أدب الناشئين
تدور الأحاديث في دوائرنا الثقافية منذ سنوات عن الأديب الناشئ كيف نُشجعه، ولقد بُذلت بالفعل جهودٌ مذكورة ومشكورة في هذا السبيل لما انطوت عليه من حسن النوايا، وليس لما حقَّقته من طيب النتائج، ولي في الموضوع رأيٌ أعرضه، وهو أنني لا أتصوَّر لتشجيع الأديب الناشئ طريقًا سديدًا سوى أن ننسى أنه ناشئ؛ لأنه إذا كان يعوق الناشئين عائقٌ دون الظهور بما يستحقُّه نتاجهم الأدبي، فذلك أننا — أفرادًا وهيئات، بصفاتنا الأهلية أو بصفاتنا الرسمية — نضع في اعتبارنا أنهم ناشئون.
أكبر عون نُسديه إلى الأدباء الناشئين هو أن ننظر إلى حقيقة أعمالهم الأدبية، بعد أن نعصب أعيننا بغطاءٍ كثيف، حتى لا نقرأ الأسماء، فلا ندري ونحن أمام تلك الأعمال، أهي للناشئين أم هي للناضجين، وعندئذٍ قد نرى من الأمر عَجبًا، حين ينكشف عن الأعين غطاؤها؛ إذ قد يتبيَّن أن من بين أصحاب المواهب الناشئة من سبق الزمن بنضجه الباكر، كما قد نتبيَّن أن من «الكبار» من يحيا على رصيد ماضيه.
إنه كثيرًا ما يحدُث أن يكون أول كتاب للكاتب هو أجود ما كتب، فكأنما يبدأ حياته الأدبية بعد ذلك نزولًا من تلك الذروة إلى السفوح، ولذلك علته، وهي أن أول كتاب هو في حقيقته حصيلة خبرات أخذت خلال أعوام الصبا والمراهقة وأوائل الشباب تفرُز وتتكاثر، حتى تفجَّرت في ذلك الكتاب الأول، ومن هذه الزاوية لا يكون «الناشئ» أحيانًا هو الإنسان الذي يبدأ طريقه من أسفل الدرج مُتجهًا إلى صعود، بل قد يكون في حقيقة أمره في أعلى الدرج؛ لتجيء حياته الأدبية بعد ذلك هبوطًا، وفي مثل هذه الحالة قد يرُوعنا صاحب الكتاب الأول بأكثر مما يروعنا صاحب الكتاب الأخير، على شرط أن نفحص الكتابين ونحن لا ندري أيهما لأيهما. وأما إذا أقبلنا على الكتابين ومِلءُ رءوسنا الفكرة بأن هذا «ناشئ» وذلك ناضجٌ كبير، وأن الأول يحتاج منا إلى رعايةٍ حانية تُناسب بنيته الضعيفة، وأما الثاني فمن حقه علينا أن نحني له الرءوس احترامًا، حتى قبل أن نُدير عن كتابه الغلاف، فالغَبن في هذه الحالة إنما يقع على الناشئ، والغنيمة كلها لأخيه الكبير! أفلسنا على حق — إذن — حين نقول إن أكبر عون نُسديه إلى الناشئين هو أن ننسى أنهم ناشئون؟
بأي ميزان يُقبِل القارئ على كتابٍ يُعرَض في الأسواق على أنه لأديبٍ ناشئ؟ أليس الشعور الأغلب عندئذٍ هو الشعور الذي ينتاب سائق سيارة حين يرى على سيارةٍ أخرى تسبقه أو تُجاوره علامةً تُنبئ بأن سائقها «يتعلَّم» القيادة، فعلى الناس أن يتذرَّعوا بالخوف والحذر؟ إنني أتمنَّى أن تُجري وزارة الثقافة إحصاءً لما قد نُشر تشجيعًا للناشئين، كيف استقبلته سوق البيع والشراء؟ وأريد أن أضع خطًّا تحت كلمة «سوق» حتى لا نخلط بين حالتين؛ حالة ينفد فيها كتاب لأن القُراء أقبلوا على شرائه لقيمته، وحالةٍ أخرى ينفد فيها كتابٌ آخر لأن المكتبات الرسمية — في المدارس والمعاهد وغيرها — قد ملأت به رفوفها، وإنه لخلطٌ وقع فيه كثيرون قبل ذلك، حتى من كبار كبارنا، حتى كانت تُشترى من كتبهم للمدارس أو لغيرها عشرات الألوف، فسرعان ما يتوهَّمون أن الكتب قد ذهبت من الأسواق وأعيد طبعها لقيمتها الذاتية، وينسون ساعتها ما كان لأسمائهم الضخمة من قوة ونفاذ.
