بين الخاص والعام
إنني لا أكتب حرفًا في هذه المساحة الورقية من صحيفة الأهرام إلا وفي ذهني معنًى أتشبَّث به حتى يظل قائمًا أمام عيني، وهو أن هذه الورقة الممنوحة لقلمي ليست مِلكًا لصاحب هذا القلم يكتب عن حياته الخاصة ما يشاء، وإنما هي مِلك للشعب الذي هو في حقيقة الأمر مالك للصحيفة؛ وإذن فلا يجوز لصاحب القلم أن يشغلها، ولا أن يشغل أي جزء منها، بأمورٍ تخصُّه هو، إلا إذا جاءت أموره الخاصة هذه بمثابة المِنظار الذي يمكن للشعب القارئ أن يرى خلاله ما يجب أن يراه من الشئون العامة.
على أن التفرقة بين ما هو خاصٌّ خصوصيةً مُطلَقة، وما هو خاصٌّ خصوصيةً تشفُّ عما وراءها من شئونٍ عامة ومشتركة بين الناس، ليست في كثير من الأحيان مكشوفةً واضحة؛ إذ هنالك بين الطرفين هامشٌ عريض تتداخل فيه المعاني والنوايا تداخلًا يكسوها بالضباب ويُصيبها بالغموض، حتى لا تدري وأنت تقرأ أكان الكاتب داعيًا لنفسه، أم كان داعيًا لفكرةٍ عامة.
إن من خصائص الإنسان، من حيث هو إنسانٌ يختلف عن النبات والحيوان، لأنه لا يقتصر في حياته على أن يحيا، أنه لا يكتفي بأن تعمل أجهزته البدنية حتى ولو جاء عملها في أكمل صورة للكائن الحي، بل تراه يعكس فكره على تلك الحياة، ومن هذه اللفتة منه إلى حياته يجيء الأدب بصفةٍ خاصة، ولعل في هذا نفسه مِعيارًا دقيقًا لنا نُميز به بين كتابة الأديب، والكتابة التي تصف الحوادث كما تقع دون أن تكون ذات الكاتب جزءًا واردًا في سياق الحديث، وقد يضخم هذا الجزء حتى يصبح هو المحور الرئيسي البارز، وقد يضؤل حتى يكاد يخفى عن البصر.
على أن الكاتب الأديب وهو يمزج ذاته بموضوعه مزجًا واضحًا أو خافيًا، في صحيفةٍ يملكها الشعب وليست من مِلكه الخاص، قد يتعرَّض للاتهام بأنه إنما استغلَّ المِلكية العامة للدعاية لنفسه، ولكني برغم هذه الخطورة سأتوكَّل على الله وأعرض حالةً خاصة من أجل الصالح العام.
لقد شرَّفتني الدولة في أول هذا العام، فمنحتني جائزة الدولة التقديرية في الأدب، وكانت شرَّفتني قبل ذلك بخمسة عشر عامًا حين منحتني إذ ذاك جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة، وها هو ذا عامٌ كامل قد كاد ينقضي بعد أن مُنحت الجائزة التقديرية في الأدب، وسؤالي هو: أفلم يكن من حق القُراء على أصحاب النقد الأدبي أن يكشفوا لهم المبرِّرات التي من أجلها مُنح هذا الرجل ما مُنح من شهادة بالتقدير؟ فإن رأى رجال النقد الأدبي أن مِثل هذا التقدير قد وُضع في غير موضعه، كان من حق القُراء عليهم كذلك أن يعلموا من أين جاء الخطأ.
