(١) حنين بن إسحاق
المترجمون نقَلة وشُراح ومؤلفون في نفس الوقت، تدخل أعمالهم في الترجمة والتعليق
والشرح والتلخيص والعرض والتأليف، وإن كانت الترجمة هي الغالبة. ولما كانوا في
بداية الحركة الفلسفية وأول من اتصلوا بالوافد عن طريق النقل، غلب على مؤلَّفاتهم
تمثُّل الوافد. ولأنهم كانوا من النصارى، فقد قلَّ تنظير الموروث أو غاب كليًّا؛
نظرًا لأنه لم يكن رئيسيًّا في ثقافتهم بالرغم من أنهم كانوا على صلة بالحكماء،
مِثل يحيى بن عدي والفارابي.
ولا تدخل هذه المؤلَّفات ضِمن تاريخ الأدب العربي المسيحي، بل ضِمن تاريخ الفكر
الإسلامي؛ لأنها لا تمثِّل تيَّارًا مُستقلًّا داخل الحضارة الإسلامية، بل تُشارك
في نفس التحليل العقلي المثالي للأخلاق أسوةً باليونان، كما هو الحال في «تهذيب
الأخلاق» ليحيى بن عدي؛ فاليونان هم القاسم المشترك بين الحكماء والمترجمين، وهي
جزء من العمليات الحضارية ومراحل التحول من النقل إلى الإبداع في الحضارة
الإسلامية، من الترجمة والتعليق إلى الشروح والتلخيص والعرض والتأليف، إلى الإبداع
الخالص أسوةً بنصوص حكماء الإسلام؛ فالعمليات الحضارية لا تفرِّق بين مؤلِّفين
مسلمين ومسيحيين ويهود ومجوس. كما لا تدخل هذه المؤلَّفات ضِمن تاريخ العلم العام،
في المرحلة العربية الإسلامية بعد الشرق القديم، ثم اليونان مع العصر الوسيط
المسيحي تمهيدًا لتاريخ العلم العربي؛ فلكل حضارة تاريخُها الخاص وتحقيبها للتاريخ
العام بناءً على مركزيتها؛ فالعلم العربي الإسلامي ليس في العصر الوسيط، بل في
المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية التي أرَّخ لها ابن خلدون قبل أن تأتي في المرحلة
الثانية بعد ابن خلدون وحتى الآن، في عصر الشروح والملخَّصات، وحتى فجر النهضة
العربية الحديثة.
ولا تدخل هذه المؤلَّفات كجزء من تاريخ العلم العربي في مصادره الأولى؛ لأنها جزء
من بنيةٍ ثقافية حضارية إسلامية مع باقي العلوم، وإبداعها في تراثها وعصرها، وليس
بالقياس إلى العلم الغربي الحديث. هي جزء من علوم الحكمة؛ فالعلوم الطبيعية
والرياضية جزء من الطبيعيات، وليست علومًا مستقلة عن نسق العلوم العام الذي بدأ في
«إحصاء العلوم».
(أ) ولحنين بن إسحاق (٢٦٤ﻫ) «في حفظ الأسنان واللِّثة واستصلاحها»، وهو صاحب
التفرقة بين أنواع تأليفه بين الثمار والتفسير والجوامع قبل ابن رشد، وهو تأليفٌ
علمي دقيق خالٍ من الإنشاء، يظهر الوافد فيه على استحياء؛ أبقراط، ثم جالينوس،
طبيبان في ذهن طبيب، والإحالة إلى قدماء الأطباء وحكماء الأطباء؛ ففي موضوع القيء
جميع الأطباء خلا أبقراط يأمرون من يحتاج إلى القيء في الشهر مرتين، وهو أمر أن
يكون في الشهر مرة. ويعتمد حنين على وصف جالينوس للسِّنين.
١
ولا يقتصر الوافد عند حنين على الوافد اليوناني، بل يشمل أيضًا الوافد الهندي؛ إذ
يتحدَّث عن الساذج هندي؛ فقد كان التراث الهندي سابقًا على التراث اليوناني في شبه
الجزيرة العربية عبر التجارة.
٢
ومن مؤلَّفات المترجمين النصارى تظهر البنية الإسلامية أيضًا من المؤلف أو الناسخ
باعتبارها بيئةً حضارية عامة للمسلمين والنصارى على حدٍّ سواء. تظهر البسملة
والحمدلة والصلاة على الرسول وآله، والاعتماد على المشيئة الإلهية، مع بعض الصفات
الأصلية الفلسفية، مثل «واهب العقل والحياة».
