خامسًا: الفارابي، والعامري، وابن سهل
(١) الفارابي
قد يُعتبر الفارابي (٣٣٩ﻫ) هو الفيلسوف الذي يظهر لديه تمثُّل الوافد؛ فهو
المعلِّم الثاني، ويبدو ذلك في «معاني العقل» التي يظهر فيها أرسطو (٨ مرات)
بمفرده؛ فالعقل له ستة معانٍ؛ الأول: في الثقافة الشعبية عند الجمهور عندما تصف
أحدًا بأنه عاقل. الثاني: معناه عند المُتكلمين انتقالًا من الثقافة الشعبية إلى
الثقافة الجدلية، ما ينفيه العقل ويُثبته جدلًا. أما المعاني الأربعة الأخرى فتأتي
من الوافد عند أرسطو في المنطق والأخلاق والنفس وما بعد الطبيعة العقل البرهاني في
المنطق، والعقل الأخلاقي في كتاب الأخلاق، والعقل النفسي في كتاب النفس، والعقل
الإلهي في كتاب ما بعد الطبيعة على هذا النحو صعودًا من أسفل إلى أعلى، من الجمهور
إلى الميتافيزيقا، العقل البديهي أو الفطري، والعقل الجدلي، والعقل النظري، والعقل
العملي، والعقل الحيوي، والعقل الإشراقي القادر على الاتصال بالعقل الفعَّال.١
لم يكن هدف الفارابي مجرد ذكر أرسطو ومعاني العقل الأربعة لديه، بل إدخاله في
منظومةٍ أوسع من الثقافة الشعبية والموروث الكلامي؛ ومن ثَم يتزاوج الوافد مع
الموروث، الخارج مع الداخل، مع الثقافة الشعبية وبداهة الفطرة لصياغة نظرية متكاملة
في معاني العقل، تمثُّلًا للوافد، وتنظيرًا للموروث، وترسيخًا للثقافة الفلسفية في
الثقافة الشعبية؛ أي في الواقع.٢ يدخل الفارابي إلى الجوهر مباشرةً، العقل إله الفلسفة اليونانية وأساس
الحضارة الإسلامية ليبنيه بعد تمثل الوافد وتنظير الموروث وغرزهما في الواقع
المعاش. المقصود احتواء أرسطو من الوافد والمتكلمين من الداخل، لتأسيس العقل
البرهاني. وقد يُشير المعنى الشعبي للعقل الشائع عند الجمهور إلى التعقل والدين
والفضيلة؛ فالإنسان العاقل هو الإنسان جيد الرؤية في استنباط الخير وتجنُّب الشر،
وهو المعنى الذي يتجاوز الحضارات والتاريخ والسائد عند كل الشعوب وما يُقابل العقل
عند المتكلمين، المشهور في بادئ الرأي هو العقل الخطابي أو الجدلي عند أرسطو، والذي
نقده ابن رشد في صيغة الأقاويل الخطبية والجدلية. وصيغة الفارابي «العقل الذي يذكره
أرسطو في كتاب …» وليس العقل ذاته الذي يعرف الفارابي معانيه المختلفة، ويحدِّد
وضعه فيما ذكره أرسطو، وهو قوة في النفس يحصِّل بها الإنسان اليقين من المقدمات
الكلية الضرورية الصادقة دون قياس وتعلُّم، بل بالطبع والفطرة. هذه المقدمات هي
مبادئ العلوم النظرية، هو العقل النظري أساس العلم النظري الذي تحدَّث عنه الفارابي
من قبلُ في «فلسفة أرسطوطاليس». ولا يستعمل الفارابي إلا كلمتين معرَّبتين،
الأسطقسات وهيولانية، وما زالتا معرَّبتين حتى الآن.٣
وبالرغم من ظهور الموروث في العقل عند المتكلمين إلا أن تمثُّل الوافد أظهر. يظهر
الموروث في البداية وليس في النهاية كوعاءٍ تحتي، وليس كإكمالٍ فوقي. المعنيان
الأول والثاني محليان؛ فالأول هو المعنى الشائع العُرفي للاستعمال في الواقع الخاص،
والثاني المعنى الموروث عند المتكلمين. والكلام هو العلم الأصيل قبل الوافد، والذي
نشأ قبل عصر الترجمة. يقوم الفارابي بتأسيس معاني العقل وتأصيل أرسطو، معاني العقل
في الوافد الأرسطي في الموروث الكلامي، والموروث في الثقافة الشعبية. ويستعمل
الفارابي لفظ «دين» بالمعنى العادي؛ العقل هو النقل، والتعقل هو التدين، والدين هو
الفضيلة؛ وهو معنًى أقرب إلى العقل العملي. الدين إذن طبيعي ومُرادف للعقل والأخلاق
عند عامة الناس، ومن يستعمل العقل في الشر لا يُسمى عاقلًا، بل ماكرًا أو داهيًا.
