قضاة الحكم الأدبي
كان توما الأكويني — فيلسوف المسيحية في أوروبا، إبَّان عصورها الدينية الوسطى — كان في الدير راهبًا مع سائر زملائه الرهبان، ولقد بدا توما لهؤلاء الزملاء وكأنه — لبساطته — الأبله الساذج، فوقف بعضهم إلى جوار النافذة ثم نادَوه بعد أن تصنَّعوا الدهشة على وجوههم: تعالَ يا توما وانظر إلى السماء لترى هذه الأبقار الطائرة في الجو! فأسرع نحوهم توما لينظر، فضحك منه الزملاء ساخرين؟ وهنا التفت إليهم توما الأكويني وقد اعتراه الجد، وقال: ممن تسخرون؟ لقد كان الأهون عندي أن أتصوَّر أبقارًا تطير في جو السماء، من أن أتصوَّر رهبانًا يكذبون.
إذن فلم تكن سذاجةً تلك التي بدت لزملاء الأكويني وكأنها كذلك، وإنما كانت في حقيقة أمرها اختلافًا بينه وبينهم في القيم وترتيبها، فما القيمة التي نضعها في المنزلة الأعلى، وما القيمة التي نضعها في المنزلة الأدنى، وإذا اختلفت وجهة النظر بين شخصين في مِثل هذا الترتيب، تعذَّر بينهما التفاهم؛ لأن كلًّا منهما في هذه الحالة سيتكلَّم لغةً ليست هي اللغة التي يتكلَّمها زميله.
إننا إذا اتَّحدنا في الهدف ثم اختلفنا اختلافًا بعيدًا في الوسيلة، فقد يحدُث أن يظنَّ أحدنا الغفلة بزميله، وفي مثل هذه الحالة ربما وقع بيننا شيءٌ شبيه بما حدث بين توما الأكويني وزملائه، هم يرونه ساذجًا في تزمُّته، وهو يراهم مُستهترين بالوسيلة الخلقية.
أقول ذلك تمهيدًا لما سوف أُجيب به عن سؤالٍ كان قد وجَّهه إليَّ سائل عن نزاهة التحكيم الأدبي — عندنا وعند غيرنا، في زماننا وفي غير زماننا — ما شروطها، من هم القضاة؟ وعلى أي شريعة من شرائع العدل يحكمون؟ إنه ما لم يكن بين جمهور الأدباء وقضاتهم اتفاق على الأهداف والوسائل معًا، استحالت تلك النزاهة المنشودة، بل لم يعُد للنزاهة معنًى مفهوم.
وسأضرب لك مثلًا أو أمثلة توضِّح ما أريد: سنة ١٩٥٧م — على ما أذكر — أرادت لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب أن تُكافئ أحسن الشعراء الذين قالوا شعرًا في مناسبة العُدوان الثلاثي على بورسعيد، وجُمعت القصائد التي قِيلت، وأُعطيت نسخةٌ منها لكل لجنة ثنائية من اللجان التي شُكِّلت للتحكيم — وأظنُّها كانت ثلاث لجان ثنائية — وكان كاتب هذه السطور مع المرحوم علي أحمد باكثير يكوِّنان لجنةً من اللجان الثلاث. لم تكن مشكلة الشعر الجديد قد أُثيرث قبل ذلك، وكانت تلك هي المناسبة الأولى التي فجَّرت المشكلة.
انتهت اللجان الثلاث من تقديراتها، وأعدَّت كل لجنة منها قوائم بالأسماء الفائزة مرتَّبةً ترتيب الجدارة، وجاء اليوم الذي اجتمع فيه جميع الأعضاء في جلسةٍ مشتركة ليُوازنوا بين أحكام اللجان الفرعية، وما كان أشدَّ عَجبنا أن وجدنا اتفاقًا في التقدير وفي الترتيب إلا حالةً واحدة؛ فلقد جعلت لجنتنا نحن (باكثير وأنا) صاحب المكافأة الأولى شاعرًا نظم قصيدته شعرًا حرًّا من الطراز الجديد، وفيما عدا ذلك تطابَقت الأسماء.
