اكتشافاتٌ طبية وليدة المصادفة
(١) الأنسولين
في عام ١٨٨٩ في ستراسبورج بألمانيا، بينما كان جوزيف فون ميرينج وأوسكار مينكوفسكي يدرسان وظيفة البنكرياس في عملية الهضم، استأصلا بنكرياس أحد الكلاب. وفي يوم لاحق، طلَبَ مساعِد لهما في المعمل أن ينظَرَا إلى الذباب الذي يقف على بول هذا الكلب؛ فأخذهما الفضول بشأن السبب الذي جذب الذباب إلى هذا البول، فحلَّلَاه فوجَدَا أنه مليء بالسكر. ووجود سكر في البول يمثل إحدى العلامات الشائعة للإصابة بمرض السكر.
أدرك العالمان أنهما يريان لأول مرة دليلًا على الإنتاج المعملي لمرض السكر في أحد الحيوانات. وأدت حقيقة استئصال البنكرياس من هذا الحيوان إلى اقتراح وجود علاقة بين البنكرياس ومرض السكر. ثم أثبتَ هذان العالمان أن البنكرياس ينتج إفرازًا يتحكَّم في استهلاك السكر، وأن وجود نقص في هذا الإفراز يسبِّب مشكلات في أيض السكر تظهر على هيئة أعراض لمرض السكر.
أُجريت محاولات عديدة لعزل هذا الإفراز، لكن دون نجاحٍ كبير، وذلك حتى عام ١٩٢١ حين استطاع باحثان، هما: فريدريك جي بانتينج وهو طبيب كندي شاب، وتشارلز إتش بيست وهو طالب في كلية الطب، كانا يحاولان القيامَ بعملية العزل في معمل البروفيسور جون جيه آر ماكليود في جامعة تورونتو؛ عزلَ الإفراز من بنكرياس الكلاب. وعندما حقَنَا الكلابَ التي أُصِيبت بمرض السكر بسبب استئصال البنكرياس منها بالمادة المستخلَصة، عادَتْ مستويات السكر في الدم إلى معدلاتها الطبيعية أو أقل، وأصبح بولها خاليًا من السكر، وتحسَّنَتْ أيضًا الحالةُ العامة لتلك الكلاب.
اهتم البروفيسور ماكليود كثيرًا بالمشروع وطوَّر إجراءات استخلاص الهرمون ووضع معيارًا لجرعته، واقترح أيضًا اسمًا للإفراز وهو «الأنسولين» الذي عُرِف الآن أنه هرمون، عندما وجد أنه يُنتَج من قِبَل كتل من الخلايا المعزولة، أو المنفصلة، في البنكرياس تُسمَّى جزر لانجرهانز. وفي غضون عام، اختبِرت مستخلصات منقاة من بنكرياس الأبقار على مرضى السكر من البشر، وثبت أنها قلَّلت من أعراض المرض. ومن أوائل الأشخاص الذين اختبِر هذا العلاج عليهم أحدُ المتطوعين الذي كان يعاني بشدةٍ من مرض السكر، وهو أحد أصدقاءِ بانتينج ومن زملاءِ دراسته. وقد تحسَّنَتْ حالته كثيرًا وأصبح بمنزلة حقل تجارِب بشري لاختبارات معايَرة الجرعات.
قبل عام ١٩٢٢ (عندما استُخدِم الأنسولين لأول مرة إكلينيكيًّا)، كان العلاج القائم على النظام الغذائي يساعد في تقليل تأثير الأعراض ويطيل من عمر المريض، لكنه لم يكن مُرضيًا على الإطلاق؛ فقد كان مرضُ السكر مرضًا شديدًا وموهِنًا للمريض المصاب به، ومميتًا في معظم الحالات. وكان ثمة احتمال كبير لحدوث عدوى من شتى الأنواع، كما أن إجراء الجراحات كان خَطِرًا، وكان الحَمْلُ يشكِّل خطرًا على صحة الأم المصابة والمولود. ويمكن للأنسولين علاج معظم حالات الإصابة بهذا المرض، كما أنه يقلِّل أو يحدُّ من الأخطار الطارئة ويطيل من عمر المريض ويزيد من نشاطه.
أعلن بانتينج وماكلويد عن عزل الأنسولين واستخدامه إكلينيكيًّا لعلاج مرض السكر في ورقة بحثية قُدِّمت أمام الجمعية الأمريكية لعلم وظائف الأعضاء في يناير ١٩٢٢، وقد تقاسَمَا جائزةَ نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام ١٩٢٣. ويُعَدُّ الوقت القصير جدًّا بين الاكتشاف والتكريم بجائزة نوبل دليلًا على أهمية الاكتشاف في مجال الممارسة الطبية.
إن الأنسولين بروتينٌ، بوليمر طبيعي مكوَّن من ٥١ حمضًا أمينيًّا بحد أقصى، مرتبطة معًا في تسلسُل محدَّد، في حلقتين متصلتين معًا. وقد اكتُشِف في الحلقتين تسلسُل الأحماض الأمينية للأنسولين البقري في عام ١٩٥٣ من قِبَل فريدريك سانجر من جامعة كامبريدج، الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عن هذا الإنجاز في عام ١٩٥٨. وثمة اختلاف بسيط في تسلسل الأحماض الأمينية في بعض أنواع الحيوانات، لكن الاختلافات في التسلسُلِ ليست مهمةً للتأثير التنظيمي على أيض الكربوهيدرات في البشر؛ فيمكن لأي شخص لديه حساسية للأنسولين المأخوذ من الخيول، على سبيل المثال، استخدامُ الأنسولين المأخوذ من الخنازير. وحتى وقت قريب، كان كلُّ الأنسولين المستخدَم في علاج مرض السكر لدى البشر يأتي من بنكرياس الخيول والخنازير، ولكن نتيجةً للهندسة الوراثية واعتمادًا على المعرفة المتوافرة عن كيفية تحكُّم الحمض النووي في تصنيع البروتينات، بدأت شركة كبرى في مجال الصناعات الدوائية تنتج الأنسولين البشري باستخدام بكتيريا تُسمَّى إيشريشيا كولاي. وتبشِّر تلك العمليةُ بإتاحة إمداداتٍ كبيرةٍ من الأنسولين لا تعتمد على مصادر حيوانية لا يُعوَّل عليها في بعض الأحيان.
