أشعة إكس والنشاط الإشعاعي والانشطار النووي
(١) اكتشاف أشعة إكس على يد رونتجن
في عام ١٨٩٥، اكتشف الفيزيائي الألماني فيلهلم كونراد رونتجن أشعة إكس بالمصادفة. كان رونتجن يكرِّر تجارب لفيزيائيين آخَرين تمَّ فيها تفريغُ كهرباء بجهدٍ عالٍ عبر الهواء أو بعض الغازات الأخرى في أنبوب زجاجي مفرَّغ جزئيًّا. وفي عام ١٨٥٨، وُجِد أن جدران الأنبوب الزجاجي تصبح ذات وميض فسفوري أثناء التفريغ. في عام ١٨٧٨، وصف السير ويليام كروكس «أشعة الكاثود» التي تسبِّب الوميض الفسفوري بأنها «تيار من الجزيئات الطائرة»، لكننا نعرف الآن أن تلك الأشعة هي في واقع الأمر تيارات من الإلكترونات المنبعثة من الكاثود، وينتج الوميض الفوسفوري عن تأثير تلك الإلكترونات على جدران الأنابيب الزجاجية.
إن اللافتات النيون والصمامات التليفزيونية والمصابيح الفلورية هي تطبيقات حديثة لتلك التجارب. وتكون المصابيح الفلورية مطلية من الداخل بمواد عالية الفلورية لإنتاج ألوان وظلال ضوءٍ مختلفة.
في عام ١٨٩٢، أثبت هاينريش هيرتس أن أشعة الكاثود يمكن أن تخترق ورق الفويل الرفيع. وبعد عامين، صنع فيليب لينارد الأنابيبَ المفرَّغة التي لها جدران رفيعة من الألومنيوم. وكانت تلك الجدران تسمح لأشعة الكاثود بالخروج من الأنبوب المفرَّغ حيث يمكن الكشف عنها من خلال الضوء الذي تنتجه على شاشة مصنوعة من مادة فسفورية (كانت تُستخدَم تلك الشاشات أيضًا للكشف عن الضوء فوق البنفسجي)؛ لكن وُجِد أنها تتحرك فقط لسنتيمترين أو ثلاثة سنتيمترات فقط في الهواء تحت الضغط العادي خارج الأنبوب المفرَّغ.
كرَّرَ رونتجن بعض هذه التجارب حتى يتعرَّف على الأساليب المستخدَمة فيها، ثم قرَّرَ أن يرى إن كان بإمكانه اكتشافُ أشعة الكاثود الصادرة عن أنبوب مفرَّغ زجاجي بالكامل، كالذي استخدمه كروكس؛ أيْ أنبوب بدون جدار رفيع من الألومنيوم. ولم يلاحظ أحدٌ إصدارَ أشعة كاثود في تلك الظروف؛ فاعتقد رونتجن أن سبب الفشل في القيام بهذا ربما يرجع إلى أن الوميض الفوسفوري القوي لأنبوب الكاثود يغطي على الفلورية الضعيفة للشاشة الكاشِفة. ولاختبار تلك النظرية، صنع غطاءً كرتونيًّا أسود لأنبوب الكاثود، ولتحديد مدى فاعلية الغطاء، جعل الغرفة مظلمةً وشغَّلَ ملف الجهد العالي لإمداد الأنبوب بالطاقة. وعندما تأكد من أن الغطاء الأسود الذي استخدمه كان يغطِّي الأنبوب بالفعل ولا يسمح بهروب أي ضوء إشعاعي فوسفوري، همَّ بإغلاق الملف وتشغيل أضواء الغرفة حتى يمكنه وضع الشاشة الفوسفورية على مسافات صغيرة مختلفة من الأنبوب المفرَّغ، لكنه لاحظَ شيئًا غريبًا.
في تلك اللحظة تحديدًا، لاحَظَ هيرتس ضوءًا ضعيفًا يُومِض من نقطة في الغرفة المظلمة لأكثر من ياردة من الأنبوب المفرَّغ. في البداية، اعتقَدَ أنه لا بد أن هناك تسرُّبًا ضوئيًّا من الغطاء الأسود الموجود حول الأنبوب، والذي انعكس من مرآة في الغرفة. لكن لم تكن توجد مرآة، وعندما مرَّرَ سلسلةً أخرى من الشحنات عبر أنبوب الكاثود، رأى الضوء يظهر في نفس المكان أيضًا، وكان يبدو مثل سحب خضراء باهتة تتحرك في تناغُمٍ مع الشحنات المتذبذبة لأنبوب الكاثود. أسرع رونتجن لإشعال عقب ثقاب، وما أثار دهشته أن مصدر الضوء الغامض كان الشاشةَ الفلورية الصغيرة التي خطَّطَ لاستخدامها كأداة كاشِفة بالقرب من أنبوب الكاثود المغطَّى، إلا أنها كانت ملقاة على المقعد الموجود على بُعْد أكثر من ياردة من الأنبوب.
