(١) ابن الهيثم
ويقوم ابن الهيثم (٤٣٢ﻫ) بتمثل الوافد الرياضي، والرياضيات جزء من الطبيعيات في
علوم الحكمة، ويأتي في المقدمة بطليموس ثم أرسطو ثم أرشميدس ثم إقليدس، وتدل بعض
العناوين، مثل «حل شكوك حركة الالتفاف»، «الشكوك على بطليموس»، أن تمثُّل الوافد لا
يعني بالضرورة العرض أو تعشيق الوافد في الموروث، بل قد يعني أيضًا النقد والشك في
الوافد والمراجعة والتحقق من صِدقه.
(أ) ففي «حل شكوك حركة الالتفاف» يتم الحوار في الداخل على الخارج، ونقد السابقين
الذين تعاملوا مع الوافد وأساءوا تأويله، كما يفعل ابن الهيثم مع «مولاي الشيخ»
الذي يُكنُّ له احترامًا كبيرًا بالرغم من ظاهريته وحرفيته في فهم بطليموس؛ فقد أخذ
الشيخ كلام بطليموس من غير تأمل أو تأويل، نقلًا من غير فهم. ولا يستشهد ابن الهيثم
بأقوال بطليموس فقط، بل بأقوال مولاي الشيخ على بطليموس في نصٍّ مزدوج، يقرأ
ابن الهيثم مولاي الشيخ قارئًا بطليموس.
يهزُّ ابن الهيثم السلطة القديمة، سلطة الوافد، أو سلطة الوافد بعد أن يتحوَّل
إلى موروث، ويُعيد مراجعة النصين على الواقع والتجربة حتى يتقدم العلم ضد تقديس
القدماء. وخطأ بطليموس أنه وضع أصولًا نظرية ثم ناقَضها تجريبيًّا. ولا يكفي في ذلك
منهج الاستشعار الذي استعمله الشيخ؛ أي الإحساس الغامض دون البرهان الواضح، والحكم
بالظن دون اليقين.
١ كما أخذ الشيخ الكلام على ظاهره دون تأويل، على التقريب وليس على
التحقيق، على العموم وليس على الخصوص؛ مما قد يُخرِج النص عن قصده.
ويستعمل ابن الهيثم منهج التمييز بين المعاني؛ إذ يرجع خطأ الشيخ أنه لم يختر بين
ثلاثة معانٍ؛ مما جعله يتشكَّك ويبعد عن الحق.
٢ ومهمته البيان والتوضيح لأقوال الشيخ ولأقوال بطليموس، وتبديد سوء فهم
الشيخ لأقوال بطليموس مُعيدًا قراءة الاثنين لمعرفة أين الخطأ. يبحث ابن الهيثم عن
الاتساق بين المقدمات والنتائج، ويُراجع مسار الفكر حتى يكتشف التناقض والشناعات
والمجالات فيه، والانتهاء إلى النتائج الصحيحة في الاستدلال عن المقدمات الصحيحة في القراءة،
٣ بل يفترض ابن الهيثم وجود عدة نسخ للنص المقروء قد يكون اختلافها هو
سبب الاختلاف في فهمها.
ويقدِّم ابن الهيثم منهجًا يقوم على ثلاث خطوات؛ الأول: ضرورة تأويل النص وعدم
فهمه حرفيًّا؛ أي إنه ينقد موقف الحشوية، كما فعل ابن رشد. والظاهر والمئوَّل
مقولاتٌ أصولية. والثاني: أخذ المعاني دون شك، وفهمها بيقينٍ دون ظن، والتوثق من
يقينها بالبرهان. والثالث: توضيح المعاني الغامضة وفهمها فهمًا دقيقًا؛ مما يتطلب
الجهد والعناء. وبدون هذه الخطوات الثلاث يتحوَّل الموضوع إلى مجرد وهم، عنقاء
مغرب.