٣
(ب) وفي «المسائل الطبية» له أيضًا، المضمومُ إليها مسائل حبيش بن الحسن على مذهب
أبقراط في الطب؛ فالتأليف عملٌ جماعي، يتصدَّر جالينوس وباغلوس الفيلسوف
وأندروماخوس في فقراتٍ مُتتالية، وكأن الوافد قد تم حصاره بالتأليف مُتحولًا إلى
تراكم في إبداعٍ خالص.
٤ ويُذكَر كلهم في تاريخ الأدوية المفردة والمركَّبة لعلاج سم الأفاعي.
فكان المُبدِع الأول باغلوس الفيلسوف، ثم أندروماخوس المتمِّم والمكمِّل له، ثم
جالينوس المصحِّح له والمُظهِر لحسناته وفضائله، ثم جاء حنين بن إسحاق المؤلِّف
نفسه مُتحدثًا عن نفسه كآخر جزء من التاريخ، انتزع من جالينوس قولًا مُجمَلًا،
وجعله مثل البذر لطالب الغلة من كتاب الترياق. اكتملت الحقيقة عند جالينوس ثم اجتهد
في بيانها حنين، كما اكتملت الديانات السابقة في الإسلام ولم يبقَ بعده إلا
الاجتهاد في التشريع.
٥
ويظهر اسم «اليونانيون» وصفة «اليونانية»، وفي كلتا الحالتين الإشارة إلى اللغة.
ويسمِّي اليونانيون حمى الدق أفطيفيوس، وكل حيوان ينهش في لغة اليونانيين تيريون،
وكل دواء ترياق. ويسمِّي اليونانيون الحمى بأربعة أسماء طبقًا لاختلاف درجات
الحرارة، وتُسمَّى باليونانية طبقًا لكثرة مادتها أو شدة حرارتها، ويُذكَر اسم
عفونة المرة الصفراء وعفونة البلغم باليونانية.
٦
ولا يظهر من الموروث أعلام أو موضوعات باستثناء بعض الأسماء الجغرافية التي
تعبِّر عن بيئةٍ محلية، مؤسسًا بذلك علم الطب الجغرافي أو علم الجغرافيا الطبية،
مثل حدوث البياض عن برد بلاد الصقالبة، والسواد عند سخونة بلاد السودان.
٧
ويغلب عليه الطب العقلي الفلسفي، وتغلب على نصائحه البداهة، وهو طبٌّ خالص خالٍ
من المعارك الطبية أو المدارس الفلسفية، سهلٌ بسيط وواضح، يكاد يخلو من الأعلام،
ويعتمد التأليف على فهم القسمة، وهي أولى مراحل التعريف، وهو أقرب إلى الثقافة
الطبية. ولما كان الطب ثقافة القدماء أتت معجزات المسيح طبيةً، كما أتت معجزات
العرب أدبية نظرًا لثقاتهم الأدبية، ومعجزات اليهود مادية نظرًا لطبيعتهم
المادية.
وكثيرٌ من أسماء الأمراض والأدوية ما زال معرَّبًا دون أن يفقد النص أسلوبه
العربي الأدبي، على خلاف مُعاصرينا من الشوام والمغاربة في نقلهم من التراث الغربي،
بل يصل الأمر إلى التشبيهات، مثل «النبض رسول لا يكذب».
٨ ويخلو من البسملات والحمدلات.
(ﺟ) و«كتاب العشر مقالات في العين» منسوب له أيضًا، وهو أقدم كتاب في طب العيون
أُلِّف على الطريقة العلمية.
٩ يتصدَّر أسماءَ الأعلام جالينوس، ثم أرباسيوس، ثم بولس الأجنيطي، ثم
حنين نفسه، ونيلس، ثم أبقراط، وقراطيس، وقابيطون، وأندراس، وفيلوكسانوس (صاحب كتاب).
١٠ وقد ألَّف حنين هذا الكتاب على رأي أبقراط وجالينوس كما هو وارد في
العنوان دون ادِّعاء الإبداع؛ فهو تأليف في الوافد المنقول دون إضافة أو إنقاص أو
نقد أو تطوير.
