أهي نكسةٌ ثقافية؟
مائة وسبعون عامًا مضت منذ انفتحت أبوابنا على حضارة العصر، وذلك بعد أن لبثت تلك الأبواب مُغلَقة دون تلك الحضارة ثلاثة قرون، كانت هي العصور المُظلِمة من تاريخنا، فما انفكَّت مصر طوال تاريخها المديد، تُدير وجهها إلى بحرها الأبيض مُرسِلةً بصرها عبر ذلك البحر إلى ما وراءه، لكنها استدبرته خلال تلك القرون الثلاثة المُعتِمة الراكدة، فلم تكن تدري عندئذٍ ماذا يحدث خلف البحر من أحداث. أقول إن مائة وسبعين عامًا قد انقضت منذ انفتحت أبوابنا على حياة العصر الجديد، فهل يجوز عند العقل بعد هذه المسيرة الطويلة أن يسأل سائل منا: هل نُبقي على الأبواب مفتوحة أو نُوصِدها؟ إنها إذا لم تكن نكسةً ثقافية تُصيبنا، فإن السؤال المشروع الوحيد ليس هو: هل؟ بل: كيف؟ فالأخذ عن مصادر الحياة الجديدة محتوم، ولكنا نسأل: كيف يكون؟
إننا خلال المائة والسبعين عامًا الماضية لم نقف يومًا لنسأل: هل نستقي الحضارة من مَعينها أو نترك حلوقنا لجفاف الظمأ، اللهم إلا نثارات بشرية حقدت على التقدم لأنها تخلَّفت، وأما التيار العام في تدفُّقه المُطرد، فلا يعرف أصحابه سؤالًا إلا أن يكون هذا السؤال: ماذا تنبغي إضافته من تراثنا إلى ذلك الشراب؟
جلس الطهطاوي مع تلاميذه في مدرسة الألسن يُترجمون عن النتاج الأوروبي، لا يسأل أحدهم: هل نمضي على الطريق؟ وجاء أعلام فكرنا الحديث ليُطالعوا صفحات الفكر الأوروبي، يقبلونه أو يتمرَّدون عليه، لكنهم يُطالعونه، وإلا فكيف كان يُتاح لهم المعارَضة إذا لم يفتحوا عقولهم له أولًا قبل أن يقعوا فيه على مواضع الرفض ومواضع القبول؟ وهكذا سِرنا جميعًا على غِرار ما صنعه الأئمة الأولون؛ نفتح أعيننا ونُرهِف آذاننا لنرى ونسمع ما يكتبه رجال الفكر الجديد عبر البحر. ولقد اختلف المثقَّفون منا أشدَّ اختلاف حول الثقافة الوافدة إليهم من هناك، لكن قلَّما بلغ الخلاف بينهم حد السؤال: هل نمضي على الطريق أو نكفُّ عن السير؟ لأن معظم الخلاف بينهم قد دار حول ما تجب إضافته ومزجه ليصبح الشراب شرابنا.
وجاءت ثورة يوليو سنة ١٩٥٢م داعيةً في أصرح صراحة إلى فتح الأبواب كلها على مصاريعها لتهبَّ رياح الفكر علينا من جهات الدنيا الأربع، على أن ننقد ونمحص ونُعدل ونُلائم حتى تتشكَّل الثقافة الوافدة تشكيلًا يتفق مع ما تُسيغه نفوسنا بما تتميز به هذه النفوس من خصائص، وهل في مقدور إنسان على وجه الأرض أن يكون سواه؟! إنك حتى إذا أردت عامدًا أن تجعل نفسك أحدًا سواها، فلن تستطيع ذلك إلا بعد عراك باطني هو أعنف عراك يتصدى له إنسان، فلست أدري فيمَ خوف الخائفين.