ويستعمل الجمهور العقل في معنى الفضيلة، ويتوقف عن استعماله في الشر.٤
والمعنى الثاني هو العقل عند المتكلمين؛ أي المشهور في بادئ الرأي عند الجميع،
الرأي المشترك عند الأكثر، عقل الأغلبية، إجماع الأمة، وهو عقلٌ محلي صِرف لا إشارة
فيه إلى أرسطو أو غيره، مبني على أن الأمة لا تجتمع على خطأ. الفلسفة هنا تبدأ من
علم الكلام كي تتجاوزه بعد استعماله كوعاءٍ يُوضَع فيه الوافد فينشأ نتاجٌ جديد من
تفاعل الوافد مع الموروث. وعقل المتكلمين ليس هو العقل البرهاني النظري؛ لأن
مقدماتهم ليست أوليةً ضرورية صادقة، بل مستمَدَّة من بادئ الرأي المشترك، يقصدون
شيئًا ويستعملون شيئًا غيره، والعقل الجدلي غير العقل البرهاني، ثم يأتي العقل
البرهاني لتصحيح أخطاء المتكلمين. هناك إذن جدلٌ مزدوج للعقل، تصحيح الموروث
بالوافد؛ أي تصحيح خطأ المتكلمين ببرهان الفلاسفة، والعقل الجدلي بالعقل البرهاني،
والثاني وضع الخارج في الداخل؛ فالفعل الشائع عند أرسطو هو العقل عند الجمهور.٥
والعقل العملي هو الذي يذكره أرسطو في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق دون إشارة
إلى أرسطو أو ذكره مرةً ثانية. يكفي تحديد مكان المقال. وتُذكَر الأخلاق على العموم
بحيث يتحول كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس المحدَّد إلى علم الأخلاق العام أو إلى
موضوع الأخلاق ذاتها، وهو ما يُعادل العقل العملي الذي تحدَّث عنه الفارابي ذاته في
فلسفة أرسطوطاليس، والذي يتعلق بالمشيئة والاختيار، وهو جزء من النفس، يحصل
بالمواظبة والاعتياد وبطول التجربة. مقدماته إرادية من أجل الفعل أو عدم الفعل،
التأثير أو الاجتناب، الإقدام أو الإحجام، وبتعبير الأصوليين الأمر والنهي في
صيغتَي افعل أو لا تفعل. ويتزايد هذا العقل مع طول العمر، وينمو بالمِران، ويتفاضل
فيه الناس، ويمكن بعد ذلك في نهاية العمر طلب البرهان النظري عليه.٦ والحقيقة أن هذا التعقل للعقل العملي قد يحدُث قبل المَشيب، والإنسان
ما زال في مقتبل العمر.٧
والعقل النفسي يذكره أرسطو في كتاب النفس على أربعة أنحاء: عقل بالقوة، وعقل
بالفعل، وعقل مُستفاد، وعقل فعَّال. ولا تهمُّ أسماء العقول وألفاظها؛ فقد يكون
العقل بالقوة هو العقل بالملَكة أو العقل الهيولاني، وقد يكون العقل المُستفاد هو
العقل بالفعل. الأول في مرحلة التعلم، والثاني بعد إتمام التعلم. الأول تطور،
والثاني بناء. الأول منهج، والثاني موضوع. ولا فرق بين العقل الفعَّال ومصدر
المعرفة الأول خارج النفس، الوحي أو اللوح المحفوظ أو العلم الإلهي أو الصُّحف