١١ الكتاب «مؤلَّف على ما بيَّنه وشرحه جالينوس الحكيم بأوضح ما قدر عليه
من القول وأوجزه». يعني تمثُّل الوافد؛ إذن الفهم، ثم إعادة العرض بوضوح وإيجاز،
وهو نوع من الطب العقلي الذي يعتمد على البداهة وحدها، من مدرسة القياس، وليس من
مدرسة التجربة في الطب. ويكمل النص في آخر المقالة السادسة مما نقله الرازي في
«الحاوي». ويظهر الجانب النفسي «الروح النفساني» في وظيفة العين.
١٢ ويذكر القدماء إحالة إلى التراث الطبي القديم واستئنافًا وتجاوزًا له.
١٣ يُذكَر السريان والعرب وحبيش في إطار ترجمة الوافد. والكتاب مزوَّد
بالرسوم التوضيحية.
١٤
ولكن الأكثر ترددًا هو صفة اليونانية، ثم اسم «اليونانيون»، ثم القدماء. وتعني
الصفة اللغة، ذِكر اسم المرض أو الداء معرَّبًا قبل الترجمة أو بعدها.
١٥ وأحيانًا تُذكَر بعض الأسماء المعرَّبة دون ذِكر صفة اليونانية؛ لأنها
واضحةٌ أنها كذلك. والأسماء المترجَمة تكشف قدرةً فائقة على نحت المصطلحات. ويظهر
الواقع المحلي؛ فأسماء الأدوية مِثل الصمغ العربي والعرب والعربية والسرياني
والسريانيون والتمر الهندي.
١٦ وتدل عبارات الربط على أن التمثل رغبة في الإيضاح؛ «وهذا ما أردنا
إيضاحه»، «وهذا ما أردنا تفسيره».
١٧ وكما يبدأ النص بالبسملة ينتهي بسؤال الله أن يحفظ السائل وينفعه،
وينفع الناس بالكتاب على يده دهرًا طويلًا وسنين كثيرة، ولا يطلب مكافأة إلا حسن
الدعاء، ويتخلل النصَّ اللجوءُ إلى المشيئة الإلهية في تعبير «إن شاء الله».
(د) وفي «كتاب المولودين» لحنين أيضًا يتصدَّر أبقراط؛ فهو الوحيد الذي كتب في
الموضوع قبل حنين، واسمه «في المولودين لثمانية أشهر».
١٨ ويزيد حنين على ما سبقه إليه أبقراط ويعلِّل تعليلاته.
١٩ ولم يشتهر الكتاب لعدم المعرفة بلغة أبقراط ولا بالغرض من كتابه.
وكرَّر الكتاب العنوان من جديد. يصرِّح فيه حنين أنه مجرد شارح لمعاني أبقراط في
كتابه المذكور. وفي الخاتمة تحت مسائل أبقراط في «المولودين لثمانية أشهر»؛ مما
يصعب معه التمييز بين التأليف والعرض ووضع المسألة بطريقة السؤال والجواب، وهو
أسلوبٌ تعليمي. ويسمِّي نفسه خادم أمير المؤمنين في عنوان الكتاب؛ مما يدل على
توظيف العلماء عند السلاطين وخضوعهم لهم. ويتكرَّر العنوان في مسائل ألَّفها للسيد
أمير المؤمنين أطال الله بقاء خادمه حنين بن إسحاق المتطبِّب،
٢٠ ويبدأ بالبسملة والاستعانة بالله وسؤاله التوفيق، ولا ينتهي بالإيمانيات.
٢١
(ﻫ) ولا فرق في تأليف المترجمين بين تمثُّل الوافد والعرض؛ فمقالة حنين بن إسحاق
«في الضوء وحقيقته» جمعها من كتب أرسطوطاليس بمجرد إعادة كتابتها وعرضها عرضًا نسقيًّا.
٢٢ تمثُّل الوافد هنا يعني تجميع موضوع من أماكن مُتفرقة ثم وضع إطار نظري
له. ويُذكَر أرسطو (مرتين)، وكتاب النفس (مرةً واحدة)، ويضم عشر فقرات تبدأ منها
بأحد أفعال القول: قال، احتج فقال، فالقول يسبقه الاحتجاج. ونسبة صيغة «احتج فقال»
أعلى من صيغة «قال» فحسب؛
٢٣ فالاحتجاج والقول حجة وبرهان، دليل وموقف، أسوةً بأسلوب الفقهاء في
الرد مسبقًا على اعتراضات الخصوم. ويبيِّن دخول المؤلِّف في فكر أرسطو وحججه
وبراهينه ورؤيته من الداخل، وليس نقله من الخارج. وبالرغم من الغياب الكلي للموروث
وغياب البسملات إلا أن الحمدلات في النهاية حاضرة.