إننا نذكر فون ميرينج ومينكوفسكي الآن ليس لجهودهما فيما يتعلَّق بعملية الهضم، ولكن لعملهما الرائد في تحديد سبب مرض السكر ومواجهته بصفة أساسية. ويُنسَب إلى بانتينج وبيست الفضلُ الأكبر لإسهاماتهما في علاج هذا المرض الخطير، لكنَّ المعرفة المبدئية فيما يتعلَّق بسببه كانت نتيجةَ الاستجابة اليَقِظة لميرينج ومينكوفسكي لمنظر الذباب وهو يحوم حول بول كلب استؤصِل بنكرياسه، وهو أمر حدث بمحض المصادفة وكان يمكن أن يتجاهلاه وينظرا إليه كشيء مزعج وتافه.
(٢) الحساسية وفرط الحساسية والأدوية المضادة للهيستامين
حصل شارل روبير ريشيه على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام ١٩١٣ لاكتشافاته المتعلِّقة بالحساسية وفرط الحساسية.
وُلِد ريشيه في باريس في عام ١٨٥٠ لأب كان بروفيسورًا للجراحة الإكلينيكية، وأصبح هو أيضًا بروفيسورًا في علم وظائف الأعضاء، لكنه لم يقصر اهتمامه على هذا المجال؛ فقد نشر أوراقًا بحثية في علم النفس والصيدلة والباثولوجيا والكيمياء الفيسيولوجية، وكان مُتابِعًا لتطوُّر علم الطيران عن قُرْبٍ وصمَّمَ بالفعل طائرة، وكان ناشطًا في الحركات الداعية للسلام. ويرى المرء في الاهتمامَيْن الأخيرين ما يثير المشاعر بعض الشيء؛ لأن أحدَ أولاده كان طيَّارًا وقُتِل في الحرب العالمية الأولى.
دعوني أخبركم بالظروف التي لاحظْتُ خلالها تلك الظاهرةَ للمرة الأولى، واسمحوا لي بالدخول في بعض التفاصيل الخاصة بأصلها. سترون، في واقع الأمر، أنها لم تكن على الإطلاق نتاجَ التفكير العميق، ولكن لملاحظة بسيطة وتقريبًا غير مقصودة؛ مما يعني أنه ليس لي فضل فيها إلا أنني لم أرفض رؤيةَ الحقائق التي عرضَتْ نفسَها أمامي في وضوح تام.
أخذ ريشيه في وصف رحلة قام بها على يخت ألبرت أمير موناكو، وكيف أن الأمير شجَّعه على دراسة السُّم الذي يفرزه حيوان بحري يشبه قنديل البحر يُسمَّى رجل الحرب البرتغالي. (يواجه الكثيرون أسرابًا من تلك الحيوانات البحرية غير المرحَّب بها في الشواطئ، ويعانون من آلام رهيبة بسبب عضاتها.) وعندما عاد ريشيه إلى فرنسا حيث كان يعمل أستاذًا لعلم وظائف الأعضاء في جامعة باريس، لم يستطع الحصولَ على هذا الحيوان لدراسة سمه، وقرَّرَ دراسةَ سُم لوامس شقائق النعمان الموجودة بكثرة في الصخور على طول السواحل الأوروبية. واستخلص السُّم ووضعه في الجليسرين، وأخذ يحاوِل تحديد الجرعة السامة مستخدِمًا الكلاب كحيواناتٍ للتجربة. ولم تكن تلك الاختبارات بسيطةً؛ لأن مفعول السُّم كان يبدأ ببطء، وأحيانًا يتطلَّب عدة أيام حتى يصل إلى أقصى تأثير له.
مع تكرار تلك التجربة الأساسية في مرات مختلفة، استطعنا في عام ١٩٠٢ الوصولَ إلى ثلاث حقائق أساسية تمثِّل أساسَ قصة فرط الحساسية؛ أولًا: الحيوان الذي حُقِن بالسُّم قبل ذلك كان أكثر حساسيةً إلى حد كبير من الحيوان الذي لم يُحقَن على الإطلاق. ثانيًا: الأعراض التي ظهرت في حالة الحقن الثانية كانت تؤدِّي إلى انهيار سريع وكلِّي في الجهاز العصبي، ولم تكن تشبه الأعراض التي ظهرت في حالة الحقن الأولى. ثالثًا: تطلَّبت حالة فرط الحساسية هذه فترةً من ثلاثة إلى أربعة أسابيع حتى تحدث. وهذه ما يُطلَق عليها فترة الحضانة.
واصلَ ريشيه وآخَرون أبحاثهم من أجل تعميم ظاهرة فرط الحساسية الجديدة للجسم على عمليات الحقن التي تتم بكميات صغيرة من البروتينات. وقد أثبت ريشيه انتقالَ التأثير بأخذ دم الحيوان الذي لديه فرط حساسية وحقن حيوان طبيعي به لإنتاج حالة فرط حساسية في الحيوان الثاني. وهكذا تحدَّدت هوية العامِل المسبِّب بأنه مادة كيميائية في الدم.
تمثِّل الآن أمراض الحساسية قسمًا كبيرًا من الطب الباطني، ويوجد شكلان أساسيان من العلاج لتلك الأمراض. يتمثَّل الأول في إزالة الحساسية عند تحديد المُسْتَضَدِّ أو المُسْتَضَدَّات. ويتم ذلك من خلال إدخال كميات قليلة من العوامل المسبِّبة المحتمَلة؛ مما يسبِّب التفاعلات الخاصة بالحساسية على فترات، مع زيادة الجرعات تدريجيًّا حتى تُبنى المقاومة في جسم المريض. في حين يتمثَّل الثاني في استخدام دواء مضاد للهيستامين؛ أي دواء يقابل تأثير الهيستامين المفرَز في جسم المريض بسبب العوامل المسبِّبة للحساسية، وتلك الأدوية شائعة جدًّا. وتمثِّل تلك الأدوية، سواء التي تُصرَف بوصفات طبية أم لا، شريحةً كبيرةً من سوق الأدوية. وهكذا، كان السبب في ظهور هذا المجال الطبي الأبحاث التي قام بها شارل ريشيه.
كل هذا كان السببُ فيه ردَّ فعلٍ غير متوقَّع لكلب تجاه جرعة صغيرة من سُمٍّ مستخلَص من حيوانات بحرية صغيرة، وهي شقائق النعمان، لكن ريشيه أدرك الطبيعة الغريبة لهذا التفاعُل ووجد تفسيرًا لها.
(٣) الخردل النيتروجيني والعلاج الكيميائي للسرطان
كان الحادث العَرَضي الذي تعرَّضت فيه القوات المتحاربة لغاز الخردل أو الخردل الكبريتي أثناء الحرب العالمية الثانية علامةً فارقةً في طريقة العلاج الكيميائي للسرطان. إن غاز الخردل في واقع الأمر هو سائل، ولم تكن الجيوش المتحاربة تستخدمه عن قصد في الحرب العالمية الثانية، لكن كلا الجانبين كان يحرص على وضعه بالقرب من الجبهات الحربية؛ استعدادًا للانتقام إذا ما استُخدِم من طرف الجانب الآخَر. ويُوصَف بأنه غاز لأنه إذا استُخدِمَ تنشره القذائف؛ مما يحوِّله إلى بخار ينتشر في المناطق المحيطة ويؤثِّر على الإنسان.
