أهم الاكتشافات الأَثرية العَرَضية
قالت ماري ليكي — وهي عالِمة آثار وزوجة عالِم آثار وأم عالِم آثار — ذات مرة: «إنك في مجال الآثار لا تجد تقريبًا ما تسعى في البحث عنه.» في واقع الأمر، إن العديد من الاكتشافات الأثرية الشهيرة قام بها أشخاص لم تكن لديهم أية نية لاكتشاف أشياء ذات أهمية تاريخية؛ أي اكتشفوها على نحو سرنديبي. لقد زوَّدتنا تلك الاكتشافات بمعلومات كثيرة عن الحضارات القديمة مثل الإمبراطورية الرومانية (في هركولانيوم وبومبي)، والإمبراطورية الصينية الأولى (بالقرب من شيان في وسط الصين)، وثقافات عصور ما قبل التاريخ المتمثلة في رسومات الكهوف في لاسكو وأورينياك في فرنسا، وسفن العصر البرونزي التي عُثِر عليها في قاع البحر المتوسط، والإنسان القديم المنتمي إلى فترات ما قبل التاريخ مثل إنسان تولوند الذي عُثِر عليه في الدنمارك، وإنسان نياندرتال الذي عُثِر عليه في ألمانيا، والتاريخ والتوثيق الديني مثل مخطوطات البحر الميت.
(١) عمليات حفرٍ تقود إلى نتائج غير متوقَّعة
في عام ١٧٠٩، أثناء حفر بئر في مزرعة أُقيمت فوق مدينة هركولانيوم، أخرج أحد الفلاحين أجزاءً من الرخام لأعمال نحتية، وعندما علم أمير إيطالي بهذا الأمر، اشترى الأرضَ وأحضر عمَّالًا لتوسيع الحفر الرأسي ثم الحفر أفقيًّا. ووجد هؤلاء العديدَ من الأعمال النحتية السليمة لسيدات؛ إذ يبدو أن الحفر الرأسي هنا قد تغلغل في مسرح هركولانيوم. وانتشرت أخبار المدن المدفونة، واستأجر الملك الإيطالي تشارلز الثالث مهندسًا إسبانيًّا للتنقيب ونقل كل أثر يمكن نقله إلى متحفه الخاص. وفي أثناء الحروب النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، كانت عمليات التنقيب العشوائية التي قامت بها الحكومةُ الفرنسية سيئةً مثلها في ذلك مثل العمليات التي قامت بها الحكومةُ الإيطالية قبلها؛ فقد أُخِذت الرسومات الجدارية المائية الجصية والتماثيل من المعابد وتُرِكت المباني المكشوفة عرضةً لعوامل التعرية.
عندما اعتلى الملك فيكتور إيمانويل الثاني عرش إيطاليا في عام ١٨٦٠، تملَّكته رغبة عارمة في التعرُّف على تاريخ الإمبراطورية الرومانية العظيمة، فشجَّعَ على القيام بعمليات تنقيبٍ منظمة في مدينة بومبي تحت إشراف جوزيبي فيوريللي الذي كان أستاذًا يعرف تاريخَ مدينة بومبي القديمة. ابتكر فيوريللي طريقةً جديدة لإنتاج قوالب جصية لضحايا البشر الذين غطَّتِ الحممُ البركانية أجسامَهم، والذين تحللت أجسامهم عبر القرون تاركةً تجاويف فارغة. وبعد ملء التجاويف بالجص وتركه حتى يتصلَّب، بدأ عمَّال التنقيب يُزِيلون بعناية «قوالبَ» الرماد وحجر الخَفَّاف، تاركين أشكال الضحايا بالحجم الطبيعي في الأوضاع التي كانوا عليها عند موتهم.
تم الآن استخراج وإخلاء ثلاثة أرباع منطقة بومبي، بما في ذلك مسرحان وسوق، وما زال باقي المدينة مدفونًا تحت منازل المدينة الإيطالية الحالية وحدائقها. وما زال البركان القريب يخرج منه دخان من آنٍ لآخَر؛ حيث كانت آخِر ثورة كبيرة له في عام ١٩٤٤.
