الصبغات ومواد التلوين
(١) بيركن والصبغة الأرجوانية
في عام ١٨٥٦، قرَّرَ ويليام بيركن — الذي كان قد بلغ توًّا الثامنة عشرة من عمره، وكان يدرس في الكلية الملكية للكيمياء — تنفيذَ مشروع طموح في معمله بمنزله في أثناء إجازة عيد الفصح، وهو تصنيع مادة الكينين معمليًّا. في الكلية، كان ويليام مساعِدًا للكيميائي الألماني الشهير إيه في هوفمان. بعث الأمير البريطاني ألبرت إلى هوفمان يستحثه على القدوم من بون ليكونَ أولَ رئيس للكلية الملكية للكيمياء، وفي إحدى محاضراته قال هوفمان إنه سيكون من المفيد جدًّا تصنيع مادة الكينين معمليًّا؛ لأنه لم يكن يمكن الحصول على هذا العقَّار — الذي كان العقَّار الوحيد الفعَّال في علاج الملاريا — إلا من لحاء شجرة السينكونا، التي كانت تنمو في جزر الهند الشرقية. (لمزيد من المعلومات عن الاكتشاف العرَضي لمادة الكينين الطبيعية، انظر الفصل الثالث.)
اقترح بيركن تصنيعَ الكينين من مادة الطولويدين، المشتقة من قطران الفحم (الذي كان منتجًا ثانويًّا رخيصًا لصناعة الصلب)، باستخدام طريقة «الإضافة والطرح» التي كانت شائعة حينها. وكانت تلك الطريقة تعتمد على صيغ جزيئية بسيطة لمادة بادئة ومنتج نهائي. وبفحص الصيغ المعروفة للطولويدين والكينين، رأى بيركن أن بإمكانه تصنيع الكينين بإضافة عدد معين من ذرات الكربون والهيدروجين إلى الطولويدين، ثم إضافة ذرات أكسجين للوصول إلى عدد ونوع الذرات المناسب في الكينين، وكان هذا قبل عدة سنوات من اقتراح أوجست كيكوليه طريقةً يمكن من خلالها أن تتحد الذرات لتكوين «تراكيب» ثلاثية الأبعاد للجزيئات. (لمزيد من المعلومات عن كيكوليه والتراكيب الجزيئية، انظر الفصل الرابع عشر.) يتضح مدى سذاجة خطط بيركن عندما نعرف أن الصيغة التركيبية للكينين لم تُكتشَف حتى عام ١٩٠٨، وأن تصنيعها كان تحدِّيًا لمعظم الكيميائيين حتى عام ١٩٤٤.
نفَّذَ بيركن الخطوات التي اقترحها، أولًا بإضافة ثلاث ذرات كربون وأربع ذرات هيدروجين في شكل مجموعة «أليل» للطولويدين، ثم باستخدام العامل المؤكسِد الفعَّال المتمثِل في ثاني كرومات البوتاسيوم. وكانت النتيجة راسبًا كستنائي اللون، وبدلًا من أن يستسلم، قرَّرَ بيركن تجربة مادة بادئة أبسط تركيبًا، وهي الأنيلين. (في واقع الأمر، كانت مادة الأنيلين التي استخدمها بيركن تحتوي على كميات صغيرة من الطولويدين، الأمر الذي كان أساسيًّا في تكوُّن الصبغة الأرجوانية.) كان الناتج هذه المرة أسوأ؛ حيث كان مادةً صلبة سوداء، لكن عندما فحصها بيركن قبل التخلُّص منها، لاحَظَ أن الماء أو الكحول الذي استخدمه في إزالة تلك المادة من الدورق قد تحوَّلَ إلى اللون الأرجواني!
انبهر الكيميائي الشاب بتلك النتيجة غير المتوقَّعة، فاختبر المحاليلَ الأرجوانية ووجد أنها تصبغ القماش. وسرعان ما توصل بيركن إلى طريقة عملية لاستخلاص الصبغة الأرجوانية من الخليط الأسود، وأرسل عينةً من صبغته الصناعية إلى مَصْبَغة بريطانية شهيرة لتجربتها على الأقمشة الحريرية والقطنية، فكان التقييم أنها بدت واعدة جدًّا بالنسبة إلى الأقمشة الحريرية، على عكس الأقمشة القطنية. لكن سرعان ما اكتشف الصبَّاغون أنه يمكنهم زيادة فاعلية هذه الصبغة بالنسبة إلى القماش القطني بإجراء معالجة سابقة له.