أدرك رونتجن على الفور أنه صادَفَ ظاهرة جديدة تمامًا، فلم تكن هذه هي أشعة الكاثود التي أضاءت الشاشة الفلورية لأكثر من ياردة من الأنبوب! في الأسابيع العديدة التالية، خصَّصَ رونتجن كلَّ وقته وجهده وتفكيره لاستكشاف هذا الشكل الجديد من الإشعاع، وذكر النتائج التي توصَّلَ إليها في ورقة بحثية نشرها في فورتسبورغ، بتاريخ ٢٨ ديسمبر من عام ١٨٩٥ بعنوان «نوع جديد من الأشعة، نتائج أولية». ومع أنه وصَفَ بدقةٍ معظمَ الخصائص الكيفية الأساسية للأشعة الجديدة في تلك الورقة، فإن اعترافه بأنه لم يفهمها بعدُ بالكامل ظهَرَ من خلال الاسم الذي أعطاه لها، أشعة إكس (أيْ مجهولة). (وكثيرًا ما يُطلَق عليها أشعة رونتجن.)
كل الأجسام شفافة لهذا العامل، لكن بدرجات متفاوتة جدًّا … الورق شفاف جدًّا؛ فخلف كتاب مجلد تتجاوز عدد صفحاته الألف، رأيتُ الشاشةَ الفلورية تضيء على نحو ساطع … بالطريقة نفسها، تظهر الفلورية خلف مجموعتين من ورق اللعب … كما أن الكتل الخشبية السميكة شفافة، فألواح الصنوبر التي سمكها يصل إلى سنتيمترين أو ثلاثة لا تمتص سوى القليل من تلك الأشعة. كما أن لوحًا من الألومنيوم سمكه يصل إلى ١٥ ملِّيمترًا، لم يجعل الفلورية تختفي بالكامل، مع أنه أضعف تأثير الأشعة إلى حدٍّ كبير … إذا وضعت اليد بين الأنبوب المفرَّغ والشاشة، فسيُرى الظلُّ الأكثر دُكْنةً للعظام داخل الصور الظلية الداكنة قليلًا المأخوذة لليد نفسها.
كما وجد أيضًا أن بإمكانه تسجيل هذه الصور الخاصة بالهيكل العظمي على فيلم فوتوغرافي. وقد جذبَتْ خاصية أشعة إكس هذه انتباهَ عالم الطب على الفور؛ ففي وقت قصير جدًّا، أصبحت تلك الأشعة تُستخدَم على نحو روتيني في التشخيص في المستشفيات على مستوى العالم.
ثمة أحداث قليلة في تاريخ العلم كان لها تأثير قوي جدًّا مثل اكتشاف رونتجن. ففي خلال عامٍ بعد إعلانه عن اكتشافه لأول مرة، ظهر ٤٩ كتابًا ومطويةً وأكثرُ من ألف مقال عن أشعة إكس، لكن لم يحدث أيُّ تقدُّمٍ ملحوظ في معرفة خصائص أشعة إكس عما توصل إليه رونتجن إلا بعد مضي ٢٠ عامًا تقريبًا.
عندما بدأت الأكاديمية السويدية للعلوم في توزيع جوائز نوبل لأول مرة في عام ١٩٠١، وقع اختيارها في مجال الفيزياء على رونتجن. ولا شك أن الأكاديمية كانت سعيدة للغاية بأنْ توافر لديها إنجاز كبير كهذا كي تكرِّمه بأول جائزة من جوائز نوبل.
