ريادة الأدب
فُكاهةٌ تُروى عن زوجةٍ لا تدري هل يؤكَل الأدب أو يُشرَب، شاء لها حظُّها الأنكد أن تتزوَّج من أديبٍ قصَّاص، فكان صاحبنا يوصِد من دونه غرفة مكتبه ساعاتٍ من كل يوم، وأيامًا من كل أسبوع، قد يأكل طعامه في حينه، وقد يفوته أوان الطعام فلا يُحسُّ أن شيئًا من مهامِّ الحياة قد فات أوانه، وكلما سألت الزوجة الحيرانة زوجها: ماذا يصنع؟ أجابها بأنه يكتب قصة. وضاقت الزوجة بزوجها ذات يوم، فانفجرت في وجهه صارخةً: فيمَ هذا العناء كله يا أخي، وأنت تستطيع بعشرة قروش أن تشتري ما شئت من قصص؟
هي نكتةٌ تُروى عن هذه الزوجة الساذجة مع زوجها الأديب، لكن في هذه السذاجة البريئة لمحةً من الحق! فلماذا يكتب الأديب قصة، أو ينظم الشاعر قصيدة، إذا كانت بضاعته مما يملأ السوق بثمنٍ زهيد؟ إنه إذا لم يكن للأديب رسالةٌ جديدة، فيا ضَيعةَ ساعاته التي أنفقها في سجنه الأدبي مُحتجبًا عن أسرته!
أتقول بأن للأديب رسالةً ينقلها إلى الناس بأدبه؟ نعم هو ذاك، لكن الأمر يريد شرحًا وتحديدًا، فمن قلبِ الأوضاع أن نُطالب الأديب بمشاركة المجتمع الذي يعيش فيه مشاركةً تدعوه إلى متابعته وتصويره؛ إذ إنه لو فعل لما كان لوجوده من داعٍ يوجبه، فالمجتمع قائم على حاله سواءٌ وُجد فيه الأديب أم لم يوجَد، ولا عَجب — إن كانت هذه هي مهمة الأديب — أن يسأل السائلون: ما جدوى هؤلاء الأدباء في حياتنا وهم لا يصنعون شيئًا ولا يُنتجون شيئًا؟ لكن لا. إن الأديب الحق يهدي ولا يهتدي، ويقود ولا ينقاد، ويُنير الطريق لغيره ولا يستنير.
وليست هذه ألفاظًا نرصها رصًّا على غير هدى، بل هي معانٍ نعنيها بأدق ما تؤديه من دلالة؛ فلئن كان غمار الناس يحيَون حياتهم وفق معايير معلومة رُسمت لهم بها نماذج سلوكهم وطرائق عيشهم، فالأديب منهم هو وحده الذي تُقلقه هذه المعايير؛ لأن الله خلقه من طبيعةٍ شذَّت عن مألوف الطبائع، فالْتمسَ راحة نفسه في نماذج أخرى، ثم حاوَل أن يحياها كما حاوَل أن ينفِّس عن طبيعته بالتعبير عنها، لا يعبأ بالناس من حوله، فإذا هو بقلقه هذا مما هو سائد، وباطمئنانه لقيمه التي اختارها، يُدخل القلق ثم الاطمئنان في نفوس الآخرين.
نعم، إنه قلبٌ للأوضاع أن نظنَّ — مثلًا — أن شعراء العرب كانوا يتغنَّون بما يتغنَّون به من قيم، كالنجدة والكرم والتضحية والشجاعة، لأن العرب كانوا على هذه الصفات، فجاء شعراؤهم يصفون ما يجدونه، وينفعلون لما هو قائمٌ مستقرٌّ في النفوس. أما الصواب فهو أن القوم قد عاشوا تلك القيم واتَّصفوا بتلك الصفات، بعد أن لمحها الشعراء أولًا ورأوها لأنفسهم، ثم شاعت بعدئذٍ في عامة الناس، وإلا فما إلهام المُلهَم وما عبقرية العبقري، إذا كان قُصاراه في مدى الرؤية أن يتلفَّت على قيد شبر منه، ليُبصر الناس من حوله كيف يسلكون وبماذا يحلمون، لكي يصف لهم سلوكهم ويسجِّل أحلامهم؟
إنني لا أقول بدعًا إذا قلت إن الأديب الحق يسبق الناس في رُؤاه ولا يلحقهم؛ فقد حباه الله موهبةً يُدرك بها من الحق ما ليست تُدركه عامة الناس، كأنما فتح أمام بصره ثغرةً يُطلُّ خلالها على الوجود الحق في صميمه، بينما وضع غِشاوة على أبصار الآخرين فطمسها إلا عن مسالك الحياة الجارية، فيسعَون إلى القوت والمأوى وإلى الشهرة والقوة والجاه؛ فليس من شأن عامة الناس أن تترك سُبُل معاشها لتشكَّ وتفكر، أو لتطير وتحلِّق، ولو شكَّت الشمس أو شكَّ القمر، لما اطَّرد لهما سير في فلك، وكذلك الناس في مسالك عيشهم، لكن ما هكذا يكون الأديب الحق، الذي لم يُخلَق إلا ليخرج عن فلك الحياة المألوفة المعهودة لنقصٍ فيها، فيسير في فلكٍ مِن صنعه، وما هي إلا أن ينخرط في مساره هذا سائر الناس، وهل أراد أبو تمام غير هذا المعنى حين قال:
فالشعر، والأدب بصفةٍ عامة، هو الذي يسنُّ للناس الخِلال، ويرسم أمامهم الطريق، ولا ينتظر ليُملي عليه الناس بأي الخلال يُشيد، وأيَّ طريق يرسم؛ فهو إذن ضلال وتضليل أن يدعو الداعون إلى أن تكون مهمة الأديب تصوير الواقع كما يقع؛ لأن هذا الواقع لن تزيد واقعيته ذرةً واحدة إذا وصفها الواصفون بألف قصة وألف ديوان، أما الدعوة الصحيحة فهي أن يلتمس الأدباء قيمًا جديدة وهم يُحسُّون قبل سواهم ضرورتها لحياتنا، فيبعثون بها شعرًا، أو يرسمونها في قصصهم حياةً منظورةً مسموعة.
