الأديب ثم الناقد
لن أُطاول نُقادنا المُحدَثين في علمهم بمبادئ النقد الأدبي ومذاهبه؛ ولذلك فلن أستخدم في هذه الكلمة القصيرة لفظًا واحدًا من مصطلحاتهم، بل إني سأقول كلمتي بسيطةً صادرة عن قارئٍ بسيط؛ فالعلاقة بين الأدب والنقد — كما أراها — هي نفسها العلاقة بين كاتب وقارئ.
فكما يتفاوت حملة الأقلام ارتفاعًا وانخفاضًا في القدرة على التعبير عن ذوات أنفسهم، فكذلك يتفاوت القُراء ارتفاعًا وانخفاضًا في القدرة على فهم ما يقرءونه؛ فإن كان من يبلغ من القدرة الكتابية حدًّا ملحوظًا هو الذي يُسمى كاتبًا، فالقارئ الذي تبلغ قدرته على فهم ما يقرؤه حدًّا بعيدًا هو الذي نُسميه ناقدًا؛ فليس إذن في العلاقة بين الأدب والنقد سر ولا سحر، ما دام الأدب كتابة لكل من أراد أن يقرأ، والنقد قراءة تتميز بجودة الفهم لهذا المكتوب.
وإن هذه المقدمة الواضحة التي يُمليها الإدراك الفطري لتستتبع نتائج هامة؛ منها أن الناقد الذي يُقبِل على كتاب ليقرأه، مزوَّدًا بمذاهب ومبادئ في النقد الأدبي، يخرج على طبيعة موقفه — من حيث هو قارئ — خروجًا من شأنه أن يفوِّت عليه هدفه الرئيسي، وهو أن يقرأ ليفهم؛ فالبداهة تقضي بأن يكون الإنتاج الأدبي أسبق من المذاهب المختلفة في نقده.
لقد اختلف النقد مذاهب حين اختلف المُجيدون لفن القراءة في فهم هذا أو ذلك من الآثار الأدبية المعيَّنة؛ فالأثر الأدبي أولًا، ثم اختلاف الرأي في فهمه ثانيًا؛ فقارئ قد يقول إن الكاتب يصوِّر الواقع، وآخر يقول بل إنه يصوِّر دخيلة نفسه، وثالثٌ يزعم أن الكاتب قد انصرف بأثره الأدبي إلى خلق شيء جديد، لا هو من الواقع، ولا هو من مكنون النفس، وهلمَّ جرًّا. هكذا تختلف الآراء والعمل الأدبي واحد، وبعدئذٍ ينشأ عن اختلاف الآراء ما يُسمى بمذاهب النقد، لكننا عند هذه الخطوة الثانية نكون قد جاوزنا النقد ذاته لندخل في شيءٍ آخر، لك أن تُسميه — إن شئت — بفلسفة النقد.
النقد قراءةٌ نافذة؛ ولهذا فهو مُرتبط حتمًا بعملٍ أدبي معيَّن، قُرئ مِثل تلك القراءة الجيدة المُبصرة. أما أن يكون نقد ولا قراءة، أعني أن يكون مستقلًّا عن الشيء المعيَّن المنقود، فذلك كزرع شجرة في الهواء، لا اتصال بينها وبين الأرض التي تضرب فيها بجذورها لتستمدَّ غذاءها.
هذه حقائق أراها واضحة إلى الحد الذي أتوقَّع معه أن يسأل سائل: لماذا تقول كلامًا كهذا وما نحسب أحدًا يجهله أو يُنكره؟ لكن ما ظنك وهنالك بين نُقادنا المُحدَثين — برغم معاركهم الصاخبة من حولنا — قد جهلوه وأنكروه؟ فهم يبدءون الشوط من آخره لا من أوله؛ إذ تراهم يبدءون بمذاهب نقدية يدرسونها كثيرًا أو قليلًا، ثم يحفظون ما قد درسوه حتى يُجيدوا التحدث فيه، وكان ينبغي لهم أن يبدءوا بقراءة الأثر الأدبي المعيَّن؛ ليروا كيف يفهمونه، فإذا اتفقوا أو إذا اختلفوا على طريقة فهمه، أعلنوا فينا مواضع اتفاقهم ومواضع اختلافهم؛ لنستعين بها نحن القُراء الذين لم نُوهَب مواهبهم في الفهم والتحليل، عندما نقرأ بدورنا ما قد سبقونا إلى قراءته، ولن يُجدينا شيئًا قطُّ أن يطنُّوا في آذاننا بأسماء المذاهب النقدية مجرَّدةً في الهواء، غير نابعة من المادة المقروءة نفسها.
