نوبل: الإنسان والاكتشافات والجوائز
أدَّى الكثير من الاكتشافات السرنديبية الواردة في هذا الكتاب إلى حصول أصحابها على جائزة نوبل، وكان للسرنديبية دور أيضًا في اكتشافات الرجل الذي أدَّتْ ثروته ووصيته إلى تخصيص تلك الجائزة؛ فقد وقع جدلٌ حول ما إن كان أشهر اكتشافاته وهو الديناميت، عَرَضيًّا أم مخطَّطًا له بعناية. في كلتا الحالتين، أدَّى اختراع أشهر مادة متفجِّرة وأقواها قبل اختراع القنبلة الذرية إلى امتلاك نوبل ثروةً كبيرةً، ثم إلى تخصيصه جوائز نوبل لاحقًا بسبب شخصيته المرموقة.
على الرغم من شهرة جوائز نوبل والحاصلين عليها حيث تنتشر أخبارهم في جميع أنحاء العالم، فإن الناس يعرفون القليل عن ألفريد نوبل وحياته واختراعاته وشخصيته الفريدة. إن نوبل يستحق أن يُوصَف بأنه مخترع رائد ورجل صناعة عملاق. فعلى الرغم من تحقيقه لثروة طائلة وذيوع صيته على نحو كبير قبل موته، فإنه كان يعاني دائمًا من ضعف الصحة والحزن الشديد والوحدة والاكتئاب. وبعد اختراعه لمواد متفجِّرة قادرة على إحداث خسائر شديدة في الأرواح والممتلكات على نحو فاق ما كان بالإمكان تخيُّله في السابق؛ سعى من خلال تَرِكَته إلى أن ينتصر — دعمًا للرخاء والازدهار — لأغلى القيم الثقافية للبشرية كلها في مجالات العلم والطب والأدب والسلام.
وُلِد ألفريد برنارد نوبل في ستوكهولم في عام ١٨٣٣، وهو نفس العام الذي أفلسَ فيه أبوه إيمانويل نوبل. وكانت صحته ضعيفة منذ ميلاده، وقد كانت الرعاية الخاصة التي أولته إياها أمه هي السبب الرئيسي في بقائه على قيد الحياةِ. وكان من الواضح أنه المفضَّل لديها من بين أولادها الأربعة الذين استمروا على قيد الحياة لما بعد مرحلة الطفولة، وقد ردَّ لها هذا الحب بطرق شتى خلال حياته. كان أبوه مخترعًا ومهندسًا علَّمَ نفسه بنفسه، وقد أعطى لاهتماماته أولويةً أكبر من أسرته؛ فعندما فشل مصنعه في ستوكهولم، ترك زوجته وأولاده الثلاثة وانتقل إلى فنلندا، ثم إلى سانت بطرسبرج في روسيا؛ هربًا من السجن بسبب الديون، وفي محاولةٍ لتعويض خسائره المالية.
بعد عدة أعوام، نقل إيمانويل أسرته إلى سانت بطرسبرج حيث كان عمله في مجال تصنيع المواد المتفجِّرة العسكرية لحساب الحكومة الروسية في ازدهارٍ، حتى إنه أصبح شريكًا في مِلكية مَصْنَع ومَسْبَك. تلقى ألفريد تعليمًا رسميًّا لمدة عامين فقط في ستوكهولم، وكان يحصل على أعلى الدرجات في فصله. وفي روسيا، نظرًا لثراء أبيه، تعلَّمَ ألفريد وإخوته الكبار على يد معلمين، لكن هذا لم يستمر طويلًا؛ فبنهاية حرب القرم في عام ١٨٥٦، انتهى دعم الحكومة الروسية لمصنع إيمانويل الرائد في مجال تصنيع الألغام المتفجِّرة لسلاح البحرية، وأفلسَ للمرة الثانية. وفي هذه المرة، عاد إلى السويد مع زوجته وأصغر أولاده إيميل، تاركًا ألفريد وأخوَيْه الآخَريْن، روبرت ولودفيج، في روسيا. درس ألفريد الكيمياء على يد أستاذ روسي، وحصل على خبرة ميكانيكية وهندسية كبيرة من خلال مصنع أبيه، وانتقل إلى باريس كي يحاول اقتراض بعض المال لإنقاذ المصنع في سانت بطرسبرج، لكنه عاد خالي الوفاض.
