خاتمة
إن هذا الكتاب يتحدَّث عن الاكتشافات العَرَضية في العلم. وربما أدركت أنه في كلِّ مثال من أمثلة الاكتشافات العَرَضية في هذا الكتاب، تتحوَّل المصادفات إلى اكتشافاتٍ بسبب فطنة الشخص الذي حدثت له المصادفة (بعبارة وولبُول). وفي هذه الخاتمة، سأشرح المقصودَ بالفطنة المطلوبة لحدوث الاكتشاف، وسأقترح كيفية تنميتها والتشجيع عليها.
قال باستير: «في مجال العلوم، المصادفة لا تواتي إلا العقول المستعِدة.» فما المقصود بالعقل المستعِد؟ وكيف يمكن اكتسابه؟ إنني متأكِّد أن ثمة قدرة أو مهارة فطرية لصنع الاكتشافات تكمن داخل العديد من هؤلاء الذين يستفيدون من السرنديبية من أمثال بريستلي وباستير وبيركن. والفضول هو السمة الغالبة لدى هؤلاء العلماء الثلاثة ولدى الكثير ممن حوَّلوا المصادفات إلى اكتشافات. فقد كان لديهم الفضول لفهم المصادفة التي لاحظوها.
من السمات الأخرى التي اشتركوا فيها سمة التبصُّر؛ فقد لاحظوا ظاهرة غير متوقَّعة وتنبَّهوا إليها بدلًا من أن يتجاهلوها معتبرين إياها شيئًا تافهًا أو مزعجًا. فلا شك أن العديد من الأشخاص قد لاحَظ غازًا صدر على نحو غير متوقَّع أو بلورات لها شكل غريب أو لون غامض في فضلات يتم طرحها؛ لكنهم لم يكتشفوا الأكسجين الذي يُعَدُّ العنصر الأكثر أهميةً، أو يستنبطوا تركيبًا جزيئيًّا مهمًّا جدًّا للحياة نفسها، أو يطوِّروا صبغة جميلة من قطران الفحم الأسود. ويعبِّر ألبرت سينت جيورجي عن هذا على نحوٍ بليغٍ قائلًا: «يتمثَّل الاكتشاف في رؤيةِ ما يراه الجميع، والتفكيرِ فيما لا يفكِّر فيه أحد.»
مع أن بعض الأشخاص قد يتمتعون بالفطنة والتبصُّر أكثر من غيرهم، فإنه يمكن تنمية هاتين الخصلتين والتشجيع عليهما، كما يرى رونالد إس لينوكس. ففي مقال عنوانه «التدريب من أجل الاكتشاف السرنديبي» (مجلة «جورنال أوف كيميكال إديوكيشين»، مجلد ٦٢، لعام ١٩٨٥، صفحة ٢٨٢)، عرض لينوكس عدة طرق يمكن للطلاب من خلالها الاستعداد للاستفادة من الحوادث العَرَضية. تتمثَّل الطريقةُ الأولى في تقديم تدريب على إبداء الملاحظات وتسجيلها، بما في ذلك النتائج المتوقَّعة وغير المتوقَّعة. ويقترح لينوكس أن هذا التدريب يتطلَّب من الطالِب الاحتفاظ بمذكرة بالمعمل، سيتابعها المدرب ليس فقط على أساس النقاط الصحيحة وغير الصحيحة، ولكن أيضًا على أساس المهارات الخاصة بإبداء الملاحظات وتسجيلها.
يجب تشجيع الطلاب على المرونة في التفكير والتأويل؛ فالشخص الذي يرى فقط ما هو متوقَّع ويتجاهل النتائج غير المتوقَّعة وينظر إليها على أنها خاطئة، لن يصل إلى أي اكتشافات. ومن واقع خبرتي، لديَّ مثالان جيدان يدعمان هذا المبدأ: قام أحد طلاب الدراسات العليا بتجربةٍ وذكَرَ نتيجةً كنت قد توقعتُها. وبعد فترةٍ، لم يستطِع طالب آخَر الوصولَ إلى تلك النتيجة، وبالتالي نظر إلى التجربة على أنها أُجريت على نحوٍ غير صحيح. واكتشفتُ أن الطالب الأول كان يعاني ضيقًا في الوقت وأنه ذكَرَ بالخطأ النتيجة التي قال له أستاذه إنه يتوقعها من التجربة. (لحسن الحظ، أننا لم ننشر البيانات غير الصحيحة وانتظرنا حتى تم حل المشكلة لاحقًا.) لكن في الحالة الثانية، طُلب من الطالب أن يتوقَّع نتيجةً معينة لكنه لاحَظَ شيئًا رأى أنه مختلف تمامًا وذكر على نحو صحيح ما لاحظه، فأدَّتِ النتيجةُ غير المتوقَّعة إلى مفهوم جديد تمامًا خارج نطاق البرنامج البحثي الموضوع؛ أي إلى اكتشاف جديد.