تم تفجير سفينة لقوات الحلفاء تحمل سائل الخردل في ميناء إيطالي، وبعد انتشار المادة السامة في الماء، أُلقي بعض مقاتلي الحلفاء في الماء، وبعد إنقاذ هؤلاء الجنود، تمت معالجتهم من تأثيرات هذا الغاز، والعديد من هؤلاء أُصِيب باضطراب في الدم يتمثَّل في نقص خطير في عدد كرات الدم البيضاء. ولأن نقص عدد كرات الدم البيضاء يشير إلى تحسُّن في حالة بعض أنواع سرطان الدم التي يحدث فيها إفراط في إنتاج تلك الكرات في النخاع العظمي الورمي، فقد تمَّ اختبار غاز الخردل في المرضى المصابين بسرطان الدم. وكانت السمية العالية للعامِل المسبِّب زاجرًا لاستخدام غاز الخردل، لكن نظرًا لوجود تشابه في التركيب الجزيئي بين أنواع غاز الخردل النيتروجيني والكبريتي، فقد تم اختبار تأثيرها على أنواع سرطان الدم. إن الخردلَ النيتروجيني مركبٌ مماثِل لغاز الخردل (الكبريتي) الشائع، لكن في الخردل النيتروجيني تحل ذرة نيتروجين محل ذرة كبريت في جزيء الخردل الكبريتي.
تم تحضير أنواع عديدة من الخردل النيتروجيني والكبريتي لاستخدامها كغازات سامة في الحرب، لكن بعد التفجير الذي أدَّى إلى التسمُّم العرضي لقوات الحلفاء، اختبِرت مئات الأنواع من الخردل النيتروجيني المقابلة وغيرها من المركبات المرتبطة تركيبيًّا بها كعوامل مضادة للسرطان. ومع أن معظمها لم يقضِ تمامًا على أي نوعٍ من السرطانات التي تصيب الإنسان، فإن تأثيراتها المؤخِّرة لانتشار الأورام السرطانية زادت من الأمل في احتمال اكتشاف مركبات علاجية على المدى الطويل.
(٤) حبوب منع الحَمْل
ظهرت حبوب منع الحَمْل في ستينيات القرن العشرين، وكان لها تأثير هائل على ثقافتنا؛ فقيل إنها مسئولة جزئيًّا عن الثورة الجنسية وتحرير المرأة وعلمنة الكنيسة الكاثوليكية في العالم الغربي. في الواقع، أصل تلك الحبوب ليس حدثًا سرنديبيًّا واحدًا؛ فالأمر أكثر تعقيدًا من هذا، لكن للسرنديبية بالتأكيد دورٌ في هذه القصة.
تبدأ القصة برائد أعمال نموذجي، يُدعَى راسل إي ماركر. عندما كان ماركر عضوًا في كلية الكيمياء بجامعة ولاية بنسلفانيا في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، اكتشف طريقةً لصنع هرمون الأنوثة البروجيسترون من نوع شائع إلى حدٍّ ما من السترويد يُسمَّى السابوجنينات. ومعروفٌ عن هذا الهرمون أنه مهم لعلاج اضطرابات الدورة الشهرية وللوقاية من الإجهاض، وحتى ذلك الوقت كان هذا الدواء متاحًا فقط من قِبل شركات الأدوية الأوروبية، حيث كان يُصنَّع من عمليات تصنيع مُضنية وكان ثمنه غاليًا جدًّا.
عرف ماركر أن السابوجنينات من النوع الذي كان يريده موجودة بكثرةٍ في بعض أنواع البطاطا الحلوة البرية في المكسيك. ولم يستطع الحصول على دعم من جامعته أو أية شركة أدوية أمريكية لتمويل رحلةٍ للحصول على هذا النوع من البطاطا وإجراء تجارب لتصنيع هرمون البروجستيرون منه؛ لذا، استقال راسل من منصبه في جامعة ولاية بنسلفانيا، وذهب إلى المكسيك واستأجر كوخًا وركب بغلًا إلى تلال جنوب المكسيك المغطَّاة بالغابات. جمع عشرة أطنان من تلك البطاطا وعزل السابوجنين الذي كان يريده، وهو الديوسجنين، وذلك في معمل مستأجر في مدينة مكسيكو سيتي، وعندما عاد إلى الولايات المتحدة، وفي معمل صديقٍ له، استخدَمَ عمليته في تصنيع ألفَيْ جرام من البروجستيرون التي كانت قيمتها في ذلك الوقت حوالي ١٦٠ ألف دولار.
عندما عاد إلى مدينة مكسيكو سيتي، عثر على عنوان معمل صغير من دليل الهاتف وأقنع مالكَيْه بالانضمام إليه في مخاطرة تصنيع البروجستيرون، وكوَّنوا معًا شركةً باسم «سينتيكس». استمر ماركر في تلك الشركة أقل من عامين نظرًا لخلافات بينه وبين زملائه، لكنَّ الشريكَيْن المكسيكيَّيْن استعانَا بكيميائيٍّ درس في سويسرا من كُوبا، وهو جورج روزنكرانتس، الذي استطاع مواصلة عملية التصنيع حتى نجح في تحضير هرمون الذكورة التستوستيرون من نفس البطاطا الحلوة المكسيكية. ثم كسرت الشركة الاحتكار الأوروبي، وانخفض سعر الهرمونات من ٨٠ دولارًا إلى دولار واحد لكل جرام.
في عام ١٩٤٩، طُلِب من كارل دجيراسي أن يترأس فريقًا بحثيًّا في شركة سينتيكس لإنتاج سترويد آخَر، وهو الكورتيزون الذي اكتشفه إي سي كيندول منذ بضعة أعوام سابقة، وكان دواءً رائعًا في ذلك الوقت. وُلِد دجيراسي في فيينا بالنمسا، وهاجَرَ إلى الولايات المتحدة وحصل على ليسانس آداب من كلية كينيون وهو في سن التاسعة عشرة، وعلى دكتوراه من جامعة ويسكونسين وهو في سن الثانية والعشرين. وكان يعمل باحثًا كيميائيًّا في شركة سيبا للأدوية في نيو جيرسي عندما طُلِب منه التوجُّه إلى المكسيك لقيادة الأبحاث الخاصة بالسترويدات في شركة سينتيكس.
