قرصنة في بحر الثقافة
لم أكد أصدِّق سمعي، حين أخذ صديقي عالم الآثار المصرية يقرأ لي نصًّا قديمًا من لفائفه البردية، كتبه كاتبه فيما يقرب من القرن الحادي عشر قبل الميلاد؛ ليصف به حياة الثقافة والمثقَّفين في عصره، وصفًا لو أزلت منه أسماء الأعلام ومعالم الأحداث، لتضع مكانها أسماء المعاصرين وأحداثهم، لظننته قد كتب عن عصرنا الراهن هذا بعلمائه وأدبائه. نعم، لم أكَد أصدِّق سمعي لأنني — وقد كنت أعلم أن خصائص الشعوب تخترق حجاب الزمن، فتصل حاضر الشعب بماضيه — لم أكن أعلم، مع ذلك، أن هذه الخصائص العنيدة المكافحة في سبيل بقائها تمتدُّ رُقعتها وتتسع لتشمل صفاتٍ كنت أحسبها من التوافه التي تظهر وتختفي مرهونةً بظروفها، فليس عجيبًا أن يجيء الأحفاد أشباهًا لأجدادهم في احتفالات الميلاد وفي شعائر الموت؛ لأن هذه أمورٌ موصولة بشرايين الحياة نفسها، أما أن يتشابه أولئك بهؤلاء في الطُّرق التي يتخاطف بها العلماء والأدباء ثمرات جهودهم، بحيث يكون الحاصدون أناسًا غير الزارعين، فذلك حقًّا هو موضع العَجب؛ لأنه من التوافه التي لم يكن ليجدر بالزمن الوقور الجليل أن يحفظها ويصونها لتنتقل على ظهور الأجيال من الجد إلى الحفيد.
وكاتب البردية التي أخذ صديقي عالم الآثار يفكُّ لي رموزها، هو كاهن من معبد آمون في مدينة طيبة، والظاهر أنه كان ذا مكانة مرموقة بين كهنة المعبد؛ لأنه يتحدث حديث الواثق بنفسه، تسري في كلماته رنَّة العظماء حين يتحدَّثون إلى من يصغرونهم منزلةً وقدرًا. اسمه — فيما أذكُر — حريحور، أو ما يجري مجرى هذا الاسم في الوزن والنغمة، وقد بدأ رسالته هذه بذِكر المكان الذي خطَّها فيه، فإذا هو قد كتبها في مركبٍ أقلع به من طيبة إلى مصر السفلي؛ إذ هو في طريقه إلى البحر الكبير، قاصدًا إلى بيبلوس على الشاطئ اللبناني، في مهمة لم يُفصِح عنها.
أخذ الكاتب يدوِّن تفصيلات من حياته اليومية؛ ماذا كان يأكل، وأين ترسو به السفينة، وكيف يعترك النوتية آنًا ويسمرون في صفاء آنًا، ثم انتقل إلى تسجيل ما أراد تسجيله ليروي لنا عن معركةٍ كلامية دارت بينه وبين كاتبٍ قليل الشأن، كان لا يزال من السُّلم الكهنوتي في أدنى درجاته، ومع ذلك اجترأ هذا الصغير على مجادلة حريحور الذي كان يعلوه في مراتب الكهنة بدرجاتٍ كثيرة.
ففي أُمسيةٍ مُقمِرة من أماسي طيبة الجميلة في شهرٍ يقع في مستهل الصيف، كان حريحور — وهو كاتب البردية يروي فيها عن نفسه — جالسًا في بهوٍ مكشوف من أبهاء المعبد، وإذا بشبحٍ إنساني يقترب منه في سكونٍ خاشع، حتى إذا ما واجَهه استأذن في الجلوس؛ لأن عنده أمرًا يريد أن ينفضه عن نفسه ليستريح، وما هو إلا أن أشار له الكاهن الشيخ ليأذن بجلوسه، وينحني تجاهه انحناءةً خفيفة ليسمع، فطفق الكاهن الشاب — ولم يذكُر اسمه من أول البردية إلى آخرها، مُكتفيًا بالإشارة إليه إشارات لا تخلو من معاني التصغير والتحقير — طفق الكاهن الشاب، في لعثمةٍ أول الأمر، وفي طلاقة بعد ذلك، طفق يشكو من أن حريحور قد نسب إلى نفسه قصيدة من الشعر، وتلاها على ملأ من الناس وكأنها من صنعه، فلم يشأ الشاب — وهو ناظم القصيدة الأصيل — لم يشأ أن يعترضه أمام الناس، وها هو ذا قد جاء إليه ليطلب منه أن يصحِّح للناس هذا الخطأ، وهو خطأ لا بد أن يكون قد وقع سهوًا من الكاهن العظيم.