ثمة طريقة أخرى يمكن إعداد الطالِب من خلالها للاستفادة من السرنديبية، وهي الدراسة المتأنية والدقيقة في مجال البحث المختار. عبَّر عالِم الفيزياء الأمريكي جوزيف هنري عن نفس فكرة باستير عندما قال: «إن بذور الاكتشافات العظيمة تحوم حولنا باستمرار، لكنَّها تستقر فقط في العقول المستعِدة لاستقبالها.» على سبيل المثال، مع أن فليمنج لم يكن يبحث عن عامل مقاوم للبكتيريا في الوقت الذي طفَا فيه عفنٌ في طبق بتري الخاص به، فإنه كان قارئًا ومدربًا جيدًا في مجال الميكروبيولوجيا، واستطاع بسهولة فهم معنى المساحة الخالية في المزرعة البكتيرية الناتجة عن الوجود العَرَضي للعَفَن.
إنَّ بعض الاكتشافات التي وصفتُها بأنها تقع ضمن السرنديبية الوهمية، ربما لم تكن لتصبح اكتشافات إن لم يكن الشخص الذي حدثت له المصادفة يرى أنها سبيل للوصول إلى النتيجة التي يسعى إليها، مع أن هذا السبيل عَرَضي وغير متوقَّع على الإطلاق. على سبيل المثال، أدرك جوديير بسرعة أن مصادفة تسخين المطاط مع الكبريت تجعل تطويع المطاط غير متأثِّر بالحرارة أو البرودة، وهو أمر كان يسعى وراءه لعدة سنوات، وسرعان ما توصَّل إلى طريقة لاختباره. وعلى نحو مماثل، رأى نوبل في السَّكْب العَرَضي للنيتروجليسرين في الغلاف بين الصفائح المعدنية لحاوية معدنية حلًّا محتمَلًا للطبيعة الخطرة للمادة المتفجِّرة التي كان يسعى سعيًا حثيثًا وراءها. وسرعان ما تراءى له هذا الاكتشاف لأنه جرَّبَ أن يمزج السائل المتقلِّب مع مواد أخرى قبل ذلك، وعرف الكيفية التي يختبر بها هذا المزيج الذي تكوَّن بالمصادفة.
على النقيض من تلك الاكتشافات القليلة التي تقع ضمن السرنديبية الوهمية، توجد الاكتشافات الناتجة عن السرنديبية الحقيقية؛ أي المصادفات التي أدَّتْ إلى أشياءَ جديدة غير متوقَّعة تمامًا، ولم يكن يوجد سعيٌ صريح للتوصل إليها، والتي أصبحت اكتشافاتٍ بسبب فطنة الشخص الذي حدثت له المصادفة. لا أحد يمكن أن ينكر أهميةَ «وجود الشخص في المكان الصحيح وفي الوقت الصحيح»، لكن يجب أن تلاحظ جيدًا أن وولبُول في تعريفه للسرنديبية أعطى كلًّا من «المصادفة» و«الفطنة» نفسَ المكانة. فقد قال لصديقه السير هوراس مان إن الأمراء الثلاثة من سرنديب «كانوا يكتشفون، بالمصادفة والفطنة، أشياء لم يكونوا يسعون وراء اكتشافها.»
