محاكمة الأدباء
الحاجز الذي يفصل اليقظة عندي عن الحلم، كثيرًا جدًّا ما يكون حاجزًا رقيقًا شفَّافًا،
كأنه
حاجز من الزجاج الصافي الذي تحسبه العين هواءً وما هو بهواء؛ إذ كثيرًا ما يختلط في ذاكرتي
الحلم باليقظة، فلا أدري — فيما بعد — أكان المشهد الذي أمام ذاكرتي مأخوذًا من الحياة
الواعية، أم كان مأخوذًا من حلمٍ رأيته في نعاس، ولست أعلم حتى هذه الساعة إن كان مردُّ
ذلك إلى
ضعف الإدراك اليقظان، أم كان مردُّه إلى قوة الحلم ونصوعه! والأغلب في تلك الحالات التي
يشتدُّ
فيها وضوح الحلم، أن أكون قد أويت إلى فراشي والذهنُ مشغول بفكرةٍ وردت خلال ساعات
النهار.
ولقد حدث منذ قريب أن قرأت لمتحدِّث حديثًا أخذ يُلقي فيه الأحكام على طائفة من الناس،
هل
يُسمَح لهم بالدخول في دنيا الأدب أو تُغلق دونهم أبوابها، فكأنني رأيت ذلك المتحدِّث
وقد أخذ
بمفاتيح الجنة في يديه، ليرضى عمن يشاء وليغضب على من يشاء، وكنت على علم منذ أمدٍ ليس
بقصيرٍ أنني ممن لا يظفرون عنده بالرضا، وكان ذلك قبل أن أجرى حديثه ذاك في أنهار الصحف،
ومع ذلك — وأقول الحق — فلم أزدد له إلا حبًّا، لكن جاء حديثه ذاك عن غيري من رجال الأدب،
فشغلني، خشية أن يكون الرجل على صواب، فسألت نفسي (وكنت في لحظة السؤال قد أويت إلى الفراش)؛
تُرى ما مِعيار الرجل في فهمه للأدب؟ ولم يكَد يأتيني الجواب بأن معياره هو إما أن تكون
كاتب
قصة ومسرحية فتكون أديبًا، وإما ألا تكون فلا تكون، ودخلت في نعاس، وجاء الحلم ليستأنف
الحوار.
رأيتني في محكمة، وكان صاحبنا هو الذي اتَّشح بوشاح القضاء، وجلس على منصة القاضي،
ولم يكن
على المنصة قاضٍ سواه، لكن جلس إلى يمينه رجل، وإلى يساره آخر، عرفت فيما بعدُ أن الجالس
إلى
اليمين مكلَّف بإعداد فرائض الاتهام، وأن الجالس إلى اليسار واجبه أن يسجِّل في دفاتره
نصوص
المجادلات في أثناء المحاكمة، والذي عجِبت له حقًّا هو أن المتَّهَمين الذين أُجلسوا
وراء
القضبان، كانوا خليطًا عجيبًا من قدماء ومحدَثين ومُعاصرين، فتركت كل ما حولي وأخذت أتفرَّس
في
وجوههم وثيابهم وحالاتهم التي أستشفُّها من ملامحهم، والطريقة التي جلس بها كلٌّ منهم؛
لأنهم لم
يكونوا في ذلك سواءً. ولكثرة ما خالطت هؤلاء الناس فقد عرفتهم، أو عرفت معظمهم، برغم
طول
الغياب بالنسبة إلى بعضهم، عرفت منهم — في يقين — الجاحظ، والتوحيدي، والهمذاني، وفرانسيس
بيكون، ومونتيني، وأديسون، وأولدس هكسلي، وطه حسين، وميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني …
ولم
يكن هؤلاء كل من جيء بهم إلى المحاكمة، بل كان معهم أفراد آخرون لم أذكر أني رأيتهم قبل
ذلك.
جيء بهؤلاء إلى المحاكمة أمام القاضي الذي بدأ الجلسة بكلمةٍ رفع بها شعار الأخلاق
في دنيا
الأدب؛ فللأخلاق في عالم الأدب والفن أصول قد تختلف عن قواعد الأخلاق السارية بين الناس
في
حياتهم العامة. ولما كان لكل مجموعة عرفها التاريخ من القواعد والقوانين مبدأٌ عام تنبع
منه
تلك المجموعة، فالمبدأ العام في دنيا الأدب هو القصة والمسرحية، فمن لم يحترم هذا المبدأ
المقدَّس، ثم اجترأ رغم ذلك فعدَّ نفسه — أو عده الناس — أديبًا، كان مزوِّرًا، وحُق
عليه العقاب
الذي نصَّت عليه مواد القانون في حوادث التزوير، وهؤلاء الناس الذين جمعتهم شرطة «الآداب»
اليوم للمحاكمة، هم جميعًا من المزوِّرين الذين دخلوا جنة الأدب بغير حق.
