(١) ثابت بن قرة
وكما ساهَم المترجمون في تمثل الوافد فإنهم ساهموا أيضًا في تمثل الوافد قبل
تنظير الموروث؛ فهم المؤلفون الأوائل. ولم يظهر تمثل الوافد قبل تنظير الموروث قبل
القرن الثالث؛ فقد كان القرن الثاني بداية عصر الترجمة، أي نقل الوافد وقلة التراكم
الفلسفي في الموروث. ويغلب على هذا النوع من التأليف علم الطب لحاجة الحضارة
القائمة الجديدة إليه في مُداواة الجند؛ فهو علمٌ عملي قبل أن يكون علمًا نظريًّا
جزءًا من الطبيعيات عند اكتمال بنية علوم الحكمة عند ابن سينا. لم يكن الموروث في
ذلك الوقت يتجاوز الطب النبوي، المرويات في الطب عن الرسول.
ويمثِّل كتاب «الذخيرة في علم الطب» لثابت بن قرة (٢٨٨ﻫ) هذا النوع من التأليف.
جمعه ابنه سنان ابن قرة، مجرد تجميع علم دون منهج، قياس أو تجربة أو حيل، ولا يوجد
أسلوب يعبِّر عن وحدة العمل وتأليفه، أو تجارب شخصية تُوحي بممارسة الطب.
١ ولو أن بعض عبارات التذكير بما فات تبدأ أحيانًا ربطًا للاحق بالسابق.
٢ تبدو فيه بداية المصطلحات الطبية مثل الصفة؛ أي تركيب الدواء. ويغلب
على أسماء النباتات والأعشاب فيه أسلوب التعريب عن اليونانية مباشرةً.
ويتصدَّر الوافد بطبيعة الحال على الموروث، ويأتي جالينوس في المقدمة، يليه أبقراط.
٣ ويُعطى لجالينوس لقب الحكيم أو الفاضل، ولأبقراط لقب الفاضل، بدايةً
للتحول الشخصي من الشخص إلى النموذج، وتقديرًا للوافد الذي سيظهر عند الكندي كموقفٍ
حضاري. ومن مؤلفات جالينوس المُحال إليها: تدبير الأصحَّاء، حيلة البرء، الأهوية
والبُلدان، الميامير، أغلوقون، طيماوس. وواضحٌ خروج الحكمة الخالصة مثل طيماوس من
ثنايا الطب. ومن مؤلفات أبقراط يذكر «الفصول». وتبدو بعض الألفاظ معرَّبةً مثل
الماليخوليا، الإيلهسيا.
أما الموروث فيأتي ابن ماسويه في الصدارة، ثم حنين بن إسحاق، ثم الحارث بن كلدة
طبيب العرب، ثم ابن سرابيون.
٤ وتظهر البيئة الدينية الإسلامية أيضًا في مؤلفات النصارى نظرًا لتحول
الإسلام إلى ثقافةٍ يومية للجميع، سواء كان ذلك من المؤلف أو الناسخ أو القارئ أو
المالك، مثل البسملة والاستعانة بالله وطلب العصمة والتوفيق وهو الأغلب، والحمدلة
والصلاة على الرسول وآله الأكرمين. وتبرز بعض تعبيرات النصارى مثل «إيلاوس»،
وتأويله «ربِّ ارحم».
٥
(٢) يحيى بن عدي
لم يقتصر المترجمون فقط على تمثل الوافد نظرًا لقربهم منه ومعرفتهم به، والقيام
بأولى خطوات التحول من النقل إلى الإبداع؛ فالمترجمون مِثلَ المؤلفين ذوو ثقافتين،
الوافد والموروث، وإن غلب الوافد. بدأ المترجمون المؤلفون بوضع الوافد في وعاء
الموروث حتى ولو كان المحوي أكبر من الحاوي.
(أ) مثال ذلك «تعاليق عدة في معانٍ كثيرة» ليحيى بن عدي (٣٦٤ﻫ) بعد الكندي
والرازي والفارابي.
٦ وتشمل موضوعاتٍ متفرقةً لتعريفها، أشبه برسالة في المصطلحات
الفلسفية.
يتصدر تمثُّل الوافد على تنظير الموروث، ويتصدر أرسطو ومؤلفاته مثل قاطيغورياس،
ثم باري أرمنياس، ثم القياس (أنالوطيقا الأولى)، وما بعد الطبيعة، ثم فرفوريوس
وأفلاطون. ويذكر لفظ اليونانيين وأسطقس.