ويروي لنا حريحور كيف صُعِق لهذه الجرأة النادرة من صغيرٍ مغمور يُواجه بها عظيمًا مشهورًا، وحاوَل أن يُفهمه بأن الملكية في ثمار الفكر هي للجماعة لا للفرد، على أن يظفر بفوائدها أطول الناس ذراعًا وأجهرهم صوتًا وأرفعهم منبرًا؛ فأقل شيء في مجال الفكر هو أن تخلق الفكرة وتُبدعها، أما الأهمية كلها فإنما تكون لمن استطاع أن ينشرها ويُذيعها. هَبْ أنك يا بُني قد تُركت لقصيدتك، لا تجد اللسان البليغ الذي يُنشِدها، فما قيمتك عندئذٍ وما قيمة قصيدتك هذه؟ وهنا أراد الكاهن الشاب أن يقول شيئًا، لكن الكاهن العظيم قد ضاق به صدرًا فنهره وطرده من المعبد.
ولقد بدأ حريحور في برديته بذِكر هذه الحادثة؛ لا لأن لها عنده خطرًا في ذاتها، بل ليستهلَّ بها حديثًا يريد أن يُثبته؛ لعله يُرسي به للأجيال القادمة أصولًا ومبادئ تكون هي العماد كلما أشكل عليهم أمر في أخلاقية العلم والأدب.
ففي شريعتنا — هكذا كتب حريحور — لا تقتصر البلاغة على الكلام المنطوق، بل هي صفةٌ تصف الصمت قبل أن تصف الكلام؛ فالصمت عندنا أبلغ وأفصح، لكن الصامت البليغ ليس هو كل صامت، وإلا لجاز أن نصف بالبلاغة جلاميد الصخر وصُمَّ الجبال، وإنما تكون البلاغة للصمت عند وُجهاء القوم وعظمائهم دون السفلة والسوقة والرعاع، فاظفر لنفسك أولًا بمقعدٍ كبير وثير، تحيط به الحاشية الخادمة المطيعة، قبل أن يحلَّ لك أن تسلك في زمرة أصحاب الصمت البليغ. وينتج عن هذا المبدأ الأول مبدأٌ ثانٍ، وهو أن الأديب لا يُشترط فيه أن يقول أدبًا أو أن يكتب أدبًا؛ لأن شريعتنا تُعطي الصدارة في دنيا الأدب لمن كسب لنفسه البلاغة الصامتة، فلا يُسأل أديب عن أدبه إلا إذا كان أديبًا ناشئًا صغيرًا، أما ذو الجاه العظيم فهو أديب بسحنته وملامحه وطريقة قيامه وقعوده، وهاكم تاريخنا الأدبي كله شاهدًا على صدق ما أزعم؛ فكلما علا الأديب وصعد قلَّ إنتاجه، حتى إذا بلغ قمة المجد كان إنتاجه صفرًا، وسِرْ في هذا المنطق إلى نهايته، تجد أن العلو والصعود — كعروش الأباطرة والملوك — قد تجيء أصحابَها بالوراثة لا ببذل الجهود؛ فحين يكون الأديب — في ملتنا — أديبًا أصيلًا عريقًا، نعفيه من قول الأدب وكتابته، فلغيره من الصغار العاملين أن يكتب وأن يقول، وله هو الريادة والقيادة، فأنَّى له بطول الزمن الذي يسع أن يُنتج الأدب وأن يرود ويقود في آنٍ معًا؟ إنه إما هذه وإما تلك، ولا جمع بين الضدين في أمثال هذه الأمور.
إن هذا الكاهن الصغير حين اجترأ عليَّ ببذاءته في سكون المعبد وجلاله، قد فاته ما قد خطَّته الأقدار للناس من حظوظ؛ فللمرضى عليهم أن يعيشوا في رفعة ونعيم، وأما المغضوب عليهم فلزامٌ أن يعملوا كادحين، وهذا مبدأٌ حكيم مهما اختلف مجال التطبيق، فإذا كان فلَّاح الأرض يزرعها، وصاحب السيادة يأكل الزرع، فكذلك على صغار الناس في دنيا الفكر والأدب أن يكتبوا وينظموا، ليكون الحصاد من نصيب الكبار، تلك هي عدالة السماء التي لا تنحرف عن الجادَّة ولا تجور.