ويتصدَّر بطليموس ثم أرسطوطاليس ثم مولاي الشيخ، ومن الكتب يتصدَّى كتاب
«الاقتصاص» ثم المجسطي ثم المناظر.
٤ ويُراجع ابن الهيثم بطليموس نفسه متجِهًا إلى الأصول الأولى دون التوسط
بشرح «مولاي الشيخ» ليرفع التناقضات الموهومة في عمل بطليموس، مُستعينًا بباقي
أعماله، ومُصححًا الكتاب بالكتاب، المجسطي بالاقتصاص، واستعمال نفس ألفاظه حتى
تُستبدل بها ألفاظٌ أخرى لا تفيد نفس المعنى، واكتشاف ما قاله بطليموس بنفسه وما لم يقله.
٥ ويحدِّد في الكتاب المقالة والمكان حتى لا يتحدث انطباعًا على
الإطلاق.
ويعتذر ابن الهيثم عن بعض أخطاء بطليموس؛ لأن بطليموس نفسه يعتذر عنها ويدخل في
فكره، ويصف كيف يتأمل ويفكر ويستدل، بل يتوجَّه ابن الهيثم إلى مصادر بطليموس عند
أرسطو والتمييز بين القول بالحركة عند كلٍّ منهما. يُبين قصد أرسطو وقصد بطليموس
ومدى اتفاقهما واختلافهما؛ فابن الهيثم يقوِّي النصين معًا، ويُهيمن عليهما كما
يُهيمن القرآن على الإنجيل والتوراة، يصدِّق مضمونهما ويصحِّح ألفاظهما.
٦ ويدل ذلك على أن بطليموس هو الذي يشرح ابن الهيثم، وأن ابن الهيثم هو
الدارس، ويستعمل أقوال بطليموس تأييدًا له إن كانت مُطابقة، أو نقدها ومراجعتها
وتصحيحها إن كانت مُخالفة؛ لذلك يكثُر تردد ألفاظ: صحيح، تصحيح، غلط، خطأ.
فابن الهيثم يترك النص ويتجه نحو الموضوع حتى يراه، ثم يعود إلى النص ليُراجعه على الموضوع.
٧ هنا يرتبط تمثل الوافد بالشرح، إلا أن تمثُّل الوافد تجاوز للشرح إلى
مستوًى آخر؛ فهو أول مرحلة من مراحل التأليف، في حين أن الشرح مجرد فهم له على ما
هو عليه.
وإن خطأ «مولاي الشيخ» هو تصديق بطليموس في كل شيء، ولكنه يصدق بطليموس من غير
برهان ولا حجة، بل تقليدًا ونقلًا، وكأن أصحاب الحديث لا يصحُّ أن يكونوا علماء
لأنهم مجرد نقلة عن الرسول، تعوَّدوا على منهج النقل، وليس على منهج البرهان كما هو
الحال عند أصحاب التعاليم. ويصعب عليه تغليط بطليموس وكأنه نبي، مع أن لبطليموس
أغلاطًا كثيرة في مواضع كثيرة من كتبه؛ فكثير من أقواله في المجسطي مُتناقضة، يضع
أصولًا للهيئات ثم يُناقضها، وقد كان في نية ابن الهيثم تأليف كتاب في علم الهيئة
يرصد فيه أغلاط بطليموس، كما أن له أغلاطًا في كتاب المناظر والبرهان على أشكال
المرايا. معاني كتاب «الاقتصاص» يُبطل أكثرها ويضعِّف. وألَّف ابن الهيثم منشورين
في العاجل يُبين غلط بطليموس في ذلك التدوير.
٨
(ب) وفي «الشكوك على بطليموس» يتقدم بطليموس على الإطلاق كي يصبح هو العلَم
الوحيد، ويتقدم المجسطي ثم الاقتصاص ثم المناظرة.