٢٤
(٢) قسطا بن لوقا
ومن الواضح أن أعمال المترجمين تقع في تمثُّل الوافد؛ فهم أقرب إليه وأبعد عن
الموروث، وهم أول من خرج من الترجمة إلى التعليق إلى الشرح والتلخيص والجامع قبل
العرض والتأليف والتراكم. مثال ذلك رسالة «الفرق بين النفس والروح» لقسطا بن لوقا،
أو ربما لإسحاق بن حنين.
٢٥
فيُحال إلى أفلاطون ثم أرسطو ثم ثاوفرسطس، وجالينوس، وأبقراط، وخروستوس؛ فأفلاطون
وأرسطو هما فيلسوفا النفس يعبِّران عن وجهتَي النظر؛ استقلال النفس عن البدن عند
أفلاطون، وارتباطهما معًا عند أرسطو.
٢٦ ويُحال إلى محاورة «طيماوس» لأفلاطون. ومن الفِرق يُذكَر الفلاسفة
والأطباء اليونانيون تمايزًا بينهم وبين غيرهم. فتمثُّل الوافد لا يقضي على
المغايرة بين الأنا والآخر.
والتأليف بناء على سؤال عيسى بن أرخانشاه طبقًا لعادة العرب في التأليف وأحكام
السؤال والجواب في أصول الفقه.
٢٧ سؤاله عن الفرق بين الروح والنفس وأقوال الأوائل فيه. ولا يخلو النص من
تعليق في الهامش من المحقق المؤلف أو القارئ أو الناسخ؛ فالتعليق ليس فقط على
الترجمة، بل على التأليف،
٢٨ والجواب في غاية الاختصار والإيجاز؛ فالتأليف ما زال في أوله عند المترجمين.
٢٩ ويبدأ بتحديد ماهية كل من النفس والروح، أوجه التشابه بينهما وأوجه
الاختلاف، أوجه الاتحاد بينهما وأوجه التمايز.
والبداية من أعلى، كمحاولة للتعريف النظري الخالص؛ مما يدل على درجةٍ عالية من
التحديد وتمثُّل الوافد. وهو تأليفٌ شارح؛ أي أنه أقرب إلى العرض، وهو أُولى مراحل
التأليف، والغاية منه تحديد معاني الألفاظ كما هو الحال في الشروح المتأخرة عند المؤلفين.
٣٠ وكالعادة تبدأ الرسالة بالبسملات والاستعانات بالله بالدعوة للسائل.
٣١
(٣) يحيى بن عدي
ويغلب على المقالات الفلسفية ليحيى بن عدي (٢٦٤ﻫ) التحول من النقل إلى الإبداع في
العرض والتأليف والتراكم، تمثُّل الوافد حتى الإبداع الخالص، تمثُّل الوافد قبل
تنظير الموروث، ثم تمثُّل الوافد مع تنظير الموروث، ثم يغيب تنظير الموروث قبل
تمثُّل الوافد وتنظير الموروث. يغلب الطرفان النقيضان، الأول تمثُّل الوافد،
والسادس الإبداع الخالص؛ ثم الطرفان الوسيطان، الثاني تمثُّل الوافد قبل تنظير
الموروث، والثالث تمثُّل الوافد مع تنظير الموروث؛ ويغيب الوسطان، الرابع تنظير
الموروث قبل تمثُّل الوافد، والخامس تنظير الموروث. ولا توجد مقالات في العرض الجزئي.
٣٢
وسبب تغليب تمثُّل الوافد هو القرب من الترجمة، وكان يحيى بن عدي مُترجمًا
وفيلسوفًا في آنٍ واحد، ناقلًا وعارضًا. ويغلب على الموضوعات المنطق أكثر من
الطبيعيات والإلهيات؛ فهو تلميذ الفارابي.
(أ) ففي مقالة «في غير المُتناهي» يتصدر أرسطو ومؤلَّفاته، السماع الطبيعي، ثم قاطيغورياس.