لكن ماذا نقول وقد صمتت الصحف صمتًا عجيبًا، فلم تذكُر في ذلك سطرًا، لم تذكُر كلمة، لم تكتب حرفًا واحدًا؛ فلو استثنيت مقالةً تفضَّل بها الأستاذ جلال العشري في مجلة الكاتب، فأحسبني صادقًا إذا قلت إن دنيا النقد الأدبي عندنا لم تتحرك منها شعرة لتؤدي واجبها نحو جمهور القارئين. لماذا؟ أيكون السر هو في أنني لم أعدَّ العدة بنفسي، راجيًا هذا طالبًا من ذلك؟ لكن إذا كانت حياتنا الأدبية والثقافية بحاجة إلى هذا الطلب وذلك الرجاء، فكيف تكون الحال مع من ذهبت بهم الأيام إلى بطون التاريخ، ولم تعُد لهم ألسنةٌ تطلب وترجو، إلا صفحاتهم التي كتبوها وتركوها في ذمة الناقدين؟!
هي مسألة قد تبدو خاصة كما ترى، لكن كيف أُقنِع القارئ بأنني — والله — ما كتبت مما كتبت حرفًا إلا وفي ذهني حياتنا الثقافية ونصيبها من الصحة والمرض. ليس لي في إثبات صِدقي إلا شهادة العارفين بحقيقتي وحقيقة الحياة التي أحياها؛ فلي من الاكتفاء الذاتي — بحمد الله — ما يجعلني في غنًى عن التسوُّل بكل أبعاده؛ التسوُّل الذي يطلب المال بغير حق، والتسوُّل الذي يريد الثناء بغير حق، والتسوُّل الذي يسعى إلى جعجعة الدعاية بغير حق. وإني لأقول الحق إذ أقول إنني دُهشت حين علِمت بأن الدولة قد كرَّمتني بهذا الشرف العظيم، وكان مصدر دهشتي أنني لم أقرع الأبواب، ولا رسمت الخُطط، ولا تحرَّك سلك تليفوني من مكانه. إنني أبيت في الدار وأصحو في الدار، وقضيت السنين وأنا أنام بعد عمل، ولا أستيقظ إلا على عمل، ومع ذلك جاءتني شهادة الدولة تسعى إليَّ في عزلتي؛ فكان ذلك عندي أبلغ بيان بأن الدولة تشهد للعاملين، فهل كان مِثل هذا هو ما صنعه النقد الأدبي ورجاله؟
قال لي في ذلك قائلٌ ساخر: يا صاحبي إن لكل جنة رضوانَها، كان عليك أن تُرضي النُّقاد ليفتحوا لك أبواب جنتهم! قلت: لكن الأمر لا يخصُّ شخصًا، وإنما هو خاص بحياتنا الثقافية كلها. إنه لولا النقد النزيه الذي يقدِّمه أصحابه لوجه الله والأدب والفن والفكر، لما عرفنا شيئًا عن شاعر أو كاتب أو فنَّان أو فيلسوف؛ فهؤلاء جميعًا إنما يعرفهم الناس ويعرفون أقدارهم تأسيسًا على ما يكتبه النُّقاد والشُّراح والمُعلقون؛ والحياة الثقافية في شعب من الشعوب لا يكون لها تاريخ إلا بفضل ما يكتبه هؤلاء؛ إذ لو اقتصر الأمر على الناتج الأدبي نفسه، لكان بين أيدينا مجموعات من دواوين الشعراء وكتابات الأدباء وأعمال الفنَّانين، دون أن يعلم الناس أين في هذه الأشياء كلها ما هو أعلى وما هو أدنى، ولا علِموا كيف ترتبط حلقاتها بعضها ببعض فيتكوَّن لها تاريخٌ يقصُّ قصتها.
ليست مسألةً خاصة — إذن — هذه التي أعرضها، بل هي مسألةٌ قد تؤثِّر في تاريخنا الأدبي كله خلال الفترة التي نعيشها، وهي فترةٌ نعيشها بغير نقد نزيه. إنه لمن الظريف الذي أرويه، هذه الحادثة التالية: لقد علَّمتني الأيام ألا أُهدي كتبي لمن يظنُّ أنني أُهديها ابتغاء المنفعة أو الزُّلفى، لكنني في الوقت نفسه حريص على أن أردَّ الجميل بمِثله، فإذا أهداني كاتب كتابًا، انتظرت أول فرصة يظهر لي فيها كتاب لأردَّ له الصنيع بمِثله، وعلى هذا الأساس ذهبت بكتابين كانا قد صدرا لي في وقتٍ واحد، ذهبت بهما إلى كاتبٍ اختصَّته الصحيفة التي يعمل فيها بجزء من صفحاتها، فظنَّ سيادته أنني إنما أردت منه التعليق والتنويه، وحسبني ممن يسعون إلى انتشار الذِّكر بمِثل هذه الألاعيب البهلوانية التي تراها شائعةً في الصحف والمجلات، وكاد سيادته أن يقول لي بملامح وجهه إنه لن يذكُر عني شيئًا في صحيفته.