وهكذا، فقد أدَّتْ محاولة ساذجة لتصنيع الكينين إلى الإنتاج العَرَضي لأول صبغة صناعية. وبحماس الشباب، قرَّرَ بيركن أن يتقدَّم بأوراقه للحصول على براءة اختراع لصبغته، وأن يبني مصنعًا ويدخل في مجال الصباغة، لكنه لم يحصل على أيِّ تشجيع من جانب أستاذه هوفمان، الذي طلب منه الاستمرار في الدراسات والأبحاث الأكاديمية، مؤكِّدًا له أن محاولة الدخول في عالم الصباغة ضربٌ من الغباء.
على الرغم من إعراضي الشديد (باعتباري أستاذًا جامعيًّا) عن الاعتراف بهذا، كان هوفمان مخطئًا؛ فلِحُسْن حظ الشاب بيركن، كان والده غنيًّا وكانت لديه ثقة كبيرة في ابنه النابه، وبدعم من والده وأخيه، حصل بيركن على براءة اختراع لصبغته وبنى مصنعه وحلَّ المشكلات الكبيرة المتعلقة بتحديث طريقة عمله لتتناسب مع عملية الإنتاج التجاري. وحدثت انفجارات كثيرة في المراحل الأولى لعملية التحديث هذه؛ وللسيطرة على تلك العملية، كان العمَّال يقفون بخراطيم ماء لرش الماء على وعاء تفاعُلِ حديد الزهر إذا غلَتِ المحتويات على نحو خارج عن السيطرة!
مع ذلك، حقَّقَ مصنعه نجاحًا كبيرًا، وذاع صيت صبغته، التي سُمِّيت أرجوان الأنيلين أو الأرجوان الملكي أو الموف (أو الموفين). أُطلِق الاسم الأخير على الصبغة الجديدة في فرنسا، وأصبح الاسم الأكثر استخدامًا لها.
قبل اكتشاف بيركن، كانت الصبغة الأرجوانية الثابتة الوحيدة، أو الصبغات المستخرجة من نبات الخزامي، باهظة الثمن جدًّا. فكانت الصبغة الطبيعية، التي كانت مستخدمة منذ عام ١٦٠٠ قبل الميلاد، وكانت تُسمَّى الأرجوان الملكي، تُستخرَج فقط من حيوانات رخوية صغيرة في البحر المتوسط، لكن تلك الرخويات كان من الصعب جمعها، وكان يتطلَّب إنتاجُ جرام واحد من الصبغة ٩ آلاف حيوان رخوي. ومن ثمَّ، كانت العائلة الملكية هي الوحيدة التي تستطيع الحصول على هذه الصبغة؛ ومن هنا جاء الارتباط بين الصبغة الأرجوانية والعائلة الملكية. وبعد تصنيع بيركن لصبغةٍ أرجوانية دائمة ورائعة من قطران الفحم، طُرحت تلك الصبغة في الأسواق بسعر يمكن لأي شخص تقريبًا تحمُّله، هذا فضلًا عن أن الصبغات الأرجوانية القديمة «كانت سريعة التغير جدًّا، لدرجة أنه لو وضعت سيدةٌ شريطًا بنفسجيًّا جديدًا على قبعتها في الصباح، فمن المحتمَل أن يتحوَّل لونه إلى اللَّوْن الأحمر في المساء!»
كان نجاح صبغة بيركن بمنزلة ميلادٍ لصناعة الصبغات الصناعية، لكن الألمان — وليس البريطانيين — هم مَن رأوا احتمالات نجاحها وطوَّروها على نطاق واسع. ومع ذلك، فإن تطوُّرَ صناعة الصبغة الجديدة في إنجلترا تحت قيادة بيركن كان سريعًا جدًّا، لدرجة أنه بعد ست سنوات فقط من بدء العمل في أول مصنع له، طلبت منه الجمعية الكيميائية أن يُحاضِر عن الصبغات المستخلَصة من قطران الفحم.
