شاعرٌ ينقد نفسه
لم أجد بالأمس جديدًا أقرؤه، فعُدت إلى شيءٍ قرأته منذ بعيد؛ لأجدني وكأنني أمام فكرة جديدة، ثم لم تلبث الخواطر أن تقاطرت.
عُدت إلى شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، وديوان الحماسة — كما يعلم القارئ المهتم بتراثنا الأدبي — هو مجموعة من الشعر اختارها أبو تمام؛ لتمثِّل — من وجهة نظره — نموذجًا للشعر الجيد كيف يكون، ولقد أطلق أبو تمام اسم «الحماسة» على مختاراته تلك؛ لا لأن الشعر المختار كله من باب الحماسة، ولكن لأن شعر الحماسة قد جاء في الديوان أول الأبواب.
بدأت قراءتي بالمقدمة التي قدَّم بها المرزوقي شرحه لديوان الحماسة هذا، فإذا الفكرة التي أقول إنها بدت لي كأنها جديدة تُطالعني بارزةً وواضحة، وهي أن الشاعر العربي العظيم أبا تمام قد اختار ما اختاره على أساسٍ يختلف اختلافًا بعيدًا عن الأساس الذي كان هو ينظم عليه شعره، فكيف نُفسر أن شاعرًا عظيمًا كهذا ينظم شعره الخاص من لون، حتى إذا ما أراد أن يضرب للناس مثلًا للشعر الجيد جعل اختياره من لونٍ آخر؟
يطرح المرزوقي (شارح الديوان) هذا السؤال في مقدمته، أو قل إنه سؤالٌ طُرِح عليه ليُجيب عنه، فأجاب بقوله: «إن أبا تمام كان يختار ما يختار لجودته لا غير، ويقول ما يقوله من الشعر بشهوته.» فإذا أعدنا قول المرزوقي في عبارةٍ عصرية، قلنا: إن أبا تمام كان «موضوعيًّا» في اختياره، «ذاتيًّا» في شعره الخاص؛ فلقد توخَّى الجودة وحدها وهو يختار، أما حين ينظم شعره فلم يسعه بالطبع إلا أن يُطلِق نفسه على سجيتها؛ فهو في حالة الاختيار بمثابة الناقد، وأما في حالة الإبداع فهو شاعر، ومعنى ذلك هنا هو أن أبا تمام الناقد قد لا يُعجبه أبو تمام الشاعر.
ومن ذا يقرأ هذه المفارَقة عن شاعرنا القديم دون أن تَرِد فورًا إلى ذهنه مفارَقةٌ أخرى شبيهة بها من الشعر الأوروبي المعاصر، مُتمثلةً في ت. س. إليوت؟ فهو أيضًا شاعرٌ ناقد، ولكن بصورةٍ أخرى؛ لأن نقده منشور في فصولٍ نقدية، مستقلة، وليس هو مستنتَجًا من موقفه وهو يختار نماذج الجودة؛ فلقد نظم إليوت الشعر من طرازٍ رومانسي، حتى إذا ما كتب فصوله في نقد الشعر، كان مُشايعًا للطُّرز الكلاسيكية القديمة، ولقد سئل في ذلك مرة: كيف يُفسر هذا التناقض بين نظريته النقدية وشعره؟ فأجاب بما معناه أن الناقد ينشُد المثل الأعلى، وأما الشاعر فمُلتزم بواقعه الذاتي كيفما جاء.
كان أبو تمام في تراثنا الأدبي شاعرًا وناقدًا (كان ناقدًا بطريقة اختياره لما اختاره من شعر سواه)، وكان ت. س. إليوت في هذه الدنيا المعاصرة شاعرًا وناقدًا. وإن العربي القديم والغربي المعاصر ليتشابهان في الموقف؛ وذلك لأنهما عظيمان، والموقف الذي يتشابهان فيه هو ضرورة الحياد الموضوعي عند النظر؛ فلقد كان يستطيع هذان العظيمان أن يعرضا على الناس موقفًا في نقد الشعر يُدافعان به — ولو بطريقٍ غير مباشر — عما يقولانه من شعرهما الخاص، لكنهما لم يفعلا، فكان كلٌّ منهما صادقًا مع نفسه الداخلية وهو ينظم، وصادقًا أيضًا مع معايير النقد الخارجية وهو يختار.