في عام ١٨٦١، عاد ألفريد إلى السويد لمساعدة أبيه في إنتاج النيتروجليسرين، وهي مادة متفجِّرة سائلة جديدة كان أول مَن حضَّرَها كيميائيٌّ إيطالي يُدعَى أسكانيو سوبريرو، قبل بضعة أعوام. وفي رحلته الثانية إلى باريس، نجح في الحصول على قرض سمح له بإنتاج المادة على نطاق محدود في السويد. وبعد عامين، عندما كان ألفريد في الثلاثين من عمره، صنع أول اختراعاته المهمة، وهو كبسولة تفجير من فلمينات الزئبق لمادة النيتروجليسرين، وحصل على براءة اختراعه. لم يكن اختراعه عرَضيًّا؛ إذ تشير الوثائق إلى أنه كان نتاجَ أكثر من خمسين عامًا من التجارب الشاقة في معمل ومصنع أبيه المتداعي الموجود في هيلينبورج، على أطراف ستوكهولم.
وقعت كارثة في سبتمبر ١٨٦٤؛ إذ حدث انفجار في المصنع الصغير أسفرَ عن مقتل خمسة أشخاص، من بينهم إيميل نوبل، أخو ألفريد الأصغر. ويبدو أن ذلك الحادث المأسويَّ قد أدَّى إلى إصابة إيمانويل بصدمة شديدة أضعفت من صحته في الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته، وقد أعطت أيضًا ألفريد دافعًا لاكتشاف طريقةٍ لجعل مادة النيتروجليسرين آمِنةً في تصنيعها ونقلها واستخدامها. وأُلقِيت حينئذٍ مسئولية مصنع الأسرة بالكامل على كاهل ألفريد. وأقنع هيئةَ السكك الحديدية السويدية بأن مادة النيتروجليسرين أفضل بكثير من البارود في تفجير أنفاق عبر الجبال لتطوير نظام السكك الحديدية.
بسبب الانفجار الذي حدث في المصنع والذي أدَّى إلى موت أخيه، لم يكن أحدٌ يرغب في وجود مصنع لإنتاج مادة النيتروجليسرين بالقرب منه. وفي واقع الأمر، لم تكن ستوكهولم لتسمح بوجود مصنع كهذا داخل حدودها. ودون أن يثبط هذا من عزيمته شيئًا، نقل مصنعه إلى صندل تم إرساؤه في البحيرة المجاورة للمدينة، وبعد فترة قصيرة، وبدعمٍ من تاجر غني من ستوكهولم يُدعَى جيه في سميت، شُيِّد مصنع في منطقة منعزلة بالقرب من ستوكهولم، واستمر إنتاج مادة النيتروجليسرين هناك لمدةٍ تزيد عن خمسين عامًا. كما شُيِّد مصنع آخَر في كروميل، بألمانيا قرب هامبورج.
كانت هذه هي بداية التوسع الكبير في استخدام مادة النيتروجليسرين، ليس فقط في السويد، وإنما أيضًا في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، استُخدِمت تلك المادة في بناء خط السكك الحديدية للمنطقة الوسطى المطِلَّة على المحيط الهادئ عبر سلسلة جبال سييرا نيفادا في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من وقوع حوادث في بعض الأحيان، فقد أدَّى التوفير الهائل في الوقت والمال في عمليات التعدين وحفر الأنفاق إلى قبول تلك المادة المتفجِّرة السائلة الشديدة التأثير لبعض الوقت.