تعقيب
وُلِد فيلهلم كونراد رونتجن في لينيب ببروسيا في عام ١٨٤٥. حصل على تعليمه الأولي في هولندا بعد أن انتقلت أسرته إلى هناك عندما كان رونتجن في الثالثة من عمره، وبعد الدراسة لفترة قصيرة في أوترخت في المدرسة الفنية ثم في الجامعة، التحَقَ بالمعهد السويسري للتكنولوجيا في زيورخ، الذي حصل منه على دبلومة في الهندسة الميكانيكية. لكنه أصبح مهتمًّا بالعلوم المجردة أكثر من الهندسة، وبدأ في دراسة الرياضيات والفيزياء، وبعد التتلمُذِ على يد أوجست كونت، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة زيورخ برسالة عنوانها «دراسات عن الغازات». ولحِق بكونت في فيرتسبورج بعد عام واحد، ثم في شتراتسبورج، حيث حصل على أول وظيفة له كمُعيد. وفي عام ١٨٨٨، قَبِل منصب أستاذ الفيزياء ومدير المعهد الفيزيائي في جامعة فيرتسبورج، وظلَّ في هذا المنصب لمدة ١٢ عامًا اكتشف أثناءها أشعة إكس. وفي عام ١٩٠٠، طلبت منه حكومة بافاريا رئاسة المعهد الفيزيائي في ميونخ، الذي ظلَّ فيه لبقية حياته المهنية. ومات في عام ١٩٢٣ عن عمر يناهز ٧٨ عامًا.
كان من الممكن أن يموت قبل ذلك بكثير بسبب الإشعاع الذي اكتشفه، وذلك ما لم يَحْمِ نفسَه من أشعة إكس في معظم الوقت الذي كان يجري فيه تجاربه. فقد بنى كشكًا داخل المعمل، ليس من أجل حماية نفسه ولكن من أجل دقة التحميض الفوتوغرافي أثناء النهار؛ فلم تكن الآثارُ المميتة للتعرُّض المفرط لأشعة إكس قد عُرِفت بالكامل أثناء حياة رونتجن.
(٢) اكتشاف النشاط الإشعاعي على يد بيكريل
تلا اكتشافُ النشاط الإشعاعي الطبيعي على يد هنري بيكريل مباشَرةً اكتشافَ أشعة إكس على يد رونتجن، وذلك لسبب جيد. قرأ بيكريل الورقة البحثية التي وصف فيها رونتجن أشعته المختَرِقة الجديدة على أنها نتاج أشعة كاثود تنتج وميضًا فوسفوريًّا أيضًا في زجاج الأنابيب المفرَّغة؛ ففكَّرَ بيكريل في أن المواد التي تنتج وميضًا فوسفوريًّا من خلال الضوء المرئي ربما تنتج إشعاعًا مخترقًا مماثلًا لأشعة إكس؛ وهي نظرية خاطئة أدَّت — على أية حال — إلى اكتشاف مهم.
اختار بيكريل مركب اليورانيوم ذا الوميض الفوسفوري. ولاختبار نظريته، لفَّ صفيحة فوتوغرافية في ورق أسود، ووضع بلورة من مركب اليورانيوم على الصفيحة الملفوفة في الورق، ثم وضع الكل في ضوء الشمس الساطع. وعندما تم تحميض الصفيحة الفوتوغرافية، وجد عليها صورةً لبلورة اليورانيوم، ولأن بيكريل كان عالمًا تجريبيًّا حَذِرًا، فإنه كان يعرف مسبقًا أن الورق الأسود سيحمي الصفيحة الفوتوغرافية من ضوء الشمس، ومن ثَمَّ كان متأكِّدًا من أن ضوء الشمس لم يكن وحده هو الذي أدَّى إلى تعرُّض الصفيحة للضوء، وقد اعتبر التجربةَ تأكيدًا على صحة نظريته.
ثم حدثت مصادفة أو على الأقل تدخُّل من حدثٍ طبيعي، لم يؤدِّ إلى بدء حقبة جديدة في الكيمياء والفيزياء فقط، ولكن أيضًا حقبة جديدة في حياة كل مَن على كوكب الأرض: العصر الذري والنووي. لم تسطع الشمس في باريس لعدة أيام (وهو أمر متكرِّر هناك). ولأن بيكريل كان يعتبر ضوءَ الشمس ضروريًّا لتنشيط الوميض الفوسفوري لبلورة اليورانيوم، أجَّلَ تجارَبَه ووضع البلورة بعيدًا في أحد الأدراج بأعلى صفيحة فوتوغرافية ملفوفة بإحكام.
