داجير واختراع التصوير الفوتوغرافي
هل رأيتَ من قبلُ صورةً فوتوغرافية لجورج واشنطن؟ كم عدد الصور الفوتوغرافية التي رأيتَها لأبراهام لنكولن؟
تمَّتْ أول عملية تصوير فوتوغرافي ناجحة على يد إل جيه إم داجير في عام ١٨٣٨، بعد وفاة جورج واشنطن وقبل أن يصبح لنكولن رئيسًا للولايات المتحدة. وقبل هذا الاختراع، كان الناس مضطرين للاعتماد على الرسَّامين لرسم صور المشاهير.
التقط داجير أولَ صورة فوتوغرافية له باستخدام «كاميرا مظلمة»، وهي في الأساس صندوقٌ في أحد أطرافه عدسة ولوح من الزجاج المُصنفَر حيث تركَّزت في بؤرته الصورة. وقد اخترِعت تلك الكاميرا المظلمة قبل ذلك بقرون عديدة؛ فقد وصف ليوناردو دافنشي واحدةً من تلك الكاميرات قبل عام ١٥١٩، وفي عام ١٥٧٣ صحَّحَ إي دانتي الصورةَ المقلوبة بوضع مرآة خلف العدسة. وفي أيام داجير، كان الناس يستخدمون تلك الكاميرا المظلمة في تصوير الأجسام والمشاهد بوضع لوحٍ من الورق الرقيق فوق اللوح الزجاجي.
مِن أوائل مَنْ حاولوا «تثبيت» صورة تلك الكاميرا رجلٌ فرنسي آخَر يُدعَى جيه إن نيبس. استخدم نيبس مادةً تُسمَّى القار أو «بيتومين أوف جوديا»، التي ازدادت عدم قابليتها للذوبان في مذيبات معينة بعد التعرُّض للضوء، وبهذه الطريقة حصل بشكل أو بآخَر على صورة دائمة من الكاميرا المظلمة في عام ١٨٢٢ تقريبًا. وربما كانت هذه أول صورة فوتوغرافية في العالم، لكن المنتَج لم يكن مُرضيًا ولم يكن الإجراء عمليًّا. في تلك الأثناء، كان داجير يُجري تجارب على أملاح الفضة المعروفة بأنها حسَّاسة للتحلُّل بالضوء، وعندما علم بعمل نيبس، اتصل به وكوَّنَا شراكةً معًا، لكن نيبس مات بعد ذلك بفترة قصيرة (في عام ١٨٣٣) وواصل داجير العمل بمفرده، إلا أنه ارتبط بالتزام مادي مع ابن نيبس ويُدعَى إيزدور.
أعَدَّ داجير ألواحًا من النحاس المطلي بالفضة مصقولة جيدًا، وعرَّضها لبخار اليود الذي أنتج طبقة رفيعة من يوديد الفضة على السطح. وباستخدام الكاميرا المظلمة، عرَّضَ تلك الألواح للضوء؛ مما أدَّى إلى إنتاج صورة باهتة. جرَّبَ داجير عدة طرق لتكثيف شدة تلك الصورة لكن دون جدوى. وفي أحد الأيام، وضع لوحًا سبق أن تمَّ تعريضه للضوء ولم تكن به سوى صورة باهتة في خزانة تحتوي على مواد كيميائية متنوعة، وكان ينوي تنظيفه لإعادة استخدامه من جديد. وبعد عدة أيام، أخرج داجير اللوح واندهش حين رأى صورة قوية على سطحه.
كانت تلك هي المصادفة. والآن نظرًا لهذا الاكتشاف الذي جاء نتيجة «الفطنة» التي كان يتمتع بها داجير و«عقله المستعِد»، استنتج داجير أنه لا بد من أن مادة كيميائية واحدة أو أكثر في الخزانة قد كثَّفت شدة الصورة؛ لذا، كان كلَّ يوم يُخرِج مادة كيميائية من الخزانة ويضع في الخزانة لوحًا من يوديد الفضة الذي سبق أن تمَّ تعريضه للضوء. وعندما أخرج كل المواد الكيميائية، كان تكثيف شدة الصورة لا يزال يحدث! وبفحص الخزانة، وجد قطرات قليلة من الزئبق على أحد أرففها وقد انسكبت من ترمومتر مكسور؛ فاستنتج أن بخار الزئبق هو المسئول عن تكثيف شدة الصورة، وسرعان ما أثبت ذلك عن طريق التجربة، وكانت النتيجة هي الطريقة «الداجيرية» في التصوير الفوتوغرافي. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، أنتج المصورون الصورة الكامنة بوضع لوح معرَّض للضوء على كوب من الزئبق المسخَّن إلى ٧٥ درجة مئوية تقريبًا.