كنت ذات مساء أسمع في الإذاعة ندوةً في النقد الأدبي عن مسرحيةٍ عربية لمؤلفٍ عربي، فسمعت الآراء تصطرع اصطراعًا عنيفًا حول «المذهب الأدبي» الذي تنتمي إليه تلك المسرحية؛ وذلك لأن نُقادنا جاءوا إلى ندوتهم الأدبية ومعهم «خانات» من مذاهب درسوها في النقد، ويريدون الآن أن يجدوا للمسرحية المذكورة «خانتها» المُلائمة لها، أو أن تأخذهم الحيرة ويدبَّ بينهم الخلاف! إن أحدهم ليستشهد ﺑ «إبسن»، والآخر يستشهد ﺑ «إليوت»، ولكن المسرحية المسكينة لا هي مما كتب «إبسن»، ولا مما كتب «إليوت»؛ إنها المسرحية الفلانية ذات المضمون الفلاني وكفى؛ فماذا لو كانت تستعصي على الانضواء تحت مقولة أدبية بعينها؟
ومن الازدواج الطبيعي بين الكتابة الأدبية والقراءة النقدية تتكوَّن عدة صور؛ فأحيانًا يوجدان معًا في عصرٍ واحد، وذلك حين يكون إلى جانب الأديب الكبير قارئٌ كبير، وأحيانًا أخرى يوجد الأديب ثم لا يكون بين مُعاصريه من يرقى إلى مستواه فهمًا وتحليلًا وحسن تقدير، وعندئذٍ يكون أدب ولا يكون نقد، وأحيانًا ثالثة يوجد القارئ الممتاز، لكن لا يجد من أدباء عصره من يحقِّق له المستوى الرفيع الذي تتطلبه قدرته على القراءة المُستنيرة المُنيرة معًا، وهنا يكون نقد ولا يكون أدب، ويغلب في هذه الحالة أن يرتدَّ هذا القارئ إلى العصور السالفة يختار من موروثها الأدبي ما يُلائمه، وأحيانًا رابعة يختلف الأديب المُجيد والقارئ المُجيد معًا، وعندئذٍ فلا أدب ولا نقد.
فلو جاز لي أن أعمِّم القول في تاريخنا الأدبي خلال نصف القرن الأخير، لقلت إن قُراءنا الكبار — وأعني النُّقاد — لم يجدوا أول الأمر كثيرًا مما يُكتَب مُتكافئًا مع قدرتهم النقدية، فارتدُّوا إلى التراث الأدبي في الشرق وفي الغرب معًا، كما حدث — مثلًا — عندما «قرأ» العقاد ابن الرومي، وعندما «قرأ» طه حسين المتنبي وأبا العلاء. نعم، كان مع نُقادنا من يشغلهم من الأدباء، كما شغل شوقي ناقدَينا العقاد وطه، لكنهما في الأعم الأغلب حسبا الطاقة النقدية على أدبٍ عربي قديم أو أدبٍ غربي قديم أو حديث، وسواء كان الأدب المنقود عندئذٍ قديمًا أو معاصرًا، فقد كان دائمًا «قراءةً» فاهمةً مُستأنية.
تلك كانت حالنا أول الأمر، ثم تبدَّلت؛ فقد أخذ الأدب الأصيل يكثر ويغزر، وكان ينبغي أن يجد له القارئ الأصيل، لكنه — وا أسفاه — لا يجد إلى جانبه إلا من يرطن له رطانة المذاهب والمبادئ، فلا العُراة وجدوا من يكسوهم، ولا الأثواب المعروضة قُدَّت على قد العراة!
إنه من قلب الأوضاع أن يضع الناقد نفسه موضع الرقيب الهادئ، يُراقب سير الأديب ويهديه؛ لأن للأديب أسبقيةً منطقية وفعلية على الناقد؛ فهو بالتالي أسبق من رقابة الناقد وهدايته، ولو أراد الناقد أن يلتزم مكانه الصحيح، لجاء في عقب الأديب، يقرؤه ويفهمه ويحلِّله ويشرحه، وإلا فأين تكون الرقابة والهداية إذا نحن اتَّجهنا بالنقد إلى أدباء الماضي مثلًا؟ هل كان طه حسين يُراقب المتنبي ليهديه سواء السبيل؟ هل كان العقاد يعلِّم ابن الرومي كيف ينبغي له أن ينظم الشعر؟ ولا اختلاف في الجوهر بين أن يكون الأدب المنقود ماضيًا أو حاضرًا؛ ففي كلتا الحالين لا رقابة هناك ولا هداية، بل هنالك قراءة تستحسن المقروء أو تستقبحه.
إن النقد الأدبي — بحكم منطوق هذه العبارة نفسها — ينصبُّ على «الأدب» لا على «الأديب»، والأدب لا يهتدي ولا يضل، إنما الذي يضل أو يهتدي هو الأديب، والأديب ليس من شأن الناقد؛ لسببٍ بسيط، وهو أن الأديب «إنسان» من لحم ودم، على حين أن بضاعة الناقد مادةٌ مقروءة سُطرت له في كتاب، لكن نُقادنا المُحدَثين يريدون أن يُمسكوا للأدباء بعصا التأديب، ويتركوا بضاعتهم الأدبية.
نعم، كان لدينا نقدٌ أصيل حين لم يكن عندنا من الأدب الأصيل إلا قليل، فلما أن جاءنا الأدب الأصيل قليلًا قليلًا، زال عنا النقد السليم قليلًا قليلًا، وذلك هو موضع العَجب والتساؤل.