كشف المزيد من عمليات التنقيب في موقع البئر عن سلسلة من الحفر الموجودة تحت الأرض، والتي تُعَدُّ واحدة من أعجب الاكتشافات الأَثرية. تضم الحفرة الأولى — وهي منطقة مساحتها أربعة أفدنة تقريبًا — تماثيلَ لستة آلاف جندي من جنود التيراكوتا بالحجم الطبيعي، وست عربات تجرُّها أربعة خيول في ١١ صفًّا. وبعد عامين، اكتُشِفت حفرة ثانية على مساحة ٢٫٥ فدان، وكانت تحتوي على ١٤٠٠ تمثال لخيول وأشخاص. وفي الوقت نفسه تقريبًا، اكتُشِفت حفرة ثالثة صغرى وكانت تحتوي على ٧٣ تمثالًا للجنود التي كانت تحرس القادة الذين كانوا يقودون العربات الحربية. وفيما يبدو، فإن تماثيل الجنود الفخارية لم تُنتَج عن طريق خط تجميع؛ فكلٌّ منها كان له وجه مختلف؛ مما يُوحِي بأن أصحابها أشخاص حقيقيون. كما تعكس الملامح الجسدية المختلفة للجنود الذين كانوا يمثِّلون الجنسيات المختلفة الموجودة في شتى أرجاء الإمبراطورية؛ عدد الجنود الهائل الذين شكَّلوا جيش الإمبراطور الأول. كما قدَّمتْ ملابس الجنود وأسلحتهم معلومات أكثر عن الحرب في تلك العصور.
شُيِّد متحف مغطًى فوق الحفرة الكبرى، ينظر فيه الزائرون عبر الحواجز إلى الجنود الذين يرجع تاريخهم إلى ما قبل ٢٢٠٠ عام وهم مصطفُّون في عرض عسكري في أرضية الحفرة التي توجد تحت سطح الأرض بمقدار ٢٠ قدمًا. وقد تعرَّضَ العديد من الجنود والخيول للتدمير عندما سقط عليهم السقف في وقتٍ ما منذ أن تم نشر الجنود والخيول لأول مرة، لكن عملية الإصلاح والترميم مستمرة حتى اليوم.
ربما ظنَّ البعض أنه كان من الخطأ أن يُعهَد بمهمة التنقيب عن جمجمة طفل التونج لشخصٍ مثل دارت؛ فعلى كل حال، كان لا يزال شابًّا (٣١ عامًا) وقليل الخبرة ويميل قليلًا إلى تصديق البِدع العلمية. لكن كما اتضح فيما بعدُ، كان هو الرجل المناسب تمامًا الذي يستطيع أن يحوِّل اكتشافًا عَرَضيًّا إلى اكتشاف علمي كبير؛ فقد كان لديه من الذكاء والبصيرة ما مكَّنَه من إدراك أن هذا الطفل القديم المراهق هو ما يسمِّيه البعضُ «الحلقةَ المفقودة» بين الأسلاف البشريين وغير البشريين. ومن خلال زاوية حَمْل الرأس، كما استنتج من شكل الجمجمة في قاعدة القِحْف، ادَّعَى دارت أن طفل التونج كان يمشي منتصِب القامة. أثارت تلك الأفكار وغيرها من أفكاره موجةً من الجدل؛ حتى فيما يخص الحقيقة المتعلِّقة باكتشاف تلك الحفرية القديمة في أفريقيا، والتي لا يُعتقَد أنها المكان الذي عاش فيه أقدم أسلاف الإنسان. لكنَّ الأعمال اللاحقة التي قامت بها مجموعة متميزة من علماء الآثار (آل ليكي ودونالد يوهانسن وغيرهم) أكَّدت معظم مزاعم دارت.
أظهرت الدراسات أن هذا الرجل، الذي أصبح يُطلَق عليه «إنسان ليندو»، كان من السلتيين، وينتمي إلى الطبقة الحاكمة المعروفة بالدرويدين. ويبدو أن هذا الرجل، شأنه شأن «إنسان تولوند»، قد تم تقديمه كقربان في احتفال ديني، وقد اختير بالقرعة وذلك منذ ٢٢٠٠ عام. وكان يرتسم على وجهه تعبير صافٍ مما يدل على أنه سيق إلى الموت برغبته، وذلك في عملية قتل بَشِعة تم فيها إغراقه وقطع عنقه وتحطيم قصبته الهوائية بسير جلدي وضرب رأسه بهراوة.