بعد عدة أيام، قام بيكريل بتحميض الصفيحة التي كانت في الدرج مع بلورة اليورانيوم. وتوقَّعَ أن يجد فقط صورةً ضعيفة للبلورة نتيجةً لكمية الوميض الفوسفوري القليلة المتبقية في بلورة اليورانيوم، لكن بدلًا من ذلك — ويا لدهشته حينها! — كانت الصورة الموجودة على الفيلم قوية كحالها عندما تم تعريض البلورة والفيلم الملفوف لضوء الشمس! وعندئذٍ، توصَّلَ بيكريل إلى الاستنتاج الصحيح: ليس لتأثير ضوء الشمس في إنتاج الوميض الفوسفوري لبلورة اليورانيوم أيَّة علاقة بتعريض الصفيحة الفوتوغرافية المغطَّاة للضوء تحتها، لكن هذا التعرُّض نتج عن بلورة اليورانيوم نفسها، حتى في الظلام.
بدأ بيكريل في اختبار كل العينات المحتوية على اليورانيوم التي كان يستطيع إيجادها للأشعة التي عرَّضت الصفيحة الفوتوغرافية للضوء على الورق الأسود؛ الأشعة التي كان من الواضح أنها ليست أشعة ضوئية عادية. ووجد أنَّ كلَّ مركبِ يورانيوم نقي أو حتى خام اليورانيوم غير النقي له تلك الخاصية. واستطاع قياس الإشعاعات التي تصدر عن تلك المواد باستخدام مكشاف كهربائي؛ لأن الإشعاعات أدت إلى تأيين الهواء الذي مرت عبره. وتقوم فكرة عمل هذا المكشاف على حقيقة أن الشحنات المتشابهة تتنافر. وتُلاحَظ قوة التنافر من خلال انحراف موصل مَرِن يعمل في مقابل قوة إرجاع ميكانيكية.
حدَّدَ بيكريل أن درجة الإشعاع في كل العينات ما عدا عينة واحدة متناسِبة على نحو مباشِر مع نسبة اليورانيوم الموجودة في المركب أو الخام. والاستثناء الوحيد كان في خام يُسمَّى البيتشبليند، الذي أظهر إشعاعًا أكبر عدة مرات من ذلك الخاص باليورانيوم النقي. وأدَّى هذا الاكتشاف إلى استنتاج بيكريل أن هذا الخام يحتوي على شيء إلى جانب اليورانيوم، شيء له نشاط إشعاعي أعلى بكثير من اليورانيوم.
عند هذه النقطة، دخل آل كوري قصة النشاط الإشعاعي (وهو الاسم الذي اختارته ماري كوري لهذه الظاهرة). اقترح بيكريل على ماري سكلودوفسكا كوري أن يكون موضوعُ رسالة الدكتوراه الخاصة بها هو تحديد الشوائب غير المعروفة للنشاط الإشعاعي في خام اليورانيوم المتمثل في البيتشبليند. وبدأت كوري، بمساعدة زوجها الفيزيائي بيير، بحوالي ٥٠ قدمًا مكعبًا من خام البيتشبليند، وعملت على كميات حجمها يصل إلى ٤٠ رطلًا في المرة الواحدة، وقامت بتقليب المزيج المغلي في أحواض من الحديد الزهر ذات قضبان حديدية. ومن خلال هذا الجهد الجبَّار، نجحت في عزل عنصرين جديدين من البيتشبليند، كانَا ذَوَيْ نشاط إشعاعي أكبر من اليورانيوم. وأطلقَا على العنصر الأول اسم البولونيوم، وهو مقتبسٌ من اسم بلد ماري الأصلي وهو بولندا، بينما أطلقَا على العنصر الثاني اسم الراديوم لأسباب واضحة. كان البولونيوم والراديوم ذَوَيْ نشاط إشعاعي أكبر من اليورانيوم بستين وأربعمائة مرة على التوالي. وكان النتاج الكيميائي حوالي جزء واحد من الراديوم من عشرة ملايين جزء من الخام. وأعلن آل كوري عن اكتشافهما لعنصرَي الراديوم والبولونيوم في عام ١٨٩٨، بعد عامين فقط من اكتشاف بيكريل للنشاط الإشعاعي الطبيعي.
تقاسَم ماري وبيير كوري جائزة نوبل في الفيزياء مع بيكريل في عام ١٩٠٣؛ إذ مُنِح بيكريل نصفَ الجائزة نتيجة «اكتشافه النشاط الإشعاع الطبيعي»، وآل كوري النصفَ الآخَر نتيجة «أبحاثهما المشتركة حول الظواهر الإشعاعية المكتشَفة على يد البروفيسور هنري بيكريل».