وهنا ينتقل حريحور ليضرب المثل بالتجارة والقرصنة، قائلًا في يقينِ من لا تُخالجه خلجة شك واحدة، إن التجار هم الذين يجوبون البحار بتجارتهم التي اشتروها بالمال، وأرادوا من ورائها الربح بالكد والكدح والعرق، لكن فوق هذه الطبقة طبقة أعلى وأرفع — إذا قيست الأوضاع بمقاييس السماء العادلة — وأعني فئة القراصنة، الذين لا يُطلَب منهم إلا شيءٌ من مهارة وبراعة، فيعلمون كيف يُباغتون وأين؛ لتكون ثروات التجار من نصيبهم هم حقًّا مشروعًا حلالًا. ويتعجَّب حريحور ممن يأنفون من تطبيق أصل القرصنة ومبادئها على دنيا الفكر والثقافة؛ فماذا يمنع أن تفكر أنت، وأسعد أنا؟ ماذا يمنع أن تشقى أنت، وأنعم أنا؟ ماذا يمنع أن تُهيئ أنت الطعام لآكل أنا؟ تلك سنة الله في خلقه، لا فرق عندها بين زراعة وتجارة وثقافة، أليست الأرض مليئة بمن يعملون ولا يأكلون، وإلى جوارهم من يأكلون ولا يعملون؟ إذن فهذه قسمةٌ واجبة معقولة، كائنًا من كان العاملين والآكلون.
إلا أنها لبدعةٌ وضلالة من هؤلاء الصغار أن يستنُّوا للأشياء طبائع غير ما أراد لها الله من طبائع، هي بدعة وضلالة ينبغي وأدُها في مهدها قبل أن يستفحل أمرها، وتلك هي أن يظن الكاتب أو العالم أو الفنَّان أن ثمرة جهده عائدة عليه بجاه وسلطان! من هو الفنَّان الذي نحت في الجبل هيكلًا، وشاد فوق الأرض معبدًا؟ من هو النحَّات الذي نحت التماثيل وأقام المسلَّات؟ من هو الكاتب الذي أنشأ كتاب الموتى؟ من هو العالم الذي حسب الحساب بأرقامه عندما شيَّد الهرم؟ هل سمع بأسمائهم أحد؟ لكن الأسماء المسموعة هي أسماء الملوك والأمراء الذين من أجلهم أقيمت الهياكل والمعابد، ونُصبت المسلَّات، ونُحتت التماثيل، ومن أجلهم أُنشئت الترانيم لتُنشَد لأرواحهم وهي في الطريق إلى دار الخلود، فمن ذا الذي خدع ذلك الكاهن الشاعر، فأوهمه بأنه ما دام هو الذي نظم الشعر فمن حقه أن ينعم هو بالثمرة والعائد؟ إن قسمته في اللوح المحفوظ هي أن ينظم الشعر، وقسمتنا نحن القادة الرُّواد هي أن نوجِّهه كيف شئنا، وأن نضعه أين شئنا، وأن تكون القطوف نصيبنا. لقد خرجت الفراشة الجميلة المزهوَّة بألوانها وزخارفها من دودةٍ حقيرة، فهل يحقُّ لهذه الدودة أن تُقاسم الفراشة زينتها وزخرفها؟
إن هؤلاء العاملين الصغار عليهم تحميل السفن بأثقالها، ولنا نحن الكبار حق القرصنة لنأخذ الأحمال معبَّأةً مجهَّزة؛ وبالقرصنة — لا بالتجارة — بُنيت دول وأقيمت عروش، نحن الغُزاة الفاتحون، وهم الأسلاب، فهل سمعتم بغزاةٍ يُقاولون ويُفاوضون ويُقاسمون بالقسطاس؟ ألا ترون الغزاة ينقضُّون على الفرائس انقضاضًا، فتكون لهم الغنيمة، وللفرائس الذل والهزيمة؟ إن ثمرات التين الناضجة لها الحلاوة كلها، صُنعت لها ولم تصنعها لنفسها؛ صنعتها لها الجذور والجذوع والأوراق والفروع، فهل نقول في نهاية الأمر إنها حلاوة التين، أو تُرانا ننسب الحلاوة إلى صانعيها؟ ألا فليعلم هؤلاء الصغار أن الكُتاب يكتبون والملوك يوقِّعون، وتلك هي الحياة كما أراد الله أن تكون على الكوكب الأرضي، فعلى الناقمين الثائرين أن يرحلوا — إذا استطاعوا — إلى كوكبٍ غير هذا الكوكب؛ ليلتمسوا لأنفسهم أوضاعًا جديدة تُرتَّب على أساس الجهد المبذول، لا على أساس الأبَّهة ذات الطنين.