الأولى، صحف إبراهيم وموسى، التوراة أو الإنجيل أو القرآن. إنما المهم عملية
الانتقال من مرحلة الطبيعة إلى مرحلة العلم، مثل انتقال الجنين في الرحم من مرحلة
إلى مرحلة، العلَقة فالمُضغة فالعظام فاللحم فالروح، أو انتقال الطفل في مراحل
تعلمه من سنوات الطفولة إلى سنوات البلوغ، من العلم البديهي إلى العلم المكتسَب، من
الفطرة إلى التعليم، وكلها تسميات لمسمَّيات، ألفاظٌ متعددة لمعانٍ واحدة. هي
عمليةٌ تعليمية، وليست عمليةً كونية أو عضوية؛ عمليةٌ شعورية نظرية، وليست عمليةً
بيولوجية طبيعية مثل الشمعة والنقش عليها، وكأن الحقيقة تنشأ بتركيز العقل، وكما
بيَّن الفارابي في نشأة المنطق في كتاب الحروف.٨ العقول الثلاثة الأولى في كتاب النفس وليس في ما بعد الطبيعة، بالرغم
من اختصاص ما بعد الطبيعة بنظرية الاتصال. وفي العقل الرابع تظهر لغة الضوء
والإشراق، لغة البصر والإبصار والشفافية والانعكاس، فيتحوَّل العقل من الأخلاق إلى
المعرفة، وتصبح مقولات الأخس والأشرف والأقدم مقولاتٍ أخلاقيةً معرفية، ويتم
الانتقال من الكثرة إلى الوحدة؛ فالصور في العقل الفعَّال غير مُنقسمة، بينما في
المادة مُنقسمة.٩
(أ) وفي «المسائل الفلسفية»، وهي إحدى وأربعون مسألة، لا يظهر أرسطو إلا في
مسألتين؛ الأولى: المسألة الثلاثون عن حد الخير والشر الإنساني. والثانية والثلاثون
في حد النفس، بعد الواحد والثلاثين عن الفرق بين الإرادة والاختيار. وهي مسائل سئل
عنها الحكيم الفيلسوف الشيخ وكأنها فتاوى فلسفية، كما فعل ابن رشد في «فصل المقال»،
وسؤال عن حكم النظر. عرَّف الفارابي القوى والملَكات والأفعال الإرادية التي إذا
حصلت عاقت عن حصول الغرض وهي الشرور، والتي إذا حصلت حصل المقصود وهي الخيرات؛ أي
الغاية والتحقق، في حين أن تعريفهما عند أرسطو في كتاب الخطابة أن الخير هو الذي
يؤثَر لذاته ويتشوَّقه كل ذوي الفهم والحس، والشر عكس ذلك. وهو تعريفٌ أقل حركيةً
مع أن به الغاية، ومع ذلك يتفق مع تعريف الفارابي. يضع الفارابي حده أولًا ثم
يستشهد باتفاق أرسطو معه ربطًا للماضي بالحاضر، والقديم بالجديد. ولم يكن حد أرسطو
النفس بأنها استكمالٌ أول لجسمٍ طبيعي آلي ذي حياة بالقوة جديرًا بأن يُذكَر، ولكنه
ذُكِر بالاقتران مع سؤال الإرادة والاختيار لما كان من مقولات النفس، كما ذُكِر
بالاقتران موضوع الجوهر وقِسمته إلى هيولاني وصوري، وقسمة الجسم إلى طبيعي وصناعي،
وقسمة الطبيعي إلى ما له حياة كالحيوان، وما ليس له حيوان كالأسطقسات، ثم ذكر
الأسطقسات وأنها مبادئ الجواهر المركَّبة، ثم ذكر الهيولى آخر الهويات وأخسهما،
