المؤلف نفسه مشتق من اسم المهنة، البيطار من البيطرة. ونظرًا لكثرة
التعريب يصعب التمييز بين اسم الدواء واسم الطبيب؛ فكلاهما يوناني. ويستمر الكتاب
على وتيرةٍ واحدة كالقاموس لا يُقرأ كليًّا، بل يُستفاد منه جزئيًّا وحين
الحاجة.
ويُحيل ابن البيطار إلى مؤلَّفه الآخر؛ مما يوحي بوحدة عمله.
٢٥ ولا تظهر في الكتاب أفعال القول كثيرًا؛ لأن المادة العلمية، خاصةً
أسماء الأدوية، لا يقولها أحد. ويذكر الموروث راويًا للوافد في روايةٍ مزدوجة كما
هو الحال في التناص في الأدب، مثل «قال الرازي قال جالينوس».
٢٦ وقد بدأت في القرن السابع حركة تأليف الموسوعات وتجميع المعلومات؛
فالذاكرة تنشط عندما يهنُ العقل؛ لذلك غلب على الكتاب التجميع في عصر المدوَّنات
والموسوعات في الأندلس وقت الضياع، كما حدث في المشرق إبَّان الحكم
العثماني.
وللتجميع مصادر متعددة مدونة وشفاهية مع بعض الاقتباسات لتعريف أسماء الأدوية دون
تحليل.
٢٧ وأحيانًا لا يذكر المصدر ويكتفي بفعل القول في المبني للمجهول «قيل».
وتُذكَر بعض كتب الرحلات العلمية، مثل «الرحلة المشرقية».
٢٨ وأحيانًا يُذكَر الكتاب، وأحيانًا الكتاب وصاحبه، وأحيانًا المؤلف فقط؛
ما يدل على التأرجح بين العمل وصاحبه.
لذلك غابت الدلالة وقل الفكر؛ نظرًا لأن التيارات الفكرية كحركة في التاريخ قد
ضعفت أو توقَّفت. العلم هو تجميع المعلومات، وفي الطب بوجه عام، مع بعض التصحيحات
والزيادات بناءً على التجربة والقياس. ومن كثرة التجميع لا يكاد يظهر تعليق على
منقول. و«كتاب التجربتين» مشهور في عصره.
والوافد في العمق، والموروث في الاتساع؛ فمن الوافد يتصدر ديسقوريدس، ثم جالينوس،
ثم أرسطو، ثم بديقورس، ثم أبقراط، ثم بولس، ثم روفس، ثم هرمس، من مجموع ثمانية
وعشرين علَمًا يونانيًّا.
٢٩ ومن أسماء الكتب يُحال إلى عشرات.
٣٠ ويُذكَر اليونانيون واليونان واللغة اليونانية، ثم اللاتينية والرومية،
ثم أنطاليا، ثم لينوس، وعشرات من البُلدان من البيئة اليونانية.
٣١
أما الموروث، فيتصدر الرازي مع بعض كتبه، مثل «الحاوي» و«المنصوري» و«دفع مضار
الأغذية»، ثم الغافقي، ثم ابن سينا، ثم الشريف الإدريسي، ثم إسحاق بن عمران، ثم
أبو حنيفة الدينوري، ثم ابن ماسويه، ثم عيسى بن ماسة، ثم التميمي، ثم علي بن ربن
الطبري، ثم حبيش، من حوالَي سبعين اسمًا.
٣٢ ومن أسماء الكتب العشرات.
٣٣ وفي البيئة الجغرافية تأتي الأندلس، ثم الهند، ثم مصر وفارس، ثم المغرب
وأفريقيا، ثم الصين، ثم البربر وفلسطين والترك، ثم قبرص وعشرات من الأماكن الصغرى.
٣٤
ولا يوجد إحساسٌ قوي بالتمايز بين الوافد والموروث بعد أن أصبح الوافد موروثًا،
كلاهما علمٌ يتمُّ تجميعه بصرف النظر عن مصدره ونشأته. وأحيانًا تظهر بعض الأسماء
التي كانت معروفة في عصرها ولكن شهرتها لم تستمر مثل باقي الأطباء الكبار، وأحيانًا
يُذكَر اللقب دون الاسم تحولًا من العالم إلى العلم.
من الوافد يمدح حنين بن إسحاق لأنه كان مُدققًا في علمه بلغة اليونانيين، وهو من
أفضل النقَلة فيها، إلا أنه لم يثبت في هذا الموضع، فزلَّ بذلك جميع من أتى بعده من
علماء عصره. وتكثر أعلام الوافد والموروث لدرجة أنه تقل عدد الصفحات الخالية منها.
وأحيانًا يُذكَر اسم العلَم واحدًا مثل مسيح، وأحيانًا كاملًا مثل مسيح بن الحكم.
وقد ذُكر أرسطو راويًا عن آخرين.
