(١) الرسائل الفلسفية
وبالرغم من صمت ابن سينا (٤٢٨ﻫ) عن مصادره، وهو صاحب العرض النسقي في الموسوعات
الثلاث، إلا أن تمثُّل الوافد يبدو في بعض رسائله على استحياء، خاصةً أرسطو أو
الحكيم وأفلاطون وجالينوس وفرفوريوس، ولا يتجاوز كلٌّ منهم مرةً واحدة.
(أ) ففي رسالة «الحدود» ذكر أرسطو وفرفوريوس (مرةً واحدة)، أرسطو كتاريخ الفلسفة
اليونانية ومرحلة من مراحلها، مثل استعمال لفظ الجوهر على كل ذات، وجوده ليس في
موضوع، واصطلاح الفلاسفة على ذلك منذ عهد أرسطو، ثم ذكر الحكيم (مرةً واحدة)
تحوُّلًا من الشخص إلى المثال. وإحالة إلى كتاب «طوبيقا» في الحد على أنه القول
الدال على ماهية الشيء.
١
كما يُحال إلى الفيلسوف في كتاب «البرهان» إشارةً إلى أحد معاني العقل الثمانية
عند الحكماء، والفرق بينه وبين العلم. وقد يُشار إلى الكتب وحدها؛ فهي الأبقى
وصاحبها هو الزائل، مثل الإحالة إلى كتاب «النفس» في أنواع العقول، وإلى كتاب
«البرهان» للحديث عن العقل بالفعل الذي هو العقل بالملَكة بعد استكمال قُواه.
فأرسطو الحكيم الفيلسوف مذكور مع الفلاسفة القدماء والحكماء، والإحالة إلى الكتاب
يدل على مدى ارتباط المنطق بالنفس في تحليل ملَكات العقل.
٢ كما يذكر فرفوريوس في حد المضاف، حد الجنس بالنوع.
٣
(ب) وفي «الجوهر النفيس» بالرغم من أنها تعبِّر عن رأي القدماء من كلامهم
المترجَم إلا أنه لم يذكر أرسطو، ولم يذكر من اليونان إلا صفة ديمقريطسية (مرةً
واحدة)؛ ففي البداية كانت الأجسام الديمقريطسية هي الأجزاء التي تتجزَّأ، ثم شاعت
في علم الكلام فأصبحت وافدًا علميًّا بعد أن تم تعشيقه فيما يُشابهه في ألفاظ
الذرة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا
يَرَهُ.
ويرد قول الحكيم (أرسطو) إلى قول الإلهي (أفلاطون) في الكون والفساد والإبداع،
شرح التلميذ بالأستاذ من أجل بيان وحدة الفكر الفلسفي اليوناني، وفي نفس الوقت
يُدافع ابن سينا عن أرسطو ضد شُراحه من العامة المُتفلسفة الذين حرَّفوا قوله،
وجعلوه مُلحدًا يقول بالدهر؛ فقد قال أرسطو إن السماء غير مكونة ولا فاسدة؛ لأنها
لا ضد لها. فأوَّلَ ذلك العامة على أنه قول بأزلية العالم، وأرسطو عن ذلك براء،
وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، في حين ذُكِر الأقدمون بل ذُكر الحكيم (مرةً
واحدة) والإلهي (أفلاطون) والقدماء والعامة من المتفلسفة (مرةً واحدة) في الظاهر.
الرسالة تأليف في المنقول، مجرد عرض، أو على الأكثر انتقال من النقل إلى العرض
والتمثل، ولكنها في الحقيقة موجَّهة إلى الداخل، إلى نقد علم الكلام كما يفعل
ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة» في نقده لعلم الأشعرية من خلال تفسير أرسطو،
بالرغم من عدم وجود آية قرآنية أو حديث نبوي. اللغة من القدماء، ولكن المضمون أي
المعنى والشيء من الواقع الفلسفي المحلي طبقًا لظاهرة التشكل الكاذب. وهناك إحساس
بالتغاير مع الآخر بتكرار ألفاظ الأقدمين والقدماء في مقابل المُحدَثين، وما زالت
بعض الألفاظ المعرَّبة مستعملةً، مثل «هيولى»، وحتى الآن. ويُحيل ابن سينا موضوع
الفعل والانفعال إلى باقي كتبه في تحليل قوى النفس؛ مما يكشف عن وحدة الرؤية
والتصور، كما يظهر القرآن ليس فقط تصورًا، بل تعبير.