كشف التحليل الكيميائي لمحتويات معدته وأمعائه عن وجود قطعة كعك محروقة تمامًا ومهضومة هضمًا جزئيًّا. واستنتجت الدكتورة آن روس، وهي عالِمة آثار متخصِّصة في التاريخ السلتي، أن تلك القطعة المحروقة من الكعك هي «ورقة اليانصيب» الخاسِرة التي ساقَتْ إنسان ليندو إلى مصيره كقربان لآلهة الدرويدين. واقترحت روس أن تلك القطعة هي جزءٌ من كعكة رفيعة ومستوية من الشعير المطحون، كانت تُستخدَم في احتفالات الدرويدين، وكان يُترَك جزءٌ منها حتى يحترق، ثم يقوم الكهنة بتقطيع الكعكة إلى أجزاء ووضعها في حقيبة جلدية، وتمرير الحقيبة على الحشد الموجود من البشر. وكان على كل شخص أن يأخذ قطعة، والشخص الذي يأخذ القطعة المحروقة كان يُقدَّم كقربان للآلهة.
يرى علماء الآثار أن اكتشاف هذا الرجل السلتي في إنجلترا له أهمية كبيرة فيما يتعلَّق بالتاريخ القديم لأوروبا؛ فهم يعتقدون أن السلتيين ربما قد سيطروا على مناطق عديدة من أوروبا أكثر مما نعتقد، وأنهم — وليس الألمان — مَنْ حكموا إسكندنافيا في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد.
قال إرنست لندايليس، عالِم الحفريات بجامعة تكساس، الذي عمل مع بريجز بعد اكتشاف العظام؛ إن هذا الكشف كان غير عادي، وأضاف: «ليس من الشائع العثورُ على كل تلك الأجزاء من حيوانٍ في وضعٍ كهذا حيث يمكنك أن تنظر إلى مكان وجودها. وعادةً ما يتم استخراج عظام حيوانات الماسْتُودُون من قيعان خلجان، إذ ربما يكون انتهى بها المطاف إلى هناك بعد أن جرفها التيار.» ويُعتقَد أن هذا الموقع كان قاعًا لبركة بطول السهل الفيضي القديم لنهر كولورادو الذي يتدفَّق عبر أوستن. وحدَّدت تقنية التأريخ بالكربون المشع، التي أُجريت للطبقات الموجودة فوق المكان الذي عُثِر فيه على العظام وتحته، أن عمر العظام ١٥ ألف عام تقريبًا.
(٢) البحيرات التي جفَّتْ
أزالت عمليات الحفر التي بدأت في عام ١٩٣٤ اللِّثامَ عن قرية جيدة التخطيط، مساحتها حوالي ٦ أفدنة، محاطة بآبار وسدٍّ من جذوع الأشجار. وكانت ضمنَ بقايا القرية التي ظلت على حالها أسلحةٌ وأدوات وآنية فخارية. استطاع علماء الآثار إعادة بناء معظم القرية، بما في ذلك صف من المنازل التي تشترك كلُّها في سقف واحد. وهكذا، فقد أدَّتْ ملاحظةُ المُعلِّم الدقيقة لبقايا القرية البارزة من البحيرة إلى ظهورِ مركز دراساتٍ مهم لحضارة لا نعرف عنها الكثير.
(٣) أشياء اكتُشِفت بمحض المصادفة
بطريقة أو بأخرى، اكتُشِف على سطح الأرض بمحض المصادفة بعضُ الأدوات القديمة، التي لاحَظَها بعض الراصدين اليَقِظين المتأهبين.