لكن تلك الفترة من النجاح لم تَدُمْ طويلًا؛ فقد بدأت تصل تقارير من جميع أنحاء العالم بحدوث انفجارات هائلة جراء استخدام تلك المادة، وهو ما كان يرجع جزئيًّا إلى عدم المعرفة الكافية بالمادة وتجاهل التعليمات الخاصة باستخدامها، لكنه في الأغلب أيضًا كان بسبب عدم استقرار مادة النيتروجليسرين. وفيما يتعلَّق بحساسية المادة للانفجار، فإنه وصف تلك المادة بأنها «متقلِّبة»، ففي بعض الأحيان تنفجر عند لمسها بريشة، وفي أحيانٍ أخرى يمكن إساءة استخدامها أو استخدامها بطرق غير ملائمة تمامًا دون أية صعوبة. على سبيل المثال، ثمة تقارير بأنها استُخدِمت في تشحيم وتلميع الأحذية العالية الرقبة المصنوعة من الجلد، وتشحيم محاور عجلات العربات.
ثم كانت الضربة القاضية بتدمير مصنع كروميل جراء انفجارٍ وقع في عام ١٨٦٦، مما حدَا بألفريد نوبل إلى أن يحاول بهمة أكبر إيجاد طريقة لجعل مادة النيتروجليسرين أكثر استقرارًا. لكننا أمام روايتين مختلفتين لكيفية التوصُّل إلى الحل الناجح لتلك المشكلة الذي أدَّى إلى اختراع مادة الديناميت.
لا خلاف في أن نوبل جرَّب طرقًا عدة لمحاولة تطويع مادة النيتروجليسرين؛ فقد ابتكر طريقة يضاف فيها الكحول الميثيلي إلى مادة النيتروجليسرين، الذي يمكن إزالته عن طريق الغسل بالماء عند استخدام المادة المتفجِّرة، ولكن ثبَتَ أن هذا حلٌّ غير عملي. جرَّبَ نوبل بعد ذلك استخدام مادة صلبة ليفية أو على شكل مسحوق، مثل نشارة الخشب والفحم النباتي والورق وحتى الغبار الأحمر، لكن لم تعطِ جميعها نتائج مُرضِية. فقد كانت المواد القابلة للاشتعال تشتعل على الأرجح بإضافتها إلى مادة النيتروجليسرين، وقلَّلت المواد الخاملة مثل الغبار الأحمر من القوة التفجيرية للمادة.
طبقًا للرواية الأولى للاختراع، تبيَّن وجود تسرُّب في إحدى الحاويات المعدنية لمادة النيتروجليسرين، وقد تسرَّبَ السائل متخللًا الغلاف بين الصفائح المعدنية. كانت مادة التغليف هذه هي التراب الدياتومي، وهي مادة معدنية رخيصة وخفيفة ومسامية كانت منتشرة في شمال ألمانيا. لاحَظَ نوبل مصادفةً الخليط اللَّزِج الناتج عن التسرُّب من الحاوية المُدَمرة. وعلى ما يبدو، خطر له أن يختبر تلك المادة ووجد أنه يمكن تشكيلها في مادة صلبة مضغوطة لها نفس القوة التفجيرية للمادة السائلة، لكنها تكون آمِنة ومستقرة حتى يتم تفجيرها من خلال كبسولة تفجير. وإذا كانت تلك الرواية صحيحةً، فيمكن أن تُعَدَّ مثالًا كلاسيكيًّا على السرنديبية الوهمية؛ فقد اكتشف نوبل مصادفةً حلًّا كان يسعى سعيًا حثيثًا خلفه.
لكنَّ ثمة دليلًا مقنعًا يخالف هذه الرواية الخاصة باكتشاف الديناميت بالمصادفة؛ فنوبل نفسه أنكرها بشدة وذكر أنه توصَّلَ إلى أن مادة التراب الدياتومي هي المادة الماصة المناسبة بعد تجارب علمية دقيقة. ولا يوجد سبب لعدم تصديق نوبل في إنكاره للرواية الخاصة بالمصادفة؛ فنوبل كان بكل المقاييس صادِقًا جدًّا، على الرغم من أنه كان عليه الدخول في صراعات عديدة مع خصوم جَشِعين وعديمي الضمير في مجال عمله.