لكن الشاعر أو القصَّاص — وهو يلتمس الطريق إلى قيمٍ جديدة — لا يبتغي إلا أن يعبِّر عن قلقه هو، وعن نشوته هو؛ فهو يُنشئ فنَّه ليعيش فيه فرارًا من واقعٍ قائم، إن يكن قد لاءم طبائع الناس فهو لا يُلائم طبيعته، وهل منا من يجهل ما قد عُرِف عن رجال الفن من انعزالية وشذوذ عن مألوف الجماعة؟ لكنها انعزاليةٌ سرعان ما ترتدُّ أصداؤها إلى المجتمع الذي اعتزلوه، وشذوذ لا يلبث أن يعود إلى المجتمع نموذجًا يُحتذى، فهكذا كان الأنبياء وكان القدِّيسون وكان المُلهَمون جميعًا، يعتزلون لتمتلئ أنفسهم بالجديد، ثم يعودون ليصبُّوا هذا الجديد في أسماع الناس. وهكذا يخلق الموهوبون لذويهم ولمن يجيء بعدهم معاييرَ سلوكهم، فلا العلماء يخلقون تلك المعايير لأنها ليست من شأنهم، ولا الساسة يخلقونها لأن السياسة تسوس أمور الواقع وتفضُّ مشكلاته، أما الفن فهو وحده الذي يجعل تلك المعايير شغله الشاغل، يغيِّرها بما يتفق مع ما يُحسُّه الفنَّان أولًا، ثم يُحسُّه من بعده الناس جميعًا، لكن ربَّة الشعر امرأة، وهي كبقية النساء لا يطيب لها — بل لا ينبغي لها — أن تُفصح عن مُرادها إلا بالمُراوغة والمُداورة، فها هنا يكون الخط المُنحني هو أقصر الطُّرق بين نقطتين، وعلى هذا النحو تكون طريقة الشاعر في تبليغ رسالته: يرسم لتلك الرسالة صورةً من بعيد، حتى ليُخيَّل إلى الرائي عند النظرة الأولى أنْ لا علاقة بين الأصل وصورته، إلا ما يُحسُّه من إيحاءٍ خافتٍ أولًا، يظلُّ يزداد معه شدة، حتى ينتهي به الأمر إلى رؤية الحق كله في هذه الصورة الماثلة أمام بصره. ولعل شعراء الصوفية من أبرع من استطاعوا الوصول إلى تلك الغاية عن هذا الطريق، والصوفي والشاعر صِنوان في طريقة الإدراك؛ كلاهما يرى الحق ببصيرته، لا ببصره، ويرسمه صورًا مُوحية، لا واقعًا مشهودًا بالعين ملموسًا بالأيدي.
إن الحياة إذا كان تيَّارها مُتدفقًا مُتجددًا، فلا تكون مقاييس غدها هي مقاييس يومها، ولا أقول مقاييس أمسها، والأدب إذا أراد لنفسه مكان الريادة والقيادة في حياة كهذه، اتَّجهت دعوته إلى ضرورات الغد وقيمه ومعاييره.
وعقيدتي هي أن أدباءنا في جملتهم قد قصَّروا دون هذه الغاية تقصيرًا شديدًا مَعيبًا، وليتفضَّلْ من شاء أن يذكُر لي من هو الأديب — بين أدباء هذا الجيل — الذي سبق حياتنا بحياته، وأحلامنا بأحلامه، من هو؟ وفي أي كتاب أو قصة أو قصيدة قد أبرز قيمةً جديدة وجدها في نفسه الثائرة، فآمن بها، فأفصح عنها، وإذا الناس من بعده يؤمنون؟ أقول «مَن من أدباء هذا الجيل» لأنني لا أشكُّ لحظةً في أن أدباء الجيل الماضي قد خلقوا لنا الإحساس بالحرية خلقًا لا أحسب أحدًا يُنكره عليهم.
أليس عجيبًا أن يتدارك الساسة ما قد أهمله الأدباء؛ إذ وضعوا لنا قيمًا جديدة لحياةٍ جديدة، مع أن الساسة بحكم طبيعتهم ينظرون إلى الواقع من قريب، وأما الأدباء فينظرون إليه من حالق؟
على أن القارئ يُسيء إليَّ أشد الإساءة إذا فهم من كلامي أنني أريد للأديب أن يبلِّغنا رسالة في الأخلاق أو في أوضاع الحياة الاجتماعية تبليغًا صريحًا؛ فهذا هو ما يفعله معظم أدبائنا، وهذا هو ما أُنكره عليهم، وهو هو بعينه ما سيجعلهم قِصار الأجل، ونُقادنا من ورائهم يشجِّعونهم على ذلك حثًّا لهم أن يدوروا مع عجلة الحياة حيث تدور، والصواب عندي هو أن يعكسوا الأوضاع، فيُرغموا الحياة إرغامًا على أن تنصاع لهم، فيكونوا هم الهُداة، والناس على هديهم من خلفهم سائرون ولو بعد حين.