٩ ولا يعني تمثُّل الوافد مجرد القبول والاستيعاب والتعلم، بل يعني الشك
في الوافد ونقده وتجاوزه، كما يدل العنوان؛ من أجل القضاء على تقليده، وتحوُّله إلى
اعتقادٍ مضادٍّ لتقدُّم العلم. وقد استمرَّ هذا التيَّار النقدي للوافد حتى في
العصور المتأخرة.
١٠ فالنقد مشروعٌ حضاري لعدة أجيال، وهو موقف واعٍ مقصود، يعبِّر عنه
ابن الهيثم؛ فطالب الحق ليس هو قارئ كتب المتقدمين وحسن الظن بهم، بل هو الناقد
لفهمه، الباحث عن الحجة والبرهان، لا المتبع لقيل وقال، والخصيم للكل دون تحامل أو
تسامح حتى يدرك الحق والباطل في كلام القدماء، ويتحقق من صدق أو خطأ أقوالهم.
١١
ويستعمل ابن الهيثم عدة مناهج للنقد والمراجعة والتصحيح؛ أولًا: منهج اتساق
الفكر، وتطابق النتائج مع المقدمات، وعدم الوقوع في التناقض والمُحال والشناعة.
١٢ وقد يكون سبب الغلط اللغة، وسوء استعمال الألفاظ، وعدم دقة المصطلحات.
المقياس إذن هو تطابق الفكر مع نفسه، واتباع قواعد القياس؛ فالهيئة التي فرضها
بطليموس للكواكب الخمسة باطلة لأنها خارج القياس، وفرض الحركة على دوائر مجردة
أيضًا خارج القياس؛
١٣ لذلك يرفض ابن الهيثم التناقض في المعاني والأقوال والتصورات والأصول
الصحيحة، كما يرفض ما ينتج من مُحال وفحش. وقد يكون المقياس هو التناقض مع الواقع؛
فالوجود خلاف القول.
١٤ وقد تكون المعاني صحيحة، ولكن أوجه الاستدلال تتبيَّن ببراهين أخرى،
كما هو الحال في بعض إشكالات كتاب المناظر؛ لذلك تكثُر ألفاظ: التناقض في المعنى،
المُحال في الوجود، الغلط في التصور أو الظاهر، المناقض للأصول الصحيحة، المُحال
الفاحش في مقابل الصحيح، البين، البرهان.
١٥ وأحيانًا يجد ابن الهيثم لبطليموس العذر لبعض ما نسيه أو أخطائه، مثل
نقص البراهين، والقفز على المقدمات، والسهو الذي لا يعتري البشر منه. وأحيانًا أخرى
ليس له عذر في مواضع ارتكب الخطأ فيها قصدًا. ويُراجع ابن الهيثم ما قاله في كتاب
المجسطي مثلًا على ما قاله في كتابٍ آخر من أجل تفسير العمل كله بعضه ببعض في وحدة
المذهب ونسقه الكلي. ويدعم منهجه بالنصوص، واقتباس الأقوال، والإشارة إلى موضع
القطع والوصل، وإعطاء فرصة لبطليموس لتأويلٍ صحيح لأقواله بعد عرضها على العقل
والتجربة، مع السير خطوةً خطوة مع فكره لمعرفة مساره، وأين القفز فيه في الأصل أو الشرح.
١٦
(ﺟ) وفي «مقدمة ضِلع المسبَّع» يتقدم أرشميدس وحده؛
١٧ فالرسالة مختصرة دون الإضرار بالمعنى على مقدمة أرشميدس في ضلع المسبع.
ويُكمل ابن الهيثم براهين أرشميدس؛ فأساس برهان أرشميدس هو المثلث الذي عُمل منه
المسبع يمكن إعادة توظيفه لعمل المربع منه. كما يوسِّع ابن الهيثم الموضوع ويُكمله،
وهو ما يحتاج إليه أرشميدس لإثبات ضلع المسبع؛ فإكمال النتيجة يفيد في إعادة وضع
المقدمات. كما يجد ابن الهيثم العذر لأرشميدس واضعًا إياه في سياقه التاريخي؛
فالعلم يتقدم بتقدم التاريخ.