ولولا قبولها الصورة لكانت معدومة بالفعل بعد أن كان معدومًا بالقوة، ثم يأتي
الحديث عن تناهي الأفلاك وإنكار وجود أي جوهر وراءها أو شيء أو خلاء أو ملاء؛ لأنها
موجودة بالفعل؛ وبالتالي فهي مُتناهية، ولو كان لا مُتناهيًا لكان موجودًا بالقوة
كما قال الكندي من قبل، والأجرام السماوية كلها موجودة بالفعل. ويستشهد بحكاية
أفلاطون عن سقراط أنه كان يمتحن عقول تلامذته، فيقول لو كان الوجود غير مُنتهاهٍ
وجب أن يكون بالقوة لا بالفعل. ويظهر فيها أثر منهج الرواية والخبر في الحضارة الإسلامية.١٠
كما يشير الفارابي إلى الحكيم (مرةً واحدة) إشارةً إلى التحول من العالم إلى
العلم، ومن الشخص إلى الموضوع، كما يُحيل إلى سقراط كمثلٍ في قضية بدلًا من زيد أو
عمرو، ويُحيل إلى أسماء كتب أرسطو معرَّبةً مثل قاطيغورياس (أربع مرات)، وإيساغوجي،
أو ترجمةً مثل المقولات والقياس والخطابة، تعاملًا مع العلوم وليس الكتب، الموضوعات
وليس الأسماء، كما يُحيل الفارابي إلى تفسيره كتاب المقولات بمشيئة الله؛ فالإحالة
هنا إلى عمل الفارابي، إلى قراءته أرسطو بطريقة حكماء المسلمين، وربط كل أفعاله
بالمشيئة الإلهية. يُحيل الفارابي إلى أرسطو بأسماء كتبه معرَّبة، وإلى مؤلفه هو
بأسماء موضوعاتها، مثل المقولات والقياس والخطابة. كما تظهر بعض الألفاظ المعرَّبة،
مثل «الهيولى» و«الهيولاني» و«الأسطقسات»، بعد أن استقرَّت وأصبحت أشبه بالترجمة.
كما يشير الفارابي إلى القدماء ذكرًا للتاريخ، وربطًا للماضي بالحاضر، واعترافًا
بقدر من سبقوه نقدًا لهم أو إكمالًا لتحليلاتهم، مع الإشارة إلى المتأخرين إحساسًا
بالزمن وتطوره من القدماء إلى المُحدَثين.١١
(ب) وفي «عيون المسائل» لم يذكر الفارابي أحدًا من اليونان إلا أفلاطون في
المسألة الأخيرة من اثنتين وعشرين مسألة في موضوع وجود النفس قبل البدن، ومعه
التناسخيون، وفي معرض الرفض والاستنكار والمعارضة، وكذلك وجودها بعد البدن مُتنقلةً
في أبدانٍ أخرى كما يقول التناسخيون حرصًا على فردية الثواب والعقاب. ذُكِر أفلاطون
إذن في معرض جمع الأخطاء في تصورات النفس، وليس وحده جريًا وراءه وتبعية له مع فتح
أفق جديد، وهو وجود النفس بعد البدن إثباتًا للمعاد، وتصحيحًا للتصور اليوناني
بالتصور الإسلامي. وتتفاوت مراتب النفوس بعد الموت بما تستحق من ثواب وعقاب؛
فالإنسان مسئول عن ذلك في دنياه كما هو مسئول عن صحة بدنه. ويسترسل الفارابي في
الوعاء، ويفيض في شرح التصور الإسلامي المعياري؛ فيذكر عناية الله المحيطة بكل شيء
والمتصلة بكل كائن، وبقضائه وقدره يُحدِث كل شيء خيرًا أو شرًّا. والشر محمود