٣٣ يستشهد بأرسطو على القضايا الأولية، مِثل أن الجزئيات التي لا تدخل في
الكليات لا تكون الكليات حاضرةً لها، كما صرَّح بذلك في قاطيغورياس، كما يشرح قول
أرسطو في المقالة الأولى من السماع الطبيعي إن غير المُتناهي كم، وفي المقالة
الثالثة إن ما لا نهاية له قائم بنفسه لغموض القولين؛ فالتمثل هنا بمعنى
الإيضاح.
ولا يعني تمثُّل الوافد وغياب تنظير الموروث الانعزال عن العصر وقضاياه، بل هو
استجابة إلى شكِّ مُتفلسفة العصر من قِبل الوهم وسوء القياس، والظن بالعدد أنه
ذو نهاية من تلقاء أوله، وغير مُتنهاهٍ من تلقاء آخره. يُبين ابن عدي فساد هذا
الرأي وبُطلان هذا الوهم، وإثبات أنه لا يوجد في العدد معنًى غير التناهي أو عدد لا
نهاية له. ويعتمد في ذلك على الأوائل في العقل. وقد يكون الدافع على ذلك تفرُّد
الله بصفة اللامتناهي كما أوضح الكندي من قبل. وإذا كانت الرسالة تبدأ بالبسملة من
الناسخ فإنها تنتهي بطلب تأييد «الله الهادي إلى الحق، البادئ بالجود على الخلق، ذي
الجود والحكمة والحول، وليِّ العدل، وواهب العقل»، له الحمد والشكر كما هو أهل
له.
(ب) وفي «تبيين وجود الأمور العامية، والنحو الذي عليه تكون محمولة، والنحو الذي
تخرج به من أن تكون محمولة» يتصدَّر الفيلسوف أرسطو ومؤلَّفاته، البرهان، ثم السماع
الطبيعي، ثم الكون والفساد والنفس.
٣٤ ويؤخذ قول أرسطو حجة لمُنكري وجود المعاني والصور الذهنية والنفسية في
الخارج؛ لقوله في «البرهان» إن الصور فرعٌ باطل، وإن إثباتها في الخارج ليس
اضطرارًا؛ ولقوله في «النفس» إن ما يوجد في الخارج هي الأشخاص، وقوله في «الكون
والفساد» إن الجسم العام لا وجود له. كل ذلك في إطار نقده لنظرية المُثل، وهو سوء
تأويل لأقوال أرسطو. صحيحٌ أن أرسطو يُنكر وجود المعاني الكلية في الخارج، ولكنه
يُثبِت وجودها وجودًا منطقيًّا، كما صرَّح في «قاطيغورياس» أن ليس كل الموجودات في
موضوع، وصرَّح في «البرهان» بإمكانية وجود كلمات تضمُّ الأجزاء، وهي الأمور العامة،
وبيَّن أيضًا أن البرهان لا يكون إلا على الكلي وليس على الجزئي، وأن البرهان على
الكلي أفضل من البرهان على الجزئي. وإذا كان العلم لا يكون بما ليس بموجود، فكيف لا
يكون للكليات وجود منطقي، وأرسطو فيلسوف مُبرز وعاقل؟ من الواضح إذن إثبات أرسطو
المعاني كأنواع، والأنواع لها وجودٌ منطقي، وهو ما صرَّح به أرسطو في «السماع
الطبيعي»، كما أن الصورة متصلة بالمادة، والمادة تقبلها؛ فالصورة ليست مجرد وهم؛
ومن ثَم يفسد تأويل قول أرسطو بأن المعاني لا توجد إلا في النفس. الموجودات عند
أرسطو على درجاتٍ بين المادة والصورة، كما صرَّح بذلك في «السماع الطبيعي». يعني
تمثل الوافد إذن تصحيح فهم أقوال أرسطو ضد سوء تأويلها من مختلف الفِرق، والعودة
إلى نصوص أرسطو المُتقابلة في عديد من مؤلَّفاته المنطقية والطبيعية لإعطاء التأويل
الصحيح، وهو ما كرَّره ابن رشد فيما بعد. وباستثناء البسملة في البداية من المؤلِّف
أو الناسخ لا توجد إيمانيات أو حمدلات أو دعوات وصلوات.
(ﺟ) وفي «مقالة في تزييف قول القائلين بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزَّأ» لا
يذكر من الوافد إلا «السماع الطبيعي»، وهو نقد للمتكلمين مِثل نقد ابن رشد؛ فقد
تبيَّن فيه أن لكل صورة من الصور الطبيعية مقدارًا من العظم لا يوجد في أصغر منه،
وهو تلبيس من الخصوم.