١٨
(د) وتبدأ «رسالة في الكرة المحرقة» لابن الهيثم أيضًا من المقالة الخامسة من
كتاب «المناظر» لبطليموس،
١٩ دون ذكر للسياق التاريخي والاكتفاء بالموضوع العلمي؛ «شعاع يخرج من
الشمس على خطوطٍ مستقيمة، وينفُذ في كل جسم مشفٍّ مُقابل للشمس. فإذا نفس في جسمٍ
مشفٍّ، ثم لقي جسمًا آخر مُشفًّا مُخالفًا الشفيف لشفيف الجسم الذي هو فيه، ولم يكن
قائمًا على سطح الجسم الثاني على زوايا قائمة، انعطف ولم ينفُذ على استقامة.»
٢٠ يعني التمثل هذا القدرةَ على العرض النظري الخالص بدايةً من نقطةٍ
تاريخية عند اليونان، تتحول إلى الإبداع الخالص عندما ينتهي الوافد كليةً، ولا يبقى
إلا العقل الخالص؛ لذلك لا يذكر من الوافد لا بطليموس والمناظر. ويوضع المقال داخل
مجموع أعمال ابن الهيثم، مثل «المناظر» و«خطوط الساعات».
٢١
تغيب ألفاظ القول، وتكثُر صيغ ألفاظ البيان؛ لأن ابن الهيثم لا يشرح قولًا، بل
يوضِّح برهانًا، بل قد يكون فعل البيان مزدوجًا عندما يتم بيان البيان من أجل مزيد
من الإيضاح.
٢٢ وهو بيان للبرهان؛ أي للبحث عن المنطق الداخلي للموضوع.
٢٣ ويقوم البيان على الافتراض، كما هو الحال في البراهين الرياضية، توهُّم
الخطوط من أجل بناء البرهان الهندسي عليها؛ لذلك يظهر تعبير «وإذا توهَّمنا»، وحتى
يمكن استبعاد المُحال، بالإضافة إلى عدد من الرسوم والأشكال التوضيحية، كما يُحيل
اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق، لبيان وحدة الموضوع ووحدة الاستدلال في
عباراتٍ مثل «وإذ قدَّمنا». وكما يبدأ المقال بالبسملة والدعوة بالتيسير والإتمام
بالخير والسعادة، ينتهي بالحمدلة والصلاة على الرسول وآله أجمعين.
(ﻫ) وفي «رسالة الكرة المحرقة» لابن الهيثم أيضًا، تحرير كمال الدين الفارسي
(٧١٨ﻫ)، يبدو التمثل مزدوجًا بين ابن الهيثم والفارسي، تمثلًا على تمثُّلٍ نحوَ
مزيد من التحول من النقل إلى العقل، من الوافد إلى العقل الخالص.
٢٤ الفارسي يتمثل ابن الهيثم مُتمثلًا بطليموس.
٢٥ يستبعد المقدمات التي ذكرها ثم يدخل في الموضوع مباشرةً في الكرة
المحرقة، وهي أن زاوية الانعطاف في الزجاج أصغر من نصف العطفية وأكبر من ربعها؛
لذلك لا يذكر من الوافد إلا بطليموس وكتابه المناظر، ثم ابن الهيثم وكتابه في خطوط
الساعات؛ مما يدل على وحدة عمل ابن الهيثم؛ ولذلك أيضًا تتعادل ألفاظ القول بين
«قال» و«يقول»؛ أي ابن الهيثم، و«أقول»؛ أي الفارسي.
٢٦ ففي تمثل الوافد أيضًا يقع التراكم، بداية الإبداع؛ فالتمثل أول نوع في
التأليف، والإبداع آخر نوع في التراكم. ويعتمد الفارسي على أكثر من نسخة من مقال
ابن الهيثم ليستوثق من صحة النص.