كانت السنوات التالية في حياة بيركن مليئة بالتكريمات؛ فقد انتُخِب لعضوية الجمعية الملكية، وحصل على لقب سير، وحصل على ميدالية ديفي وميدالية هوفمان وميدالية لافوازييه، وحضر احتفالًا كبيرًا بالذكرى الخامسة عشرة لبدء صناعة الصبغات من قطران الفحم، حضره بعضٌ من أبرز العلماء في العالم في عام ١٩٠٦، وقد تم تخصيص ميدالية بيركن من جانب القسم الأمريكي في الجمعية البريطانية للصناعة الكيميائية كتعبير عن تقديرها الكبير للكيميائيين الأمريكيين.
يُعَدُّ اكتشاف الصبغة الأرجوانية من جانب بيركن مثالًا جيدًا على السرنديبية؛ فقد كان يسعى وراء شيء معين لكن الأمر انتهى به، من خلال مصادفة سعيدة، إلى عمل شيء مختلف لكنه أكثر أهميةً بكثير. فلم تكن توجد طريقة يستطيع من خلالها تصنيع الكينين في عام ١٨٥٦، وحتى لو فعل، فتحقيقه لهذا الهدف ربما لم يكن ليحظى بنفس أهمية تأسيسه لصناعة الصبغات الصناعية. إن تصنيعَ كلٍّ من آر بي وودورد وويليام فون إي دورينج للكينين في عام ١٩٤٤ كان عملًا عبقريًّا، لكنه لم يكن عمليًّا. فمع أن الولايات المتحدة كانت تخوض حربًا مع اليابان في مناطق بالقرب من المحيط الهادئ تجتاحها الملاريا وقُطِعت عنها إمدادات الكينين، فإنها لم تستخدم قطُّ مادة وودورد ودورينج في الإنتاج العملي للكينين الصناعي.
تعقيب
توجد صبغة مهمة أخرى مصنوعة من قطران الفحم كان بيركن هو مَنْ طوَّرَها وصنعها وهي الأليزارين، وهي صبغة حمراء كانت تُستخلص من جذور نباتات الفُوَّة منذ قرون. وفي عام ١٨٦٨، أعلن كلٌّ من كارل جريبا وكارل ليبرمان عن تصنيع الأليزارين من الأنثراسين، وهو أحد مركبات قطران الفحم. وكان التصنيع الأصلي الذي أجراه جريبا وليبرمان غير عملي بالنسبة إلى الإنتاج التجاري، لكن الإعلان عنه أثارَ اهتمام بيركن؛ نظرًا لمعرفته الوثيقة بمركب الأنثراسين أثناء دراسته مع هوفمان. وفي أقل من عام، استطاع التوصُّل إلى طريقة عملية لتصنيع الأليزارين بشكل تجاري باستخدام مركب الأنثراسين المأخوذ من قطران الفحم. وفي نهاية عام ١٨٦٩، كان مصنع بيركن قد أنتج طنًّا من صبغة الأليزارين، وبنهاية عام ١٨٧١ كان ينتج ٢٢٠ طنًّا كل عام.
في عام ١٨٧٤ باع بيركن مصنعه، وفي سن السادسة والثلاثين كان غنيًّا على نحو كافٍ بحيث يَهَبُ بقية حياته للبحث. اشترى منزلًا جديدًا لكنه استمرَّ في استخدام البيت الذي اكتشف فيه الصبغة الأرجوانية كمعملٍ له، وفي هذا المعمل صنَّع مادة الكومارين، وهي أول مادة عطرية تُستخلَص من قطران الفحم، وحضَّرَ حمض السيناميك (المرتبط بالقِرفة) بطريقة عُرِفت عمومًا بأنها مفيدة جدًّا أُطلِق عليها تفاعل بيركن. استخدم أدولف فون باير شكلًا مختلفًا من هذه الطريقة في عام ١٨٨٢ لتحضير مادة بادئة للتصنيع الشهير لصبغة النيلة، التي تُعَدُّ من الخطوات المهمة الأخرى في تاريخ صناعة الصبغات.
إن استخدام الصبغات المستخلصة من قطران الفحم ليس مقصورًا على صبغ الأقمشة؛ حيث إنها تُستخدَم كعوامل تلوين في الأبحاث الميكروبيولوجية؛ فقد اكتشف الباحثون عُصَيَّات السُّل الرئوي والكوليرا باستخدام تلك الصبغات في تقنيات التلوين.