للكائنات الخاضعة للكون والفساد، ولولا الشرور لما كانت الخيرات، واليسير من الشر
أفضل من الكثير، والكثير من الخير أفضل من القليل، وكأن اللاشعور يعبِّر عن مضمون
عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. وهنا يتحوَّل الفارابي إلى مُتكلم بين
الأشاعرة والمعتزلة؛ فهو أشعري يقول بالقضاء والقدر، ومعتزلي يقول بالمسئولية
الفردية. هو أشعري يجعل الشر والخير من الله، ومعتزلي يجعل الشر والخير في نسيج
الفعل الإنساني في جدل السلب والإيجاب.١٢ كما يشير الفارابي إلى الحكيم (أربع مرات) بطريقةٍ لا شخصية إظهارًا
للموضوع لا الشخص، وتقديرًا لفضل القدماء. المطالب أربعة: الموجب والسالب والكلي
والجزئي. ومنها تتكوَّن أشكال القياس. والاستحالة تغيُّر يَعرِض للجوهر. والحكيم
يبحث عن الحقائق الموجودة. كما يُحيل إلى القدماء، وليس إلى أرسطو وحده، بل إلى
التراث اليوناني كله؛ اعترافًا بالتاريخ، وبجهود السابقين، وذكر اختلافاتهم، وحل
هذا الاختلاف عند المتأخرين؛ فالتطور يكتمل في البناء كما هو الحال في تاريخ
النبوة. كما يُحيل إلى قاطيغورياس في السؤال عن الحركة إن كانت من الأسماء
المشتركة، فكتب الحكيم جزءٌ من ثقافة الناس يُسأل عنها الفارابي ولا يستدعيها من
تلقاء نفسه، ويحيل إلى شيءٍ موجود بالفعل.١٣
(ﺟ) وفي «فصوص الحِكم»، وهو الكتاب الصوفي، يستشهد الفارابي بالأساطير اليونانية؛
جوع بوليموس (مرتين) كدليل على أنه ليس كل جوعان يتُوق إلى الطعام إلا بعد كشف
الغطاء، مُحولًا الأساطير اليونانية إلى ثقافةٍ شعبية تُستقى منها الأمثلة.١٤
(ﻫ) وفي كتاب «السياسة» لم يذكر أحدًا من القدماء إلا أفلاطون (مرةً واحدة)
كخاتمة للرسالة، واستشهادًا بأقاويله كحكايات ونوادر وأمثال من القدماء، وليس في
صلب الرسالة، مجرد أقوال مأثورة كنوعٍ أدبي تُختَم به الرسالة، وهي أقوالٌ موجَزة
وكأنها أحاديث الرسول، لها ما يُشابهها في الموروث المحلي. ويظهر فعل القول في صيغة
المبني للمعلوم، الشخص الثالث المفرد، وهي الصيغة المثلى «قال أفلاطون»، أو «قال»
فحسب؛ لأن القول لا يحتاج إلى دقة أو إلى إثبات صحة تاريخية. وصيغة قيل في المبني
للمجهول أكثر استعمالًا؛ تهربًا من الصحة التاريخية، أو لعدم تحديد المواضيع التي
اقتُبست منها الأقوال. واستُعملت صيغة «سئل» في المبني للمجهول، وكان أفلاطون مُفتٍ
يُسأل فيُجيب طبقًا لأحكام السؤال والجواب عند الأصوليين. ويمكن تصنيف مجموع
الاثنين وثلاثين قولًا مأثورًا التي تحدِّد علاقات الإنسان مع أطرافٍ أخرى في خمسة
موضوعات: الإنسان مع الله، ومع النفس، ومع الأكْفاء، ومع الرؤساء، ومع المرءوسين.