٤
(ﺟ) وفي رسالة «دفع الغم من الموت» لا يُذكر من اليونانيين أحد إلا أفلاطون مرةً
واحدة في عرض السببين الثاني والثالث من الخوف من الموت؛ الأول جهل مصير النفس،
والثاني انحلال الذات مع انحلال البدن، وبعد التمييز بين الحياة الإرادية والحياة
الطبيعية استشهد بوصية أفلاطون الحكيم، روَّح الله رسمه، لطالب الحكمة. الموت
الإرادي هو إماتة الشهوات، والحياة الإرادية السعي لها، والحياة الطبيعية بقاء
النفس في الغبطة الأبدية. إماتة الشهوات إراديًّا تبعث على الحياة الطبيعية؛ ومن
ثَم يكون الخلود بيد الخلود، إن شاء حصل عليه، وإن شاء بدَّده.
٥
(د) وفي رسالة «في الأجرام العُلوية» لا يذكر إلا جالينوس باسمه (مرةً واحدة) في
إشارة إلى كتابه «في منافع الأعضاء»، الذي عد فيه في كتب الحكمة أربعة آلاف دليل
حكمة، وحكم في الحيوان والإنسان إثباتًا للعناية عن طريق الطب. وكان السبب في
ازدهار الطب ليس فقط سببًا عمليًّا، الحاجة إليه في مُداواة الجرحى في الحروب، بل
سببٌ نظري؛ البحث في ميدان من ميادين العلوم الطبيعية يكشف عن العناية الإلهية. أما
أرسطو فإنه يُشار إليه أنه الحكيم تحوُّلًا من الشخص إلى النمط، ومن المؤلف إلى
الموضوع، كخطوةٍ نحو الانتقال من الحكيم إلى الحكمة، ومن المؤلف إلى النص.
٦ ويُدافع ابن سينا عن قول أرسطو إن السماء غير مكونة من شيء ولا فاسدة
لأنها لا ضد لها. ولكن العامة من المُتفلسفة حرَّفوا هذا القول إلى غير معناه،
وأمضوا في الإلحاد والقول بقِدم العالم. يبرِّئ ابن سينا أرسطو من التهمة التي لصقت
به كما لصقت بابن رشد، وهو القول بقِدم العالم، بعد إثبات جالينوس بالأدلة
والبراهين العناية الإلهية؛ ومن ثَم لا خلاف بين الوافد والموروث.
ويذكر ابن سينا «الأقدمين» باعتبارهم الحضارة القديمة الوافدة، ورأيهم في جوهر
الأجرام السماوية والمذهب المحقق عنده منهم بمقدار اطلاعه عليهم. يُراجع التراث
القديم بعد التحقق من صحة الرواية كي يتفرغ من ذلك التحقق من صحة الآراء، وهذا هو
الباعث على التأليف في الوافد،
٧ وأحيانًا يسمِّيهم الأوائل باحثًا عن رأيهم في جوهر الفلك؛ فالبحث في
الطبيعة مقدمة في البحث عن الفلك لفتح مذهب اليونان المغلق على التصور الديني.
والحديث عن الطبيعيين أو الحكماء الطبيعيين هو حديث عن الآخر، الغرب القديم، الوافد
في مُقابل الموروث، للتحقق من صِدقه دون تعيينهم بأنهم يونان أو غير يونان، بل
التراث الفلسفي السابق احترامًا للقدماء كما فعل الإسلام مع المسيحية واليهودية
وباقي الديانات السابقة عليه من قبلُ، في تواضعٍ تام، وقدرة على الاطلاع، واعتمادًا
على المشاهدة، وليس على القول المجرد من أجل إعادة زرعه في الموروث في التصور
الديني العام، وصفًا للقديم في الجديد. وسبب الحديث عن الأجرام العُلوية تعرُّضه
لموضوع الأجسام السماوية، وهو موضوعٌ ديني؛ الباعث إذن خارجي وداخلي، وافد وموروث.