تعقيب
كان أنتوني هنري بيكريل نتاجًا شهيرًا لنسل شهير. كان أبوه وجدُّه عالمين بارزين؛ كلاهما حصل على منصب أستاذ الفيزياء في متحف التاريخ الطبيعي في باريس. والتحق هنري الذي وُلِد في عام ١٨٥٢ بالمعهد السويسري للتكنولوجيا بعد إتمام تعليمه الأساسي وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم من هذا المعهد، وعمل مهندسًا في إدارة الطرق والكباري التابعة للحكومة الفرنسية، لكنه كان في الوقت نفسه يدرِّس الفيزياء في المتحف الذي كان يدرِّس فيه والده وجدُّه. وبعد وفاة والده في عام ١٨٩٢، حصل على منصب أستاذ الفيزياء الذي كان يشغله أبوه وجده قبله في المتحف. في عام ١٨٩٥، عُيِّنَ أستاذًا للفيزياء في المعهد السويسري للتكنولوجيا، وبعد ذلك بعام واحد توصل إلى الاكتشاف الذي كان السبب في شهرته، واستمر في إجراء دراسات في مجال النشاط الإشعاعي الجديد والمهم، حتى وفاته في عام ١٩٠٨.
في عام ١٩١١، حصلت ماري كوري على جائزة نوبل في الكيمياء. ومات بيير في حادث سير في عام ١٩٠٦، ولولا ذلك لكان سيشارك بيكريل وماري هذه الجائزة أيضًا؛ فقد خلفته ماري في منصب الأستاذ في جامعة السوربون. وقالَتِ الأكاديمية إنها منحت كوري الجائزة «لجهودها في تقدُّم الكيمياء باكتشافها لعنصرَي الراديوم والبولونيوم، وذلك بعزل الراديوم ودراسة طبيعة هذا العنصر المميز ومركباته.» ماتت ماري كوري في عام ١٩٣٤ جراء إصابتها بسرطان الدم، المرض الذي لا شك أنها أُصِيبت به نتيجة تعرُّضها للإشعاع الذي لم يكن خطره قد تمَّ تقديره حينها.
(٣) النشاط الإشعاعي الصناعي والانشطار النووي
أدَّى اكتشاف بيكريل للنشاط الإشعاعي الطبيعي إلى بدء حقبة جديدة تُعرَف بالعصر الذري والنووي، لكن لم يحدث ذلك مباشَرةً.
لم يكن النشاط الإشعاعي الطبيعي مفهومًا لعدة سنوات؛ فقد احتاج الأمرُ إلى أبحاثِ راذرفورد وسودي وآخَرين ورؤيتهم لاستنتاج طبيعة ومصدر الإشعاع الذي اكتشفه بيكريل وآل كوري، ولاقتراح أنه يتكوَّن من جسيمات (ألفا وبيتا) تنبعث عن نوى الذرات والإشعاع الكهربائي المغناطيسي العالي الطاقة المرتبط بتلك الانبعاثات. وكان اللورد راذرفورد مسئولًا إلى حدٍّ كبير عن إثبات أن كتلة الذرات تتركز بصورة أساسية (أكثر من ٩٩٫٩٪) في مراكزها، وتتكوَّن من جسيمات موجبة وسالبة تُسمَّى البروتونات والنيوترونات. وبدأت أسرار القوة الهائلة للطاقة النووية تتكشف في عام ١٩٣٤ تقريبًا.
في عام ١٩٣٤، اكتشفَتْ إيرين كوري ابنة ماري وبيير، وزوجها فريدريك جوليو، النشاطَ الإشعاعي الصناعي، وأوضَحَا أن جسيمات الألفا، التي اكتشفها راذرفورد كأجزاء من النوى الذرية التي تنتجها العناصر المشعَّة طبيعيًّا، يمكن استخدامها لقذف العناصر غير المشعة وجعلها مشعةً. ووصف البروفيسور آلان لايتمان في مجلة «ساينس ٨٤» العملية دون الذرية قائلًا: «يبدو أن نوًى ذرية مستقرة معينة كان يمكن أن تصبح غير مستقرة إذا أُجبِرت على أخذ جسيمات دون ذرية إضافية. وبدأت هذه النوى الذرية تضطرب، فأطلقت أجزاءً صغيرة منها، تمامًا كما يحدث في النشاط الإشعاع الطبيعي.»