٧ يذكر أرسطو في تعريف المُتقابلات في قاطيغورياس، ثم يعلِّق ابن عدي
لإعطاء مزيد من البراهين، ويبدِّد الشكوك، ويُعطي حد المضاف في السرياني على ما
أورده أرسطو ويبيِّن معناه، ويبيِّن أيضًا حد أرسطو للكيفية والإضافة، ويستشهد
برأيه في الحمل، ويستشهد في قوله في قاطيغورياس عن الذوات الجنسية في موضوع الجن،
ثم يشرح قوله في قاطيغورياس إنه بالواجب صارت الأنواع والأجناس وحدها دون غيرها
كالجواهر الأول والجواهر الثواني، ويفسِّر قوله بقوله، والعودة إلى قاطيغورياس، بأن
الألفاظ المفردة لها معانٍ مفردة. كما أن أرسطو جعل الموجود في قاطيغورياس اسمًا
مشتركًا تشترك فيه المقولات العشر، وسمَّاه فيما بعد الطبيعة جنسًا. وجعل أرسطو
المعلوم هو العلم، إذا رُفع العلم رُفع المعلوم، كي يشحذ المُتعلمون أفكارهم؛
فأرسطو عالمٌ تربوي. ويبرِّر ابن عدي عدم بيان أرسطو غرضه في كتاب قاطيغورياس كما
فعل في باقي كتبه أنها أوساط على مراتب مختلفة. وربما شكَّ في التقديم والتأخير
لها. ويضع ابن عدي جدولًا لشرح استخراج الحد الأوسط في القياس بين المقدمات
والنتائج، ويشرح رأيه في جهات القضايا، الضروري والممتنع والممكن. ويُلاحظ على
أرسطو أن حرف السلب إنما يُقرن بالأسوار. كما يبيِّن رأيه في المقدمات التي يكذِّب
بعضها بعضًا، ولا يمكن أن تصدق لتناقضها أو تضادها، ويوضِّح معنى قول أرسطو إن الكل
يدل على أن الحكم كلي وليس المعنى. كما شرح أرسطو في باري أرمنياس أن الكلمة على
العموم هو المحمول. ويعلِّق ابن عدي على ترتيب القضايا عند أرسطو بين الإيجاب
والسلب. والموضوع منطقيٌّ تجريدي. يبدو تمثل الوافد وكأنه محاولة للإيضاح والفهم
والتقطيع جزءًا جزءًا حتى يتم هضم الوافد قبل تمثله. أما فرفوريوس فقد عرَّف الآخر
بأنه ما خلف غيره بطبيعته، وهو ما يعتمد عليه ابن عدي في تحديد الشخص بأنه اسمٌ
مشترك. ويضرب أفلاطون المثل بالجن على الكائنات غير الناطقة وغير المائتة؛ وبالتالي
عدم تنافي الفصلين. وما زال لفظ «أسطقس» معرَّبًا، مع الإحالة إلى اليونانيين الذين
يُسمون الإنسان ناظرًا.
أما الموروث فيعتمد ابن عدي على تعليق أبي سليمان المنطقي السجستاني على إضافة ما
بالقوة إلى ما بالقوة، وما بالفعل إلى ما بالفعل، حتى تصحَّ الإضافة. كما يعلِّق
على تفسير أبي بشر متَّى بن يونس على مقدمات القياس، وكيف أنه تفسيرٌ عويص.
٨ ولا يغيب الدافع الديني مُتخفيًا وراء التجريد المنطقي؛ فالله تعالى هو
مُوجِد الممكنات.
(ب) وفي «كتاب أجوبة بشر اليهودي عن مسائله» يتصدَّر أرسطو مع إحالات إلى
قاطيغورياس، ثم السماع الطبيعي، ثم باري أرمنياس والبرهان واللام والسماء والعالم،
ثم يظهر الإسكندر مع إحالة إلى مقاله «العناية»، وجالينوس مع إحالة إلى «الكبير في
النبض» و«الصغير في النبض»، ثم أفلاطون، ثم أنكساجوراس وثامسطيوس وأفلاطون
وفرفوريوس، ثم أبقراط مع إحالة إلى «الفصول»، وديمقريطس، وأفيقوس، وبرقلس
الأفلاطوني. ومن الفرق يأتي الحكيم، ثم الإسكندرانيون، ثم الفلاسفة.
٩ وتشمل قسمين؛ الأول: سؤال بشر اليهودي. والثاني: أجوبة ابن عدي.
١٠ السؤال من الموروث اليهودي، والجواب من الموروث النصراني حول
الوافد.