٣٥
(د) وفي «مقالة بينه وبين إبراهيم بن عدي الكاتب، ومناقضته في أن الجسم جوهر
وعرَض» يذكر أرسطو مرةً واحدة اعتمادًا عليه لإثبات فساد العالم أي فئاته، وهي
قضيةٌ أولية في العقل لا تحتاج إلى برهان. ومع ذلك فإن الدليل هو أن كل جسم جوهر
وعرَض سواء في هذه الدنيا أو في غيره. ويكشف ابن عدي عن التصور الديني للعالم، وما
هو مستقر به في الديانات من القول بالمعاد والثوب والعقاب. وقد حدث التراكم الفلسفي
في هذه الفترة المبكِّرة؛ فيحيى بن عدي يُناقض إبراهيم بن عدي.
٣٦
(ﻫ) وفي «قول فيه تفسير أشياء ذكَرها عند ذِكره فضل صناعة المنطق» لا يُذكَر إلا
الفيلسوف أرسطو ثم السوفسطائيون.
٣٧ وهو دفاع عن المنطق ضد مغالَطات السوفسطائيين، وإثبات للمنطق المعياري
ضد المنطق البرجماتي. ويعتمد على أرسطو في إخراج النتائج اليقينية من المقدمات
اليقينية الكاذبة، والنتائج الكاذبة من المقدمات الكاذبة. وبعد البسملة من المؤلف
أو الناسخ تتم الدعوة بطول العمر للسائل، فالمقالة إجابة على سؤال، والدعوة لله ذي
الجود والحكمة والحول، وليِّ العدل، وواهب العقل، والشكر له دائمًا كما هو أهل
له.
(و) وفي مقالة «في تبيين أن الشخص اسمٌ مشترك» لا يذكر إلا فرفوريوس، وتعريفه
للشخص الذي يُطلَق على كل واحد ضد المُتفلسفين الذين زاغوا عن الحق، واعترفوا أنه
يدل على معنًى واحد بعينه عام موجود لجميع الأشخاص. تمثُّل الوافد هنا يعني تصحيح
خطأ الفلاسفة؛ فالشخص اسمٌ مشترك يدلُّ على معنيين. ولا يذكر من الموروث إلا المثل
العربي زيد وعمرو لضرب المثل على اسم شخص. وينتهي المقال إلى أن اسم الشخص مشترك،
وأن المعاني التي يدل عليها متفقةٌ أسماؤها وليست مُتواطئة، بتوفيق الله وتسديده
وحين معونته. وينتهي المقال بالدعوة بالتوفيق والتسديد وحسن العون من الله.
٣٨ فالموضوع وافد، جزء من ثقافة المترجم وإطاره المرجعي، ولكن القالب
موروث من مبحث الألفاظ عند الأصوليين في اشتراك الاسم.
٣٩
(ز) وفي «مقالة في الموجودات» يذكر الفيلسوف أرسطو، ثم السماع الطبيعي.
٤٠ يذكر تعريفه في النفس بأنها كمال، وتحديده للطبيعة بأنها مبدأ وحركة
وسكون في الشيء بالذات لا بالعرَض، وتحديده للهيولى بأنه الموضوع الأول لشيء شيء
الذي عنه يتكوَّن الشيء وموجود فيه لا بطريقة العرض، وتحديده للصورة بأنها خلقة لما
فيه بنفسه مبدأ الحركة، وهي الصورة الهيولانية. والحركة كمالُ ما هو بالقوة بما هو
كذلك، والزمان مدة تعدُّها الحركة بالمتقدم والمتأخر. كما بيَّن في السماع الطبيعي
أنه ما لم تكن هناك حركة لا يكون هناك زمان، وعرَّف المكان بأنه السطح الداخل من
الجسم المادي للسطح الخارج من الجسم المحوي. وبيَّن في المقالة الرابعة من «السماع
الطبيعي» أن الخلاء غير موجود. ولا تزال كلمة «الأسطقسات» معرَّبة؛ فالتعريفات أشبه
ببداية المصطلحات، وكلها من أرسطو، ولقبه الحكيم.
أما الموروث فيظهر في البسملة من المؤلف أو الناسخ، وتعريف الباري أولًا بأنه
جوهرٌ غير ذي جسم، جواد، حكيم، قادر، أزلي، عاقلٌ ذاته، على غاية الحقيقة، أقدم من
كل ما سواه بالذات وبالمرتبة وبالشرف، علة وجود كل موجود غيره، وتكوُّن كل متكوِّن.
