أخَوان
هما وليم جيمس وهنري جيمس. أما أولهما (١٨٤٢–١٩١٠م)، ففيلسوف لم يقتصر على أن دعا إلى المذهب البراجماتي في وطنه الأمريكي، بل عمل على نشره في العالم كله، حتى أصبح موضع الدراسة في الجامعات عند من يأخذ به ومن لا يأخذ على السواء. وأما ثانيهما (١٨٤٣–١٩١٦م)، فأديبٌ قصَّاص، هو من أعلام القصة الحديثة لا في الولايات المتحدة وحدها، بل في الأدب الحديث كله، والشقيقان — كما ترى — يكادان يتعاصران في العمر بدايةً ونهاية، وتعرَّضا لنفس المؤثرات إبَّان النشأة الأولى، فماذا تراه أقرب إلى الرجحان من أن يكونًا على مذهبٍ واحد في النظر إلى الحياة؟
لكن مسافة الخُلف بينهما كانت كأبعد ما تكون المسافة بين رجال الفكر، حتى لو كان أحد الطرفين قد نشأ وتربَّى في شرق الدنيا وكان الطرف الآخر قد نبت في غربها، لكنهما أخوان شقيقان من أسرةٍ أمريكية واحدة، فأيهما نقول عنه إنه يمثِّل الفكر الأمريكي والنظرة الأمريكية؟ اللهم إن هذا لمثلٌ واحد يكفي لتعليم الرويَّة والتحفظ عندما نُصدِر الأحكام بالجملة على الأمم التي قد يبلغ سكان الواحدة منها عشرات من ملايين البشر، خلقهم الله ليكونوا أفرادًا متميزًا بعضهم من بعض.
وأول ما يلفت النظر في اختلاف الشقيقين أن أكبرهما وليم قد أحبَّ الإقامة في بلده، وآثر ثقافتها، وامتلأ بروحها، على خلاف الشقيق الأصغر هنري الذي رحل إلى أوروبا، وعبَّ من ثقافتها، وأبى أن يضيق أفقه بحيث ينحصر في حدود بلاده، فكأنما وقف الأخوان ظهرًا لظهر، يتجه أحدهما شرقًا إلى أوروبا، ويتجه الآخر غربًا إلى رقعة البلاد الأمريكية نفسها، ولقد ظهر هذا الاختلاف جليًّا عندما وجَّه وليم إلى أخيه هنري أمرَّ النقد وأقساه، فقال عن فنه القصصي إنه سطحيٌّ تنقصه الحياة وعمقها! والحق أنهما نظرتان مختلفتان إلى الحياة، أما وليم فهو لا يريد أن يفرِّق بين التفكير العقلي والحياة العملية — وهو صميم الفلسفة البراجماتية — فما جدوى أن يسبح الإنسان مع تأملات ليس من شأنها أن تُترجَم إلى عملٍ مُنتِج ناجح؟ فإذا وجدنا حركةً عقلية خالصة، كلها منطقٌ نظري صرف لا شأن له بأوضاع الحياة العملية، قلنا عنها إنها ناقصة، والذي ينقصها هو الحياة، وهذا هو ما قاله وليم عن فن أخيه؛ ذلك أن أخاه كان يؤمن بشيءٍ آخر، وهو أن النشوة الحقيقية التي ليس عند النفس ما هو أمتع منها، هي نشوة المغامَرات العقلية، فتلك هي حياة الثقافة الرفيعة، فمشكلات المثقف مشكلاتٌ عقلية، وكذلك حلولها حلولٌ عقلية، وفي أمثال هذه المشكلات وحلولها لُبُّ الحياة في أعلى مدارجها، وإن شئت فانظر إلى رجال من أمثال سقراط وأفلاطون وكانط وهيجل، ماذا كانت مشكلاتهم وكيف كانت حلولها؟ ألم تكن عقليةً كلها، ثم ألم يكن في مغامراتهما العقلية لُباب حياتهم، بل لُباب الحياة الإنسانية عندما تبلغ أعلى ذُراها؟
لكن أين وليم من هذه النظرة؟ إنه اختلاف بين الشقيقين بلغ الجذور في معنى الحياة نفسها، أيكون في الفكر أم يكون في العمل؟ وترتَّب عليه اختلاف في القيم الأخلاقية؛ فمن شأن الفيلسوف الذي يربط الحياة بالعمل أن ينظر إلى الفضيلة فيراها مُتمثلة في تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات، فما كان مُحققًا لأهداف الإنسان كان فاضلًا، وإلا فهو مضيعة إن لم يكن تعويقًا لحركة السير إلى أمام؛ أو بعبارةٍ أخرى إن مِثل هذه النظرة تُساير نظرية التطور في مجراها، فما عساه أن يُحقق للإنسان تطورًا كان هو الفضيلة، والعكس صحيح كذلك. وأما أديبنا هنري فشتَّان عنده بين صفات الشخصية الرفيعة وبين الأهداف العملية وتحقيقها. كلا، فللأخلاق الفاضلة جمال في ذاتها لا شأن له قط بما يُحققه أو لا يُحققه من أغراض العيش اليومي؛ فليس الوفاء بالعهد، وليست التضحية، وليس احترام المرء لنفسه وللآخرين، وليست الأريحية والكرم والنجدة، ليس هذا كله جميلًا بسبب نفعه، بل هو جميل في ذاته وكفى.