٢٧
وتظهر أفعال البيان والإرادة لتدلَّ على أن التحرير رغبة المُتمثل الثاني في
توضيح المُتمثل الأول؛ التمثل الأول فعلٌ عقلي، والتمثل الثاني فعلٌ إرادي. والفعل
الإرادي يحقِّق المطلوب وما يحتاج إليه، ويستبعد المُحال والتناقض، ويلخِّص
النتائج، ويستقري الحاصل، ويُضيف التكملة والحاشية؛ فهو فعلٌ كيفي في البيان، وكمي
في التركيز والشرح. والمقال به ستة رسوم توضيحية وجدول واحد. ولا يظهر من الموروث
إلا ابن الهيثم، رحمه الله، مُتمثلًا الوافد دون بسملة أو حمدلة.
٢٨
(و) وفي «مقالة عن ثمرة الحكمة» يأتي إقليدس في المقدمة، لدرجة تلقيب ابن الهيثم
بإقليدس الثاني بعد بطليموس الثاني.
٢٩ ويعرض ابن الهيثم لما سمَّاه إقليدس الرأي العام أو الإشكال مع موقفٍ
نقدي، يتفق مع بعض، ويختلف مع البعض الآخر؛ مما يتطلب الصبر على تأمله؛ فالعلم صبر وتأمُّل.
٣٠
ولا يهمُّ إذا كان ابن الهيثم هو مؤلف المقال أم أنه مُنتحَل عليه؛ فهذا سؤال
الاستشراق، فالنص له استقلاله الداخلي بصرف النظر عن مؤلفه؛ ميلاده ووفاته وحياته.
تحليله من أجل التعرف على مكانه في التحول من النقل إلى الإبداع. وابن الهيثم في
الرياضيات مثل ابن سينا في علوم الحكمة، يمثِّل القدرة على التنظير لدرجة الاقتراب
من الإبداع الخالص لولا ذكر الوافد وتمثله. درس في بداية حياته أرسطو وجالينوس
وبطليموس وإقليدس، ثم تجاوزهم وانتقل من تمثل الوافد إلى الإبداع الخالص في بعض
رسائله الأخرى. ويستعمل الاسم المنقول مثل علم التأليف الذي يُسميه اليونانيون
الموسيقى حرصًا على التمايز بين الأنا والآخر.
٣١ منهجه يعتمد على الشك في المنقول، سواء كان الوافد أو الموروث أو
الوافد الموروث حتى يتأكد من صحته، صحة النقل أو صحة الفهم والتأويل، صحة المتن
وصحة السند بلغة علم الحديث. ويتم التصديق إما عن طريق العقل والبرهان أو بطريق
التجربة والملاحظة والمشاهدة، لا فرق في ذلك بين العلوم الرياضية أو الطبيعية أو
الإنسانية. والتعبير عن النتيجة بلغةٍ علمية دقيقة وبأسلوبٍ مختصر بعيدًا عن
الإنشائيات واللغو والتطويل. والمثابرة في العمل ضرورية بالرغم من الشعور بحتمية
النهاية وهموم قِصر العمر.
والهندسة تجمع بين الرياضة والمنطق، الهندسة منطق الرياضة، وهي أساس العلوم
الرياضية الأربعة، تُعطي خواص الأشكال الهندسية في الهندسة، وخواص الأعداد في
الحساب، وخواص علم التأليف في الموسيقى، وخواص علم الهيئة في الفلك. وعلى أساس
الهندسة تنشأ باقي العلوم الصناعية.
٣٢ والرياضة بديل عن المنطق في قسمة الحكمة إلى رياضيات وطبيعيات
ومنطقيات.