لقد وردت إليَّ رسالةٌ منذ أيام قلائل، أرسلتها من الإسكندرية الأديبة سعاد فوزي، تشكو فيها أصدق الشكوى من فقر حياتنا الأدبية والفكرية فقرًا يترك الناس في تِيهٍ من مشكلاتهم الثقافية، فلا يسمعون عنها ما يُرضي عقولهم أو يهذِّب أذواقهم، وتقترح الأديبة أن تُقام ندوةٌ تليفزيونية أسبوعية تُطرَح فيها تلك المشكلات، على أن يتناولها أعلامنا المشهود لهم بصِدق الحكم وسداد النظر تناولًا جادًّا؛ حتى يتبيَّن الناس الرشد من الغي. وأضافت الأديبة إلى ذلك قولها: ليست الحضارة في كثرة المال واتساع الغنى، بل الحضارة سلوك وأسلوب تتميز به الشعوب إذا هذَّبتها الثقافة، والحضارة في نهاية أمرها هي حياةٌ تتوافر فيها للإنسان كرامته، وتُتيح له ظروف العيش أن ينمو في عقله ووجدانه. وتسأل الأديبة في ختام رسالتها: متى نؤدي للناس هذه الأمانة، إذا لم نؤدِّها في هذه الأيام التي نريد لها أن تشهد ولادة الإنسان الجديد؟
وكانت الأديبة على حق؛ فهنالك في حياتنا الثقافية قصور وتقصير، كثيرًا جدًّا ما نشغل أنفسنا بما لا يستحق أن ننشغل به، ونسكت — عامدين أو غير عامدين — عما يجب النظر إليه والكتابة فيه؛ فما الذي يسيِّر سفينتنا على هذا الضلال كله وبهذه العماية كلها؟ إنك لو قلَّبت الصفحات الأدبية — في الصحف اليومية أو في المجلات — التي كانت تصدر عندنا منذ نصف قرن، كالسياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي والرسالة والثقافة وغيرها، لوجدتها كالعين الساهرة التي لم يُفلت منها حدث في دنيا الفكر والأدب، عندنا وعند غيرنا، إلا وقدَّمته إلى الناس في إسهاب أو في إيجاز بحسب ما كانت تقتضيه الحال، ومن تلك الصفحات الأدبية تستطيع حقًّا أن تخرج تاريخنا الأدبي في تلك الحقبة من الزمن، ولكن هَبْ خمسين عامًا أخرى قد انقضت منذ الآن، وأراد قارئ المستقبل أن يعود إلى صحافتنا الأدبية — من صحفٍ يومية ومجلات — ليستخلص تاريخنا الأدبي الذي نعيشه الآن، فهل هو واجدٌ مِثل تلك العين الساهرة على الرجال والأحداث؟ كيف وفي مُستطاع هذه الصحافة الأدبية أن يمرَّ أمام بصرها كاتبٌ قدَّرته الدولة بأعلى ما عندها من وسائل التقدير في دنيا الأدب، ولم تذكُره تلك الصحافة الأدبية بسطرٍ واحد، بكلمةٍ واحدة، بحرفٍ واحد؟
ومرةً أخرى وأخيرة أؤكِّد للقارئ صادقًا، بأنها ليست مسألةً خاصة هذه التي عرضتها، وإن بدت في ظاهرها كذلك، ولكنها مشكلةٌ عامة أضرب بها في صميم الحياة الثقافية التي نحياها هذه الأيام.