وهي كلها معانٍ واردة في الموروث، ومقبولة بالعقل والبديهة، وتُحسها الفطرة.١٥
(د) وأهم كتاب في العلم المدني للفارابي هو «آراء أهل المدينة الفاضلة» لم يذكر
فيه من اليونان إلا أنبادقليس وبارميندس في آخر الكتاب، ويذكر القدماء (مرتين) في
معرض الحديث عن المدن الضالة وإرجاعها إلى أهواء النفس، مثل الشهوة والغضب وسائر
عوارضها المضادَّة للجزء الناطق، فينشأ تعارض الفاعلين كما يقول أنبادقليس. والبعض
أرجع ذلك إلى تضادِّ الحوار كما هو الحال عند بارميندس؛ فالموت عندهم موتان؛ موت
طبيعي، وموت إرادي. الأول مفارقة النفس الجسد، والثاني إبطال عوارض النفس من الشهوة
والغضب. فالحياة نوعان، طبيعية وأخلاقية، من أجل الكمال والسعادة. عوارض النفس من
الشهوة والغضب قسر في الإنسان، وهي آراءٌ ضالة أتت من القدماء، وانبثقت منها مِلل
في كثير من المدن الضالة، ولكن بارميندس ليس من الطبائعيين، ولا يقول بتضادِّ
المواد، وهو الميتافيزيقي الخالص الذي يتأمل في الوجود العام. يبيِّن الفارابي فساد
هذه الآراء ولا يَعرضها فقط. العرض أمانة الماضي، والنقد أمانة الحاضر، والعلم
أمانة المستقبل.١٦
(و) وفي «كتاب الملة» لا يذكر الفارابي إلا القدماء (مرتين)؛ فالملك بالضرورة
الملك الفاضل، ولا يُقال الجاهل. ويستشهد بالقدماء لأنهم لا يُطلِقون على الرئاسة
الجاهلة ملكًا اعتمادًا على التاريخ وبحجج الحضارات السابقة كمرحلة في تاريخ
الإنسانية، كما يستعمل الفارابي تسمية القدماء القوة التي يقدر بها الإنسان على
الاستنباط بحسب المشاهدة والتعقل، والتي تحصل بالمعرفة والتجربة في آنٍ واحد.١٧
(ز) وفي كتاب «السياسات المدنية» يُشار إلى مصطلحات التشكل الكاذب، مثل العقل
المُنفعل والعقل المُستفاد والعقل الفعَّال، كما هو الحال في كتاب النفس، وإلى
اعتبار القدماء من يتصف بالعقل بالفعل هو الملك على الحقيقة.١٨
(٢) العامري
وبالرغم من كثرة مؤلفات العامري (٣٨١ﻫ) إلا أن تمثُّل الوافد كان قد تم بصورةٍ
أشمل عند الفارابي، فغلبت على مؤلفاته المراحل الأخرى للتأليف مع تنظير الموروث.
وللعامري رسالةٌ واحدة فيها تمثُّل الوافد بمفرده، هي «الإبصار والمبصر»، يذكر فيها
إقليدس وبطليموس وجالينوس وأرسطو والإسكندر وثامسطيوس (مرةً واحدة)، وينقد العامري
حكماء المهندسين، مثل إقليدس وبطليموس، وأتباعهما الذين زعموا أن الاتصال لا يكون
إلا بخروج الضوء من الحس إلى المحسوس في شكلٍ مخروطي، من الموضوع إلى الذات، وهي
النظرية الرياضية. ويؤيد النظرية الأخرى لجالينوس وأرسطو والإسكندر وثامسطيوس التي
تقول بخروج الشعاع من الرائي إلى المرئي، من الذات إلى الموضوع، مؤيدًا أولوية
الذات على الموضوع، والمعرفة على الوجود. ويُحيل إلى شرح كتاب النفس (مرةً واحدة)
إلى تفسير كتاب البرهان لأرسطو دون تحديد من الشارح هو أو غيره. كما يذكر الحكماء
والمتأخرين (مرتين) لبيان الاستمرار من القدماء إلى المُحدَثين، وهذا هو معنى
تمثُّل الوافد.١٩
(٣) ابن سهل
