الكاتب المصباح والكاتب الصدى
الأرجح عندي أن يكون القارئ على علمٍ كثير أو قليل بمحاوَرة «الجمهورية» التي كتبها أفلاطون فيلسوف اليونان الأقدمين، بل إن شئت الحق كما يراه فيه هوايتهد — من أئمة المفكرين في عصرنا — فقل عنه إنه الفيلسوف الذي جاءت الفلسفة كلها بعد ذلك هوامش بالنسبة إليه تؤيده أو تُعارضه أو تُعدله.
فلقد تصوَّر أفلاطون نظامًا للدولة في «جمهوريته» تلك، أقامه على مبدأ التوازن بين ما قد نُسميه نحن اليوم «قُوى الشعب»، غير أنه جعل تلك القوى التي تتوازن معًا في بناء الدولة ثلاثًا، لو قارنَّاها بالقوى الخمس التي نجعلها نحن في بلادنا أساسًا لبناء الدولة، لجاز لنا أن نقول إنه دمج العمال والفلاحين وأصحاب الرأسمالية الوطنية في مجموعةٍ واحدة، ثم أضاف إليها فئتين، هما فئة الجنود وفئة المثقَّفين. أقول هذا تيسيرًا للفهم عند عامة القُراء، لكنني لا أعلم أن بين الصورة الأصلية لما قاله أفلاطون في قوام الدولة وبين هذه الصورة الميسَّرة فارقًا بعيدًا إلى الحد الذي قد اتُّهم فيه بجناية التشويه؛ فأقل ما يُقال في هذه الصورة الميسَّرة هو أن ذلك الفيلسوف القديم لم يشأ أن ينظر إلى تلك الفئات على أنها مُتساوية في أقدارها، وإن اختلفت في مهامِّها، بل رتَّبها ليجعل منها ما هو أعلى وما هو أدنى، وشاء أن يجعل الصدارة لرجال الفكر، يتلوهم الجنود، ثم يأتي بعد ذلك بقية العاملين.
لا علينا من ذلك كله، فليس هو مُرادنا، وإنما يُساق هنا تمهيدًا لما نودُّ أن نقوله؛ فلقد حرص أفلاطون أشد الحرص في «جمهوريته» المُثلى ألا يكون بين أبنائها مكان لرجال الأدب والفن، مُفرقًا في ذلك بين رجل الفكر الذي يرى الحق مجردًا في سمائه العليا، وبين الكاتب الأديب الذي يغمس نفسه في الأحداث مُصورًا لها، فلماذا كان جزاء الأديب والفنَّان الحرمان من ذلك الفردوس؟
كان ذلك لأنه لم يتصور قط — وهو في هذا على صواب — أن يجيء الكاتب أو الفنَّان إلا ناقدًا، إنه لم يتصور أن تُطلَق على رجلٍ صفة الكاتب أو صفة الفنَّان حين يقف ذلك الرجل مما حوله مُوافقًا ومؤيدًا بغير رأي يُبديه. ولما كان أفلاطون — كما قد يعلم القارئ — فيلسوفًا مثاليًّا، فقد ظنَّ أن نظام الدولة كما تصوَّره ثم صوَّره، ليس هو من قبيل التجارب التي تُصيب وتُخطئ، بل هو أقرب إلى حقائق الوجود؛ فهو نظامٌ إلهي، أو هو حقٌّ أزلي أبدي تراه البصيرة النافذة كالإلهي، لا يتغير ولا يتبدل؛ لأنه معصوم من النقص والخطأ، وإذا كان أمره كذلك فماذا عساهم يصنعون هؤلاء الرجال، رجال الأدب والفن؟
نعم، ماذا يُراد لرجال الأدب والفن أن يصنعوا في إطار الدولة التي يعيشون في كنفها؟ إحدى اثنتين؛ فإما أن نتوقَّع منهم ألا يزيدوا على النظام القائم شيئًا وألا ينقصوا منه شيئًا، وأن يجعلوا قصارى جهدهم شرحًا وتحليلًا للموجود مع التأييد المُطلَق له، وإما أننا نريد منهم شيئًا آخر، هو أن يراجعوا الموجود لينقدوه بغيةَ تقويمه وإصلاحه. هذان فرضان لا ثالث لهما، فإذا نحن بدأنا مع أنفسنا البداية التي تسلِّم للموجود بالكمال، فلا بد عندئذٍ من أن يقتصر رجال الأدب والفن — لو سمحنا لهم بالبقاء بين ظهرانينا — على مجرد الشرح والتحليل؛ إذ ماذا ينقدون وماذا يُصححون في بناءٍ مضمون الصواب معصوم من الزلل؟ إن البناء في حالة كهذه يكون أقرب إلى الحقائق الرياضية، خذ جدول الضرب مثلًا؛ أيجوز لكاتب أو فنَّان أن يتناول جدول الضرب بالنقد والتصحيح، فبدل أن تكون الخمسة مضروبة في ستة مُساوية لثلاثين، يجيء الأديب الناقد فيقول لا، لنجعلها مُساوية لخمسين لتكون أجمل وأكمل؟
الحقيقة إنه إذا بدأ البادئ من افتراض الكمال الرياضي لما هو قائم من بناء الدولة وبناء المجتمع، لما بقي أمام الكاتب إلا أن يكون كرَجْع الصدى، ليس من حقه أن يبدأ هو بالنطق، بل الناطق دائمًا سواه، ثم يجيء دوره بعد ذلك مُحاكيًا، أو قل إن الكاتب في هذه الحالة يكون كالمرآة، ليس من طبيعتها أن تخلق الصور، بل هي تعكس على سطحها ما يحدث حولها.
