(١) الرازي
التراث العلمي هو جزء من التراث الفلسفي، الطبيعيات والرياضيات، وليس منفصلًا عنه
باسم تاريخ العلم وبداياته الأولى قبل اكتماله في العلم الغربي الحديث، وكما هو
الحال في جمعيات تاريخ العلم الدولية في الغرب الآن، وهو ليس جزءًا من تاريخ العلم
عند العرب كردِّ فعل على الاستشراق، بل هو جزء من التراث الفلسفي لا ينفصل عنه،
وليس في مواجهة مع التراث الديني أو الفلسفي كما هو الحال في الإسقاطات المعاصرة
على التراث القديم من الصراع بين السلفية والعلمانية، ومثال ذلك بعض مؤلفات الرازي
الطبية، والخازن والقوهي الرياضية، والسجستاني الفلسفية.
(أ) ففي كتاب «ما الفارق» أو «الفروق» أو «كلام في الفروق بين الأمراض» للرازي
(٣١٣ﻫ)، لا يذكر إلا جالينوس (مرتين) متبوعًا بالرازي، البداية والنهاية، النقل
والإبداع، اليونان والمسلمين، حتى ولو كان الرازي من وضع الناسخ؛ لأن المؤلف لا
يتحدث عن نفسه؛
١ فالدلالة الحضارية قائمة نظرًا للعمل المشترك بين المؤلف والقارئ
والناسخ والمالك. ويستأنف الرازي ما قاله جالينوس في الإسهال، ويؤكِّد على صحته
ويدلِّل عليها، وإذا ما ذكر جالينوس أن ورم المحدَّب أسرع من نحافته، فإن الرازي
يدلِّل على صحة هذا القول نظرًا لعدم نفوذ الغذاء من المحدب. كما يذكر بعض الأطباء
على العموم، دون تحديد وافد أو موروث، بدايةً لتصوُّر العلم، لا مُشخصًا في
الاعتبار، وكموضوعٍ مستقل.
ويقوم الكتاب على التقابل بين الطبيعة والجسد؛ فالطب جزء من الطبيعيات، ومنهجه
البحث عن التشابه والاختلاف بين الأمراض لإيجاد تشخيص أو علاج كلي للأسباب الأولى؛
فقد يكون الاختلاف ظاهريًّا وليس بالحقيقة، وقد يكون التشابه ظاهريًّا والاختلاف
حقيقيًّا. ويحدِّد الرازي الغاية والمنهج والأسلوب أولًا من أجل تأسيس العلم.
يصنِّف الأمراض من الرأس إلى القدم، من أعلى إلى أدنى، بناءً على تصورٍ لا شعوري
موروث من الفيض أو من سُلَّم القيم.
٢
ويعتمد هذا التصور على العقل والتجربة، القياس والمشاهدة، في تصورٍ حتمي عام
لقوانين البدن والطبيعة، بطريقة السؤال والجواب، وما هو أليف في تأليف كتب الطب
بحثًا عن أسلوب ونوع أدبي ولغة، بالرغم من وجود بعض المصطلحات المعرَّبة. وكان سبب
التأليف هو التنظير المباشر للواقع، وتلبية لحاجة العصر، وكردِّ فعل على نقل الطب
من الكتب دون تأسيس العلم بالقياس والتجربة، واكتشاف القوانين الطبية الكلية بمنطق
التشابه والاختلاف؛ فبالرغم من ذكر جالينوس إلا أن الإبداع منذ البداية كردِّ فعل
على نقل الأطباء. ويعتذر الرازي عن القدماء؛ فتقصيرهم ليس في ذاته، فقد اجتهدوا قدر
الوسع والطاقة، ولكن لتغيُّر الزمان وتقدُّم العلم.