(أ) وفي «كتاب الحراقات» للعلاء بن سهل (النصف الثاني من القرن الرابع الهجري) لا
يعني تمثُّل الوافد مجرد النقل والاستيعاب، بل العرض على العقل والمراجعة، وتحويل
النقل اليوناني إلى العقل الإسلامي أو العقل الخالص؛ ومن ثَم يلتقي الطرفان؛ تمثل
الوافد، وهو النوع الأدبي الأول في التأليف، مع الإبداع الخالص، النوع الأدبي
الثالث في التراكم.٢٠
ويعني تمثُّل الوافد البيان وإيجاد البرهان واستبعاد التناقض؛ لذلك تكثُر عبارات
«وذلك ما أردنا أن نبيِّن»، «وكذلك نبيِّن»، «لمثل ما بيَّنا فيما تقدَّم»، كما
يعني إيجاد البراهين على صحة الوصف واستبعاد التناقض؛ لذلك تكثُر أيضًا عبارات
«برهان ذلك»، «وهذا مُحال».٢١ ولما كان تمثُّل الوافد نوعًا من التأليف، تظهر أفعال القول في صيغة
المتكلم المفرد «أقول».٢٢ ونظرًا لوحدة العمل يُحيل السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق.٢٣ والمقال مزوَّد برسومٍ رياضية توضيحية تبيِّن انكسار الأشعة.٢٤
لم يذكر من الوافد إلا أرشميدس والقدماء؛ فالموضوع من أصحاب التعاليم، القدرة على
إحراق جسم بضوء على مسافةٍ بعيدة كما أحرق أرشميدس سفن الأعداء؛٢٥ فاللجوء إليه جزء من المعرفة بتاريخ العلم وجهد القدماء وفضلهم فيه في
وصف الإحراق بضوء الشمس المُنعكس على مرآة، وإكمال ما تركه القدماء، وصف الإحراق
بضوء الشمس الذي ينفذ في آلة وينعطف في الهواء؛ فالسياق حربي، ويمكن أن يكون أيضًا
في السِّلم لتوليد الطاقة.
ومع ذلك تظهر عادة المؤلفين العرب بالتوجه بالكتاب إلى السلطان، وقدر نعمه في
إظهار العلوم حتى يشيع في الناس ذكرها.٢٦ وكما يبدأ المقال بالبسملة والاستعانة بالله ينتهي أيضًا بالوثيقة
الشرعية؛ الناسخ، ووقت النسخ، ثم الصلاة على محمد وآله أجمعين.٢٧
(ب) وفي «البرهان على أن الفلك ليس هو في غاية الصفاء» للعلاء بن سهل أيضًا، يعني
التمثل إيجاد البراهين على صحة ما ذهب إليه بطليموس في المناظر ابتداءً من تصفح
المقالة الخامسة منه،٢٨ ومع ذلك لا تظهر صيغ أفعال القول إلا مرةً واحدة في ضمير المفرد الغائب
«قال».
لذلك لا يذكر من الوافد إلا بطليموس في المناظر٢٩ كنقطة بداية لإكمال مسار العلم في التاريخ بمزيد من البرهان، والتحول
من النقل اليوناني إلى العقل الإسلامي؛ فمسيرة العلم على الإطلاق هو التحول من
النقل إلى العقل. وكما يبدأ المقال بالبسملة والاستعانة بالله ينتهي بالوثيقة
الشرعية؛ خط الناسخ والمنسوخ منه، والمقابلة بين النسخين، ثم الحمدلة والصلاة على
محمد وآله أجمعين.٣٠
(ﺟ) وقد تكون الرسالة قصيرة للغاية، مجرد فقرتين، مثل «مسألة هندسية» لابن سهل
أيضًا. الفقرة الأولى الموضوع، والثانية بيانه بعبارة «وذلك ما أردنا أن نبيِّن».٣١
١
الفارابي، معاني العقل، ص٤٥، ٤٦.
٢
وهي الجبهات الثلاث التي تعبِّر عن الموقف الحضاري لكل فكر، الوافد
والموروث والواقع، ضد الازدواجية والمعركة بين السلفية والعلمانية، بين
أنصار القديم وأنصار الجديد وضد الانعزالية، الانعزال عن الواقع
والناس.