قال دجيراسي عندما ذهب إلى شركة سينتيكس: «لم يكن أحدٌ يخطط لابتكار حبوبٍ لمنع الحمل.» فقد كان الهدف الرئيسي هو إنتاج الكورتيزون، لكن كان ثمة هدفٌ بحثي مستهدف آخَر وهو إنتاج الإستراديول، وهو هرمون أنثوي يُستخدَم في علاج بعض الاضطرابات التي يمكن أن تحدث عند سن البلوغ أو سن اليأس. وأثناء محاولة تصنيع جزيء له التأثير البيولوجي للإستراديول، صنع دجيراسي وزملاؤه من الكيميائيين في الشركة على نحو عرَضي جزيئًا أكثر شبهًا بهرمون البروجستيرون. واحتوى هذا المركب، ١٩-نوربروجستيرون، في جزيئه على ذرات كربون أقل بواقع ذرة واحدة عما في البروجستيرون، ووجد أن له تأثيرًا مانعًا للحَمْل في الجسم أكثر من الهرمون الطبيعي، لكن لا مجال لدخوله إلى الجسم إلا عن طريق الحقن فقط في مجرى الدم.
يُطلَق على هرمون البروجستيرون أحيانًا أنه مانع الحَمْل الطبيعي، حيث إن من وظائفه منع التبويض أثناء الحَمْل، وكان الهدف التالي بالنسبة إلى كيميائِيِّي الشركة هو تعديل المركب الصناعي الشبيه بالبروجستيرون بحيث يمكن أخذه عن طريق الفم بدلًا من الحقن. واستطاعوا القيام بذلك عن طريق تعديل كيميائيٍّ بسيط، مستعينين في ذلك ببحث أجراه كيميائيٌّ ألماني يُدعَى هانس إنهوفن، قبل ذلك باثني عشر عامًا. وكان للمركب المعدَّل (النوريثيندرون) التأثيرُ المطلوب المانع للحَمْل الذي لهرمون البروجستيرون، وكان أيضًا مستقرًّا في المعدة، وبالتالي يمكن أخذه عن طريق الفم.
وهكذا أُنتِج أول دواءٍ لمنع الحَمْل؛ حيث بدأ الأمر باكتشاف راسل ماركر لطريقة جديدة في تحويل السابوجنينات إلى هرمونات جنسية، ومغامرته الجريئة في الغابات المكسيكية الاستوائية للحصول على السابوجنينات من البطاطا الحلوة المكسيكية البرية، ومخاطرة إنشاء معمل صغير جديد لتحدِّي الاحتكار الأوروبي. واستمرت القصة مع الإنتاج العَرَضي لدجيراسي لمانع حَمْل صناعي يشبه كثيرًا هرمونَ البروجستيرون الطبيعي وتعديله المقصود له بحيث يمكن أخذه عن طريق الفم.
مع تأكُّد إمكانية تصنيع أدوية منع الحَمْل، سرعان ما شرع آخرون في محاولة إيجاد طرق أخرى للتصنيع، ويوجد الآن العديدُ من البدائل الصناعية من تلك الأدوية. ولكن، لا يزال المركب الأول الذي تم تصنيعه في المعمل الدوائي المكسيكي الصغير، وهو النوريثيندرون، المكون النَّشِط في نصف أدوية منع الحَمْل الموجودة حاليًّا تقريبًا.
تعقيب
لم يترك راسل ماركر شركةَ سينتيكس فقط، وإنما أيضًا مجال الكيمياء. فبعد عام ١٩٤٩، عندما كان عمره ٤٧ عامًا، توقَّفَ عن البحث والإنتاج الكيميائي، فهو كان مستقلًّا منذ أن كان في سن صغيرة؛ فقد رفض الحصول على درجة علمية في الكيمياء من جامعة ماريلاند؛ لأنه رفض دراسة الكيمياء الفيزيائية، وهي مادة من المواد الأساسية في الدراسة. وعلى الرغم من ذلك، حصل على منصب بحثي في جامعة كبرى وصنع له تاريخًا مشرِّفًا في الكيمياء في فترة قصيرة جدًّا من حياته.
بعد ثلاثة أعوام في المكسيك، عُيِّن كارل دجيراسي في منصب أكاديمي في جامعة وين ستيت، حيث رُقِّيَ من درجة أستاذ مساعِد إلى درجة أستاذ بحلول عام ١٩٥٩. واحتفظ بعمله في مجال البحث مع شركة سينتيكس ثم مع شركة زوكون لاحقًا. وفي عام ١٩٥٩، انتقل إلى جامعة ستانفورد وعمل هناك أستاذًا للكيمياء، وحصل على درجات فخرية وجوائز عديدة لبحثه الرائد في مجال الأدوية المضادة للهيستامين وأدوية منع الحَمْل.
(٥) ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك
إنَّ قصة اكتشاف عقَّار الهلوسة، ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك، من أكثر القصص رعبًا في التاريخ الطبي المعروف. فتلك المادة مأخوذة من حمض الليسرجيك، وهو في حد ذاته لا يسبِّب الهلوسة، فهو يوجد إلى جانب عددٍ كبيرٍ من أشباه القلويات السامة في فطر الأرجوت الذي يتكوَّن أحيانًا على نباتات الجاودار في الحقل خلال الموسم المطير على وجه الخصوص. ولعدة قرون، كان يصيب هذا الفطر الناسَ من إسبانيا وحتى روسيا، الذين يأكلون — عن جهلٍ أو بسبب الجوع — خبزًا مصنوعًا من دقيق الجاودار الملوَّث. وكانت غرغرينا الأطراف تنتج عن ضيق الأوعية الدموية، وسُمِّي هذا المرض بتسمُّم الأرجوت أو نار سانت أنتوني؛ وذلك لأن ضحاياه كانوا يعانون إحساسًا مُوجعًا بأن جلدهم يحترق وأصابع أيديهم وأرجلهم المُسودَّة مسفوعة، وكانوا يستنجدون برهبان أخوية سانت أنتوني الذين كانوا بارعين في علاج هذا المرض. وخلال العصور الوسطى، كان أكل دقيق الجاودار الفاسد يتسبَّب في حالات إجهاض ومشكلات بصرية واضطرابات عقلية تؤدِّي إلى حدوث حالات جنون، وربما كان السبب في تلك الأعراض تناوُل جرعات زائدة من المواد شبه القلوية الموجودة في نباتات الأرجوت السامة، إلى جانب الهيستيريا الناتجة عن المرض المشوِّه، وليس بسبب حمض الليسرجيك. ولم تثبت خصائص حمض الليسرجيك المهلوسة إلا عندما ربطه صناعيًّا مع مجموعة ثنائي الإثيلاميد ألبرت هوفمان، الكيميائيُّ السويسري من شركة ساندوز لابورتوريز في بازل. وكان هوفمان يدرس حمض الليسرجيك والمركبات المرتبطة به على أمل تطوير دواءٍ لعلاج الصداع النصفي أو للتحكُّم في نزيفِ ما بعد الولادة.
