أسلوب الكاتب
الأسلوب الأدبي كالسعادة، لا يكاد يُخطئها أحد إذا صادَفها في إنسانٍ سعيد، ولا يُحجم أحد عن وصفها وتمييز خصائصها حسب رأيه فيها، لكن قلَّما اتَّفق اثنان في تحديد طبيعتها ومقوِّماتها؛ فأنت إذ تقرأ لكاتبٍ ذي أسلوب، لا تتردد لحظةً في إدراك هذه الحقيقة فيه، لكن من ذا يستطيع أن يقطع بماذا عساها أن تكون تلك الخصائص التي إذا توافرت في حديث أو في كتابة جعلتها ذات أسلوب، وإذا امتنعت امتنع الأسلوب؟
لكنني مع ذلك سأستبيح لنفسي القول فيما لا سبيل إلى اتفاق الناس في حقيقته وطبيعته، فأقول في عبارةٍ واضحةٍ قريبة إلى الأفهام، إن أسلوب الكاتب صاحب الأسلوب هو صورته مرسومةً في أحرف وكلمات، فقل ما شئت في العوامل الاجتماعية التي تميل بالأفراد نحو التشابه ما داموا أفرادًا في جماعةٍ واحدة، إلا أن الإنسان الفرد مدفوع بفطرته أن يلتمس لنفسه مَخرجًا من ذلك التشابه الذي يسوِّي بينه وبين سواه، ليحتفظ لنفسه بفرديةٍ خاصة لا يُشاركه فيها فردٌ آخر؛ فقد يغيِّر من طعامه، وقد يغيِّر من ثيابه، وقد يغيِّر من أثاث بيته؛ لتكون هذه الأشياء كلها متميزةً عنده منها عند سواه، لعل فرديته أن تظهر وتبرز، لكنه قد يعجز عن التفرد في الطعام وفي الثياب وفي الأثاث، فيبقى بين يدَيه ملاذٌ أخير يلجأ إليه ليحقِّق الفردية المنشودة، ألا وهو طريقته في استعمال الكلمات، كلامًا إذا تكلَّم أو كتابةً إذا كتب.
ذلك أن الإنسان في العادة يودُّ أن يستعمل محصوله اللغوي بطريقةٍ خاصة به؛ ومن ثَم تنشأ «اللوازم» في طرائق الحديث، والْحظْ من شئت من الناس، تجده إن تشابَه مع سواه في الكثرة الغالبة من ألفاظه وعباراته، فهو حريصٌ كل الحرص — عن وعي منه أو عن غير وعي — أن تكون له «لوازمه» الخاصة الفريدة، فيكرِّر كلمة بعينها، أو يستخدم عبارة بذاتها، حتى لتصبح علامةً دالة عليه.
وإذا كان هذا هكذا في الرجل من عامة الناس، وفي الحديث أو الكتابة من عامة الحديث والكتابة، فهو هكذا على وجهٍ أخص عندما يكون الرجل كاتبًا أديبًا، وعندما تكون الكتابة أدبًا وفنًّا، فما صاحب الأسلوب إلا أديبٌ يصوغ عباراته على نحوٍ يتفرَّد به، حتى لكأنَّه جزء من سماته وملامحه، تستطيع أن تعرفه به كما تعرفه بقسَمات وجهه، فإذا أردت أن تعرف إن كانت الكتابة التي أمامك ذات أسلوب أم هي كتابة بغير أسلوب، فاسأل نفسك: هل يجري الكلام على نحوٍ خاص يختلف قليلًا أو كثيرًا عن مألوف جريانه عن ألسنة الآخرين؟ فإن كان كذلك كنت إزاء «أسلوب»، وإلا فلا أسلوب هناك، وقد يكون الأسلوب بعد ذلك أسلوبًا جيدًا أو أسلوبًا رديئًا.
وكلما ازداد الأديب سموقًا في فنه الأدبي، ازداد أسلوبه دلالةً على ذات نفسه، فمن أسلوبه تستطيع أن تعرف أي رجل هو؟ ولا عَجب، فليس الأسلوب أمرًا ظاهرًا كالثياب مثلًا، بل أسلوب الكاتب هو منه اللحم والعظم والدم، هو السريرة والضمير، أسلوب الكاتب هو الكاتب نفسه فكرًا وخلقًا وشخصية وجوهرًا وكيانًا.
وحسبُك أن تنظر في الكلمة نفسها، كلمة «أسلوب»، كيف جاءت لتُدرك صِدق ما نزعم للأسلوب بالنسبة إلى نفس صاحبه؛ فالسلب — كما هو معروف — هو الأخذ أو الانتزاع، والإنسان مسلوب إذا كان منزوع الملكية من شيءٍ كان يملكه، والأسلاب هي الأشياء التي قد قشرت عن أصحابها، ويُقال انسلبت الناقة إذا أسرعت في سيرها، حتى كأنها خرجت من جلدها وانطلقت مع الريح. ومعذرةً إلى القارئ؛ فليس من عادتي أن أستطرد في أمثال هذه المعارف القاموسية، لكني بسطتها ها هنا ليرى القارئ ما أراه من أن الكاتب يكون ذا «أسلوب» إذا «سلب» قطعة من ذات نفسه هو، ووضعها على الورق أمام أبصار الناس، كأنما أخرج فؤاده من إهابه وعرضه على الملأ.
ولك على ضوء ما ذكرناه أن تقرأ أدباءنا أصحاب الأساليب؛ لترى هل تستطيع حقًّا أن تتبيَّن الرجل في أسلوبه؟ ها هو ذا العقَّاد الإنسان، وهذه هي كتابته، فافرض أنك لم تُقابل العقاد، ولم تتحدث إليه، ولم تعلم من أمر حياته الشخصية قليلًا ولا كثيرًا، فماذا تُراك مُستدلًّا من كتابته عن حقيقته وطبيعته؟ لا تتصنَّع القول ولا تفتعله، بل كوِّن أحكامك لنفسك — وهذه نصيحةٌ أسوقها لك عابرةً في حياتك الأدبية كلها — فماذا ترى؟ أليست هي كتابة فيها الجد والصرامة؟ وهكذا العقاد الإنسان، فهو رجلٌ صارمٌ جاد. أليست هي كتابةً مستقيمة لا خلل فيها، ولا خطأ، ولا هلهلة، ولا تفكك، ولا تحلل؟ وهكذا العقاد الإنسان، فهو رجلٌ يسير على الجادَّة المستقيمة لا يسهل إغراؤه لينحرف هنا أو هناك. أليست هي كتابة لم يُرِد صاحبها أن يسرِّي عن القارئ همومَه، وأن يستجلب لعينَيه النعاس، بل أراد أن ينبِّهه ويطرد عنه النوم؟ وهكذا العقاد الإنسان، إنه لا يتزلَّف القارئ ولا يُمالئه، ولا يكتب له ما «يسلِّيه»، بل هو يتحدَّاه وهو يعلِّمه، وهو يُوقظه وهو يُقلقه ويؤرقه، ثم ألست تشعر من كتابته أنها كتابة رجل عزوف صلب عنيد؟ وهكذا العقاد الإنسان.
هذا مثالٌ واحدٌ سريع، أردت به التوضيح لأنتهي بالقارئ إلى توكيد الفكرة التي بدأت بها، وهي أنه لا يكون الأديب أديبًا إلا إذا تفرَّد بطريقة التعبير، ثم لا تكون العبارة ذات أسلوب معبِّر إلا إذ جاءت صورة لصاحبها سالت على الصفحات مدادًا في جمل وكلمات.