لكن نوبل توصَّل إلى اكتشاف آخَر بعد عدة أعوام من اختراع الديناميت؛ فقد اكتشف الجلجنيت بالمصادفة وبالتخطيط في آنٍ واحد. ووصف نوبل الأحداث التي وقعت في عام ١٨٧٥ وأدت إلى اكتشاف تلك المادة؛ فبينما كان يعمل في المعمل في أحد الأيام، حدث قطعٌ في أحد أصابع يديه بسبب قطعة من الزجاج، وكما كان شائعًا في ذلك الوقت، وضع الكولوديون على الإصبع المصاب. والكولوديون محلولٌ لَزِج من نترات السليولوز في إثير أو كحول، كان يُستخدَم في تكوين طبقة مؤقَّتة على الجروح عندما تتبخَّر المذيبات. وكانت تلك الطبقات قابلةً للاشتعال بشدة؛ إذ كان السليولوز المعالَج بحمض النيتريك مادةً متفجِّرة قوية، وكان يُطلَق عليه اسم قطن البارود.
لم يستطع نوبل النوم في تلك الليلة من شدة الألم الذي كان يشعر به في إصبعه، فبدأ في التفكير في مشكلة كان يفكِّر فيها في وقتٍ سابق دون أن يصل إلى حلٍّ مُرضٍ، وهو كيفية الجمع بين مادتَيْ نترات السليولوز والنيتروجليسرين لإنتاج مادة متفجِّرة أقوى مما لو استُخدِمت أيٌّ من المادتين المتفجِّرتين منفردةً، ولكن تكون آمِنة مثل الديناميت. وكان قد جرَّبَ قطن البارود ولم يكن بإمكانه الجمع بينها وبين مادة النيتروجليسرين، ولكن مع وجود الكولوديون على إصبعه الذي كان يؤلمه، خطرَ له أنه ربما يمكنه بإجراء مستوًى أقل من النيترة، كالموجود في حالة الكولوديون، أن يسمح بتضمين قطن البارود على نحو أفضل في خليطٍ مع مادة النيتروجليسرين.
هُرعَ نوبل إلى معمله في الرابعة صباحًا وبدأ تجربة نِسَبٍ مختلفة من الكولوديون ومادة النيتروجليسرين، وعندما وصل مساعده في الصباح كان قد توصَّلَ إلى ما يريد، فعرضَ على مساعده مزيجًا صافيًا يشبه الجِلي من أقوى المواد المتفجِّرة المعروفة حينذاك. وأثبتت الاختبارات أن المزيج كان أقوى بالفعل من حيث القدرة التفجيرية عن كل مكون فيه على حدة. وبعد عدة تجارب تم التخطيط لها وتنفيذها بعناية لتحديد الصيغة المثلى للقوة التفجيرية والأمان، حصل نوبل على براءة اختراع لمادة الجلجنيت — أو الجيلاتين المتفجِّر — في عام ١٨٧٥ في إنجلترا، وفي عام ١٨٧٦ في الولايات المتحدة.
كان السبب في الفكرة التي أدَّتْ بنوبل إلى اكتشاف الجلجنيت هي القَطع العَرَضي الذي حدث بإصبعه، والذي جلب الكولوديون إلى دائرة اهتمامه في وقتٍ كان عقله مستعدًّا لرؤية ارتباط بين الكولوديون والمشكلة التي كان يحاول الوصول إلى حلٍّ لها. أما عن الجانب الآخَر للسرنديبية المتضِح هنا، فهو إدراك الأهمية الممكنة للفكرة والتحرُّك الفوري من جانب نوبل لاختبارها.
بعد تطوير أشكال آمِنة من مادة النيتروجليسرين تمثَّلت في الديناميت والجلجنيت وإدخال العديد من التعديلات الأخرى التي حصل نوبل على براءات اختراع لها، ازدهَرَ عمل نوبل في مجال المتفجرات على نحو كبير، وذلك فيما يتعلَّق بالاستخدامات العسكرية وغير العسكرية. فلم يكن بالإمكان إنشاء الأنفاق الكبيرة عبر سلاسل جبال الألب السويسرية — سانت جوتهارد وسيمبلون وأرلبِرك — دون القوة التفجيرية المذهلة للمواد المتفجِّرة الجديدة التي اخترعها نوبل.