تأمَّلْ معي بعض المصادفات التي عرضتها في الكتاب والتي منها: التفاحة التي وقعت على الأرض عند قدم نيوتن، وإنتاج اليوريا على يد فولر بدلًا من سيانات الأمونيوم، واكتشاف الصبغة الأرجوانية على يد بيركن، والعثور على تماثيل أَثرية بدلًا من الماء على يد شخص إيطالي أثناء حفره بئرًا، والعثور على حجر عليه نقوش غريبة أثناء ترميم حصن في مصر على يد ضابط فرنسي، وإلقاء صبي فلسطيني صخرةً في كهف مظلم وسماعه صوتًا غير متوقَّع، وحصول باستير على بلورات ذات شكل فريد بسبب أن درجة الحرارة على إفريز النافذة كانت أقل من ٧٩ درجة مئوية، والشاشة الفلورية التي تصدر وميضًا في الظلام على نحو غير متوقَّع، والبلورات الفوسفورية التي تحمِّض فيلمًا فوتوغرافيًّا محاطًا بغطاءٍ أسود، وملاحظة مقاوَمةِ السيدة العاملة في حلب الألبان لمرض خطير من قِبَل طبيب ريفي، ووقوع عَفَن في طبق بتري مفتوح خاص بفليمنج، واكتشاف إحدى الألياف الممطوطة القوية بصورة غير معتادة على يد كيميائيين في شركة دو بونت بينما كانوا يمزحون مزاحًا ثقيلًا في المعمل، واكتشاف عدم خروج غاز من أسطوانة (حتى في حالة عدم خلوها) على يد كيميائي آخَر في شركة دو بونت، وتكوُّن البوليمرات على نحو غير متوقَّع بسبب تسرب أو تلوث في أداة البحث، والوجود العَرَضي لملوِّث في مادة بادئة لأحد الإثيرات «التاجية» الجزيئية الجديدة.
كان من الممكن أن تمر تلك المصادفات مرورًا عابرًا دون أن ينتبه إليها أحد، وأن تبقى مجرد أحداثٍ عَرَضية لا أهمية لها. لكن بدلًا من ذلك، وبفضل فطنة الأشخاص الذين صادفوها، توافر لدينا الآن تفسيرٌ للقوانين التي تتحكَّم في حركة الكواكب، وركيزة لعلم الكيمياء العضوية تستند إلى أساسٍ عقلاني، وبدأنا نفهم العلاقةَ بين التركيب الجزيئي والنشاط الفسيولوجي. كما أصبحت لدينا الآن صبغات جميلة في متناول الجميع وليس طبقة الأثرياء فقط، ومفاهيم حول ثقافة الحضارات القديمة ولغتها، وأشعة إكس ودورها في التشخيص والعلاج الطبي، وطاقة نووية ونشاط إشعاعي، وتطعيمات ضد الجُدري وأمراض أخرى، ودواءٌ سحري يتمثل في البِنسلين وما تلاه من أدوية، وأصبحنا نستخدم النايلون والبوليستر في صناعة الملابس، والتيفلون في صناعة القلَّايات وصمامات القلب، والبوليمرات الأخرى في تصنيع أكياس القمامة البلاستيكية وصناديق الثلج وعزل الرادار وحبال التزلُّج على الماء والدروع الواقية من الرَّصاص ونوافذ الطائرات. فضلًا عن الجزيئات المصنَّعة التي من المفترَض أن تحاكي العمليات الحيوية للإنزيمات الطبيعية.
هذه مجرد فوائد قليلة للسرنديبية، ودورها في الاكتشافات التي توصَّل إليها بعض الأشخاص الموهوبين بالمصادفة والفطنة البحتة وكانوا لا يسعون في الأساس وراء اكتشافها. تمَّ بعض هذه الاكتشافات منذ قرون، والبعض الآخَر تمَّ مؤخرًا. ولقد شهدت معلوماتنا في مجالات العلم والطب والتكنولوجيا نموًّا مذهلًا في القرن العشرين، ولا يمكننا تصوُّرُ التقدُّم الذي يمكن أن يحدث في المستقبل؛ كما هو الحال — على سبيل المثال — في مجال السفر عبر الفضاء بين الكواكب والتوصُّل إلى علاج للسرطان. لكن الشيء المؤكَّد أن وقوع الأحداث العَرَضية سوف يتوالى، ومع وجود العقول البشرية الأكثر استعدادًا من ذي قبل نتوقَّع أن تتحوَّل تلك «الأحداث العَرَضية» إلى «اكتشافات» مذهلة تفوق تخيُّلاتنا، والبطل في هذه القصص كلِّها هو السرنديبية.