ودار النقاش مُنصبًّا على أحقية الشعر الجديد في القبول، وكان ما كان، وعلى من أراد، أن يُراجع محضر تلك الجلسة، لأنها شاهد من أبلغ الشواهد على أمرَين في التحكيم الأدبي؛ الأول: هو أنه إذا اتفق الجميع على الهدف والوسيلة معًا، أمكن الوصول إلى نتيجةٍ متفَق عليها برغم ما يُقال من تفاوت الناس في الذوق الفني. والثاني: هو الجانب السلبي من الأمر الأول، وأعني أنه إذا اختلف المحكَّمون مع الأدباء في تصوُّرهم للشكل الأدبي، استحال عليهم الحكم النزيه، وها هنا يحدُث بين الطرفين شيءٌ كالذي حدث بين الأكويني وزملائه الرهبان. هم يظنُّون به الغفلة، وهو يظنُّ بهم الانحراف. إنني إذا تصوَّرت أن الجاحظ قد أُعيدت إليه الحياة، وقام ليعيش بيننا اليوم أديبًا أو مُدعيًا لنفسه الأدب، ثم عرَض نفسه على الرأي الأدبي العام كما هو قائم عندنا في هذه المرحلة الحاضرة من تاريخنا، ولاحظ أنه الجاحظ بهيله وهيلمانه في تراثنا الأدبي، أقول إنني إذا تصوَّرته قد نُشِر من قبره اليوم ليُعاصرنا بأدبه، وليعرض نفسه على لجنة المحكمين، رجَّحت له السقوط أمام قضاتنا. وكيف ينجح أمامهم وهو لم يكتب قصة ولا مسرحية، ولا كان شاعرًا؟ إذن فليعُد من حيث جاء؛ لأنه ليس عندنا بأديب، وليس العيب في موقفٍ غريب كهذا عيبًا في الجاحظ، ولا هو عيب في قضاة التحكيم، بل الأمر نتيجةٌ طبيعية نشأت عندما اتفق الطرفان في الهدف، ثم اختلفا في تصور الوسيلة، اتفقا معًا على أن يكون الناتج المعروض أدبًا، ثم اختلفا على الوسيلة الأدبية.
لقد كان شيكسبير في الأدب المسرحي ما كان، ومع ذلك لم يُعجِب نفرًا من مُعاصريه كانت لهم الكلمة المسموعة، وهم من كانوا يُسمونهم «أهل الفطنة من رجال الجامعة»، فأهملوه إهمالًا ممتزجًا بالزِّراية. ومضت مائة عام بعد ذلك قبل أن يفتح التاريخ الأدبي صفحاته لذلك العملاق، وأيضًا هنا لم يكن العيب عيبًا في شيكسبير، ولا كان عيبًا في مُعاصريه من أهل الصحافة والتعليم، وإنما الأمر مَرجعه إلى اختلاف الرؤية عند الطرفين. إنه إذا وقف رجل على قمة جبل شاهق، ووقف آخر في جوف الوادي السحيق، ونظر كلٌّ منهما إلى الآخر، رأى كلٌّ منهما الآخر — لبُعد المسافة بينهما — شيئًا ضئيلًا لا يملأ العين. تلك إذن هي إحدى الصِّعاب التي تعترض نزاهة التحكيم الأدبي. وصعوبةٌ أخرى لا تقل عنها فداحةً، هي تلك التي تنشأ عندما يعمل الأديب على أن تُنسَج من حوله الطبول والزمور، إلى أن يسدَّ ضجيجها أسماع المحكمين؛ لأنه إذا ضخم الدويُّ في الآذان، بات عسيرًا كل العسر أن تخرج على مُسايَرته؛ حتى لا تُتَّهم بضعف المعرفة وقلة الذوق. والعكس صحيح كذلك؛ أي إنه إذا لم يظفر كاتب عند قضاة التحكيم بالطنين الكافي لامتلاء الأسماع، أصبح عسيرًا كل العسر أن يخرج منهم ناطقٌ يشقُّ الصمت بصوته؛ خشيةَ أن يُشَك في صواب رأيه وحسن تقديره.
ولقد طالعت منذ قريب وصفًا أورده ناقدٌ إنجليزي عن أديبٍ مسرحي عندهم؛ إذ قال عنه إنه «أديبٌ صنَعته وسائل الإعلام».
وذكَّرني قول هذا الناقد الإنجليزي بما كتبه العقاد والمازني في كتابهما «الديوان» عن شوقي والمنفلوطي، وما كانا يبذلانه من جهود ليحتفظا حولهما بالأتباع الذين يكتبون عنهما في الصحف.