يُنسَب الفضل في اكتشاف الصبغة الأرجوانية على يد بيركن إلى التطوُّر الهائل الذي حدث في الكيمياء العضوية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، خاصةً في ألمانيا. صحيحٌ أن عودة هوفمان إلى ألمانيا قد أدَّتْ إلى حدوث تطوُّر كبير في هذا المجال، لكن الأهم هو ازدهار «الكيمياء العطرية» في ألمانيا، بفضل كيكوليه والتركيب الكيميائي الذي اكتشفه. فالكثيرُ من الصبغات الصناعية الجديدة مركباتٌ عطرية مأخوذة من البنزين.
(٢) جريبا وليبرمان وصبغة الأليزارين
كانت صبغة الأليزارين الحمراء معروفة منذ العصور القديمة؛ فقد استخدمها المصريون القدماء لصباغة الأقمشة التي كانت تُلَفُّ فيها المومياوات، وقد كانت تُستخلَص من جذور نبات الفُوَّة، الذي تنمو أنواعٌ عديدة منه في أنحاء العالم.
في عام ١٨٦٨، لم يكن التركيب الكيميائي للأليزارين معروفًا، لكنه أصبح محل دراسة في معمل أدولف فون باير في برلين. وقبل ذلك ببضع سنوات، كان باير يقوم بدراسات على صبغة النيلة، وهي صبغة طبيعية أخرى (انظر القسم التالي). وفي عمله مع صبغة النيلة، طوَّرَ باير طريقة جديدة لإزالة الأكسجين من المركبات العضوية المعقَّدَة لتحويلها إلى مركبات أبسط — كما كان مأمولًا — ومعروفة. واقترح تطبيق تلك الطريقة، التي تمثَّلَتْ في تسخين المركب مع مسحوق الزنك، على الأليزارين. وقام بهذا اثنان من زملائه الشباب هما كارل جريبا وكارل ليبرمان، وحصَلَا على منتج سرعان ما اكتشَفَا أنه الأنثراسين، وهو أحد المكونات الهيدروكربونية المعروفة لقطران الفحم.
قامَا بهذا بعد بضعة أعوام من اقتراح كيكوليه لتركيبه الحلقي لجزيء البنزين، وهكذا استطاعَا تحديد صيغة الأنثراسين كثلاث حلقات من البنزين مدمجة معًا. وكما سأوضِّح عند عرضي قصة كيكوليه، فإن وضعه لنظرية جزيئية تصويرية قد مهَّدَ الطريق لتوضيح تراكيب العديد من المركبات العضوية، خاصةً العطرية منها، مثل الأليزارين.
بعد ذلك، بدأ جريبا وليبرمان في عكس العملية؛ أي إنتاج الأليزارين بإضافة الأكسجين إلى الأنثراسين. واعتمدت خططهم على ما عُرِف الآن أنه اعتقادات خاطئة عن التفاعلات الكيميائية الممكنة، لكن السرنديبية الوهمية دخلت المشهد. فمع أنهما استخدَمَا طُرُقًا غير علمية، سرعان ما حصَلَا على منتج صناعي مطابِق لمادة الأليزارين الطبيعية! وكانت هذه هي المرة الأولى التي تُصنَّع فيها صبغة طبيعية في المعمل. (كانت الصبغة الأرجوانية التي صنعها بيركن مادة جديدة، مشابِهة في لونها للأرجوان الملكي الطبيعي المستخلَص من حيوانات رخوية، ولكنها غير مشابِهة له في صيغتها الكيميائية.)