ثمة بعض الشك الذي يحيط بظروف اكتشاف حجر رشيد في منتصف شهر يوليو من عام ١٧٩٩. فطبقًا لإحدى الروايات، كان الحجر موجودًا على الأرض، لكن الرواية الأرجح هي أنه كان موجودًا في جدار قديم جدًّا أُمِرَتْ فرقة من الجنود الفرنسيين بهدمه، لإخلاء الطريق من أجل حفر أساس مبنًى ملحق بالحصن الذي عُرِف بعد ذلك بحصن سانت جوليان …
يُحسَب للضابط الذي كان يقود فرقة الجنود المسئولين عن هدم الجدار، وهو ملازم من سلاح المهندسين يُدعَى بيير فرانسوا كزافييه بوشار، ولزملائه من الضباط، إدراكُهم شبه الفوري لأهمية النقوش الثلاثة المختلفة المحفورة على الحجر؛ فقد كانت كلُّها نسخًا من نص واحد بثلاثة نظم مختلفة من الكتابة. ونظرًا لأن آخِر تلك النقوش كان مكتوبًا باللغة الإغريقية وبالتالي نجحوا في قراءته، فقد كان من الواضح أن ترجمة هذا النقش الأخير يمكن أن تكون بمنزلة مفتاح لفك شفرة الرموز الهيروغليفية الموجودة في القسم الأول من الحجر … وعند وصول الحجر إلى القاهرة في منتصف أغسطس، أصبح على الفور مثارَ اهتمام بالغ لدى العلماء الذين أخذهم نابليون معه في حملته على مصر.
في ٢٤ أغسطس من عام ٣٩٤ ميلاديًّا في جزيرة فيلة على الحد الجنوبي لمصر، يبدو أن الرموز الهيروغليفية قد استُخدِمت للمرة الأخيرة للنقش باللغة المصرية القديمة. ويرجع تاريخ النقش الأخير على الحجر بالكتابة الديموطيقية، التي تُعَدُّ أحدث نُظُم الكتابة الثلاثة التي كان يستخدمها المصريون القدماء وأكثرها استخدامًا للحروف المتصلة، إلى بعد ذلك بأقل من ٦٠ عامًا؛ أي ٤٥٢ ميلاديًّا … وعلى مدار ١٣٧٠ عامًا تالية، لم ترد أنباءٌ عن تاريخ مصر القديمة؛ نظرًا لأن فن قراءة نظم كتابتها القديمة قد اختفى. فلم يكن أحد يستطيع فَهْمَ النقوشِ الهيروغليفية التي لا حصرَ لها والتي تنتشر على كل الآثار، أو النصوصِ المكتوبة بالكتابة الديموطيقية والهيراطيقية المنتشرة على ورق البردي والألواح الصخرية والأواني الفخارية (آندروز، كتاب المتحف البريطاني عن حجر رشيد).
ثمة العديد من الأشخاص الذين ساهموا في فك شفرة الرموز الهيروغليفية، لكن جون-فرانسوا شامبليون، الذي درس حجر رشيد، هو مَن وضع الأسس التي تقوم عليها معرفتنا الحالية بلغة المصريين القدماء. فمع فك شفرة الرموز الهيروغليفية الموجودة على حجر رشيد، أعطَتِ المعلوماتُ الموجودة في النقوش التي كانت موجودةً بكثرة على الآثار؛ صورةً رائعة وشاملة عن الحضارة التي قامت على ضفاف النيل منذ قرون عديدة.
(٤) الطبيعة ودورها في الاكتشافات الأَثرية العَرَضية
من الأشكال المختلفة لقانون مورفي أن «الطبيعة بطبيعتها منحرفة.» لكنها ليست كذلك دائمًا؛ فقد ساعَدَتْ في بعض الأحيان في الكشف عن بعض جوانب التاريخ القديم لعلماء الآثار. ومن أفضل الأمثلة على ذلك، وهو ما يجب أن يدخل ضمن نطاق السرنديبية الوهمية، قصةُ الحفرية لوسي التي عُثِر عليها من قِبَل أشخاص كانوا يسعون إلى إيجاد حفرية مثلها، ولكن هذا تم بمساعدة الطبيعة. (إن اكتشاف جمجمة طفل التونج في جنوب أفريقيا يُعَدُّ ضربًا من السرنديبية الحقيقية؛ لأن العمال الذين كانوا ينقبون عن الجير لم تكن لديهم أية نية للبحث عن الحفريات.)