يوم الجمعة الماضي، ١٦ أبريل ١٩٣٨، كان عليَّ تركُ العمل في المعمل والذهاب إلى البيت؛ لأنني شعرت باضطرابٍ ودوار على نحوٍ غريب. وبمجرد الوصول إلى البيت، رقدتُ على الأرض ودخلتُ في حالة هذيان ليست سيئة كانت تتميَّز بدرجة عالية جدًّا من التوهُّم. وفي ظل هذه الحالة من الغيبوبة وأنا مغمض العينين (وجدت ضوءَ النهار يسطع في عيني على نحو مزعج)، كنت أرى حولي باستمرارٍ رؤًى خيالية بوضوح شديد يصاحبها تلوُّنٌ مكثَّفٌ. وبعد ساعتين، زالت تلك الحالة.
لكن في يوم الجمعة هذا، كانت المادتان الغريبتان الوحيدتان اللتان تعاملتُ معهما هما ثنائي إثيلاميد حمض الإيزوليسرجيك وثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك. وكنت أجرِّب طرقًا مختلفة لتصفية هذين الأيزومترين بالتكثُّف ولتحليلهما أيضًا إلى مكوناتهما. وفي تجربة سابقة، نجحتُ في إنتاج بضعة ملِّيجرامات من ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك كبلورةٍ قابلةٍ للذوبان بسهولة في شكل طرطرات محايدة، وهو ملح يتكوَّن من ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك وحمض الطرطريك. لكن كان احتمال حصولي على كمية من تلك المادة تؤدِّي إلى الحالة التي وصفتُها آنفًا؛ غير وارد. وإلى ذلك، لم يكن يبدو أن الأعراض نفسها مرتبطة بتلك الخاصة بمجموعة أرجوتامين-أرجونوفين. صمَّمْتُ على استيضاح الأمر وقرَّرتُ تجربةَ ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك البلورية الشكل على نفسي؛ فإذا كانت تلك المادة بحقٍّ هي السبب، فيجب أنها كانت نَشِطة عند التعرُّض لها بكميات صغيرة، وقرَّرتُ البدء بجرعة شديدة الصغر كانت تنتج بعض التأثير الذي ينتج عند التعرض لكميات مكافئة من الأرجوتامين أو الأرجونوفين.
طلبتُ من مساعدي في المعمل اصطحابي إلى البيت؛ حيث إنني كنتُ أتوقَّع أن الوضع سيتطوَّر على نحو مماثل لما حدث في يوم الجمعة الماضي. ولكن في طريقي إلى البيت (وهو على مسافة أربعة أميال بالدراجة، حيث لم تكن توجد وسيلة نقل أخرى متاحة بسبب الحرب)، تفاقمت الأعراضُ وأصبحت شدتها أكبر كثيرًا مما كانت عليه في المرة الأولى. فأصبحتُ أعاني صعوبةً شديدة في التحدُّث على نحو متماسِك، وحدث تذبذُب في مجال رؤيتي وتشوُّه وأصبح على هيئة انعكاساتٍ في مرآة ملاهٍ. وكان لديَّ أيضًا انطباعٌ بأنني كنتُ أتحرك بالكاد، لكن مساعدي لاحقًا قال لي إنني كنتُ أقود الدراجة بسرعة كبيرة.
بقدر ما يمكنني التذكُّر، هدأَت الحالة الشديدة عندما وصل الطبيب، وكانت أعراض الحالة كما يلي: دوار، واضطرابات بصرية، ووجوه من حولي كانت تبدو لي كأقنعة غريبة ملوَّنة، وهياج شديد تتناوب معه حالة خَدَر (شلل جزئي)، وأحيانًا يصبح كلٌّ من الرأس والجسم والأطراف باردًا ومنملًا، وأشعر بطعم مر في اللسان وبجفاف الحلق وذبوله، ويراودني شعورٌ بالاختناق وارتباكٌ يتناوب معه تقدير واضح للموقف، وفي بعض الأحيان أشعر بخروجي من جسدي كأنني مراقِب محايد، فأسمع نفسي وهي تتمتم بألفاظ فنية أو تصرخ كشخص نصف مجنون.
وجد الطبيب أن نبضي ضعيف بعض الشيء، لكن بصفة عامة كانت الدورة الدموية لديَّ طبيعية. وبعد ٦ ساعات من تناولي الدواء، تحسَّنَتْ حالتي إلى حدٍّ كبير.
لكن الاضطرابات الإدراكية كانت لا تزال موجودة. فقد بَدَا كل شيء كأنه يتموَّج، وكان هناك تشوُّه في نسب الرؤية، وبَدَتْ كأنها انعكاسات على سطح مياه متقلبة. وكان كل شيء يتغيَّر لدرجات ألوان خضراء وزرقاء مؤذية بشكل رئيسي وغير مبهجة. وعندما أغمضُ عينيَّ، كانت تجتاحني صور خيالية متعددة الألوان ومتحوِّلة. وما كان ملحوظًا على وجه الخصوص هو أن الأصوات كانت تُترجَم إلى أحاسيس بصرية، بحيث تُستدَعى صورة ملونة مقابلة من كل درجة لون أو صوت، والتي تتغيَّر في الشكل واللون على نحو تبادلي.
بعد الخلود إلى قسط جيد من الراحة ليلًا، شعر هوفمان بأنه «سليم تمامًا، لكنه كان متعبًا.» إن هذا التعرُّض غير المقصود من جانب هذا الكيميائي الشديد الذكاء لمادة ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك كان شرارةَ البدء لسلسلةٍ من الدراسات عن حالات تغيُّر الوعي بسبب التعرُّض لمواد كيميائية، وامتدت تلك الدراسات في كل مركز للأبحاث النفسية. وفي الواقع، لا تكمن أهمية اكتشاف هوفمان في وجود أية علاقة كيميائية مباشِرة بين تلك المادة ومرضٍ مثل الفصام؛ فتركيبه لا يمكن تقريبًا توقُّع تصنيعِه من قِبل عملية الأيض البشرية.
كان لاكتشاف ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك تداعيات أخرى مهمة؛ فهو يثبت أنه يمكن لكميات قليلة للغاية من مواد كيميائية أن تُحدِث اضطراباتٍ عقلية تشبه حالات الذُّهان التي تحدث على نحو طبيعي. وهذا ما أدَّى إلى زيادة الاهتمام بكيمياء الجهاز العصبي، وخاصةً النواقل الكيميائية عبر تشابكات الخلايا العصبية، كما أنه سمح بالدراسة المعملية لكلٍّ من العمليات العقلية الطبيعية وغير الطبيعية.