وإني لأعلم بأن عددًا كبيرًا ممن يتعرَّضون للنقد الأدبي عندنا اليوم، يصعب عليهم أن يتصوَّروا بأن يكون النقد مُعتمدًا على شيءٍ آخر غير الذوق الخاص، كأنما الناقد رجلٌ ألهمته السماء طريقة للمفاضَلة بين جيد ورديء؛ ولذلك فسوف يقول هؤلاء: ألم يحتكم أبو تمام في اختياره إلى ذوقه الشعري نفسه الذي كان يحتكم إليه وهو ينظم الشعر؟
وهو سؤالٌ أورده المرزوقي في مقدمته التي ذكرناها، وأجاب عنه بما يُفيد بأن المسألة في نقد الشعر ليست متروكة لفوضى الأذواق الخاصة، بل إن لها مفاتيح موضوعية لو أحسن النُّقاد تطبيقها لما اختلف ناقد عن ناقد في تقدير الشعر؛ أين جيده وأين وسطه وأين رديئه، وما تلك المفاتيح المعيارية إلا ما أسموه ذات يوم بعمود الشعر!
نعم، معيار الجودة في الشعر هو مقدار ما يتحقَّق في القصيدة من ذلك «العمود»، ولكن مهلًا! فلهذا «العمود» المعياري معنًى أكاد أُوقنُ أنه بعيدٌ كل البعد عما تتوهَّمه عنه، فلقد شاع بيننا في عصرنا أن يُذكَر عمود الشعر هذا بشيء من الزراية، عن غير فهم لمعناه، وما معناه؟ إنه محصِّلة لسبع خصائص يجب أن تتوافر، وبقدر توافُرها تكون درجة الجودة، وهي: أن يكون المعنى صحيحًا، وأن يكون اللفظ جزلًا مُستقيمًا، وأن يكون الوصف صادقًا، وأن يكون التشبيه قريبًا، وأن تكون الاستعارة مناسبة، وأن تكون الأجزاء مُلتحمًا بعضها ببعض، وأن تجيء القافية مُتساوقة مع اللفظ والمعنى على صورةٍ طبيعية لا تكلُّف فيها.
وبهذا المعيار «الموضوعي» اختار أبو تمام؛ مما يذكِّرنا مرةً أخرى بموقف الشاعر الناقد الغربي المعاصر — ت. س. إليوت — حين أخذ يُبين لقُرائه في مقالته «التقليد الأدبي والموهبة الفردية» كيف يتحتَّم أن تجد موهبة الفنَّان الفرد مكانًا لها في إطار التقاليد، أو قل بعبارةٍ أخرى، إنه لا بد من «عمود» يستند إليه الشاعر أو الفنَّان، بحيث يكون للتقاليد التاريخية دورها، وللموهبة الفردية دورها، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
والحمد لله، فإن أكبر شعرائنا اليوم يحقِّقون هذا التوازن، أو يُوشِكون أن يحقِّقوه، لكن همومنا تأتي من الصِّغار، الذين لا هم من انخفاض الصوت بحيث نتجاهل وجودهم، ولا هم من سعة الدراية بفنونهم بحيث نُعنى بهم.
أما بعد، فلعلَّي أردت بهذا كله شيئًا آخر غير الشعر ونقده، فلا أنا بالشاعر، ولا أنا من النُّقاد المعترَف بهم؛ لأني على كثرة ما كتبته في نقد الأدب والفن، فلقد كتبت كتابة الهُواة، لا كتابة المحترِف، ومن هنا — فيما يظهر — سقطت من الحساب عند السادة الذين يُتقنون الحساب.
وإنما أردت بهذا كله أن أضيف قولًا جديدًا إلى مجموعة أقوال سابقة، أردت بها دائمًا أن أفرِّق للناس بين ذاتية المشاعر وموضوعية الأحكام العلمية؛ فالخلط بين هذين الجانبين في حياتنا خلطٌ قاتل، فاذهب مع شعورك ومع هواك وميولك إلى أبعد مدًى تستطيعه، لكن اعلم أنك عندئذٍ تجول في عالمٍ خاص بك ليس حجةً على سواك، وأما إذا تصدَّيت لأحكامٍ عقلية تريد إصدارها على أي شيء مما هو مشترك بين الناس، فضعْ أهواءك عندئذٍ في صندوقٍ مغلق حتى لا تُفسد عليك وعلى الناس حياتهم العقلية.
ولك من جماعة الشعراء أنفسهم قدوةٌ حسنة: شاعرنا العظيم أبو تمام، وشاعرهم العظيم إليوت. الأول من تراثنا، والثاني من عصرنا، وكلاهما يلتقي عند هذه النقطة، وهي: شعورك أنت شيء، وحكمك العلمي على ما يشعر به سواك شيءٌ آخر.