ونُودي على المتهَم الأول: عمرو بن بحر الجاحظ! وجاء الرجل من قفص المتهَمين ليمثُل
أمام
القاضي، وقرأ أمامه المكلَّف بقراءة الاتهامات، قرأ تهمته — والتهمة مُتشابهة بالنسبة
إلى
الجميع؛ إذ جميعهم دخل رحاب الأدب وليس في يمينه قصة ولا في يساره مسرحية — وكان قارئ
الاتهام — والحق يُقال — على شيء من الدقة؛ لأنه استثنى من أعمال الجاحظ عملًا واحدًا
(هو
البخلاء)، وأما ما عدا ذلك فهو من باب التزوير.
القاضي
:
أنت يا أبا عمرو متهَم بالتزوير؛ لأنهم قد أدخلوك في زمرة الأدباء عطفًا عليك
بسبب شيخوختك من جهة، وبسبب الطريقة المُحزنة التي لفظت بها أنفاسك الأخيرة من جهةٍ أخرى؛
فالمحكمة إذ تذكُر لك شرف أن تموت تحت أحمال الكتب التي وقعت على جسدك العليل وهو راقد
في
فراش المرض، فإن المحكمة برغم ذلك لا تجد لك ما يبرِّر أن يحشروك في جماعة الأدباء بغير
حق.
الجاحظ
:
لكنني يا سيدي القاضي كتبت كتاب «الحيوان».
القاضي
:
هذه هي تهمتك الأولى، ما للحيوان والأدب؟
الجاحظ
:
إنها موسوعةٌ ضخمة يا سيدي القاضي، لم تقتصر على الحيوان برغم عنوانها؛ ففيها ما
شئت من …
القاضي
:
هل ورد فيها تحليل لشخصيات «سوسو» و«شوشو» و«ميمي»؟
الجاحظ
:
فيها يا سيدي القاضي تحليل للكلب والديك و…
القاضي
:
الكلب والديك؟!
الجاحظ
:
نعم يا سيدي، لقد أفَضت القول في تحليل الكلب والديك، حتى استغرق مني ذلك ما
يقرب من كتابٍ كامل، يمكن أن تُطلقوا عليه بلغة عصركم هذا اسم «قصة» أو «رواية» أو «حكاية»،
أو
ما شئتم.
القاضي
:
إذن فقد فاتك المعنى الحقيقي للأدب!
الجاحظ
:
لا، لا أبدًا، لقد أقسمت اليمين أمام المحكمة بأن أقول الحق كل الحق، ولا شيء
إلا الحق، والحق يا سيدي القاضي هو أن معنى الأدب لم يفُتني، ويكفي أن أكون قد كتبت في
ذلك
كتاب «البيان والتبيين».
القاضي
:
أفهِمني يا رجل! ليس لهذه الأشياء رخصة الإبداع الأدبي، ثم إنها فوق ذلك ينقصها
الصلة بالجماهير!
الجاحظ
:
أستأذنكم يا سيادة القاضي في أن أقول إن أحد المُستشرقين قد فطِن فيما كتبته إلى
أشياء لم يفطن لها — لسوء الحظ — أحد من النُّقاد العرب، وهو أن محاوَرة الكلب والديك
في كتابي
«الحيوان»، وإن أوهمت القارئ بأنه كلام من خصائص الحيوان، فهي في الحقيقة رمز إلى أوضاعٍ
سياسية في العصر الذي عِشت فيه، فإذا لم يكن للجماهير شأن بذلك، فماذا إذن يكون شأنها
عندكم؟
القاضي
:
يظهر أنك كثير اللجاجة مُولَع بالجدل، وقد رأت المحكمة أن تخفِّف عنك الحكم،
تأسيسًا على براعتك في تصوير البخلاء من جهة، وعلى سوء حالتك الصحية من جهةٍ أخرى، لكن
يجب
عليك أن تعلم أن كل هذه الأعمال التي خدعت بها تاريخ الأدب، من بيان وتبيين إلى حيوان
وغير
ذلك، ليست من الأدب في شيء. نادوا المتهم الثاني، وليكن هذه المرة من المتهَمين
الخواجات.
(فنُودي على فرانسيس بيكون.)
نائب الاتهام
(هامسًا إلى القاضي)
:
أقترح أن يُنادى معه ميشيل مونتيني. أولًا: ليكون بيكون مُمثلًا للمزوِّرين من أدباء
الإنجليز، وليكون مونتيني مُمثلًا للمزوِّرين من أدباء الفرنسيين. وثانيًا: لأن كلًّا
منهما كان — مِثل سيادتكم — قاضيًا. وثالثًا: لأنهما مُعاصران. ورابعًا — وهو الأهم
— لأنهما من كُتاب المقالة التي يزعمان أنها من الأدب.
(ونُودي ميشيل مونتيني، ووقف إلى جانب فرانسيس بيكون.)
القاضي
(بصوتٍ مسموع للحاضرين)
:
لا بأس، لا بأس.