رغم تصنيع عدد كبير من مشتقات حمض الليسرجيك التي تؤدِّي إلى الإصابة بالهلوسة، فإنه ليس من بينها ما هو أقوى تأثيرًا من ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك. وقد اكتُشِفت أيضًا مجموعات كيميائية جديدة وغير مرتبطة تمامًا لها خصائص نفسية مشابهة. وفي يومٍ ما، ربما ستتضح كيمياء المرض العقلي جزئيًّا، بفضل تجربة ألبرت هوفمان السرنديبية الرهيبة التي كانت وليدة المصادفة.
تعقيب
نظرًا لأن دواء ثنائي إثيلاميد حمض الليسرجيك كان يُسَاء استخدامه وتنتج عن هذا تلك العواقب الوخيمة؛ فقد أوقفت شركة ساندوز لابورتوريز إنتاجه في عام ١٩٦٦، وحوَّلَتْ كلَّ إنتاجها إلى المعهد القومي للصحة النفسية.
في فصلٍ لاحق من هذا الكتاب، عنوانه: «الأسوأ المحتمَل حدوثه»، يعلِّق الدكتور كوهين على الاستخدامات الممكنة لهذا الدواء وكيف يمكن إساءة استخدامه قائلًا: «إن عنوان هذا الفصل مأخوذ من الأغنية التحذيرية للمتحدِّثين باسم «رابطة الاكتشاف الروحي»، الذين يؤكِّدون أن «أسوأ شيء يمكن أن يحدث لك بعد تناوُل هذا الدواء هو أنك ستعود سيِّئًا كما كنتَ.» وهذه عبارة غير صحيحة؛ فقد تعود أسوأ كثيرًا مما كنتَ عليه، وقد لا تعود على الإطلاق.»
(٦) اختبار مسحة بَاب
«منذ ٢٥ عامًا، كان سرطان الرَّحِم أهم الأسباب وراء وفاة الأمريكيات؛ لكن اليوم، طبقًا لجمعية السرطان الأمريكية، توجد ١٨٠ ألف سيدة مصابة بهذا المرض «عُولِجن وما زِلْن على قيد الحياة وبصحة جيدة» بعد ٥ سنوات من العلاج، والفضل يرجع بصفة أساسية إلى اختبار مسحة بَاب.» إن هذا الاقتباس مأخوذ من تقريرٍ عن وفاة الدكتور جورج نيكولاس بابانيكلاو في عام ١٩٦٢ في مجلة «ميديكال وورلد نيوز».
طوَّرَ الدكتور بابانيكلاو اختبارَ مسحة بَاب بعد ملاحظةٍ سرنديبية من جانبه في عام ١٩٢٣. وذكر تلك الملاحظة لأول مرة في عام ١٩٢٨ في ورقة بحثية قصيرة بعنوان «تشخيص جديد لمرض السرطان» قدَّمَها في مؤتمر في مدينة باتل كريك بولاية ميشيجان. ونُشِرت الورقة بعد ذلك في مجلةٍ تُسمَّى «جروث»، لكن الوسط الطبي لم يهتم كثيرًا بها حتى لاحَظَها الدكتور جوزيف سي هينسي، الذي كان في عام ١٩٤٠ عميدًا للكلية الطبية بجامعة كورنيل. شجَّعَ الدكتور هينسي «الدكتور بَاب» على استئناف بحثه عن سرطان الرَّحِم في معملٍ وُضِع تحت تصرُّفِه في جامعة كورنيل. وفي عام ١٩٤٣، نشر الدكتور بَاب ورقةً بحثيةً مع الدكتور هربرت إف تروت بعنوان «تشخيص سرطان الرَّحِم من خلال أخذ مسحة من المهبل»، وقد جذبت أخيرًا اهتمام الوسط الطبي. وفي عام ١٩٤٨، طلب الدكتور تشارلز إس كاميرون، المدير الطبي والعلمي لجمعية السرطان الأمريكية، عقدَ مؤتمرٍ في بوسطن. وبعد ذلك، بدأ اختبار مسحة بَاب ينتشر تدريجيًّا على مستوى العالم.
بدأت حياة جورج بَاب اللافتة للنظر في عام ١٨٨٣ في بلدة كومي الصغيرة باليونان. كان ابنًا لطبيب، وحصل على درجته العلمية في الطب من جامعة أثينا. وقرَّرَ أن يَهَبَ حياته للبحث بدلًا من أن يصبح ممارِسًا عامًّا؛ لذلك انتقل إلى ألمانيا ودرس في جامعات ينَا وفرايبورج وميونخ، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة ميونخ في عام ١٩١٠. توقَّفَتْ حياته المهنية بخدمته العسكرية في الجيش اليوناني في حرب البلقان، حيث قابَلَ أمريكيِّين من أصل يوناني أغراه وصفهم لأمريكا بأنها أرض الفرص بالانتقال إليها للسعي وراء مستقبله هناك. وذهب إلى أمريكا مع زوجته التي تزوَّجها بعد عودته إلى اليونان بعد استكمال دراسته في ميونخ، دون أية خطة محدَّدة بشأن كيفية تحقيق طموحاته البحثية في علم الأحياء والطب.
عمل ليوم واحد بائعَ سجاجيد في مركز تجاري بنيويورك. وبتوصية من الدكتور توماس مورجان، أستاذ علم الحيوان في جامعة كولومبيا الذي كان على علم ببحثه في ميونخ، حصل على وظيفة بدوام جزئي في قسم الباثولوجيا في مستشفًى بنيويورك كان تابعًا لكلية الطب بجامعة كورنيل. وسرعان ما انتقل إلى قسم التشريح في كلية الطب وترقَّى إلى درجة أستاذ مساعد، ثم أستاذ، ثم أستاذ فخري، ثم مدير لمعمل بابانيكلاو البحثي، ثم مستشار لمعمل بابانيكلاو لعلم الخلايا.
استمرَّ ارتباطه بجامعة كورنيل لحوالي نصف قرن. وكان يعمل لمدة ١٤ ساعة في اليوم و٦ أيام ونصف في الأسبوع في مَعامله في تلك الجامعة وفي بيته، وكانت زوجته هي مَنْ تساعده بصفة أساسية. وأخذ إجازة واحدة خلال ٤١ عامًا، وعلَّل ذلك قائلًا: «العمل ممتع للغاية، ويوجد الكثير الذي يجب إنجازه!»