كان السؤال عن رواية أرسطو في السماع عن رأي أنكساجوراس في أن مبادئ الأشياء بلا
نهاية مُتشابهة الأجزاء بعضها من بعض، ويظهر فيها الأغلب مثل الماء. وقام أرسطو
بتفنيد الرأي، ثم شرح ثامسطيوس نقد أرسطو، فهل أفحم أنكساجوراس؟ كما بيَّن أرسطو في
المقالة الرابعة من السماع الطبيعي أن المكان هو نهاية ما يحويه، فكيف تكون كرة
الكواكب الثابتة في المكان؟ وبيَّن في «السماء والعالم» أنه ليس وراءهما خلاء ولا
ملاء، وهو الكل، فهل لا مكان لها؟ ولما حد الحركة بالزمان، ألا يوجد زمان بلا حركة
أم أن الزمان جوهرٌ قائم بنفسه والحركة تقدره، وهو رأي الإسكندر كما رواه جالينوس،
وهو رأي أفلاطون أيضًا؟ فهل الحق مع أرسطو أم جالينوس؟ يرى أرسطو في السماع أن كل
جسم مُتناهٍ فقوَّته مُتناهية؛ مما يلزم عنه أن تكون قوة الفلك مُتناهية، مع أنها
ليست كذلك. كما بيَّن في مقالة «اللام» أن الله علة العلل، مع أنه قسَّم العلل في
البرهان إلى أربعة، فأي علة يكون الله؟ وكيف يكون علة والله مثل العقل مُفارقًا؟
كما أن أرسطو في «باري أرمنياس» يبحث عن الموجبة، ويرى أن السالبة المناقضة أشد
عنادًا لها. وأثبت الإسكندرانيون خطأ أرسطو في ذلك، ويرون العكس، وينقضون حجج
أرسطو. وأرسطو على حق، والإسكندرانيون لم يفهموا أقواله. كما قسَّم أرسطو الموجودات
في قاطيغورياس إلى جوهر وعرَض، وإلى عشرة أقسام، فما هي القسمة؟ هل هي الأجناس
والأنواع؟ ولمَ صارت الموجودات عشرة؟ وهل يزيد الإسكندرانيون عليها؟ كما تحدَّث
أرسطو في «قاطيغورياس» عن ناطقٍ غير مائت، فهل هي الكواكب كما يعتقد
فرفوريوس؟
أما بالنسبة للإسكندر، فقد عدَّد الآراء في العناية في مقالة عنها. يُنكرها البعض
مثل ديمقريطس وأفيقوس، ويُثبتها البعض في الكليات والجزئيات، وهو ما يرويه الإسكندر
عن أفلاطون. وأرسطو مع الإسكندر يرى أن الله يُعنى بالكليات دون الجزئيات. ويُحصي
الإسكندر حجج كل فريق.
أما أبقراط فقد صرَّح في «الفصول» بأن من عرض له الصرع قبل نبات شعر عانته، فإن
بُرأه يكون بتقدم السن، فإذا وصل إلى سن الخامسة والعشرين فإنه يموت به، دون بيان
ذلك منه ولا عن جالينوس. وصرَّح جالينوس في «الكبير في النبض» أن أجناس النبض عشرة
دون برهان، حتى حين ذكر في «الصغير في النبض» سبعة فقط، وبرَّر ذلك يحيى النحوي
بعدم تحمُّل المُتعلمين لهذه الثلاثة دون ذكر برهان.
١١
ويُجيب يحيى بن عدي عن المسألة الأولى عن طريق شرح ثامسطيوس لكلام أنكساجوراس
ثقةً من ابن عدي بالشارح اليوناني. والجواب عن المسألة الثانية بتحليل لفظ المساواة
يتضح صواب رأي الحكيم. والجواب عن الثالثة الظن بأن كل جسم في مكان، وأن علة مكانية
الأجسام جسميتها وهمٌ لا يلزم الحكيم. والجواب عن الرابعة في صواب ما قاله الحكيم
في تحديد الزمان. والجواب عن الخامسة، شك يحيى النحوي، هو أن الحكيم قال بأن القوة
مُتناهية، وليس الجسم، وفرَّق بين الجسم وقوَّته. والجواب عن السادسة بأن الله علةٌ
فاعلة للفلك ومكوِّن له وأقدم منه، وفرَّق بين التكوين والحدوث، كما بيَّن الحكيم
في قاطيغورياس. والجواب عن السابعة صواب رأي الحكيم أن المعاند للإيجاب سلبي دون
إيجاب ضده، وكما شرح أبو بشر. والجواب عن الثامنة من شرح أبي بشر لقاطيغورياس أن
العرض ليس جنسًا للتسع مقولات. وجواب التاسعة قوة البرهان على أن المقولات عشر.