القاضي
:
أنتما مزوِّران بالميزان الأدبي الصحيح، أغوَيتم المؤرخين حتى وضعوكما في جماعة
الأدباء، مع أن أحدًا منكما لم يكتب لا القصة ولا المسرحية، ماذا تقول في ذلك يا
فرنسيس؟
بيكون
:
لعل سيادة القاضي يعلم عني أنني رجلٌ يبدأ معالجة القضايا بالجانب السلبي ليُنهي
تلك المعالجة بعد ذلك بالجانب الإيجابي من القضية المطروحة، وأستأذن سيادتكم في الرد
على
سؤالكم بهذا الترتيب نفسه؛ فمن الناحية السلبية يا سيادة القاضي، أقول: لو صحَّ مِعياركم
لما
كان للإنجليز أدب قبل القرن الثامن عشر، ولما كان لكم أنتم — وأعني الأمة العربية — أدب
قبل
القرن العشرين.
القاضي
:
كيف ذلك، ألم يكن في إنجلترا أدبٌ قصصي وأدبٌ مسرحي قبل ذلك؟ اترك الحديث عن
الأمة العربية، فغيرك من العرب أقدر منك على ذلك.
بيكون
:
صحيحٌ أن الأدب المسرحي قديم في التاريخ، وأما القصة يا سيادة القاضي فلم يكن لها
وجود قبل صموئيل رتشاردسن في منتصف القرن الثامن عشر، كانت أول قصته بالمعنى الصحيح هي
قصته
«باملا، أو الفضيلة تلقى جزاءها»، لكن كان هنالك — برغم ذلك — أدبٌ إنجليزي يتمثَّل في
أشكالٍ
مختلفة، منها المقالة الأدبية.
القاضي
:
أتريد أن تجعل المقالة ضربًا من الأدب؟
بيكون
:
أريد أن أجعل المقالة «الأدبية» ضربًا من الأدب، وما كل مقالة هي مقالة
أدبية.
القاضي
:
وماذا تعني بقولك «الأدبية»؟
بيكون
:
شرحُ ذلك يطول يا سيادة القاضي، لكني أقول بصفةٍ عامة إن جوهر الأدب واحد مهما
اختلفت أشكاله، وجوهره هو الكشف عن حقيقة الإنسان كما تتبدَّى تلك الحقيقة في نوازعه
الدينية،
شريطة أن نصبَّ ما نقوله في شكلٍ مُلائم؛ لأن القول السائب ليس أدبًا، حتى وإن تحدَّث
عن تلك
النوازع الدفينة في الإنسان، وأنا أزعم يا سيادة القاضي، ويؤيدني المؤرخون للأدب في هذا
الزعم، بأن مقالاتي كانت من الصنف الأدبي، الذي ينصبُّ في شكل، والذي يدور حول حقيقة
الإنسان
التي تخفى عن الأبصار العابرة.
مونتيني
:
إن بيكون يا سيادة القاضي يتحدَّث عنا معًا.
القاضي
:
هذا زعمٌ مرفوض، إننا لا نريد لدنيا الأدب أن تدبَّ فيها الفوضى، فلكل مجال
ميزانه، وميزان الأدب قصة، والمحكمة تحكم عليكما بالشطب من سجلات التاريخ الأدبي.
نائب الاتهام
(هامسًا للقاضي)
:
لماذا لا نضمُّ إليهما أديسون؟ فهو واقف هناك في قفص
الاتهام، وتهمته التهمة نفسها، إنه كاتب مقال، ويزعم أن مقالاته من الأدب.
القاضي
:
طبعًا، طبعًا، يُعتبر حكم الشطب من سجلات التاريخ الأدبي نافذًا كذلك على
أديسون، وعلى كل من كتب مقالًا وزعم أنه أديب.
(وهنا دار حديثٌ خافت بين القاضي ونائب الاتهام، وكلاهما ينظر إلى الساعة ويرى أن وقت
الانصراف قد أزف، ويقترح نائب الاتهام رفع الجلسة لتُستأنف في الغد، ويسمع القاضي وهو
يقول — مُوجهًا بصره نحو الهمذاني — كنت أريد أن أقضي اليوم في ذلك الهمذاني الذي قدَّم
إلى الناس ألفاظ مرصوصةً ذات بريق، وأسماها «مقامة»، وظن أن وضع الميم في مقامة، مكان
اللام في مقالة، يُنجيه من الحساب، لكنهما — القاضي والنائب — اتفقا آخر الأمر.)
القاضي
:
تُرفع الجلسة، وتُستأنف صباح الغد.
وصحوت من حلمي آسفًا أشد الأسف أنه لم يطُل حتى أسمع ما يُقال في بقية المتهَمين،
وأهم من
ذلك أن أسمع ما يُجيب به هؤلاء المتهَمون، لكنني أسرعت إلى تسجيل ما دار، قبل أن يفلت
من
الذاكرة، والأحلام — كما هو معروف — سريعة الزوال.