وابن الهيثم مُتكلم وفيلسوف، ألَّف في الرد على ابن الراوندي والرازي والمعتزلة
والمتكلمين، ولإثبات أن أدلة المتكلمين فاسدة لا تقوم على برهانٍ ضروري، حتى ولو
كان الموضوع إثبات حدوث العالم كما فعل ابن رشد فيما بعد.
ولا يخلو فكر ابن الهيثم من جانبٍ أخلاقي عملي بالرغم من التأصيل الهندسي
الطبيعي، لدرجة الشك في صحة «ثمرة الحكمة» لأفلاطونيتها في تقسيم قوى النفس، وتناول
موضوع الأحلام، وجمعها بين العلوم الطبيعية والإلهية والرياضية. أراد منها
ابن الهيثم تعليم المبتدئين أصول الحكمة اعتمادًا على أصول الهندسة؛
٣٣ إذ تستطيع الهندسة، وهي منطق الرياضيات، الوصول إلى الأمور الطبيعية،
التي هي الحكمة ومبادؤها وعللها وأسبابها، وإلى الأمور الإلهية، حكمة الله وذِكره
في هيئة السماء والأرض وما بينهما، فلزِم إثبات الباري حكيمًا قادرًا خبيرًا.
٣٤
وفي الرسائل الأربع تنتهي ثلاثةٌ منها دون «الشك على بطليموس» بالإيمانيات،
ابتداءً بالبسملة والحمدلة، والثقة بالله، ودعوته للعصمة من الزلل، والتقصير
والخلل، والاستعانة بمشيئته، والتوكل عليه، العزة لله، وحده لا شريك له. ويدعو
ابن الهيثم لمولاه الشيخ بحراسة الله له، بالرغم من تقليده لبطليموس وامتعاضه من
نقده. ويستشهد بآيةٍ قرآنية
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ لإثبات ضرورة الانتقال من الظن إلى اليقين. ويُحمد لابن الهيثم
أنه لم يدعُ للسلطان بعد دعاء الله.
٣٥
(٢) علي بن رضوان
وفي «المستعمل من المنطق في العلوم والصنائع» لعلي بن رضوان (٤٥٣ﻫ)، يدل العنوان
على تحويل المنطق من منطقٍ صوري إلى منطق للاستعمال، وأنه ليس فقط في قواعد الفكر،
بل أيضًا في العلوم والصنائع، لا فرق بين منطق تقليدي قديم ومنطق علمي حديث. وينقسم
إلى مقالاتٍ ثلاث بلا عناوين؛ الأول: عن الأجناس العشرة، ويضمُّ المقولات والعبارة.
والثاني: عن القياس والبرهان؛ أي منطق اليقين. والثالث: عن الجدل والمغالطة
والخطابة والشعر؛ أي منطق الظن. فلا يعني تمثل الوافد مجرد التكرار والنقل
والتقليد، بل يعني بداية الإبداع والنقل الحضاري. وهو على وعي باختلاف الترتيب بينه
وبين أرسطو؛ فأرسطو يبغي العلم والعمل، وابن رضوان يبغي العمل فحسب.
٣٦
يدرس ابن رضوان الموضوع ثم يبيِّن موضعه في منطق أرسطو، مثل الفصل الرابع من كتاب
العبارة،
٣٧ ويركِّز منطق أرسطو، ويبيِّن سبب إطالته في تعليم صناعة الجدل
واستقصائها في ثماني مقالات،
٣٨ ويؤيد تقسيم الفيلسوف المخاطبات إلى خمسٍ ما دامت القسمة تتفق مع العقل والموضوع.
٣٩ وكان ابن رضوان على وعي بتقدم المنطق من القدماء إلى المُحدَثين.
التمثل ليس الثبات على اللحظة الأولى التي نشأ فيها المنطق عند القدماء، بل تمثُّله
واستيعابه عند المحدثين. ويختلف المناطقة في طرق تعبيرهم «وقد جرت عادة القدماء أن».