ولقد كان لهذه النظرة الخلقية صداها في فلسفة وليم وفي أدب هنري. أما الأول فكما يعرف القُراء عن فلسفته البراجماتية يجعل معنى الفكرة — أي فكرة — هو ما تؤديه، والفكرة التي لا تؤدى لا تكون ذات معنًى على الإطلاق. وأما الثاني فقد جعل مدار فنه القصصي لا مجرد رسم أشخاصه، بل إن يحمل القارئ حملًا على تقديره لهذا الشخص وازدراءً لذاك على أساس جمال شخصيته في الحالة الأولى وحقارتها في الحالة الثانية، دون أن يكون للنجاح العملي المادي أثرٌ في التقدير. إن العملية الفنية عنده ليست في أن يغترف الأديب من مجرى الحياة كما اتفق ثم يصبَّ ما اغترفه على الورق، فلا يفرِّق بين ماء وطين، بل لا بد له من النظر فيما قد امتلأ به الدلو من مقوِّمات الحياة العملية ليُميز فيه بين ما يجب وما لا يجب، والتمييز بطبيعة الحال إنما يكون على أساس مبدأ عند الأديب، وهكذا لا مناص من أن يعبِّر الأديب في شخصياته عن وجهة نظره الخلقية كما يعبِّر في طريقة أدائه عن قدرته الجمالية على حدٍّ سواء.
هما شقيقان، وهما من قادة الفكر والأدب في العالم أجمع، لكن أحدهما يجعل الفكر عملًا، والآخر يُحيل العمل إلى فكر، غير أنهما مع هذا الاختلاف متفقان في الأغوار السحيقة التي لا تصوِّر أعماق الفكر الأمريكي وحده، بل تصوِّر الفكر العالمي كله إبَّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإبَّان هذا النصف من القرن العشرين، وأما هذه الأغوار العميقة فهي أن ينظر الإنسان إلى حقيقة الحياة، بل حقيقة الطبيعة نفسها — على أنها تيَّارٌ متصل قد يبدو للنظرة السطحية مفكَّكًا في أجزاءٍ مُنفصلة، لكنه نهرٌ موصول. هكذا قال وليم جيمس عن تيَّار الشعور عندما وضعه في كتابه مبادئ علم النفس، وهكذا قال الفيلسوف الفرنسي برجسون عندما تكلَّم عن مجرى الحياة الدافق السيَّال، وهكذا وصفه الأديب الفرنسي بروست في قصصه، وهكذا أيضًا نظر إليه هنري جيمس، بل هكذا ظهر الرأي في فن الانطباعيين الذين يصوِّرون لك ما يصوِّرونه وكأنه سيَّالٌ واحد من ضوء، لا تفصل الأشياءَ المقررة فيه فواصلُ حادَّة تجعل الشجرة شجرةً على سبيل التحديد والسحاب سحابًا، بل جاء الفن الانطباعي ليصل الشجر بالسحاب في متصلٍ واحد؛ لأن الحياة والطبيعة هما هكذا. وإن شئت فقارن هذه النظرة بما سبقها عندما كان الظن أن الإدراك مؤلَّف من نقاطٍ مفكَّكة، ومن هذه الوحدات الإدراكية تتألف الأفكار وتتألف الأشياء.
إنك لتقرأ لوليم جيمس نظريته فيما يُسميه ﺑ «الخبرة الخالصة»، أو مجرى الشعور المتصل، وتقرأ لأخيه هنري جيمس تصويره للعالم بما فيه من شخصيات وحوادث، فتحسب أن الأخ الأديب قد صبَّ في القصة ما كان أخوه الفيلسوف قد أخذ به من الوجهة العلمية النظرية، وهو أن حقائق الحياة المرئية ليست وحدات في فراغ، بل هي كقِطع الفلين سابحة على سطحٍ مائي واحد، هو مجرى الشعور. انظر إلى طائر وهو يقف على هذا الغصن مرة، وعلى ذلك الجدار مرة، أتقول إن حياته هي هذه الوقفات أم لا بد لك أن تصل الوقفات بما يربطها في حياةٍ واحدة، وما يربطها هو عملية الطيران من وقفة إلى وقفة؟ ومِثل وقفات الطائر حقائق العالم المرئي، فطيرانه يمثِّل مجرى الحياة المتصل الذي بفضله ترتبط تلك الحقائق في قصةٍ واحدة وكونٍ واحد.
والعقل عند الأخوين الشقيقين ليس لوحةً سلبيةً قابلة لما ينطبع عليها، بل هو فعَّال يختار هذا ويدع ذلك من أُلوف المؤثرات التي يتعرض لها، وفي فاعلية العقل يقع صميم الفكر المُعاصر، لا أقول الفكر الأمريكي الذي إليه ينتسب الشقيقان فحسب، بل الفكر العالمي كله. ولما كان الفرد من الناس إنما تتكوَّن شخصيته من الأشياء التي يختارها بعقله الفعَّال طوال حياته، ثم لما كانت العناصر المختارة يستحيل أن تتشابه كل التشابه في فردين، كان وليم وأخوه هنري، بل كان الفكر الفلسفي والأدبي المعاصر على اتفاق من حيث تمايز الأفراد واستقلالهم الشخصي.