٣٥ ويظهر هرمس في الطب وليس فقط في الحكمة، وكأنه شخصٌ حقيقي؛ مما يدل على
التحول من الأسطورة إلى الشخص، ومن الشخص إلى الأسطورة.
٣٦ ويكثر حضور مصر والمشرق في المغرب على عكس المغاربة المُحدَثين أنصار
القطيعة المعرفية، ومصر هي حلقة الاتصال بين المشرق والمغرب. كما يكثر حضور آسيا
بالرغم من بعدها. ويعظم حضور الهند وفارس الجناح الشرقي للحضارة الإسلامية.
كما يحضر الجنوب، أفريقيا، ويكثر الحديث عن البربر، كما هو الحال عند ابن زهر
وابن خلدون دون أدنى حرج كما هو الحال في هذه الأيام. كل ذلك يؤكد وحدة العالم
الإسلامي كحضارة، وفي نفس الوقت ظهور الخصوصيات الإقليمية في الطب الجغرافي أو
الجغرافيا الطبية. علمٌ مرتبط بالواقع البيئي المحلي، سواء في الوافد أو في
الموروث. وقد يظهر ذلك سلبًا، مثل غياب الدواء في منطقةٍ جغرافية بعينها مثل المغرب
أو الأندلس، ويتم الحديث عن الفِلاحة الفارسية، وهو غير الفِلاحة النبطية.
٣٧
ولا يظهر ابن رشد كثيرًا إما لنكبته وضياع كتبه ولأنه لم يعش في التراث التالي
له، وإما لأن هذا هو أثره الفعلي في التاريخ، وإن تضخيم دور ابن رشد إنما كان من
أثر الرشدية اللاتينية والفكر العربي المعاصر تبعية للاستشراق وهجومًا على الجماعات
الإسلامية المعاصرة باسم التنوير.
٣٨ والعجيب أن ابن زهر أكثر ذكرًا منه، وهو الذي قدَّمه ابن رشد وطلب منه
تأليف كتابه «التيسير».
وأحيانًا يقع التقابل بين الأنا والآخر، بين نحن وهم،
٣٩ هو يقول وأنا أقول. وهناك إحساس بتطور العلم وتغير الزمان من الطب
القديم إلى الطب الحديث،
٤٠ بل يتطور المؤلف نفسه من مرحلة الشباب إلى مرحلة الكهولة، ويذكر الكندي
الذي يكاد يتوارى في التراكم الفلسفي.
٤١ وقد تغيَّر الوافد القديم من اليونان إلى الوافد الحديث من الغرب؛ أي
الإفرنج إيطاليا وفرنسا شمال العالم الإسلامي. فيتحدث ابن البيطار عن بلاد الإفرنج
كما سيتحدث ابن خلدون فيما بعد؛ فقد بدأت الحروب الصليبية، وعرف السلمون حضارة الشمال.
٤٢
ويذكر ابن البيطار أسماء المدارس الطبية المختلفة، مثل أصحاب القياس وأصحاب
التجربة، وعلى أساسها يقوم تصحيح الأقوال التي تبدأ بلفظ «زعم»؛ لذلك يقول بعد وصف
الدواء: «وهو مجرَّب.» وربما ترجع أخطاء الأقوال عن المفسرين والشراح اللغويين غير الأطباء.
٤٣ بالإضافة إلى ذلك هناك أيضًا دراسة الحالة التي تقوم على مشاهدة؛ لذلك
يقول: «ورأيته بحد البصر.»
ومن ثَم يقوم ابن البيطار بتحليل الموضوع، وهو الأدوية، على مستوياتٍ ستة:
الدواء، واسمه معرَّب أو منقول، ولغته يونانية أو لاتينية، وآثاره، أي علاجه، وطرق
معرفته التجربة أم النقل، وأماكن وجوده في الشرق أو المغرب أو في بلاد
الإفرنج.
وبطبيعة الحال تبدو بعض العبارات الإيمانية من خلال الكتاب بالرغم من قلتها
بالنسبة لهذا العصر المتأخر الذي تزداد فيه نظرًا لتغلغل الأشعرية والتصوف في
الثقافة الشعبية، وربما لأنه مجرد قاموس. تبدأ الأجزاء بالبسملات وتنتهي بالحمدلات.
ويستعمل أسلوب القرآن الحر، مثل: لقد جئت شيئًا فريًّا. ويتدخل الله كعلةٍ فاعلة
للأمراض والعلاج والشفاء؛ فهو الذي خلق بنية الإنسان، وسخَّر له ما في الأرض من
جماد وحيوان ونبات، وجعلها أسبابًا لحفظ الصحة وشقاء الدار. وبعض الأدوية تم
الإرشاد إليها في المنام. وكل شيء بمشيئته وإذنه. وقد ذكر الله البقل في القرآن،
وأشاد به الشعراء. وتعرَّف الخليل بن أحمد على الموز في القرآن. وتتم دعوة الله أن
يحفظ البلاد،
٤٤ الأندلس، ويُعيدها إلى الإسلام بكرمه،
٤٥ إما الجزيرة كلها أو ما ضاع منها في الشرق؛ فالكتاب يحمل «هموم الفكر
والوطن». ويُخاطب القارئ؛ فالعلم تجربةٌ مشتركة بين المؤلف والقارئ. ولا يمنع ذلك
من طلب التأليف بأمر من السلطان.