على الرغم من تميُّز هذا الإنجاز، فإن التصنيع المعملي لم يكن مناسِبًا بالمرة للإنتاج التجاري للأليزارين. جرَّبَ جريبا وليبرمان بمساعدة هاينريش كارو، وهو فنيٌّ من شركة تصنيع الأنيلين والصودا المعروفة اختصارًا باسم «شركة باسف»؛ طرقًا أخرى من أجل التوصُّل إلى طريقة تصنيعٍ عمليةٍ من ناحية الإنتاج التجاري. فشلت المحاولات الأولى، لكن كارو اكتشف في النهاية، في تجربة «غير مقصودة» على الإطلاق، مادةً وسيطةً غير معروفة يمكن تحويلها إلى أليزارين، وكانت هذه الطريقة التي تدخل ضمن نطاق السرنديبية الوهمية هي نفسها التي اكتشَفَها بيركن بمفرده وعلى نحو متزامن تقريبًا في إنجلترا. طُرِح الأليزارين الصناعي في الأسواق في ألمانيا وفي إنجلترا في عام ١٨٧١، وسرعان ما حلَّ محل الصبغة الطبيعية.
(٣) الترمومتر المكسور وصبغة النيلة
كما هو الحال بالنسبة إلى الأليزارين، كانت صبغة النيلة الزرقاء معروفة ومستخدَمة في الحضارات القديمة، وحتى العقد الأخير من القرن التاسع عشر، كان المصدر الوحيد لاستخلاصها هو النباتات. وفي الهند، عام ١٨٩٧، خُصِّصت مساحة مليونَيْ فدان تقريبًا لزراعة النباتات التي تُستخلَص منها تلك الصبغة. وفي تلك الأثناء، طوَّرَ أحد مصانع الكيماويات الألمانية طريقةً لتصنيع تلك الصبغة، وبدأ في بيع الصبغة الصناعية بسعر أقل من المنتج الطبيعي. وحدثت ثورة اقتصادية في الهند والدول الأخرى التي كانت تنتج صبغة النيلة الطبيعية. ويمكن إرجاع تلك الثورة الاقتصادية والثقافية إلى الانكسار العَرَضي لترمومتر في تجربة معملية، وإن بدا هذا التفسير غريبًا.
بدأ أدولف فون باير دراساته عن التركيب الكيميائي لصبغة النيلة في جامعة برلين في عام ١٨٦٥. وفي عام ١٨٨٣، كان مقتنعًا أنه توصَّلَ إلى التركيب الصحيح، وأثبت صحته بالطريقة التي كان يستخدمها علماء الكيمياء العضوية في ذلك؛ أي بتصنيع المركب الذي له هذا التركيب وإثبات أنه مطابِق للصبغة الطبيعية في كل خصائصها. وفي واقع الأمر، طوَّرَ عدة مركبات صناعية استخدَمَ في أحدها تفاعُلَ بيركن، لكن لم يكن من الممكن تعديل أيٍّ منها لإنتاج الصبغة الصناعية تجاريًّا، والتي يمكن أن تنافس صبغة النيلة الطبيعية في السعر.
في عام ١٨٩٣ تقريبًا، طوَّرَ كارل هويمان في شركة باسف أولَ طريقةٍ ناجحة لتصنيع صبغة النيلة تجاريًّا. ويُعزى نجاح تلك الطريقة إلى استخدام النفثالين كمادة بادئة لها. والنفثالين هو أحد مكونات قطران الفحم، وعمليًّا كان أحد مخلفات صناعة الصلب في ذلك الوقت. (يُستخدَم فحم الكوك في تحويل الحديد إلى صلب، وعند تحضير فحم الكوك من الفحم عن طريق التسخين، ينتج قطران الفحم ويُجمَع في شكل سائل أسود لزج سيئ الرائحة كان يُعتقَد أنه بلا فائدة. لكن مع اكتشاف الصبغات ومواد التلوين الصناعية، ثبت أنه مصدر مهم للمواد البادئة العضوية.)
السؤال الآن: ما المصادفة التي أدَّتْ إلى نجاح تصنيع صبغة النيلة تجاريًّا؟ كان كيميائيٌّ من شركة باسف يُدعى سابر يسخِّن مادة النفثالين مع حمض الكبريتيك المُدخن وكسر ترمومترًا دون قصدٍ؛ فوقع الزئبق الموجود بالترمومتر في وعاء التفاعل. لاحَظَ سابر أن التفاعل لم يتم على النحو المعتاد، ووجد أن مادة النفثالين تحوَّلت إلى أندريد الفثاليك، وبمزيد من الفحص اكتشف أن حمض الكبريتيك حوَّلَ الزئبق إلى سلفات الزئبق، ويعمل هذا المركَّب كعامل محفِّز لتأكسد النفثالين وتحويله إلى أندريد الفثاليك، الذي يمكن تحويله بسهولة إلى صبغة النيلة.
