دمنة وكليلة
معذرة، فقد عكست الترتيب المألوف لهذين الاسمين عامدًا؛ وذلك لسبين؛ أولهما: هو أن يتنبَّه القارئ، فيعلم أنهما اسمان لمخلوقين مُنفصلين؛ لأنه — فيما أقدِّر — قد نُطِق بهما على الترتيب المألوف، في عنوان «كليلة ودمنة» مئات المرات أو أُلوفها، حتى تحوَّل صوت العبارة عنده إلى عادةٍ حركية لا يعي معها أين تبدأ الأجزاء وأين تنتهي، فانطمس — بالتالي — ما بين هذين المخلوقين من تميُّز واختلاف، مع أن هذا التميز والاختلاف بينهما هو ما قصدت إليه بهذا المقال. والسبب الثاني: هو أن الخصائص التي تميِّز «دمنة» من «كليلة» هي أن دمنة أكثر نجاحًا في دنيا العمل والتعامل؛ فمن حقِّه أن يسبق زميله عند تلاوة الأسماء في المحافل، احترامًا لقواعد البروتوكول التي تحرص على التمييز الدقيق بين من هو أعلى ومن هو أسفل.
وليس من شأني هنا أن أتعقَّب الرحلة التاريخية الثقافية التي انتقل بها «كليلة ودمنة» من أصله الهندي إلى الفارسية، ثم من الفارسية إلى العربية، بقلم «ابن المقفع» في أسلوبه النقي البليغ، وإنما شأني هنا هو أن أُبرِز الفرق بين «دمنة» و«كليلة»؛ لعله يُضيء أمام القارئ — كما أضاء أمامي — طريق الفهم لجانبٍ هام من جوانب حياتنا، أو قل من جوانب الحياة الإنسانية على إطلاقها.
فمن هما «دمنة» و«كليلة»؟ هما أخوان من أبناء آوى، أعني أنهما ثعلبان شقيقان، ورَد ذِكرهما في أول حكاية — وهي أطول حكاية — من مجموعة الحكايات التي قدَّمها كتاب «كليلة ودمنة»، وليس منَّا واحد — فيما أظن قد خلت حياته الدراسية في مراحلها الأولى من مطالعة هذا الكتاب، ولقد رأى صاحب الكتاب أن يُطلِق اسم هذين الأخوين عنوانًا لكتابه.
لم يكن هذان الثعلبان الشقيقان من طبيعةٍ واحدة، برغم كونهما فردين من نوعٍ واحد، ومِثل هذا — كما تعلم — يحدُث كذلك في دنيا الناس، فلا يختلف في هذا التفاوت أبناء آدم عن أبناء آوى، أما أحد الأخوين — وهو كليلة — فقد كان قويم المبدأ، نزيه المقصد، لا يفعل الفعل إلا إذا جاء على طريقٍ خُلقي مأمون من المزالق، وأما أخوه «دمنة» فهو على نقيضه، تهمُّه الغايات ولا تهمُّه المبادئ، معيار العمل الصالح عنده هو أن يكون نافعًا له، مُحققًا لأغراضه، سواءٌ جاء بعد ذلك مُقيمًا للحق والعدل أو هادمًا لهما، وإذا تكلَّم دمنة، فإنما يتكلم ليُقنع السامع بما أراد له أن يقتنع به، لا يُبالي أجاء كلامه هذا صادقًا مع واقع الأمر أم كاذبًا. إن دمنة، طَموح يريد بلوغ الهدف بالشطارة و«الفهلوة»، فكان يسبق الآخرين على الطريق؛ لأن خطوات هؤلاء الآخرين مقيَّدة مكبَّلة بما يبذلونه من جهود.
كان «كليلة» الطيب المستقيم الصادق، يعرف عن أخيه «دمنة» تلك الخِلال، فكان يُسْدي إليه من النُّصح ما يظن أنه يهديه، لكن «دمنة» قد أدار لنصح أخيه أذنًا من طين، وأخرى من عجين، بل لعله كان يسخر من سذاجته؛ فلقد كان بطريقته هذه التي لم تُعجِب أخاه الطيب، أعلى شأنًا — في حياة الغابة — من أخيه.
هذان الأخوان من أبناء آوى، هما في الحقيقة نمطان من أنماط البشر، فلم يكونا في الحكاية إلا رمزًا لأمرٍ عجيب، وهو أن بلوغ الغايات في شئون الحياة العملية قد لا يكون طريقه التزام المبادئ الخُلقية المُثلى، بل إن هذه المبادئ لم تكن لتصبح نماذج مُثلى لو لم تكن «فوق» الواقع و«أعلى» منه، لكنها ليست جزءًا من نسيجه، ولقد حُقَّ لابن المقفع في مقدمته التي قدَّم بها لترجمته العربية أن يحذِّر القارئ بقوله: إنه لا ينبغي أن يؤخذ الكتاب بظاهره، بل يجب على قارئه أن يستخرج ما قد خفي من معانيه وراء الرموز، كالرجل الذي لا ينتفع بالجوز إلا إذا أزاح قشرته الظاهرة عن لُبه المستور.