إن الشهرة والنجاح اللَّذين حقَّقهما الدكتور بَاب كانَا نتيجةَ ملاحظةٍ أعلَنَ بنفسه عن أنها «كانت مسألة حظٍّ إلى حدٍّ كبير.» طلب البروفيسور تشارلز آر ستوكارد، رئيس قسم التشريح بكلية الطب بجامعة كورنيل، من الدكتور بَاب أن يعمل معه في الدراسات التي كان يقوم بها في مجال الوراثة المعملية، وفي ذلك الوقت كان ثمة اهتمام كبير بدور الكروموسومات في تحديد الجنس. وبدأ الدكتور بَاب في العمل على الخنازير الغينية؛ فقاده هذا البحث إلى نشر ورقة بحثية مع الدكتور ستوكارد في عام ١٩١٧ تصفُ التغيرات الخلوية الملحوظة في النسيج المهبلي أثناء المراحل المختلفة من الدورة النزوية عند الخنزير الغيني. وحتى يعلم إن كانت تحدث تغيُّرات خلوية مهبلية مشابهة في الدورة الشهرية للسيدات أم لا، قام الدكتور بَاب في عام ١٩٢٣ بدراسة منهجية لعلم خلايا السائل المهبلي البشري، وأُجريت هذه الدراسة على مريضاتٍ في مستشفى نيويورك للنساء.
أُخِذت عينة من سيدة تعاني من سرطان الرَّحِم، وبفضل قدرة الدكتور بَاب على الملاحظة الدقيقة والتقدير الجيد، أدرَكَ وجودَ شذوذ تركيبي في الخلايا السرطانية في مسحات السائل المهبلي. وقال لاحقًا: «إن الملاحظة الأولى للخلايا السرطانية في مسحة عنق الرَّحِم أثارت دهشتي على نحو بالغ لم أصادفه قط في حياتي العملية.» وفي نهاية الورقة البحثية التي قدَّمها في عام ١٩٢٨، وبعد وصف الاختبار الجديد لسرطان الرَّحِم في المرحلة ما قبل الانتشارية، توقَّعَ قائلًا: «إن الفهم الأفضل والتحليل الأكثر دقةً لمشكلة السرطان مرهونٌ بنتيجة استخدام هذه الطريقة، ومن الممكن أن يتم تطويرُ طرقٍ مماثلةٍ لاكتشاف السرطان في أعضاءٍ أخرى. وإنني لأشعر أن تلك الطرق يمكن تطويرها وسيحدث هذا بالفعل في المستقبل.» تحقَّقَ توقُّعُ الدكتور بَاب، وتم تطبيق طريقته على القولون والكُلى والمثانة والبروستاتا والرِّئة والمعدة والثدي والجيوب وحتى الدماغ.
تعقيب
حصل الدكتور بَاب على الكثير من التكريم بما لا يتسع المجال لذكره هنا. ومن الأمثلة على ذلك تسمية معهدٍ لبحوث السرطان باسمه، وحصوله على العديد من الجوائز من جمعيات خاصة بالسرطان وبالسيدات، وثلاث درجات جامعية فخرية، وجائزتان من الحكومة اليونانية.
يُعَدُّ اختبار مسحة بَاب لاكتشاف سرطان عنق الرَّحِم في المرحلة ما قبل الانتشارية من أعظم الاكتشافات الطبية التي أدَّتْ إلى إنقاذ حياة عدد كبير من السيدات. وفي عام ١٩٥٩، ذكر مدير معهد الأورام في موسكو أن ثمانية ملايين سيدة خضعن لاختبار مسحة بَاب في روسيا. وفي السويد، حيث يُحتفَظ بأكثر السجلات الطبية اكتمالًا في العالم، خضعَتْ ٢٠٧٤٥٥ سيدة لهذا الاختبار على مدى عشر سنوات، وتم حفظ السجلات على الكمبيوتر. وأوضحت النتائج أن ثمة نقصًا في معدل الإصابة بسرطان عنق الرَّحِم بين السيدات اللاتي خضعن لاختبار مسحة بَاب بمعدل حالة واحدة على الأقل لمدة عشر سنوات؛ أي ما يُقدَّر بنسبة ٧٥٪. ويقدِّر الأطباء في جامعة أوبسالا أن اتِّبَاع نظامٍ تخضع فيه السيدة لهذا الاختبار كل ثلاث سنوات يمكن أن يقلِّل من معدل حدوث سرطان عنق الرَّحِم الانتشاري لمستوًى يتراوح بين حالة واحدة و٥ حالات لكل مائة ألف سيدة كل عام.
(٧) الضوء والصفرة عند حديثي الولادة
مُنِح نيلس فينسن جائزةَ نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام ١٩٠٣ «تقديرًا لإسهامه في علاج الأمراض، خاصةً مرض الذئبة الشائعة باستخدام الأشعة الضوئية المركَّزة.» عُرِفت قيمةُ ضوء الشمس في الوقاية من مرض كساح الأطفال الذي يصيب العظام منذ عام ١٩١٩؛ إذ يحوِّل الضوءُ طلائعَ فيتامين (د) في الجسم إلى فيتامين فعَّال يتحكَّم في تكلُّس العظام.
بعد ذلك، أُثيرت ادعاءات حول وجود العديد من الآثار المفيدة الأخرى للضوء، بعضها اكتُشِف مصادفةً. وبعض الادعاءات الخاصة بتأثير الضوء، سواء الطبيعي أو الصناعي، مثار جدل. ومن الادعاءات التي تم قبولها واستخدامها من قِبَل مزاولي مهنة الطب — وكانت اكتشافات سرنديبية — دور ضوء الشمس في علاج الصفرة عند حديثي الولادة.
أحيانًا يظهر اصفرار على جلد الأطفال الحديثي الولادة، وهي حالة تُعرَف بصفرة حديثي الولادة. والسبب واحد في هذا الاصفرار وغيره من أشكال الصفرة الأخرى؛ إذ تصل الصبغة الصفراوية المتمثلة في البيليروبين إلى تركيز غير طبيعي وتظهر في الجلد وبياض العينين. وتُفرَز صبغة البيليروبين نتيجةً لانحلال الهيموجلوبين؛ حيث يشير تركيزها العالي غير الطبيعي في الدم إلى وجود مشكلةٍ في الكبد أو الطحال أو المرارة. وفي حالة صفرة حديثي الولادة، لا يستطيع الكبد غير المكتمِل النمو لدى الطفل التخلُّص من البيليروبين بالسرعة الكافية لمنع حدوث تلف بالدماغ والوفاة.