لقد ذكرت الآن لتوِّي، بعد أن كتبت هذا السطر الأخير، شيئًا كِدت أنساه، فذكرت مقالًا كتبته منذ أكثر من عشرين عامًا، وكان عنوانه «شيوخ الأدب وشبابه»، وكان ذلك بمناسبة صدور كتاب للمرحوم أنور المعداوي، وهو كتاب «نماذج فنية من الأدب والنقد» — وأظنُّه كان كتابه الأول — فقمت لأسترجع ما كنت كتبته في ذلك المقال؛ لعل له صلة بما أنا في سبيله اليوم، وإذا بي أجد الفكرة مُتشابهة؛ وذلك أني أنكرت على مؤلف ذلك الكتاب أن يُفرق في الأدب بين شيوخ وشباب، وأستأذن القارئ في أن أعيد له أسطرًا مما كتبته في ذلك اليوم البعيد: «… في مصر بدعةٌ أدبية لا أعرف لها نظيرًا في الآداب الأوروبية، وهي أن يقسِّموا الأدباء إلى شيوخ وشباب، على أساس الأعمار … وكان الأمر يستقيم بين أيدينا، لو فهمنا الشباب والشيخوخة في الأدب بمعنًى آخر! فشيوخ الأدب هم من ساروا على نهجٍ معيَّن في فهمهم للأدب وفي معيارهم للإبداع الفني، حين يكون ذلك النهج قد استقرَّت به القواعد منذ حين، ولا فرق عندئذٍ فيمن ينهج هذا النهج بين من تقدَّمت بهم السن أو تأخَّرت، فكلهم «شيوخ» في الأدب لأنهم يُلاحقون الزمن من قفاه، ويتأثَّرون السلف في الأهداف والوسائل، وشباب الأدب هم من خلقوا مدرسةً جديدة يُناهضون بها النهج القديم السائد، ولا فرق عندئذٍ بين من تقدَّمت بهم السن أو تأخَّرت، فكلهم «شباب» في الأدب لأنهم نباتٌ جديد تتفتَّح أكمامه للشمس والهواء. إن أدباء الابتداع في الأدب الإنجليزي في أول القرن التاسع عشر — مثلًا — كانوا في مجرى الأدب شبابًا نضرًا تتفجَّر الحياة الجديدة من سطورهم، ولسنا نسأل بعد ذلك كم كان عمر «وردزورث» حينئذٍ، أو عمر «كولردج»، فليكن عمره ما يكون في حساب السنين، لكنه «شابٌّ» في خلقه وإنتاجه.» إلى آخر ما جاء في ذلك المقال القديم.
نعم، لقد كانت التفرقة يومها بين شيوخ الأدب وشبابه، ثم أصبحت التفرقة في يومنا بين «الناشئين» ومن لست أدري بماذا يُسمونهم، لكن المحصِّلة مُتقاربة — إن لم تكن مُتطابقة — في الحالتين؛ فالمعقول إنما يكون على مضمون النتاج الأدبي وجودته، بغضِّ النظر عن درجات السُّلم وأين يكون منها صاحب الكتاب، ولا تتوافر لنا هذه النظرة «المضمونية» الموضوعية، إلا إذا أغمضنا الأعين عن أسماء الكاتبين، ونسينا أين يقع الناشئ وأين يقف من عداه.
إن كلامًا كهذا لا يُقال بالطبع للناشر في القطاع الخاص؛ لأنه تاجر ينشُد الربح قبل أن ينشُد أي شيء آخر، وجزءٌ كبير من هذا الربح يضمنه له صاحب الاسم المعروف، لكنه كلام نقوله مُحقِّين إلى الهيئات الرسمية التي جعلت مهمتها أن تتلافى سيئات التجارة الهادفة إلى الكسب دون سواه، بأن تتولَّى نشر ما لا يستطيع القطاع الخاص أن يتصدَّى لنشره، سواء كان ذلك لأن المؤلف ناشئٌ يأباه الناشر الخاص، أو لأن المؤلف ناضج لكن كتابته أثقل من معدة الناشر الخاص؛ ففي هذه الحالة تبطل مشروعية السؤال: كيف نُشجع الناشئين؟ لأننا سنجد بين أيدينا صنفين من الكتب سُدَّت أمامهما أبواب السوق، أحدهما للناشئين لأنهم ناشئون، والثاني للناضجين لأنهم بالغوا في درجة النضج، وفي كلتا الحالتين يكون مدار الاختيار هو الجودة وحدها، دون أن نقرع النواقيس في آذان القُراء، مؤذِنين بأن هذا الكتاب لناشئ وذاك لناضج، فلا تبقى بين شفاهنا إلا كلمةٌ واحدة نقولها للقُراء كلما أصدرنا لهم كتابًا بأموال الدولة، وهي: هذا كتابٌ جيد استحقَّ أن تُنفَق فيه الأموال، وأن يُبذَل فيه العطاء.
إنك إذا قدمت إلى الناس كتابًا بقولك عنه إنه «ناشئ»، فقد قضيت على الكاتب والكتاب، وأظنه كان «جون رسكن» الذي قال عن نفسه — وهو بصدد الحديث عن قراءة الكتب — إنه لا يقرأ الكتب إذا عرف أنها لناشئين؛ إذ فيمَ المضيعة للجهد والمكتبة مليئةٌ بما خلَّفه لنا سادة الكلام من أعلام الأدب؟ فإن لم يكن كاتب الكتاب أحكم منك — هكذا أذكر قول رسكن — فلا حاجة بك إلى قراءته. إنك تقرأ الكتب التي تقول عما ورد منها: ما أغرب هذا الذي أقرأ! إن فكرة كهذه لم تطُف لي من قبلُ في بال، لكني أراها فكرةً صحيحة، وإن لم أرَها صحيحةً اليوم، فأرجو أن أراها كذلك بعد حين. فاذهب إلى الكاتب — إذن — لتأخذ عنه فكرته، لا لتجد عنده فكرتك، فهل تراني بعد هذا كله ذاهبًا إلى كاتبٍ يُقال لي عنه مسبقًا إنه «ناشئ»؟ كلا، بل قدِّم لي الكتاب الذي يُغْريني بالقراءة لعلِّي أجد فيه رجلًا أعلم مني وأحكم، وربما كان بين الناشئين من هو أعلم وأحكم وأنفذ بصرًا وأصدق بصيرة، فناشدتك اللهَ لا تُضيع عليه منزلته الأدبية الرفيعة هذه بأن تُعلق على جبينه لافتةً تصرخ في الناس بأنه من «الناشئين».