أثارت لوسي اهتمامًا كبيرًا؛ لأنها كانت تمثِّل أقدمَ أسلاف الإنسان التي كانت معروفةً في ذلك الوقت وأكثرها اكتمالًا، وقد قُدِّر عمرها بتقنية التأريخ الإشعاعي بحوالي ٣ ملايين سنة، وثبت من خلال طبيعة عظام الحوض أنها كانت تمشي منتصبةً على قدمين، وذلك قبل أن يعيش طفل التونج بمليون أو مليونَيْ سنة.
كان لدى ريتشارد دورتي، وهو عالِم أنثروبيولوجي في جامعة ولاية واشنطن، عدد قليل من السجلات المكتوبة التي يمكنه الرجوع إليها عندما عثر على الآثار المدفونة في قرية أوزيت، وهي قرية ساحلية مهجورة في الركن الشمالي الغربي من واشنطن، لكن في محاولته تجميع المعلومات المتاحة لديه عن تاريخ هنود الماكاه معًا، استعان بأحفادهم الحاليين … فقد كان عجائزُ القبائل يحتفظون في ذاكرتهم بأساطير عن أجدادهم، وتحكي إحدى تلك القصص عن كارثة كبيرة؛ وهي أنَّ جبلًا هائلًا من الطين قد دفن قريتهم منذ فترة طويلة.
ظنَّ دورتي أن تلك القصة صحيحة، وفي عام ١٩٧٠ عندما أدت عواصف الشتاء العنيفة إلى حدوث مد وجزر على الشاطئ الواسع في أوزيت؛ تأكَّدَ ظنُّه. فقد جُرِف جزء من ضفة كاشفًا عن مجموعة كبيرة من الأشياء التي من صنع البشر: مجداف لزورق الكنو، وصنارات من الخشب، وعظام، وأجزاء من صناديق مُرصَّعة، وقصبة حربة، وقبعة مغزولة، كلُّها ترجع للوقت الذي وصل فيه كولومبوس إلى أمريكا، وقد استمرت على حالتها لعدة قرون تحت طبقة من الطين الكثيف …
بنى مجلس قبيلة الماكاه متحفًا ليحوي تلك الآثار الثقافية … وقال عنها: «إننا … نُولي رعاية خاصة للأشياء المستخرجة من الطين في أوزيت؛ لأن هذا هو تراثنا.»
(٥) الحروب ودورها في الاكتشافات الأَثرية
في نهاية الحرب العالمية الثانية، أصاب الدمار مناطقَ كبيرة من بعض أعظم المدن الأوروبية — التي من بينها لندن وبرلين وروتردام وهامبورج — بسبب الغارات الجوية. وعلى الرغم من فداحة هذا الدمار، فإنه مثَّلَ فرصةً فريدة لعلماء الآثار. ففي وسط الحطام الموجود في لندن، أخذ مجلسُ التنقيب عن الآثار الرومانية وآثار القرون الوسطى في لندن، الذي لم يكن قد مضى على تشييده آنذاك وقت طويل، يبحث عن أي آثار لبلدة لندينيوم، وهي بلدة مطلة على ضفة نهرٍ أسسها الرومان في عام ٤٣ ميلاديًّا تقريبًا.
عُثِر على معبد مخصَّص لميثراس، وهو إله كبير لاعتقاد شائع لدى الجنود الرومان. وقبل أن يشرع عمَّال البناء في استخدام آلات دقِّ الركائز في تدمير المعبد لحفر أساس لمبنًى إداري، ضغط الرأي العام على الحكومة كي تطلب من المقاول نقل الضريح الروماني إلى موقع قريب، حيث لا يزال يجتذب الزائرين المهتمين بتاريخ البلدة.
(٦) الأولاد والكهوف
إنَّ فضول الأولاد بشأن الكهوف التي يكتشفونها أدَّى في حالتين على الأقل إلى العثور على معلومات أَثرية مهمة.