وجواب العاشرة ما قاله الإسكندرانيون في حل الشك في حمَّى الدق اعتمادًا على القياس
والمعقول. وجواب الحادية عشرة أن الفلاسفة لم يستعملوا أقسام الجسم على أنها أجناس
أو أنواع، بل فصول. وجواب الثانية عشرة أن العناية تعمُّ كل الأشياء المعلولة، وإن
لم تكن على قدرٍ مُتساوٍ؛ مما جعل البعض يظن أنها للبعض دون البعض الآخر. وعلى هذا
يتفق الفيلسوفان الجليلان أفلاطون وأرسطو على الرغم من ظن البعض أنهما مختلفان، وهو
ما لا يتفق مع عظمة الفيلسوفين ولا حقيقة الفلسفة، إنما الخلاف في الرؤية؛ ظن
أفلاطون العناية شاملة لكل المعلولات، في حين أنها عند أرسطو تنتهي إلى كليات
الكائنات الفاسدة، وكلاهما تعظيم لله؛ الأول للإرادة؛ فالعناية الشاملة للكل
والجزء، والثاني للعقل، العناية للجزئيات الفاسدة عن طريق كلياتها. وقد أفسد هذا
اللقاء برقلس الأفلاطوني بتأييده أفلاطون على أرسطو مُدافعًا عن إيمانيات أفلاطون
على عقليات أرسطو. ويعتذر ابن عدي عن الجواب على المسألتين الطبيتين لأنه غير خبير
بهذه الصناعة؛ مما يدل على تواضعه وأمانته العلمية.
١٢
أما الموروث فإنه لا يتعدَّى السائل اليهودي عرس بن عثمان بن سعيد الموصلي، وعدم
استطاعة أبي إسحاق إبراهيم بن بكوس الرد على تساؤلاته، ولا شيخ ابن عدي أبا سعيد.
وقد يكون السائل هو بشر بن سمعان اليهودي اعتمادًا على كتاب ابن أبي سعيد عرس
بن عثمان بن سعيد اليهودي الموصلي صاحب بني عمران. وقد سأل عيسى بن أسيد عن سبب كون
المقولات عشرة، وميله إلى أنها أكثر طبقًا لرأي أرسطو. ويكشف السياق عن اشتغال
اليهود أيضًا بالوافد اليوناني، وليس النصارى وحدهم. وكانت هناك مراسَلات بينهما
حول الشكوك على أرسطو. ويعتذر ابن عدي عن عدم مناقشة هذه المسائل شفاهًا مع أبي
إسحاق إبراهيم بن بكوس، واستفتاء الشيخ أبي سعيد في ذلك، والاكتفاء بالرد المكتوب
في ثقافة تُزاوج بين الشفاه والتدوين. كما يظهر أبو بشر متى بن يونس، رضي الله عنه،
شارحًا لأرسطو، خاصةً قاطيغورياس، واعترافًا بمشيخته.
١٣ ويحيى النحوي بين الوافد والموروث.
وتتضح الدوافع الدينية في الأسئلة والأجوبة، ليس فقط من حيث الشكل والأسلوب، بل
أيضًا من حيث المضمون والتصور؛ فالأسئلة والأجوبة تبدأ بالبسملة وتنتهي بحسبنا الله
ونعم الوكيل، والله ولي التسديد، وهو حسبه كافيًا ومُعينًا، وله الحمد المستحق له.
لا فرق بين يهودية السائل، ونصرانية المُجيب، وإسلام الناسخ والقارئ. كما تتوجَّه
الأسئلة والأجوبة بالدعوات للسائلين والمُجيبين بطول العمر والبقاء، وبتأييد الله،
وزيادة في العلم، ونفع الناس به، وعز الله، والعشم بالله على التشوق لمعرفة الحق،
واللجوء إلى المشيئة الإلهية. وفي الإجابة دعوة بأن يُفيض الله على السائل من نور
الحكمة، وأن يزيد اللهُ من علمه، ولا يوصف الله إلا بعبارات التنزيه، مثل جل
وتعالى، الباري جل اسمه، تقدَّست أسماؤه، جل ثناؤه إلى خلائقه.