ويتحدث ابن سينا عن تطور الفكر اليوناني دون تسميته ووضعه في إطار محليته، وجعله
مجرد تاريخ فكر بشري ورِثته الحضارة الجديدة من الحضارات القديمة. والتاريخ يصحِّح
نفسه، انتقالًا من الخطأ إلى الصواب، من الجزء الذي لا يتجزأ إلى مبادئ الطبيعة،
الصورة والمادة، ومن التشعب إلى الإجماع. كما تحدَّث الفارابي من قبلُ عن تطور
الفكر المنطقي من النقص إلى الكمال، من الانفعال إلى الحكمة، ومن الخطابة والجدل
إلى القياس والبرهان. تطور الفكر البشري هو تطور الإنسانية كلها، واتجاهها نحو
الكمال، وكشف الحقائق، وكما فعل ابن عربي في «فصوص الحكم».
٨
(ﻫ) وفي «أحوال النفس» ذكر أرسطو في الفهرس في أن قوى النفس واحدة طبقًا لأرسطو،
في حين أن أفلاطون هو المذكور في النص والذي له رأيٌ مُخالف. ويوصف أفلاطون بأنه
الإلهي كما هو الحال عند الفارابي، فهل يقول أفلاطون بتعدد قوى النفس حقيقةً وليس
بوحدتها؟ وكيف يوصف بالإلهي أي بالتوحيد وهو يقول بتعدد قوى النفس؟ ويُعارض
ابن سينا أحيانًا أفلاطون دون الإعلان ضرورةً عن انتسابه لأرسطو. وهل الدفاع عن
أرسطو دفاع عن أرسطو ذاته وعن واقعية أرسطو، أم أنه تأكيد على واقعية الإسلام
اعتمادًا على أرسطو تدعيمًا للموروث بالوافد، واتفاقًا للمنقول مع المعقول؟ في حين
قرأ آخرون في أفلاطون الإلهي الصوفي الإشراقي مُمثلًا لروح الإسلام ضعفًا وتعويضًا،
فناءً وخلودًا. كما يُحيل ابن سينا إلى بعض كتب أرسطو المنطقية مثل «طوبيقا» لبيان
الجنس أن يجب أن يُجعل مطلقًا على الشيء، ومن كل جهاته لا من جهةٍ واحدة. ولا تظهر
ألفاظ معرَّبة في أحوال النفس إلا لفظ أسطقسات، والنبطاسيا (ثلاث مرات).
٩
وبالرغم من أن أحوال النفس تمثُّل للوافد إلا أنها لا تخلو من تحليلات الموروث
وألفاظه وموضوعاته، فلا مضمون بلا صورة، ولا محتوى بلا وعاء. يُكثِر ابن سينا من
استعمال المعاني المجازية والتشابه، أي اشتراك الاسم، ليس فقط في الإلهيات، بل
أيضًا في الإنسانيات؛ فيُسمِّي كل عمل اجتماعًا في المساكن باشتراك الاسم، واليد
المقطوعة والشلَّاء يد باشتراك الاسم، والميت إنسان باشتراك الاسم، والنفس المفارقة
نفس باشتراك الاسم، وهي صورة البدن باشتراك الاسم، وكل واحدة من قوة النفس العاملة
والعالمة عقل باشتراك الاسم.
١٠
وتظهر الموضوعات المحلية مثل التواتر في أحوال النفس؛ فالتواتر ليس فقط في
المنطق، بل أيضًا في علم النفس في بيان كيف تستعين النفس بالبدن ومتى تستغني عنه،
متى ينفعها ومتى يضرُّها، مُستعارًا من علم الحديث، واستعارته من قبلُ في علم أصول
الفقه. تُعين القوى الحيوانية النفس في أشياء، منها أن يورد الحس الجزئيات فتحدث
لها أمور أربعة؛ الأول: انتزاع النفس الكليات من الجزئيات عن طريق التجريد.