على الرغم من أن مجموعة كبيرة من الخبراء الذين فحصوا مخطوطات اللفائف أعلنوا أنها لا قيمةَ لها، فقد أرسلها المطْران إلى المدرسة الأمريكية للبحث الشرقي في القدس. واقتنع هناك الدكتور جون سي تريفر وويليام براونلي بالطبيعة الحسَّاسة لتلك الوثائق عندما شاهَدَا الأشكالَ القديمة للحروف العبرية، فصوَّرَا أقسامًا من إحدى المخطوطات (نسخة من السِّفْر الإنجيلي أشعياء) وأرسلاها إلى الدكتور ويليام إف أولبرايت، وهو حُجَّة في علم الكتابات العبرية القديمة في جامعة جونز هوبكينز. وعلى الفور، قال الدكتور أولبرايت إن هذه المخطوطة ترجع تقريبًا إلى عام ١٠٠ قبل الميلاد، ووصف المخطوطات بأنها «اكتشاف مُبهِر جدًّا.» وتأكَّد هذا التاريخ عندما استُخدِمت تقنية التأريخ بالكربون المشع. تسبق تلك المخطوطات كلَّ مخطوطات الكتاب المقدَّس بألف عام، وذلك باستثناء القليل من أجزاء المخطوطات الإنجيلية.
أخَّرَ الصراعُ المسلَّح بين العرب واليهود إجراءَ المزيد من عمليات البحث من جانب علماء الآثار حتى عام ١٩٤٩، وحينها فشلت عمليات البحث الأولية في العثور على مزيدٍ من المخطوطات وفي الحصول على معلومات عن الأشخاص الذين كتبوا تلك المخطوطات وأخفوها. لكنَّ بَدْوَ المنطقة الفقراء وجدوا في تلك المخطوطات مصدرًا جديدًا للدَّخْل (فهم الذين باعوا المخطوطات الأصلية لعلماء القدس الذين ساورتهم رغبة شديدة في شرائها)، فبدءوا في حماسٍ البحثَ في الصدوع والشقوق في صحراء أريحا المقفرة، بالقرب من البحر الميت. وفي عام ١٩٥٢، اكتشفوا شيئًا مهمًّا بالقرب من حطام منطقة قمران، على مسافة ميل من الاكتشاف الأصلي الذي عثر عليه الصبي البدوي في الكهف الأول. وقد أدَّى مزيد من عمليات البحث من جانب البدو وعلماء الآثار إلى الكشف عن بقايا منطقة قديمة كانت تسكنها طائفةٌ يهودية منعزلة تُسمَّى الأسينيين، وكانوا هم مَن كتبوا تلك المخطوطات وأخفوها، ربما كي يعودوا إليها بعد التخلُّص من الاضطهاد الروماني.
عُثِرَ على آلاف الأجزاء من حوالي ٤٠٠ مخطوطة مختلفة، بما في ذلك أجزاء من كل سِفْر من أسفار الكتاب المقدس فيما عدا سِفْر إستير. وربما تمر عقود قبل تقييم المدلول الكامل لتلك المخطوطات، إلا أنها قد أدت بالفعل إلى سدِّ ثغرات مهمة في معرفتنا بالكتاب المقدس؛ فقد أعطتنا فهمًا جديدًا للمناخ الديني الذي وُلِد فيه المسيح، ولأول مرة تتكشف لنا طائفة الأسينيين الغامضة.
(٧) غوَّاصو الإسفنج
إنَّ السفن التي غرقت منذ عدة قرون تعد سجلات للعصور التي كانت تبحر فيها. وحتى وقت قريب جدًّا، عندما ظهرت أجهزة متطوِّرة مثل جهاز قياس المغناطيسية والسونار وكاميرات الفيديو التي يتم التحكُّم فيها عن بُعْد؛ كان المصدر الوحيد لاكتشاف السفن الغارقة في البحار هو الغوَّاصين الذين يبحثون عن الإسفنج في البحر المتوسط. فكثيرًا ما كان يعثر هؤلاء الرجال على سفن غارقة أو آثار منها، بينما يبحثون عن الإسفنج في قاع البحر على أعماقٍ تزيد عن ١٠٠ قدم.