في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، لاحظَتْ ممرضة ذكية في مستشفًى في إنجلترا أنه عندما يُوضَع حديثو الولادة المصابون بالصفرة بالقرب من نوافذ الحضانة في ضوء الشمس، يختفي المرض. وأثبتت الأبحاث التي أُجرِيت بعد ملاحظة الممرضة أن مكوِّن الأشعة فوق البنفسجية من ضوء الشمس ينقِّي جلد الأطفال محوِّلًا البيليروبين إلى شكلٍ يمكن التخلُّص منه. وقد أصبح الآن تعريضُ الأطفال الحديثي الولادة للضوء فوق البنفسجي ممارسةً قياسيةً في المستشفيات للوقاية من صفرة الأطفال الحديثي الولادة أو علاجها.
(٨) مُستقبِلات الكوليسترول
يُعَدُّ ترسُّب الكوليسترول في الأوعية الدموية المؤدِّي إلى الإصابة بالأزمات القلبية من أهم المشكلات الصحية في عصرنا الحالي. حصل الدكتور مايكل إس براون والدكتور جوزيف إل جولدشتاين، من مركز العلوم الصحية بجامعة تكساس بدالاس، على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في عام ١٩٨٥؛ لاكتشافهما لمستقبلات الكوليسترول الضرورية لتقليل نسبة الكوليسترول في مجرى الدم. وكان العمل في هذا المجال يسير في شكل دراسات علمية مخطَّط لها بعناية من قِبَل باحثين بارعين ومدرَّبين تدريبًا عاليًا وشديدي الإخلاص للعلم، ولكنه استفاد أيضًا من السرنديبية.
يتذكر الدكتور براون قائلًا: «في البداية، بدأنا بافتراضٍ كان غير صحيح … فقد كنَّا ندرس فرط كوليسترول الدم العائلي، وهو مرض يعاني فيه الأطفال من ارتفاع هائل في مستوى الكوليسترول في الدم. في البداية، كنَّا نظن أن ثمة خللًا في أحد الإنزيمات الذي كان ينتج كوليسترولًا زائدًا، لكن اتضح لنا أن هذا الإنزيم لم يكن هو المشكلة، لكن الحقيقة أن خلايا الجسم كانت لديها مشكلة في الحصول على الكوليسترول من أحد البروتينات الدهنية، وبالتالي في التخلُّص منه. لم يتراءَ لنا يومًا وجود شيءٍ مثل المستقبلات، فلم يكن ليطرأ على ذهن أي عالِم على مستوى العالم أن هناك شيئًا كهذا.»
بدأ براون وجولدشتاين دراساتهما بخلايا جلدية مزروعة من مرضى يعانون من فرط كوليسترول الدم العائلي؛ لأنه كان من الصعب أو المستحيل الحصول على أكباد هؤلاء المرضى. ولعبت المصادفة دورًا في هذا البحث عندما تلقَّى براون اتصالًا هاتفيًّا من طبيبٍ من دينفر استطاع الحصول على كبد من مريض مصاب بهذا المرض (وذلك عبر عملية زرع كبد). وحيث إن براون وزميله كانَا يقومان بالفعل بدراساتٍ على الخلايا الجلدية، طلب براون الحصول على بعض الجلد من هذا المريض بدلًا من الكبد، وحصل عليه بالفعل.
عرف براون وجولدشتاين من خلال دراساتهما الخاصة بالخلايا الجلدية أن مرضى فرط كوليسترول الدم العائلي ليست لديهم مستقبلاتُ الكوليسترولِ الضارِّ الوظيفيةُ الموجودة على أغشية الخلايا، والتي تُعَدُّ الحواملَ الأساسيةَ لكوليسترول الدم التي تنقله إلى خلايا الجسم.
في نفس الوقت تقريبًا، في عام ١٩٧٣ الذي كان يحاول فيه عالِمَا دالاس فهمَ الكيفية التي يمكن بها أن يؤدي نقص مستقبلات الكوليسترول الضار وفرط الكوليسترول الضار في الدم الناتج عن ذلك إلى الإصابة بالأزمات القلبية؛ توصلَ طبيب بيطري في اليابان إلى اكتشاف سرنديبي ساعَدَ على نحو كبير في الأبحاث الخاصة بمستقبلات الكوليسترول الضار. فحصَ يوشيو أتانابي من جامعة كوبي أرنبًا في سربه، فوجد أن تركيز الكوليسترول في دم الأرنب كان أعلى عشر مرات من التركيز الطبيعي للكوليسترول. وعن طريق عمليات التربية المناسبة، حصل أتانابي على سلالة من الأرانب كلها لديها مستويات عالية من الكوليسترول في دمها، وكلها أُصِيبت بأمراض القلب التاجية التي تشبه على نحوٍ كبيرٍ أمراضَ القلب التي يُصَاب بها البشر، ووجد أن تلك الأرانب تعاني من غياب المستقبلات الوظيفية للكوليسترول الضار، كما هو الحال مع البشر المصابين بفرط كوليسترول الدم العائلي.
إنَّ مرض فرط كوليسترول الدم العائلي هو السبب في عدد صغير فقط من حالات الإصابة بأمراض القلب التاجي. والشيء الذي ما زال غير مفهوم هو السبب في ارتفاع مستويات الكوليسترول في بعض البشر مع أنهم غير مصابين بمرض فرط كوليسترول الدم العائلي، ولا يحصلون على كميات كبيرة من الكوليسترول. هناك بالتأكيد عامل وراثي وراء كون بعض الأفراد أكثر عرضةً للمعاناة من تلك المشكلة أكثر من غيرهم، وقد أعطَتِ الدراسات الخاصة بمستقبلات الخلايا في كلٍّ من البشر والأرانب بعضَ الإجابات عن هذا السؤال، ومن المنتظَر أن تقدِّم المزيد. وبصفة أساسية، يرجع التركيزُ العالي للكوليسترول في مجرى الدم إلى عاملَيْن؛ الأول: هو الإنتاج المفرط للكوليسترول من جانب الكبد، والثاني: هو نقص استقبال الكوليسترول من جانب الكبد والغدد الكظرية المسئولة عن إنتاج الهرمونات السترويدية الحيوية من الكوليسترول.
لحسن الحظ، يبدو الآن أن تصحيح هذا الخلل أصبح ممكنًا؛ فقد اكتُشِف دواء يُسمَّى كولسترامين يزيد من مستقبلات الكوليسترول الضار، وهناك دواء آخَر تم عزله من عَفن يثبط تصنيع الكوليسترول في الكبد، يُسمَّى ميفينولين (أو لوفستاتين) اكتُشِف على نحو مستقل على يد أكيرو إندو من شركة سانكيو للأدوية وعالِمين من شركة ميرك؛ هما شارب ودوم. وستسوِّق شركةُ ميرك لهذا الدواء بالاسم التجاري ميفاكور. ويرى براون وجولدشتاين أن طريقة استخدام كلا الدواءين لتقليل مستويات الكوليسترول من الأفضل تجربتها على الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع مستويات الكوليسترول على نحو كبير جدًّا.