٤٦
(٣) الطوسي
وفي القرن السابع الذي حمل لواءه الفكرُ الشيعي في العلوم الطبيعية والرياضية
والأخلاقية، يمثِّل «التذكرة في علم الهيئة» لنصير الدين طوسي (٦٧٢ﻫ) نموذج التعادل
بين الوافد في العمق والموروث في الاتساع؛
٤٧ فمن الوافد يتصدر بطليموس، ثم أرشميدس وإقليدس فحسب. ومن الكتب يتصدر
المجسطي، ثم السماء والعالم.
٤٨
ويبدو ارتباط الطوسي ببطليموس شارحًا مسار فكره، يدخل فيه ويعلل اختياره أحد
الاحتمالين، ثم يتجاوزه إلى ابن الهيثم المتمِّم له. والحقيقة أن بطليموس هو شارح
السيوطي، وارتباط السيوطي به مجرد ارتباط الجديد بالقديم، مثل ارتباط الإسلام
بالمراحل السابقة للوحي، المسيحية واليهودية، تطويرًا وإتمامًا لها.
٤٩ ولما ارتبط الفلك بالهندسة تم الاعتماد على أرشميدس ومصادراته لبيان
مساحة الدوائر بالتقريب وعلى إقليدس لبيان نسبة الكر إلى الكره، هدفه تنقيح بطليموس
من سوء الترجمة والشروح، و«المجسطي» نفسه مجرد رواية عن الفلك القديم في حاجة إلى برهان.
٥٠
لم يتوقف شرح الوافد والتأليف فيه في هذا العصر المتأخر، بل ظهر في نوعٍ أدبي
جديد هو التحرير؛ أي إعادة الكتابة والعرض.
٥١
ومن الموروث يتصدر ابن سينا وابن الهيثم، ثم البيروني والرازي الطبيب والمأمون.
ومن البلدان جزائر الخالدات، ثم الحبشة والمغرب ومكة، ثم الأندلس وبرية سنجار
والشام ومصر. ومن البحار والخلجان البحر الغربي، ثم البحر النوبي وبحر خوارزم وبحر
طبرستان وبحر درنك والخليج الأخضر والخليج الأحمر والخليج البربري وخليج فارس.
ويبيِّن الخلاف بين ابن سينا والرازي تطويرًا للتراث الفلكي الموروث، ويستأنف
أحكامهم مثل حكم ابن سينا على بقعة بأنها من عزل البقاع، وتفسير الرازي ذلك بأنه
تشابه الأحوال لأنها في خط الاستواء. كما يعتمد على ابن الهيثم ومؤلفاته، وعلى
البيروني وطرقه في معرفة مساحة الأرض. ويذكر طائفة من الحكماء في عهد المأمون.
٥٢ وفي نفس الوقت ينقد علم التنجيم وخرافات المنجِّمين وأهل الطلسمات
ومزاعمهم وإسقاطاتهم البشرية على الأفلاك: الدب والتنين والهواء والدجاجة والعُقاب
والأرنب والكلب والغراب والسبع والحية والفرس.
٥٣
وقد يكون الدافع على تأسيس علم الهيئة هو التوجه القرآني نحو الطبيعة تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا،
والتأمل في السماء والأرض؛ فعلم الهيئة مرقاةٌ منصوبة إلى السماء العليا. كما يرتبط
في تطوره بالفقه ومعرفة مواقيت الصلاة والصيام والحج. وقد يكون الدافع على الإبداع
فيه الرغبة في التنبؤ بحوادث المستقبل، وتحويل التنجيم إلى فلسفة في التاريخ من أجل
التنبؤ بقيام الدول وسقوطها. كما تظهر صفات الله مستمدةً من علم الهيئة، مثل فاطر
السماوات والأرض فوق الأرضين. ويبدأ النص بالبسملة وينتهي بالحمدلة لله مُفيض الخير
ومُلهِم الصواب، والصلوات على محمد المبعوث بفصل الخطاب، وعلى آله خير آل، وأصحابه
خير أصحاب. ويذكر علم الهيئة لبعض الأحباب، ويدعو لهم بتمام التوفيق وحسن
المآب.
وقد ارتبط الطوسي بهولاكو، وانقسم إلى حاشيته، كما ارتبط ابن خلدون بتيمورلنك.
وأسَّس له هولاكو مرصد مراغة، ولم يكتفِ بمجرد الدعوة لله والسلطان.