ويُنهي المقالة بالحمدلة.
(ﺣ) وفي «القول إن كل متصل فإنه ينقسم إلى أشياء تنقسم دائمًا بغير نهاية» لا
يذكر إلا كتاب إقليدس استشهادًا به على أن كل خط منقسم قسمين دون التصريح بوجود
الجزء الذي لا يتجزأ. والموضوع تجريديٌّ أقرب إلى البراهين الرياضية. وتبدأ المقالة
بالبسملة، وتنتهي بعون الله.
٤١
(ط) وفي «إثبات طبيعة الممكن، ونقض حجج المخالفين لذلك، والتنبيه على فسادها»
بالرغم من أنها رسالة موجَّهة إلى أبي بكر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن الحسن
بن قريش في العنوان، إلا أنها لا تذكر إلا الوافد؛ أرسطو، ثم كتاب باري أرمنياس، ثم
الفلاسفة القدماء.
٤٢ وهي الرسالة الوحيدة المقسَّمة إلى أبواب (وفصول)، وعرض ملخَّصها
سلفًا، والموضوع هو حل الخلاف بين الفلاسفة القدماء حول طبيعة الممكن، وحله عن طريق
«اقتصاص كلام أرسطو»؛ أي العودة إلى الأصول والتنبيه على مَواطن الغلط ضد النافين
له، وإيراد البراهين على إثباته، وبيان المستغلق من كلام أرسطو وتوضيحه. فالتمثُّل
يعني إزالة الخلاف بين الشُّراح اليونان والذهاب من الأنا إلى الآخر، ثم توضيح
الأصول ذاتها عند الآخر؛ فهو واجبٌ تجاه الآخر قبل أن يكون واجبًا تجاه الأنا. وحجة
النُّفاة مأخوذة من كلام أرسطو من ضرورة صِدق أحد النقيضين وكذب الآخر. نشأ الخلاف
بين الفلاسفة القدماء ابتداءً من كتاب العبارة لأرسطو باري أرمنياس. والخلاف بين
القدماء هو: هل الجزئيات في الزمان المستقبل ممكنة أم هي ضرورية كلها؟ وحلُّه
باقتصاص كلام أرسطو الفيلسوف في حجة النافين للممكن، ثم إبطالها من غير زيادة أو
نقص على «قصته». المعاني الكلية فيها الإيجاب والسلب؛ وبالتالي الصدق والكذب، وليست
المعاني الجزئية. ويتم شرح ذلك تفصيلًا حسب معانيه بتحليل ألفاظ الزمان مثل «الآن»،
وألفاظ الحُكم مثل السلب والإيجاب، وبيان مضمون بعض الألفاظ مثل الأمرين، ويعنيان
الوجود والعدم. يردُّ أرسطو على النافين للممكن سلبًا ثم يُثبته إيجابًا. ويشرح
ابن عدي غرضه في فصلٍ فصل من العبارة حتى يُلمَّ العبارات بقصدها. مواضع الغلط في
حجج النافين هو عدم التمييز بين حال وجود الشيء إذا كان موجودًا وحال وجوده على
الإطلاق.
ويبدو التصور الديني في حجة نفي الممكن، وهو سبق العلم الإلهي، وهو علمٌ ضروري
خالٍ من الممكنات، وهو ليس سببًا عنصريًّا (ماديًّا) أو صوريًّا أو فاعلًا أو
كماليًّا (غائيًّا) أو أدويًّا (من أداة) أو مثاليًّا، وهو تحديد للموضوع عن طريق
السلب لأنواع العلل الأرسطية أن تكون نافية للممكن. وعلم الله المسبق هي حجة
المتكلمين لإثبات القدر ونفي الاستطاعة وخلق الأفعال. يُحيل ابن عدي إلى رسالته في
ماهية العلم؛ مما يدل على تكامل مشروعه الفكري. وتُضرَب الأمثلة بزيد وعمرو لبيان
الفرق بين الماهية والوجود طبقًا للأسلوب العربي. ويوصف الباري بجل اسمه، وتعالى
عما يقوله الضالون. ويتم عرض الرسالة بتأييد الله ذي الجود والحكمة، وليِّ العدل
وواهب العقل، وهي صفات الحكماء ونُعوتهم لله. ويتم البحث بمعونة الله وحسن توفيقه
بالتوكل على الله.