كل ذلك ولم أقل شيئًا بعدُ عن الصداقات والعداوات التي تنشأ بين أبناء الجيل الواحد؛ مما قد يؤثِّر — بل لا بد أن يؤثِّر — في أحكام المحكمين؛ فإذا أضفت إلى هذه العواطف الفطرية في طبيعة البشر عاملًا آخر هو العامل المذهبي، الذي كثيرًا ما يميل بقضاة التحكيم على إيثار المُتجانسين معهم على غير المُتجانسين، رأيت كم تتراكم العوامل المؤثِّرة في الحكم الأدبي.
فهل نيئس أمام هذه الصعاب من إمكان التحكيم النزيه في دنيا الآداب؟ هنالك كثيرون من خيرة النُّقاد يأخذهم اليأس من ذلك، ولا يتوقَّعون أحكامًا موضوعية على نتاج الأقلام إلا بعد أن يمضي الزمان لتختفي عوامل الغيرة والحقد والصداقة والعداوة والدعاية وما إلى ذلك.
والحق أني كثيرًا ما سألت نفسي: كيف يتكوَّن الرأي الأدبي العام في مرحلةٍ زمنية بعينها؟ أول ما يتبادر إلى الذهن هو أن الترتيب الطبيعي للأمور واضحٌ ولا يحتاج إلى تساؤل؛ فهنالك الذي يمتاز بإنتاجه أولًا، ثم على هذا الامتياز يتكوَّن رأيٌ عام، لكني أرجو من القارئ أن يتمهَّل، وأن يستعرض أمثلةً من واقع الحياة الأدبية، وقد يكون له بعد ذلك رأيٌ آخر في ترتيب المراحل؛ لأنه قد يرى ما رأيته، وهو أن عوامل أخرى كثيرة لا شأن لها بجودة الإنتاج نفسه، لا بد أن تسبق تكوين الرأي الأدبي العام؛ فإذا تكوَّن هذا الرأي العام جاء بعد ذلك الحكم بجودة الإنتاج! ولقد فطِن كثيرون إلى هذا الترتيب المعكوس، فاهتمُّوا بمُسايَرته ليتحقَّق لهم الهدف.
وفِيمَ الغرابة؟ إن الرأي العام في دنيا الأدب يتكوَّن بالطُّرق نفسها التي يتكوَّن بها الرأي العام في المجالات الأخرى؛ مجال البيع والشراء، ومجال المذاهب بكل أنواعها. إن الوسائل التي يُروَّج بها لسلعة من السِّلع، كنوع معيَّن من الصابون أو من صبغة الشعر، هي نفسها الوسائل التي يُروَّج بها لأديب، وكما قد يكون الصابون المروَّج له صابونًا جيدًا بالفعل، كذلك قد يكون الأدب المهيَّص له أدبًا جيدًا حقًّا، لكن ذلك لا يمنع من أن الجودة في الحالتين ربما ظلَّت خافية عن الناس، حتى تسبقها وسائل الدعاية، وتظل تُصاحبها لأن الناس مُصابون بسرعة النسيان.
وبرغم هذه الصعاب كلها التي أعترف بوجودها معترضةً طريق التحكيم الأدبي النزيه، فلست من اليائسين، ما دُمنا نتحوَّط من ضعف البشر، فنختار للتحكيم من لا مصلحة لهم في معارضة أو تأييد، ومن يكون لهم إلمام كاتب بالمجال الذي يحكمون فيه، وإلا انقلب الأمر الجاد مهزلةً ساخرة.
ومن أمثلة مهازل التحكيم ما حدث عندما رُشِّح برتراند رسل سنة ١٩٤٠م ليكون مُحاضرًا زائرًا في كليةٍ جامعيةٍ صغيرة في مدينة نيويورك، فرفض مجلس الكلية قبول الترشيح بتأثير جماعة ضاغطة كانت لها أهدافٌ أخرى غير العلم وشئونه، فما كان من الفيلسوف عند نشره لأول كتاب له بعد ذلك (وهو كتابه «بحث في المعنى وصِدق القول») أن كتب تحت اسمه على صفحة العنوان درجاته العلمية وأوسمته الشرفية في المجال الأكاديمي، وأستاذياته الزائرة لأعظم جامعات العالم، ثم ختم القائمة الطويلة بقوله: «وهو مرفوض من كلية مدينة نيويورك أن يُحاضر في الفلسفة.» قاصدًا بذلك أن يقول إن رفض هذه الكلية الصغيرة لشخصه هو من بين علامات التشريف التي تحكم له لا عليه.
وقد لا يصعب على القارئ أن يجد في حياتنا الأدبية أمثلةً جرَت أحداثها على هذا الغِرار.