علَّمتنا خبرتنا الطويلة أن أفضل مصادر المعلومات عن السفن الغارقة القديمة هي الغوَّاصون في قوارب الإسفنج بتركيا … إنهم أهم بكثير من أجهزة قياس المغناطيسية والسونار المتطورة … ففي موسم صيفي واحد، يقضي الغوَّاصون في ٢٥ قاربًا حوالي ٢٠ ألف ساعة يغوصون في قاع الماء بحثًا عن الإسفنج.
إن استخدام المعلومات التي يوِّفرها غوَّاصُو الإسفنج كأساس للاستكشافات الأَثرية يجعل الاكتشافات التي يصل إليها هؤلاء غير سرنديبية. لكن الاكتشافات الأولى التي اعتمدت على ملاحظة غوَّاصي الإسفنج بلا شكٍّ سرنديبية؛ فلم يكن لدى هؤلاء أية نية للبحث عن سفن غارقة، فقد كان همُّهم فقط هو العثور على الإسفنج.
مرَّ صيف عام ١٩٥٨ دون أي اكتشافات محددة، لكن عندما أعلن أحدُ غوَّاصي الإسفنج دون اكتراث عن وجود سبائك برونزية متآكلة على شكل جلود حيوانات، قرَّرَ ثروكمورتون وفريقه العودةَ مرة أخرى في صيف العام التالي حيث تمكَّنوا من تحديد موقع غرق إحدى السفن التي يرجع تاريخها إلى العصر البرونزي. ومع أنهم لم يستطيعوا العثور على السفينة، فقد عثروا على العديد من رءوس الأسهم والفئوس والسبائك البرونزية والأواني الفخارية البدائية. لكن الطقس السيئ حالَ دون إجراء المزيد من البحث عن السفينة حتى صيف العام التالي؛ أي عام ١٩٦٠. وفي ذلك الصيف، عثروا أخيرًا على السفينة أو على الأقل على أجزاء من هيكلها وبعض الأدوات الموجودة ضمن حمولتها بما يُرجح أن يكون تاريخُ آخِر رحلة للسفينة هو عام ١٢٠٠ قبل الميلاد تقريبًا. وقد وضعوا أكثر من طن من الأغراض المصنوعة من البرونز والنحاس الموجودة ضمن حمولة السفينة في متحف في مدينة بودروم بتركيا.
بينما كنتُ أغوص بحثًا عن الإسفنج، لاحظتُ فجأةً مرساة قاربي تُسحَب، فتتبعتها ووجدتها تنزلق خلف هذا التل، لكن عندما صعدتُ إلى السطح، كانت قد هبَّت عاصفة شديدة؛ ما لم يدع وقتًا أمامي لكي أحدِّد اتجاهي. وكنت أحاول على مدى ثلاث سنوات تحديد مكان الأواني مرةً ثانية. وإنكم لمحظوظون، فقد استطعتُ منذ بضعة أسابيع فقط رؤية السفينة مرةً أخرى، وهي ملككم الآن. فعلماء الآثار فقط مَنْ يتعيَّن عليهم لمسها. ولقد احتفظتُ بالسر من أجلكم ولضمان أن يُنسَب هذا الشرف إلى بلدتي. ويجب ألَّا تنسوا أنها جزءٌ من تاريخ كايرينيا.
كان هيكل السفينة الخشبي سليمًا تقريبًا، بسبب الرمال التي غطته لمدة ٢٢ قرنًا، وبسبب طبقة من الصفيح كان الغرض منها حماية الخشب من ديدان السفن. ويبدو أن طاقم السفينة كانوا يؤمنون بشدة بأهمية الغطاء الصفيحي؛ فقد وجد علماءُ الآثار أن الديدان قد أحدثت دمارًا شديدًا في السفينة تحت الصفيح، وخمَّنوا أن الحَفْرَ الذي قامت به تلك الديدان ربما يكون السبب في غرق السفينة.