١٤
أما من حيث المضمون فيتَّضح التصور الديني للعالم في موضوع العناية الإلهية، هل
هي شاملة للكليات الباقية دون الجزئيات الفاسدة كما يقول أرسطو؟ وهو ما اتهم به
حكماء المسلمين بإنكار علم الله بالجزئيات، كما قال أرسطو، تحولًا من العناية إلى
العلم. يرى أفلاطون أن الله علةٌ فاعلة في العالم، ويراه أرسطو مُفارقًا له، وهو
الصراع الشهير عند المتكلمين بين التشبيه والتنزيه عند الأشاعرة والمعتزلة، وبين
الإرادة والعقل، بين الغزالي وابن رشد. وهناك من أنكر العناية كلها بالكليات
والجزئيات معًا إيثارًا للنظرة العلمية الآلية، تفسير الطبيعة بنفسها، كما هو الحال
عند أفيقورس وديمقريطس؛ فالعناية صفر لا معنى لها ولا وجود لها البتة، وإن كل شيء
يجري بالاتفاق، اتفاق الأجزاء التي لا تتجزأ من الأشكال. وهو ما يفسِّر كل ما في
العالم من التغاير.
١٥
(ﺟ) وفي مقالة «التوحيد» من الوافد يذكر أرسطو والسماع الطبيعي مرةً واحدة، ومن
الموروث «مُتكلمي عصرنا» مرةً واحدة؛ فهو من حيث الشكل طبقًا لتحليل المضمون أقرب
إلى تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، ومن حيث المضمون أقرب إلى الإبداع الخالص نظرًا
لطول الرسالة وقلة الإحالة.
١٦ ويذكر سقراط، كما يذكر زيد وعمرو عند العرب، أو بطرس وبولس في الغرب
المعاصر، للدلالة على الشخص المجهول بمعنى «أحد من الناس».
ومع ذلك فالموضوع من الموروث، «التوحيد»، والرسالة محاولة للتحول من الكلام إلى
الفلسفة، ومن التشبيه إلى التنزيه، ومن النقل إلى العقل، ومن العقيدة الإسلامية إلى
الحكمة الخالدة التي تجمع بين الإسلام والنصرانية؛ فقد اختلف الناس في معنى
الوحدانية؛ أنه لا نظير له، وأنه موجود كما يقول أحد متكلمي عصرنا، وأنه مبدأ
العدد، وأنه أحد المعاني التي يوصف بها سواه من الموجودات. كما اختلفوا في
وحدانيته؛ من كل الجهات، أم أنه واحد من جهة (الذات)، وكثير من جهةٍ أخرى (الصفات)؟
ويُراجع ابن عدي كل هذه الأقوال للتثبت من صحتها بعقلية الفيلسوف وبرهانه، وليس
بإيمان المتكلم وجدله. ويُبطل ابن عدي كل هذه الآراء السابقة، أن الوحدانية تعني
نفي الكثرة، وأنه لا نظير له، وأنه الموجود مبدأ المعدودات، أو أنها مشتق من اسم
معنًى موجود في ذاته، أو أنه واحد من كل وجه. وبعد النفي يأتي الإثبات، إثبات
الكثرة داخل الوحدة، ربما دفاعًا عن التثليث كعاملٍ موجه. هنا يبدو ابن عدي
مُتكلمًا مُتخفيًا في صورة فيلسوف؛ فمن المستحيل أن يكون الله واحدًا بالقوة يخرج
إلى الفعل في جهاتٍ كثيرة؛ فهو واحدٌ بالقوة كثيرٌ بالفعل، بالرغم مما قد يتضمَّنه
هذا التخارج من حركة وتغير لا يجوزان على الله. وقد كان دليل التمانع شائعًا عند
المتكلمين، صاغه الأشعري ونُسِب إليه، وربما كان شائعًا قبله في النقاش بين
المتكلمين والفلاسفة.
والرسالة مملوءة بالتعبيرات الإسلامية، مثل الخالق تبارك اسمه، الخالق جل وتعالى،
الباري تعالى ذِكره، الخالق جل ذِكره، العلة عز وجل. كما تبدو العبارات الإيمانية
داخل الفقرات، مثل: «الله الهادي لكل حقيقة، البادئ بنفع جميع الخليقة، المستعين
وعليه أتوكل، وهو حسبي كافيًا ومُعينًا»، وختم المقالة «بحمد الله ذي الجود والحكمة
والمحل، ولي العدل، وواهب العقل، حمدًا متصلًا دائمًا على حسن توفيقه ومعونته».
فالتوكل عليه، والاستعانة به، وبه العون والحسبان والكفاية، وله الشكر الذي يستحقه،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
١٧