عندما وصف داجير اكتشافه فيما يخص استخدام الزئبق في عملية التصوير، قال إنه كان يُجري تجاربه على مركبات الزئبق، ولم يكن يعرف أنه كان «على بُعْد خطوة بسيطة من اكتشاف فائدة استخدام أبخرة الزئبق الفلزي الذي قادني حظي الجيد إلى الاستعانة به.» (لسوء الحظ، عانى العديد من مستخدِمِي الطريقة الداجيرية في التصوير من أمراض خطيرة، وبعضهم تعرَّضَ للوفاة المبكرة؛ وذلك للسمِّيَّة العالية لبخار الزئبق التي باتت معروفة الآن.)
كانت الطريقة الداجيرية في التصوير تنتج صورة فوتوغرافية موجبة مباشرة. وكان الزئبق يتحد مع الفضة العنصرية التي تتكون بفعل التحلُّل الضوئي الكيميائي ليوديد الفضة في المناطق التي تعرَّضت على نحو عرضي للضوء، منتجةً مزيجًا ساطعًا. وفي المناطق التي لم تتعرَّض للضوء، كان يوديد الفضة يُزال في مرحلة لاحقة من الإجراء. تكوِّن مناطق مزيج الفضة والزئبق صورةً ساطعة عندما تنعكس خلفية مظلمة في مرآة اللوح الأصلي المطلي بالفضة. (إذا شاهدت صورة داجيرية ذات خلفية ساطعة، كما هو الحال عند التقاطها في وضح النهار أو في ضوء ساطع، فستكون الصورة معكوسة.) أما عملية إزالة يوديد الفضة غير المتغيِّر، فقد كانت في البداية عن طريق غسل الصورة ببساطة بمحلول ملحي (كلوريد الصوديوم العادي)، لكن تطوَّرت تلك العملية عندما اكتُشِف أن ثيوكبريتات الصوديوم (ملح الهيبو) عامل «تثبيت» أفضل.
حقَّقَتِ الطريقة الداجيرية في التصوير نجاحًا سريعًا ومدوِّيًا؛ وذلك بصفة أساسية لأنها جذبت انتباه العديد من العلماء البارزين في باريس، ومنهم فرانسوا جون أراجو، سكرتير الأكاديمية الفرنسية للعلوم. أعلن أراجو عن هذا الاختراع في اجتماع للأكاديمية في ١٩ أغسطس ١٨٣٩، وتقدَّمَ باقتراحٍ إلى مجلس النوَّاب بمنح مكافأة لكلٍّ من داجير ونيبس. ومُنِحت المكافأة، ربما بدافع الكبرياء القومية والخوف من وقوع الاختراع في أيدٍ أجنبية. وقد أعطت هذه الإجراءات شهرةً كبرى لعملية التصوير الفوتوغرافي الجديدة، وسرعان ما انتشرت في إنجلترا وأمريكا فضلًا عن فرنسا. وفي واقع الأمر، فقد استُغلت وطُوِّرت بصفة أساسية في أمريكا، ومن ثمَّ تحقَّقَتْ مخاوف الحكومة الفرنسية.
سرعان ما أُدخل الكثير من التحسينات على عملية التصوير الفوتوغرافي بعد عمل داجير الرائد، وكان من أهم تلك التحسينات العملية السالبة/الموجبة. وقد أدى إعجاب الناس الكبير بالعملية الداجيرية في التصوير إلى مزيد من الاهتمام بالتصوير الفوتوغرافي في منتصف القرن التاسع عشر. وهكذا، كان الاكتشاف الذي أدَّى إلى ظهور الطريقة الداجيرية في التصوير وأدخَلَ مكتشِفها إلى عالم الشهرة اكتشافًا سرنديبيًّا.