تعقيب
مع أن نوبل قد أصبح ثريًّا ثراءً فاحشًا، فإنه بقي وحيدًا ومتشائمًا. والحقيقة الوحيدة التي يعلمها معظم الناس عنه هي أنه ترك ثروة هائلة أصبحت مصدرَ الجوائز التي تُمنَح سنويًّا كنوع من التكريم للأنشطة الاستثنائية التي تتم في شتى المجالات. وربما يتساءل المرء عن السبب في توجيه تلك الثروة في هذا الاتجاه بدلًا من أن تنتقل إلى وَرَثته.
كانت صحة نوبل ضعيفة طوال عمره؛ كما أن الاكتئاب كان مشكلة متكررة، إن لم تكن دائمة، يعاني منها. لم يتزوَّج نوبل قطُّ، وعندما وافته المنية في عام ١٨٩٦، لم يكن يُعرَف الكثيرُ عن علاقته بأي امرأة غير أمه؛ مما أدَّى إلى ظهور شائعات بأنه شاذ جنسيًّا. وجاء الدليل المناقِض لتلك الشائعات عندما اكتُشِف بعد ذلك بخمسين عامًا أن ثمة ثلاث سيدات أخريات كنَّ في حياته. وقد ظلت هذه المعلومات في طي الكتمان، خاصةً فيما يتعلَّق بإحداهن، في الملفات الخاصة بمؤسسة نوبل حتى عام ١٩٥٠؛ وذلك احترامًا لأشخاص كانوا قد ماتوا بحلول ذلك الوقت.
يبدو أن أول امرأة كانت فتاة قابَلَها نوبل في باريس عندما كان في الثامنة عشرة من عمره؛ فقد كان في مقتبل حياته يكتب قصائد شعرية، وإحداها كانت تتحدث عن فتاة «طيبة وجميلة» كانت تُبادِله الحب ومنحته — حين كانت حياته مثل «صحراء مقفرة» — سعادةً غامرة حتى أصبح «كلٌّ منهما جنةً للآخَر». لكنَّ موتها المفاجئ ربما أصابَه بأول خيبة أمل مريرة في حياته. ويبدو أن علاقة الحب المأساوية المبكرة هذه للشاب الحسَّاس نوبل قد شكَّلت حياته.
عندما كان نوبل في الثالثة والأربعين من عمره وفي باريس أيضًا، كان بحاجة إلى سكرتيرة ومديرة منزل. ردَّتْ على إعلانه الكونتيسة بيرتا كينسكاي، وهي امرأة شابة رائعة الجمال وحصيفة تنحدر من أسرة نمساوية نبيلة لكنها افتقرت. وقد أتت إلى باريس للعمل عند نوبل؛ لأنها كانت تحب رجلًا من عائلة أَرِسْتُقراطية في فيينا يُدعَى آرثر فون سوتنر، ولكن أسرته كانت تعارض بشدة هذا الزواج. بيرتا كانت جميلة وذكية وماهرة في الموسيقى واللغات؛ باختصارٍ، كانت تمتلك كلَّ الصفات التي كان يريدها ألفريد نوبل الخجول القليل الكلام. ومع أنه من المؤكَّد أن نوبل لم تكن له تطلُّعات رومانسية من تعيينه لسكرتيرة، فقد وقع على الفور في حبها، وذكر أنه سألها «إن كان قلبها خاليًا»، فأخبرته بأن قلبها ليس خاليًا، وبالتأكيد أُصِيب نوبل بخيبة أمل ثانية. لكن هذا اللقاء القصير أدَّى إلى صداقة طويلة بينهما.
بعد فترة قصيرة جدًّا، رجعت بيرتا إلى النمسا وتزوَّجت آرثر، بعد أن وافقَتْ أسرته أخيرًا على الزواج وقبلتها زوجةً لابنهم. أصبحت بيرتا فون سوتنر داعيةً قوية للسلام العالمي، وقد شاركها نوبل نفس الاهتمام، مع أنه اختلف معها في طريقة تحقيق هذا الهدف. كان نوبل وبيرتا يتبادَلان الرسائل بانتظام، وقد كان لها بلا شك تأثير كبير عليه، انعكس في التوصية بإطلاق جائزة نوبل للسلام. وقد كانت بريتا فون سوتنر خامسَ الحاصلين على تلك الجائزة في عام ١٩٠٥.