بدأت شركة باسف في بيع صبغة النيلة الصناعية في عام ١٨٩٧ بسعر أقل من سعر صبغة النيلة الطبيعية. وقد تغيَّرَتْ عملية إنتاج صبغة النيلة الصناعية وتطوَّرَتْ منذ عام ١٨٩٧، ولم يَعُدْ لصبغة النيلة الطبيعية مكانتها التي كانت لها في سوق الصبغات.
(٤) داندريدج وفثالوسيانين النحاس
يمكن العثور على أمثلة أخرى عديدة على السرنديبية في تاريخ اكتشاف الصبغات ومواد التلوين. ومن بين تلك الأمثلة، التي حدثت بعد فترة طويلة من اكتشاف الصبغة الأرجوانية والأليزارين وصبغة النيلة، اكتشافُ إحدى مواد التلوين الزرقاء الجميلة على يد إيه جي داندريدج في عام ١٩٢٨. مادة التلوين — بخلاف الصبغة — هي مسحوق معتم غير قابل للذوبان في الماء يُستخدَم في تلوين مادة أخرى، وتُستخدَم تلك المواد بصفة أساسية في الطلاءات الوقائية والطلاءات المتعلقة بأعمال الديكور وأحبار الطباعة والبلاستيك والمطاط.
كان داندريدج كيميائيًّا في شركة الصبغات الاسكتلندية المحدودة، التي كانت تدير مصنعًا لإنتاج الفثاليميد بتمرير النشادر عبر أندريد الفثاليك في وعاءٍ حديدي. (ترجع تسمية الفثاليميد وأندريد الفثاليك الفريدة إلى حقيقة أنه يمكن استخلاصهما من النفثالين.) لاحَظَ داندريدج بعض البلورات الزرقاء على جانب الوعاء وغطائه، وكان لديه من الفضول ما جعله يجمع بعضها ويفحصه. عندما أجرى داندريدج وزملاؤه مزيدًا من الأبحاث على تلك البلورات، أثبتوا أنها نتاج تفاعُلٍ كيميائي بين الوعاء الحديدي ومحتوياته، وأنه يمكن لمعادن أخرى مثل النيكل والنحاس أن تحلَّ محلَّ الحديد في التفاعل لإنتاج مواد تلوين أخرى.
مع أن وجود الفثالوسيانينات لم يكن متوقَّعًا، وربما لم يكن يمكن توقُّعه أصلًا، فإن اكتشافها حدث وتم التأكُّد من تركيب جزيئاتها، ولا يمكن لأحد أن يغفل حتمية وجودها. إن حقها في الوجود كان مؤثرًا! وإنه لمن العجيب معرفة الكيفية التي كانت بها كل المكونات الأربعة لها موجودة في درجة حرارة التفاعل الملائمة وفي وجود معدن مثل النحاس (ص٧٩).
إن مواد التلوين ليست مثيرةً للاهتمام من الناحية الأكاديمية فقط، وإنما هي أيضًا ذات قيمة عملية؛ فقد حصل لينستيد وغيره على ٢٦ براءة اختراع خاصة بها بين عامَيْ ١٩٣٣ و١٩٤٢، وقد مُنِح العديد منها منذ ذلك الحين. وقد وُجِد أن استبدالَ ذرة النحاس في المركب بالحديد ينتج مادةَ تلوينٍ زرقاء أفضل تُسمَّى «فثالوسيانين النحاس»، وهي أفضل مادة تلوين زرقاء متاحة للعملية الثلاثية الألوان المستخدَمة في الطباعة بالألوان. ويؤدي استبدال ذرات هيدروجين عديدة بذرات كلور في فثالوسيانين النحاس إلى إنتاج مواد تلوين خضراء رائعة.
أصبحت الفثالوسيانينات بعضًا من أهم مواد التلوين بالنسبة إلى أحبار الطباعة وألوان الفنَّانين ومواد الطلاء واللاكيهات. وتُعَدُّ مواد التلوين الرائعة هذه مثالًا جيدًا على اكتشافٍ اعتمَدَ على المصادفة والفطنة؛ أي السرنديبية.