ظهرت أول إشارة إلى حطام السفينة الغارقة في منطقة أولو بورون في صيف عام ١٩٨٢. إذ ذكر غوَّاص إسفنج شاب لرئيسه أنه رأى «قطع بسكويت معدني ذات آذان» غريبة في قاع البحر، بينما كان يعمل على عمق ١٥٠ قدمًا بالقرب من نقطة تنقيب تحت سطح الماء. وأدرك رئيس الشاب أن وصف الشاب ينطبق تمامًا على سبائك النحاس المنتمية للعصر البرونزي التي رآها في رسمٍ كان معهدُ علم الآثار البحرية قد وزَّعَه على أصحاب قوارب تجميع الإسفنج، ونقل ذلك المعهد. تم عمل مسح مبدئي في صيف عام ١٩٨٣؛ فجعلت الصور والمخططات الدكتور باس يتعجَّب قائلًا: «نحن بصدد حلم طالما راود علماء الآثار!» وتم إحضار آلاف الأشياء من الحطام الذي يمثِّل سبع حضارات كانت موجودة في شرق البحر المتوسط في أواخر العصر البرونزي؛ في نفس الوقت الذي حكم فيه توت عنخ آمون في مصر، وسقطت فيه طروادة.
من بين الأشياء التي تم جلبها من الحطام: مئاتٌ من السبائك النحاسية، وسبائك صفيح (كانت تُستخدَم مع النحاس لصنع البرونز)، وكأس قداس ذهبية، وكوب مايسيني مصنوع من التراكوتا وساعد في تأريخ تلك الأدوات (فهو يشير إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد)، وجعران ذهبي صغير محفور عليه اسم الملكة نفرتيتي، وخشب أبنوس من نفس النوع المستخدَم في الأثاث في مقبرة توت عنخ آمون، وحبات كهرمان بلطيقي، وسبائك زجاجية لونها أزرق داكن من كنعان، وجرار مليئة بصمغ عطري يُستخدَم كبخور، ومئات من الصدف الرخوي من النوع الذي تُستخرَج منه صبغةُ الأرجوان الملكي (وهي الصبغة الأرجوانية المستخدَمة من قِبل الأسرة الملكية)، وأجزاء من «كتاب» خشبي صغير له حواف من العاج ربما يمثِّل أقدم كتابٍ في العالم. تُغطَّى «الصفحات» الخشبية بالشمع الذي يمكن النقش عليه باستخدام أداة الكتابة. ولم يوجد أيُّ أثر للشمع لكن وُجِد أحد مكونات الشمع في جرة مقفلة وسط الحطام. كما أن ألواح خشب السفينة كانت مربوطة بعضها ببعض باستخدام وصلات نقرة ولسان مثبتة من خلال أوتاد مصنوعة من الخشب الصلب، بنفس الطريقة التي وصف بها هوميروس تكوينَ سفينة أوديسيوس.
أقنعت الدراساتُ الأَثرية المستمرة فريق معهد علم الآثار البحرية بأن تلك السفينة غير عادية؛ ربما لأنها تحمل أشياءَ خاصة بالطبقة الحاكمة. وقد كان تحطُّمُ تلك السفينة صفعةً قويةً للكثير من الأشخاص المهمين في القرن الرابع عشر قبل الميلاد. لكن الاكتشاف السرنديبي لحطامها قدَّمَ الكثير من المعلومات الجديدة عن تلك الحقبة القديمة.
تعقيب
لقد أُجريَ العديد من الاكتشافات الأَثرية الأخرى، ليس فقط من خلال «المحاولة الدءوبة» ولكن أيضًا من خلال التنظيم الجيد، أو التخطيط، كما قال السير ديريك بارتون (انظر الفصل الخامس والثلاثين). ومن بين الأمثلة العديدة التي يمكن ذكرها في هذا الشأن اكتشاف سفينة تايتانيك. فقد أوضح هذا الإنجاز الذي أسر انتباه العالم الغربي التخطيطَ الجيد للعديد من الأشخاص واستخدام المعدات العلمية الجديدة، التي صمِّم بعضها خصيصَى لهذا الهدف. وقُدِّم وصفٌ لهذا المشروع موضح بالصور في مقالين في مجلة «ناشونال جيوجرافيك» في ديسمبر ١٩٨٥ و١٩٨٦، وفي كتاب روبرت دي بالرد «اكتشاف تايتانيك» (١٩٨٧).