بعد فترة قصيرة من ترك بيرتا لباريس، دخلت المرأة الثالثة حياة نوبل؛ التي ربما تمثِّل حبه الأكبر وخيبة أمله الأعظم. ففي خريف عا ١٨٧٦ عندما كان نوبل في الثالثة والأربعين من عمره، ذهب إلى محل زهور في منتجع صحي في النمسا لشراء طاقة زهور لزوجة أحد معارفه من العمل والتي ستكون مضيفته، فالتقى هناك صوفي هيس، وهي فتاة جميلة ورشيقة في العشرين من عمرها ومن أسرة يهودية من الطبقة العاملة في فيينا. تكشف المراسلات العديدة التي كانت بينهما والوثائق التي لم تُكشَف إلا في عام ١٩٥٠؛ عن قصة حب غير عادية بين رجل غني وذكي ومثقف ومنضبط يسعى إلى الصُّحْبَة والراحة في بيت مريح، وفتاة صغيرة وجميلة غير متعلِّمة وغير منضبطة كانت تريد فقط أن تستمع بالحياة لأقصى حد.
أسكنها نوبل شقةً جميلة في باريس بها خدم، ولاحقًا في فيلا في إشيل قرب فيينا، لكنه كان يتركها بمفردها معظم الوقت بينما يذهب هو في رحلات عمل حول العالم. ولم يكن ليُكتَب النجاح لهذه العلاقة، التي استمرت ١٨ عامًا تخللتها بعض لحظات السعادة قبل أن تنتهي على النحو المتوقَّع لها. فقد أقامت السيدة صوفي نوبل — كما كان يناديها نوبل في مئات الرسائل (على الرغم من عدم عقد زواج رسمي بينهما) — علاقات مع شباب في المنتجعات الشهيرة حول أوروبا. حاول نوبل أن يخلق شابة ذكية ومثقفة من فتاة لعوب مدلَّلة تسعى وراء ملذاتها، لكن دون جدوى.
في النهاية، أخبرته صوفي بأنها تنتظر طفلًا من ضابط مجري شاب، حينها تخلَّى نوبل عن محاولاته تغيير صوفي وقرَّرَ ألَّا يراها مرة ثانية، لكنه كان يعطيها مبلغًا كبيرًا سنويًّا. تزوَّجت صوفي من الضابط المجري ولكنها لم تَعِشْ معه، وكلاهما حاوَلَ أن يبتزَّ أموالًا من نوبل حتى وفاته في عام ١٨٩٦. وحتى حينها، لم تكتفِ بذلك؛ فهدَّدت ببيع حقوق نشر رسائل نوبل إليها البالغ عددها ٢١٦، إذا لم تُعْطَ أكثر من المال المنصوص عليه لها في الوصية. وبعد مفاوضات طويلة، تم التوصُّل إلى اتفاقٍ تعيد صوفي بمقتضاه كلَّ الرسائل في مقابل استمرار حصولها على المبلغ الذي كانت تحصل عليه سنويًّا من نوبل أثناء حياته.
مات ألفريد نوبل في فيلته في سان ريمو بإيطاليا عام ١٨٩٦؛ إذ تعرَّضَ لنوبات قلب عديدة في أواخر أيامه وكان يعاني من ذبحات صدرية على فتراتٍ متكررة. وقبل موته بفترة قصيرة، كتب في رسالة يقول: «يبدو أن سخرية القدر تفرض عليَّ أن أتناول بنفسي مادة النيتروجليسرين، التي يطلقون عليها اسم الترينيترين حتى لا يخيفون الصيادلة والناس منها!» وفي عامَيْه الأخيرَيْن، تحسَّنَتْ حالة الاكتئاب التي كانت لديه، ربما لأسبابٍ عديدة. واستطاع الانفصال عن صوفي لكنه أمَّنَ مستقبلها ماديًّا، كما كان سعيدًا بمنزله في سان ريمو وبشرائه شركة بوفورز في السويد، حيث أقام مكانًا خاصًّا له في بيت ضيعة مجاور ومعملًا لتجاربه، كما وجد مساعدًا شابًّا جديدًا يمكن الاعتماد عليه، وهو راجنر سولمان (الذي أصبح فيما بعد القائمَ على تنفيذ وصيته).