٣
معاني العقل، ص٤٥–٤٧، ٥٤.
٤
السابق، ص٤٥-٤٦.
٥
المصدر السابق، ص٤٨-٤٩.
٦
هو العقل العملي النظري بتعبير كانط.
٧
المصدر السابق، ص٤٧-٤٨.
٨
وهنا يكون ديكارت مكرِّرًا لروح السابقين بأسلوبٍ بديهي عقلي تأملي
جديد.
٩
المصدر السابق، ص٤٩، ٥٤، ٥٦.
١٠
الفارابي، المسائل الفلسفية، ص۱۰۷–۱۰۹.
١١
المصدر السابق، ۹۹–١٠١، ٩٤، ۱۱۰، ١١٢، ٩٧.
١٢
المصدر السابق، ص٧٥.
١٣
المصدر السابق، ص٩٧، ١٠٠-١٠١، ١٠٣، ٩٠، ٩٧.
١٤
الفارابي، فصوص الحكم، ص١٤٢.
١٥
قال (٤)، قيل (٢٠)، سئل (٨).
١٦
الفارابي، آراء، ص۱۱۳-١١٤.
١٧
الفارابي، كتاب الملة، ص۷۸–٥٩.
١٨
الفارابي، السياسات المدنية، ص٥٣.
١٩
العامري، الإبصار والمبصر، ص٤١١–٤٣٧.
٢٠
العلاء بن سهل، كتاب الحراقات، علم الهندسة والمناظر في القرن الرابع
الهجري (ابن سهل، القوهي، ابن الهيثم)، د. رشدي راشد، مركز دراسات الوحدة
العربية، بيروت ۱۹۹٦، ص۱۸۷–۲۳۷.
٢١
برهان ذلك (٥)، وهذا محال (٦).
٢٢
الحراقات، ص١٨٩، ١٩٥.
٢٣
السابق، ص٢٢٥.
٢٤
الأشكال الرياضية (٢٩).
٢٥
أرشميدس، القدماء (۱).
٢٦
«من حق الملك، صمصام الدولة، وشمس الملة، على من عرف قدر النعمة في
عنايته إظهار العلوم حتى يشيع في الناس ذكرها، ويعظم عندهم خطرها، وحتى
نأخذ طلابها بالحظ الوافر من فائدتها ويتهنئوا بعائدتها أن يجعل خدمته في
ذلك بكل ما يجد السبيل إليه بعض شكر هذه النعمة، وكيف لا يُعنى بإظهارها
وقد لاقت به من يعرف فضلها، ويعتده لها، ومن يرعاها يُحسن قيامه عليها،
ويتألف غائبها بكرم مجاورته لحاضرها؟ فسببها اليوم قوي، وناصرها عزيز،
وسوقها قائمة، وتجارتها رابحة، ورأيه فيها ذمام على هواه؛ فلن يخاف البريء
أن يُقضى عليه، ولا يرجو السقيم أن يُقضى له.» السابق، ص۱۸۷.
٢٧
«بلغنا المقابلة بالنسخة المنقول عنها، وكانت بخط أحمد بن أحمد بن جعفر
الغندجاني، فرغ من تشكيله علي بن يحيى بن محمد بن أبي الشكر المغربي يوم
الخميس حادي عشر ربيع الآخر سنة تسعين وستمائة، صلى الله على سيدنا محمد
وآله أجمعين.» السابق، ص٢٣٨.
٢٨
السابق، ص۲۳۹–٢٤٢.
٢٩
بطليموس، المناظر (٣).
٣٠
«آخر ما وجدت من هذه المقالة وكتبته من خط القاضي ابن المرخم ببغداد،
وذكر في آخره أنه كتبه وقابله من خط أبي علي ابن الهيثم رحمه الله، والحمد
لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا نبيه محمد وآله أجمعين.» السابق،
ص٢٤٢.
٣١
السابق، ص٣٧٥.