لنذكُر دائمًا حقيقةً هامة في هذا المجال، وواضحةً غاية الوضوح لمن يتدبر الأمور ولا يتعجَّل الأحكام، وهي أن «العصر» هو «أهله»، ليس هناك عصر في ناحية وناس في ناحية، بل هؤلاء الناس هم أنفسهم عصرنا الذي نتحدَّث عنه؛ وبهذا لا يبقى أمام المتردِّدين سوى أن يسألوا: هل نعيش مع الناس أم نُعزَل وحدنا في ركن نتقوقع فيه من أركان التاريخ، فيصبح الخبر عنا كالخبر تستمدُّه من أحجار أثر قديم؟
غير أن العصر وإن يكن مُتجسدًا في أبنائه، فهؤلاء الأبناء — برغم اشتراكهم في عصرٍ واحد — يختلفون في ملامحهم الثقافية الإقليمية، فليس الإنجليزي كالفرنسي، وليس الأمريكي كالروسي، ولا الألماني كالياباني، لكن هؤلاء جميعًا شعوب في مواضع الريادة والقيادة من عصرنا، لم تمنع سماتهم المُتباينة أن يتشابهوا في تجسيد الحضارة القائمة، فماذا — إذن — يشكِّك العربي اليوم في إمكان أن يجمع بين عروبته وعصريته في آنٍ معًا؟ ولست أريد هذا الجمع بمجرد اللفظ نقوله، ولكني أردته بالفعل والسلوك ووجهة النظر. إنني كثيرًا ما أسمع الأحاديث أو أقرأ المقالات، يقولها ويكتبها رجالٌ هم من أفضل رجالنا وأخلصهم نية، لكنني — مع ذلك — لا يسعني إلا العَجب، ماذا يريدنا هؤلاء الأفاضل أن نصنع لنُعجبهم؟ فهذا مُتحدث — مثلًا — يُدير حديثه حول إفلاس الحضارة العصرية كلها، فهل كان هذا المُتحدث يعبِّر للناس صادقًا عن خبرته الحية في ذلك؟ هل اضطرَّ إلى السفر فامتنع عن ركوب الطيارة أو السيارة أو القطار لبُطلان هذه الوسائل وكذبها؟ هل اضطرَّ إلى إجراء تحليلات طبية واستخراج صور بالأشعة السينية عن أجزاء جوفه فأبى على نفسه الخضوع لهذه العمليات الحضارية الجديدة لأنها باطلة وكاذبة؟ هل يُطالبنا بالامتناع عن مشاركة الدول في هيئة الأمم المتحدة لأنها وليدة الفكر الجديد؟ هل عرض على ابنه أو أخيه أو أحد من ذوي قرباه بأن يُسافر إلى بلاد الحضارة الجديدة دارسًا، فنصحه ألا يستجيب لئلا يتعرض لمصادر البُطلان والكذب؟ إنني أودُّ مُخلِصًا أن أعرف ماذا يصنع هذا المُتحدث في حياته الشخصية بناءً على اعتقاده بأن حضارة العصر كاذبة وباطلة، أم أن الأمر كله عنده كلام في كلام.
ولقد تسمع من يقول: نأخذ من هؤلاء الناس علومهم وتقنياتهم، ولا نأخذ الثقافة، وهي تفرقةٌ ظاهرية تضرُّنا أكثر مما تُفيدنا؛ فهي إذ تُبلبل أفكارنا لا توضِّح لنا سبيل تطبيقها كيف يكون، فهل يتصور هؤلاء القائلون جهازًا علميًّا لا تصحبه عاداتٌ جديدة وأسلوب من العيش جديد؟ أيظنُّون أن الأجهزة العلمية قِطع من حديد نستخدمها «من الظاهر» دون أن تمسَّ نفوسنا فتحوِّلها من الأعماق؟ خذ مثلًا بسيطًا جهاز التليفزيون! هل تراه في دارك صندوقًا أخرس لا شأن لثقافتك به، بحيث تقول إنني «أستورد» الجهاز العلمي ولا «أستورد» الثقافة؟ ألا تراه قد اقتضى أدبًا جديدًا وفنونًا جديدة تُلائمه؟ ألا تراه قد أرغمك إرغامًا على طريقةٍ جديدة في تمضية أوقات الفراغ؟ ألا تراه ذا أثر عميق في التسوية بين الناس في ضروب المتعة التي يملئون بها ذلك الفراغ بعد أن كان للأغنياء ضروب في ذلك وللفقراء ضروب؟ ألا تراه أقوى أداة في صياغة الرأي عند عامة الناس بإزاء مشكلات تقع من حياتهم في الصميم؟ فهل بعد هذا كله يصحُّ القول بأن استيراد الجهاز العلمي جائز، وأما استيراد الثقافة فمرفوض؟ وما قلناه عن التليفزيون يُقال مِثله على كل جهاز علمي آخر، من راديو الترانزستور إلى مصانع الحديد والصلب، تأتي الثقافة الجديدة والقيم وطرائق العيش الجديدة مُدمَجة في أسلاك تلك الأجهزة ومساميرها، ولا بد أن يكون لحديثنا عن هذا الأمر الخطير عودة.