يُستثمَر رأس المال من قِبَل منفِّذي الوصية في سنداتٍ مالية آمِنة، ويُكوَّن صندوق يُوزَّع عائده سنويًّا في شكل جوائز للأشخاص الذين قدَّموا للإنسانية فوائد جلية خلال العام السابق. ويُقسَّم العائد المذكور إلى خمسة أجزاء متساوية، يكون تخصيصها كما يلي: جزء للشخص الذي يصنع أهم اكتشاف أو اختراع في مجال الفيزياء، وجزء للشخص الذي يصنع أهم اكتشاف أو تطوير كيميائي، وجزء للشخص الذي يصنع أهم اكتشاف في مجال علم وظائف الأعضاء أو الطب، وجزء للشخص الذي ينتج في مجال الأدب أفضل عمل ذي توجُّه مثالي، وجزء للشخص الذي قام بأفضل عمل أو جهد لنشر التآخي بين الأمم ولإنهاء أو تقليل المواجهات العسكرية بين الجيوش وعقد مؤتمرات السلام والتشجيع عليها.
سرعان ما تعرَّضَ أحد أهداف نوبل الكبرى، وهو التحرُّر من التحيز القومي، لانتقادات شديدة عندما عرف الناس بأمر الوصية؛ فزعمت الصحافة السويدية أنه كان حريًّا بمواطن سويدي ألَّا يتجاهل المصالحَ السويدية ويفضِّل الصالح العالمي. كما أن اختيار نوبل للبرلمان النرويجي كي يمنح هو جائزة نوبل للسلام تعرَّض لانتقاد شديد أيضًا؛ نظرًا للعلاقات المتوترة حينها بين السويد والنرويج. لكن بعد مناقشات عاصفة استمرت عدة أعوام بين القائمين على تنفيذ الوصية وأسرة نوبل، أُنشِئَتْ مؤسسة نوبل باتفاق تام مع رغبة ألفريد نوبل، وتولت الحكومة السويدية مسألةَ إدارة عملية إعطاء الجوائز، لكن دون أن توجِّه عملية اختيار الفائزين بها أو ترشيحهم. وقد أُعطِيَتْ جوائز نوبل للمرة الأولى في عام ١٩٠١.
كان ألفريد برنارد نوبل يأمل من خلال وصيته أن يحقِّق ما لم يستطع أن يحقِّقه أثناء حياته، وهو أن يشجِّع الناس على تقديم فوائد جلية للإنسانية، وخاصةً السلام و«التآخي بين الأمم». فمع أنه ابتكَرَ أشهر وأقوى المواد المتفجِّرة العسكرية وروَّج لها، فإنه كان يأمل أن تمنع وصيته الحرب. ففي عام ١٨٩٢، طلبت بيرتا فون سوتنر من نوبل أن ينضمَّ إليها في أحد مؤتمرات السلام في سويسرا، لكنه رفض وقال لها: «مصانعي يمكن أن تُنهِي الحرب أسرعَ من مؤتمراتك. ففي اليوم الذي سيمكن فيه لجيشين متحاربين أن يقضي كلٌّ منهما على الآخَر في ثانية واحدة، ستعزف كل الأمم المتحضِّرة عن الحرب خوفًا من ويلاتها، وتسرِّح جيوشها.»
ثمة نموذج موازٍ أحدث لما فعله نوبل، وهو مؤسسة العلوم الذرية، التي تكوَّنت بعد صنع القنبلة الذرية (والتي فاقت في قوتها التفجيرية الديناميت والجلجنيت اللذين اخترعهما نوبل، على نحو لم يتخيَّله نوبل نفسه) على يد بعض مَن اشتركوا في تصنيع تلك القنبلة، وتحوَّلَتْ إلى ما يُسمَّى بمؤسسة العلماء الأمريكيين، التي كان هدفها الأساسي هو مراقبة الأسلحة على مستوى العالم.