لقد أكثرت من كلمة «الصغار»، وأخشى أن ينصرف اللفظ إلى صغار العمر، بحيث يظن أن القسمة في شريعتنا هي قسمة بين صغار الأعمار وكبارها؛ فقد أردت بالصغار صغار الوزن والحيز؛ إذ قد تكون صغير السن لكنك ذو حيز ضخم ووزن ثقيل، كما قد تكون كبير السن لكنك خفيفٌ تافه ضئيل.
فلما بلغ صديقي عالم الآثار من برديته هذا المدى، وجدها مهرَّأةً مُحترقةً مطموسة المعالم بفعل الزمن، فأخذ يلفُّها بسبَّابتيه في رفق، إلى أن ظهر منها جزءٌ آخر تسهُل قراءته، فاستأنف القراءة، فإذا الكاتب قد دخل في رواياتٍ يرويها عن أشخاصٍ عرفهم أو سمع عنهم، ليؤيد بأخبارهم صِدق مبادئه، فكم من عاملٍ مُرهَق ذهبت جهوده عرقًا على جبينه، وتيجانًا على جباه الآخرين، وكم من رجلٍ جاءه المجد منحةً سماوية لم يبذل في سبيله ساعةً من عمل!
أخذ حريحور في برديته يروي عن مجلس الكهنوت في مدينته طيبة، ويستعرض تواريخ أعضائه؛ ليطمئنَّ إلى سلامة حكمه وسداد حكمته؛ فهذا عضو من أبرز أعضائه منزلةً وأعلاهم مكانة، ماذا عنده إلا مقدرته الفائقة في اختيار أماكن الجلوس كلما أقيم للناس حفل في هيكل أو معبد؟ إنه يجيء إلى المكان مُبكرًا، ويقف عند الباب لحظة، يتلفَّت فيها يمنةً ويسرة وإلى أمام، وبحدسه الصادق يعرف أين مكان الكاهن الأعظم ليختار هو أقرب المقاعد إلى حضرته ونظرته، بحيث يصبح على يقين من أن نظرةً واحدة من نظرات الكاهن الأعظم لن تضيع عليه سدًى، وأن الكاهن الأعظم ليُعجبه من رعيته مِثل هذه البصيرة النافذة والاختيار المتروِّي، فهل يسعه عند تعيين الحاشية إلا أن يجعل صاحبنا هذا في مقدمة التابعين، فما إن يجلس على كرسي الحاشية حتى تُخلَع عليه أردية العلم والفقه، علم الدنيا وفقه الدين؟ وإن حريحور ليروي عن صاحبه هذا ليُبين للناس صِدق الحكمة القائلة إن المرء حيث يضع نفسه، فضع نفسك على مقاعد الرئاسة تكن رئيسًا، وعلى مقاعد العلماء تكن عليمًا، وعلى مقاعد الأدباء تكن أديبًا، فهل شهدتم حقيقةً أوضح من هذه الحقيقة وأجلى؟
ولست أدري لماذا لم يذكُر لنا حريحور اسم صاحبه ذاك، أو لعله قد ذكره في الجزء الذي أصابه الزمن بالطمس والمحو، وأقول ذلك لأنه انتقل في حديثه إلى الرواية عن عضوٍ آخر في مجلس الكهنوت، قال إن اسمه أميناتون، سلك طريقه إلى المجلس عن طريق المُريدين والأتباع؛ فالطريقة هنا هي عكس الطريقة الأولى. كانت الطريقة الأولى هي أن تختار لنفسك أن تكون تابعًا، وكل ما في الأمر أن تُحسن اختيار الرائد المتبوع. أما هذه الطريقة الثانية فهي أن تختار لنفسك أن تكون رائدًا متبوعًا، ثم تعرف كيف تجمع حولك الأتباع؛ لأنه إذا كثر الأتباع وازدحموا وملئوا الهواء بضجيجهم، كانت الحصيلة المؤكَّدة المحتومة هي أن يقول الكاهن الأعظم لنفسه: إن لهذا الرجل لقدرًا عظيمًا في دنيا الفكر والأدب والعلم والفن، فهاتوه في مجلسنا عضوًا ليشرُف المجلس بوجوده.