٤٠ ولا يعني تمثل الوافد مجرد تحصيل واستيعاب، بل يتضمن التأمل والفهم،
كما تدل على ذلك صيغ «وإذ تأمَّلنا»، «وإذ قد لخَّصنا».
٤١ ويظهر الاستدلال في الانتقال من المقدمات إلى النتائج، وهو استدلالٌ
معياري لما ينبغي أن يكون عليه الفكر «ولذلك ينبغي أن تفهم». كما تظهر أفعال
البيان؛ مما يدل على أن التمثل توضيح وشرح.
٤٢ وتتم مخاطبة القارئ «وإذا عرفت هذا»؛ فالتمثل تجربةٌ مشتركة، ورسالةٌ
حضارية واحدة بين المؤلف والقارئ.
٤٣
ومن الوافد يذكر الفيلسوف تحولًا من الشخص إلى النموذج وأرسطوطاليس ثم إقليدس وأبقراط؛
٤٤ فقد استخرج أرسطو صناعة المنطق. ويُشار إلى جميع الفلاسفة والمشهورين
من الفلاسفة أو ذوي النباهة منهم دون تحديد من الوافد أو الموروث.
٤٥ ويُحال إلى كتاب العبارة بمفرده؛ لأنه أقرب إلى مباحث اللغة. ويضرب
المثل بكتابَي «كليلة ودمنة» و«العرس والعرائس». وما زالت بعض الألفاظ المعرَّبة
مستعملةً، مثل أسطقس وأسطقسات.
ويضرب المثل بموادَّ طبية من أبقراط، إن الحرارة تكثر في الأجواف في الشتاء؛ مما
يتطلب قلة البلغم، في حين أن البلغم يكثر؛ فهذا خُلْف؛ أي اختلاف النتائج عن
المقدمات تجريبيًّا، وذلك في أمثلة البرهان. كما يضرب المثل بأمثلةٍ طبية أخرى؛
فالمنطق للاستعمال منطقٌ تجريبي. كما يضرب المثل ببرهان إقليدس لما يُستعمل في
العلوم والصنائع، وهو برهان مكوَّن من مقدمتين. وما يجري في الهندسة يجري في سائر
العلوم الطبيعية، مثل الجِرم السماوي.
وتظهر اللغة العربية في عادة الإشارة إلى المجهول بزيد وعمرو. كما يضرب المثل
بأرسطوطاليس وسقراط، بنفس الطريقة لشرح «متى» كعرض، أو على أشخاصٍ جزئية. ويذكر
الناسخ الشيخ أبا الحسن علي بن رضوان.
٤٦
وتظهر مادة الموروث تلقائيًّا؛ فما دام المنطق للاستعمال فإنه يكون نافعًا في
التخلق بأخلاق الصالحين. والشرائع ضربان؛ عقلية: وهي ما يُذعن إليه كل عاقل، مثل
مُواساة صديق أو قريب، وحب الغير مثل حب النفس، والبر بالوالدين، وشكر المُنعم، وهي
متواترت في كل أمة. والثانية: وضعية، وهي الشرائع الخاصة بكل أمة أو صنعة، ومنها
شرائع الطوائف الإلهية عن نبوة أو وحي من الله ومن الإمام أو الفقيه. والفرق بين
الإمام والفقيه والمتكلم أن الإمام قائم بأمر الشريعة ويحمل الناس عليها، والفقيه
يُعنى بالحلال والحرام، والمتكلم هو الذي يتكلم في أصول الفقه ونصرة الدين بأقاويل،
لا فرق بين عالم أصول الفقه وعالم أصول الدين. ويتم الاحتكام إلى الشريعة الوضعية
في حالة الخصام بين طائفتين، أو إلى الشريعة العقلية العامة في حالة الخلاف بين البشر.
٤٧ وكما يبدأ الكتاب بالبسملة والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه، ينتهي
بالحمدلة، وأحيانًا في آخر كل مقال.
٤٨