أما إذا بدأنا بافتراضٍ آخر، لا يفترض في النُّظم الإنسانية كمالًا، وإنما يراها كائناتٍ تتعرَّض للصواب والخطأ، بحيث يكون الخطأ نفسه مَدعاة تصحيح لتزداد تلك النُّظم صوابًا، فعندئذٍ فقط يكون للكاتب دوره الأصيل؛ إذ من ذا الذي يلحظ الخطأ ويطلب التصحيح؟ الجواب عندي هو أن ذلك حق لكل مُواطن ذي ضمير حي مسئول، لكنه بالنسبة للكاتب واجبٌ محتوم، إذا لم يضطلع به فقد ألغى وجوده بيدَيه.
الكاتب الحق مُواطنٌ ناقد، كما أن الطبيب مُواطنٌ طبيب، والمهندس مُواطنٌ مهندس، وكذلك المُواطن الحدَّاد والمُواطن النجَّار والمُواطن الزارع. فإذا نحن محونا جانب النقد من وجود الكاتب بقي منه المُواطن الذي لا عمل له. الأدب هو — كما قيل — نقد الحياة بكل جوانبها، تمحيصًا ومراجعةً وتعديلًا وتقويمًا. على ألا يجيء شيءٌ من ذلك بالطريق الوعظي المباشر كما هو معلوم عند من صناعتهم نقد الأدب.
الكاتب الأديب مصباح يُضيء معالم الطريق، وليس هو رجعًا للصدى. وقد تكون هداية المصباح كشفًا لما هو جديد، أو تحليلًا للقديم من شأنه أن يُعري الأسس المخبوءة لتنكشف فيها مواضع التعفن والتآكل. أما كيف تكون هذه الهداية أو هذا التحليل، فأمرٌ متروك لقواعد الفن الأدبي التي لا نعتزم أن يكون لنا بها شأن في هذه الكلمة.
ها هو ذا تاريخنا الأدبي قديمه وحديثه، اختَر منه ما شئت ومن شئت، مُحاولًا أن تجد لنفسك المعيار الذي يخلد به من يخلد من الكاتبين. لماذا ارتفع ذِكر الطهطاوي — في تاريخنا الأدبي الحديث — والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وقاسم أمين ولطفي السيد؟ ماذا في هؤلاء قد ضمِن لهم البقاء النسبي في تيَّار الحوادث المُتدفق المُتغير؟ أليست الصفة المشتركة بين هؤلاء جميعًا هي أنهم حملوا المصابيح الهادية، ولم يرضَوا لأنفسهم أن يجيئوا ترديدًا لشيءٍ أُريدَ لهم أن يردِّدوه؟ وذلك هو الشأن دائمًا في كل أصالة أدبية، وحتى إذا لم يكن الكاتب أصيلًا بمعنى إبداع الجديد وخلقه، فلا أقل من أن يكون أصلًا فيما يختاره بهدي طبيعته الحسَّاسة الناقدة، ثم ينقله للآخرين.
قد تتنوع المجالات التي تصبُّ عليها الأضواء عند مختلف الكاتبين، لكن الجانب المشترك بينهم جميعًا هو أن تكون لهم المُبادأة بالفكر الجديد، وبالذوق الجديد، وبالنظرة الجديدة. الكاتبون هم الذين يُشيعون الحساسية الجديدة في كل شِعاب الحياة، ويأتي بعد ذلك من أُشبعوا بهذه الحساسية من أصحاب الإرادة الفاعلة فينتقلون بالأمر إلى مجال التنفيذ، فإذا رأينا اتجاه السير معكوسًا رجَّحنا أن يكون في الأمر عوج يتطلَّب المعالجة والتقويم.