والثاني: إيقاع النفس مناسبات بين الكليات سلبًا وإيجابًا، وهو الاستدلال. والثالث:
تحصيل المقدمات التجريبية، وهو التمثل أو الاستقراء، حسيًّا أو قياسًا. والرابع:
التواتر. فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل المبادئ للتصور والتصديق، والتصديق
بالتواتر لا يرجع إلى صحة السند، بل إلى صِدق المتن ومطابقته لقوى النفس العلمية والعملية.
١١ فإن زاحم الخيال قوى النفس ضعُف التواتر، وإن كان المنطق هو المُسيطر
صح التواتر؛ فالتواتر مصدر للمعرفة الصحيحة من خلال النفس الناطقة. والسؤال الآن:
هل حصول المعارف في النفس يجعل المعرفة جزءًا من علم النفس؟ هل وجود النفس بالبدن
وحصول المعارف بالنفس يجعل البدن جزءًا من نظرية المعرفة؟ هل لأن التواتر أحد مصادر
المعرفة يصبح بذلك جزءًا من موضوع علم النفس؟ هل التواتر يدخل في موضوع علم النفس
وتطهيرها وخلاصها من البدن؟ هل يدخل مع قوى النفس الحسية والخيالية؟ يستعمل
ابن سينا لفظ التواتر في اللغة العادية في «حي بن يقظان»، ويعني به الأخبار
اليقينية، وكأنه رمزٌ معرفي. وأخيرًا يظهر الأسلوب العربي والأمثلة العربية؛ مما
يدل على التأليف المحلي.
١٢
(و) وفي رسالة «القولنج» لا يظهر إلا جالينوس استشهادًا بقوله (مرةً واحدة).
وابن سينا كالعادة صامت عن مصادره إلا الاستثناء. والرسالة وسط بين القِصر والطول.
فصولها قصيرة، ومع ذلك تغلب عليها الإيمانيات والدعوة لله والسلطان؛ فالرسالة
مكتوبة لخِزانة السلطان، وليس للصالح العام.
١٣
(٢) آليات الإبداع
ولا تختلف آليات الإبداع في تمثُّل الوافد عنها في باقي الأنواع الأدبية منذ
التفسير والتلخيص والعرض، من تحليل أفعال القول أو أفعال البيان والإيضاح، ووصف
مسار الفكر، وإيجاد البراهين والاتساق العقلي، وبيان وحدته، والإحالة إلى نفسه أو
إلى غيره، والانتقال من السابق إلى اللاحق، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
١٤ ويُحيل العلم إلى باقي العلوم تأكيدًا لوحدة العلوم في منظورٍ واحد.
وتقوم الإحالة على نظريةٍ حتمية في تقسيم العلوم، والتي يُسميها الفارابي «إحصاء
العلوم»؛ فكل علم تتأسَّس مبادئه في علمٍ آخر، ومبادئ العلوم الجزئية تتأسس كلها في
علمٍ كلي هو الفلسفة الأولى؛ لأنه لا يمكن البرهنة على مبادئ العلوم من العلوم
الجزئية ذاتها؛ فيُحيل موضوع النفس إلى كتب النطق؛ إذ يعتمد تحليل قوى النفس
الناطقة الخمسة التي تداخل فيها النفس الحيوانية مع النفس الإنسانية على كتب المنطق
في المقدمات الذاتية المشهورة؛ أي قياس النفس إلى نفسها، وهو ما يُعادل العقل
النظري. كما يُحال إلى كتب الأخلاق لمزيد من التفصيل عن التوسط بين الخلقين الضدين.
١٥ ويظهر أيضًا هم الاختصار واستبعاد التطويل، خاصةً في الرسائل كنوعٍ
أدبي، ومع ذلك قد يُطيل آخرون لجعل الموضوع أوضح وأجلى.
١٦
وتظهر البدايات والنهايات الإيمانية في تمثُّل الوافد، مثل الدعوة إلى العِبر،
والله أعلم، وقد تظهر في وسط الرسالة بعض الأساليب القرآنية الحرة واحدةً تلو
الأخرى لتقوية الأسلوب، والإقلال من التعامل مع الخارج، واستعمال الموروث الأصيل
كمخزونٍ أدبي.
١٧