٣
(ب) وفي «كتاب القولنج» لا يذكر جالينوس إلا مرةً واحدة في مَعرِض النقد الذاتي؛
٤ فقد راجَع جالينوس موقفه في كتابه في الأعضاء الأولية؛ مما يدل على أن
الرازي يعلم مقدار الاجتهاد في الطب، صوابه وخطئه، وضرورة مراجعة أحكام الأطبَّاء
منهم ومن غيرهم. وهو نصٌّ واضح ومركَّزٌ دقيق، سهل الأسلوب، ويتضمن الوصف والتشخيص
والعلاج بالنباتات وليس بالكيماويات. وبالرغم من قلة الوافد وغياب الموروث إلا أن
البيئة الدينية تظهر في بداية النصَّين الطبيين للرازي؛ البسملة، والحمدلة، والشكر
على النِّعم، والشهادة على الوحدانية في السر والعلن، وطلب الرحمة والغفران،
والصلاة على النبي وآله أجمعين؛ كما تظهر الدعوات بالتوفيق وتعليقه على المشيئة،
وبعض العبارات الفلسفية مثل واهب العقل.
٥
(٢) الخازن
وإذا كان جالينوس عند الرازي في الطب هو نموذج الوافد، فإن إقليدس وديوفنطس
ونيقوماخوس الرياضي هم نماذج الوافد في «المثلثات القائمة الزاوية المنطلقة
الأوضاع» لأبي جعفر الخازن من علماء الرياضيات في القرن الرابع الهجري،
٦ فيستشهد بكتاب الأصول لإقليدس وليس نقلًا عنه؛
٧ إذ يضع الخازن نظريته ثم يُتبِعها بعبارة «على نحو ما بيَّن …» ويحدِّد
الشكل والمقال من كتاب الأصول، ودون أن يذكر مؤلفه إقليدس نظرًا لشهرته، ولاستقلال
العمل عن صاحبه في بناء العلم. ويؤرِّخ للرياضيات اليونانية، ويبيِّن كيف استمدَّ
نيقوماخوس صناعة العدد وأصولها من إقليدس. ويُحيل الخازن إلى ديوفنطس بنفس الطريقة،
الاستشهاد به على القسمة العددية، أو عرض الموضوع ذاته الذي يوضِّح ما أراده
ديوفنطس؛ فدراسة الخازن توضِّح ما تركه ديوفنطس غامضًا. كما يُحيل الخازن إلى أصحاب
الارتماطيقي والمُفسرين لكتاب الارتماطيقي؛ مما يدل على علمه بالأدبيات حول علم
الحساب بصرف النظر عن أشخاص المؤلفين؛ فالعلم له أوائل هي كليات، وكماله في الجزئيات.
٨ وبالرغم من الطابع التجريدي للرسالة إلا أنها تكشف عن مسار الفكر في
عبارات التقديم والاستدراك، وكلما خفَّت الدعوات الدينية خفَّت الدعوات إلى
السلطان، وكلما قلَّت الدعوات لله قد تختفي الدعوات للسلطان.
٩
(٤) القوهي
وفي «كتاب صنعة الأصطرلاب بالبرهان» لأبي سهل ويجن بن رستم القوهي (٣٣٥ﻫ)، يظهر
الوافد في موضوع المخروطات. لا يذكر من الوافد إلا أبولونيوس وكتابه «المخروطات»،
وفي نفس الوقت يُحيل القوهي إلى رسالتَيه «إحداث النقط على الخطوط في نسب السطوح»
و«إخراج الخطين من نقطة على زاوية معلومة».
١١
وتغلب أفعال البيان وضرب الأمثلة وأفعال الإرادة والتوهم والبحث عن البرهان،
وتكثُر أيضًا عباراتٌ مثل «ونريد أن نعمل باقي الأعمال بالتمام»؛ فالبرهان الهندسي
يتطلب عملًا تامًّا. وللكتاب غرضٌ محدَّد يستبعد أغراضًا أخرى، محدَّد المقصد
والغاية. ويتضمن المقال سبعة عشر رسمًا توضيحيًّا.
١٢ ما تم توضيحه من قبلُ فلا حاجة إلى تكراره، وما يحتاج إلى توضيحٍ يتم بالتمام.
١٣ وبطبيعة الحال لا تظهر إلا صيغة «أقول» من صيغ أفعال القول؛ فالقوهي هو
الذي يتحدث.
١٤ ومن الموروث تظهر البسملة في البداية، والحمدلة في نهاية المقالة الأولى.
١٥