وإن هذين النمطين اللذين يرمز إليهما الثعلبان الشقيقان «دمنة» و«كليلة»، ليذكِّرانِنا بطائفتين من أبناء المجتمع الواحد، أقام عليهما العالم الإيطالي الحديث «باريتو» نظريته في تحليل تطور الجماعات، خصوصًا في فترات الانتقال الحضاري من مرحلةٍ تاريخية إلى مرحلةٍ أخرى تجيء بعدها (وكان ذلك في كتابه «العقل والمجتمع» الذي أصدره قُبيل وفاته سنة ١٩٢٣م بأعوامٍ قلائل)؛ فلقد استخدم «باريتو» رمزين، هما «الأسود» «الثعالب»، ليدل بهما على طائفة تُحافظ على القديم الثابت المأمون، وطائفةٍ ثانية تُغامر وتُخاطر.
فلكل تحرُّك اجتماعي «أُسودُه» و«ثعالبه». أما «الأسود» فهم الذين يريدون أن يجيء التحرك في إطار الأخلاق كما تعارَف عليها الناس، ويودُّون أن تُصان العقائد والتقاليد وقواعد العُرف، وأما «الثعالب» فدستورهم الجرأة والمغامرة في ظلام المجهول بلا حذر، وعمادهم الدهاء والمراوَغة، لا القواعد المعروفة المكشوفة، وإن «الأسود» و«الثعالب» ليتجاوران معًا في كل جماعة وفي كل عصر، ويكون الاختلاف في أي الفئتين يكون لها الغلبة في الجماعة المعيَّنة أو العصر المعيَّن؛ فالغلبة في حالات الاستقرار المُطمئن تكون لجماعة «الأسود»، وأما في عهود التحفز للوثوب، فالغلبة تكون لجماعة «الثعالب»؛ فإذا كانت السيادة للأسود، أحيطت النُّظم القائمة بما يُشبِه القداسة، فلا يُسمَح لأحدٍ أن ينال منها بأكثر من التغير الطفيف، وإذا كانت السيادة للثعالب، كان تغيير النُّظم والقواعد والقوانين هو الأساس.
والفرق الواضح بين ثعالب «باريتو» وبين «دمنة» — وكلاهما من نوع الثعلب، وكلاهما يستهين بالوسائل من أجل تحقيق غاياته — هو أن ثعالب «باريتو» طائفة في المجتمع تعمل على التغيير من أجل تطوُّر حضاري يُصيب الجميع، وأما «دمنة» فثعلب يمكر من أجل نفسه، وعلى حال فكلتاهما ثعلبة لا يستطيعها إلا من أوتي القدرة على تحطيم العُرف المألوف، لكن ذلك يتم على صورتين؛ إحداهما تتم خلسة وخداعًا، من أجل صالح فردي لا شأن للجماعة به، وتلك هي طريقة «دمنة»، والأخرى قد تتمُّ جهرًا وعلانية، حتى لقد تتخذ صورة الثورة الصارخة، من أجل صالح المجموع كله، وتلك هي طريقة الثعالب في تقسيم «باريتو».
ونترك «باريتو» بأسوده وثعالبه لنعود إلى ما أردنا الحديث فيه عن «دمنة» و«كليلة»، فنطرح السؤال: لأيهما الغلبة في حياتنا الحاضرة يا تُرى؟ أهي لدمنة الذي يمكر في الخفاء ليصل، أم هي لكليلة الذي حفظ دروس الأخلاق كما أوصى بها المثل الأعلى؟ إنني لتحضرني الآن قسمةٌ ثالثة ذكَرها المتنبي ذكرًا سريعًا في بيت من شعره، حين قسَّم الأمر بين «النواطير» — أي رجال الحراسة — و«الثعالب»، ولعله كان قد أضمر في نفسه سؤالًا كهذا الذي طرحناه (وكان حديثه عن مصر)، ثم أعلن الجواب، كما رآه في يومه، وهو أن النواطير قد نامت فغفلت عن الثعالب وفعلها، حتى لقد عاشت هذه الثعالب وسلِمت وامتلأت بطونها، فلعل ليومنا جوابًا عن سؤالنا، غير جواب المتنبي ليومه.