وينتقل الراوية إلى عضوٍ ثالث، يقول إن اسمه حبحوت، قد سلك إلى المجلس طريقًا ثالثًا، فلا هو اتَّبع أحدًا ولا استتبع أحدًا، إنما طريقته أشبه ما تكون بعالم السيمياء الذي يُحيل النحاس ذهبًا، فلا تدري كيف يُغري صغار الكُتاب بأن يُقدموا إليه أعمالهم ليهديهم في أمرها سبيل الصواب، فتقع عيناه الماهرتان المدرَّبتان على ما يصلح من هذه الأعمال للصهر في معمله، فتراه يُخفيها عن أصحابها في جُبٍّ مُعتِم، ويُماطل أصحابها ويُماطل، ثم يفعل النسيان فعله، فإذا هو يُخرجها من محابسها لينشرها في الناس مِلكًا له حلالًا، ولست أرى في ذلك شيئًا من الظلم على أحد؛ لأن العبرة بمن استطاع أن يُطالع الناس في نور الشمس، لا بمن أخفى عمله في ستر الظلام.
وعلى ذكر الظلام وستره، نقول إن القراصنة لم يكونوا دائمًا ممن يُباغتون السفن في وضَح النهار، بل منهم — ولعل هؤلاء أعتاهم — من يُفضلون التسلل إلى مدن الشواطئ في عتمة الليل، ينهبون ويأسرون، ويخرجون بالغنائم والسبايا، وما يزال الليل «منشور الذوائب»، وعندنا في مدينة طيبة، ومن أعضاء مجلس الكهنوت أنفسهم، قراصنة الليل وقراصنة النهار، كلٌّ في مجال تخصُّصه يجول ويصول.
ويمضي حريحور في برديته مصوِّرًا لنماذج القراصنة في بحر الثقافة على عهده، فيلفت أنظارنا إلى قرصان يأبى عليه ضميره الحي أن يُبقي السلعة المنهوبة على شكلها؛ لأنه يرى في ذلك خروجًا على مبادئ الأخلاق، فتراه يعمد إلى تشويهها لتختفي ملامحها، كلها أو بعضها، لعل ذلك أن يكون له شفيعًا، وأعسر مشكلة تُصادف هذه الطائفة المهذَّبة من القراصنة أن السلعة المنهوبة المُراد تغييرها، كثيرًا ما تكون مُفرِطة في حيويتها، حتى لتراها كلما مسَّها إزميل التشويه، اختلجت يد القرصان العامل فيها بإزميله، وطفقت تنتفض هنا وتتلوَّى هناك، حتى يتركها قرصانها وعلى جسدها ملامحها الأولى، يعرفها بها أصدقاؤها القدامى إذا ما صادفتهم في بعض الطريق.
على أن أبرع القراصنة جميعًا في دنيا الفكر والأدب، جماعةٌ شأنها عَجب من عَجب؛ لأن الواحد منها لا يُجاهد ولا يسعى، إن له طريقةً عجيبة في اصطناع السحنة التي تشع هيبةً ووقارًا، إنه لا يُمالئ أحدًا ولا يدع أحدًا يُمالئه، إنه لا ينهب شيئًا من بَر أو من بحر، إنه في جلسته الوقورة الهادئة، أو في مِشيته البطيئة الثابتة، أو في نبرات حديثه الواضحة المتأنِّية، يجذب الأضواء ويعكسها رائعةً وضَّاحة، كما يتلقَّى القمر ضوء الشمس فيعكسه، فيروع الناس بجماله، هل يجوز لأحدٍ أن يُنكر على القمر روعة ضيائه لكون هذا الضياء مُنعكسًا على سطحه الظاهر، وليس مُنبثقًا من فطرته وطويته؟! كذلك قل في هذا النوع الجليل من قراصنة الفكر والأدب؛ لا يجرؤ مُجترئٌ أن يسأل عنهم ماذا قدَّمت للناس رءوسهم، وبأي شيء جرت أقلامهم. وإذا سأل سائلٌ مِثل هذا السؤال عن أحدهم، كان هو الحقيق عند القوم باللعنة، وإن هذه الطائفة من القراصنة غالبًا ما تكون لهم الريادة والقيادة، مؤهلهم الوقار الجاد، وشهادتهم الرصانة الرزينة، ولا عَجب — إذن — أن يكون معظم أعضاء المجلس الكهنوتي في طيبة من هذا الصنف النفيس.
ومرةً أخرى بلغ صديقي عالم الآثار من برديته موضعًا نال منه الزمن بالبِلى، فهُتكت فيه الأسطر ومُحيت الكلمات، فنظر إليَّ صديقي ونظرت إليه، وتوقَّع كلٌّ منا أن يسمع من زميله شيئًا، ودام هذا الصمت المُتعجب لحظةً، لفظت أنا بعدها زفرةَ المبهوت لما سمع، فسألني صديقي: ماذا ترى؟ فقلت: ما أراك إلا رامزًا أوضح الرمز بماضٍ غابر إلى حاضرٍ مشهود.