قرَّرَ إنريكو فيرمي، الذي كان حينها في روما، استخدامَ النيوترونات بدلًا من جسيمات الألفا، لقذف العناصر المستقرة، فقذف نواةَ ذرة يورانيوم كبيرة (وهي الشكل النظائري المستقر للعنصر) بتلك الطريقة. وافترض أن القذف بالنيوترونات سينشئ نوًى لعناصر قريبة في الوزن لليورانيوم. ولكن أوتو هان وفريتس شتراسمان، من معهد كايزر فيلهلم في برلين، وجَدَا أنه من بين نواتج قذف اليورانيوم بعض الباريوم، وهو عنصرٌ يبلغ حجم ذراته نصفَ حجم ذرات اليورانيوم. ولأنه لم يكن يوجد باريوم في العينة المقذوفة، فمن الواضح أن بعض نوى اليورانيوم قد انشطر نصفين!
في ديسمبر من عام ١٩٣٨، كتب هان إلى ليزا مايتنر يصف النتيجة غير المتوقَّعة التي توصَّلَ إليها. وكانت مايتنر إحدى الزميلات المقدرات من جانب هان التي عملت معه لمدة ٣٠ عامًا، لكن نظرًا لأنها كانت يهودية، فقد هربت من ألمانيا إبَّان عصر هتلر، إلى السويد قبل ذلك بخمسة أشهر. وفي الكريسماس، زارها ابن عمها أوتو آر فريش، الذي كان أيضًا فيزيائيًّا وزميلًا للفيزيائي الدنماركي الشهير نيلس بور في كوبنهاجن، وناقَش معها خطابَ هان. وبعد بعض الحيرة التي أصابَتْهما أثناء سيرهما في الجليد، تذكَّرَا نظريةَ بور؛ ففي عام ١٩٣٦، أشار بور إلى أن جسيماتِ أيةِ نواة ذرية قد تتصرَّف على نحوٍ جماعيٍّ بحيث قد تتشوَّه النواة ولا تصبح ذات شكل كروي بسبب تصادم من جسيم ما، ولو كان صغيرًا مثل النيوترون. وقد تتغلَّب قوى التنافر في النواة على قوى التجاذب وتنقسم النواة شطرين، مُرسِلة الشطرين وهما يتحركان بسرعة كبيرة مع إصدار قدر هائل من الطاقة. وقد شبَّه النواة الذرية الثقيلة غير المستقرة بقطرة الماء المنهمرة.
عندما عاد فريش إلى كوبنهاجن بعد عدة أيام، استطاع الحديث مع بور بينما كان يستقل إحدى سفن الخط الملاحي السويدي الأمريكي والتي تُسمَّى «إم إس دروتنينجهولم»، متوجِّهًا إلى نيويورك. وأدرك بور على الفور أهميةَ «الانشطار» النووي، وهو مصطلح ابتكَرَه فريش قياسًا على انقسام الخلية في علم الأحياء، والتجربة التي قام بها هان وتفسير مايتنر/فريش لها، بما في ذلك التشبيه الخاص بقطرة الماء. وكان بور في طريقه لحضور مؤتمر في واشنطن العاصمة عن الفيزياء النظرية وحمل إلى هذا المؤتمر تفسيرَ مايتنر وفريش. وبعد ذلك، كتب بور خطابًا قصيرًا إلى محرِّر مجلة «فيزيكال ريفيو»، أشار فيه إلى نظرية القطرة السائلة للانشطار النووي.
سرعان ما تمَّ إدراك الانشطار النووي في التفاعلات المتسلسلة على يد ليو سيلارد في كولومبيا. قدَّرَ بور، الذي كان حينها في برينستن، أن ثمة شكلًا نادرًا واحدًا فقط من اليورانيوم — وهو النظير الذي يُسمَّى يو-٢٣٥، الذي يوجد في الطبيعة بنسبة ١٪ فقط من اليورانيوم الطبيعي — يمكن أن يقوم بالتفاعل المتسلسل. وكان الأمر يتطلب تركيز هذا النظير لبناء مفاعِل متسلسل، وكان بالإمكان فعل هذا وقد تم بالفعل. (سنعرض استخدام التيفلون في إحدى العمليتين المستخدمتين من قِبل الحكومة الأمريكية لتركيز هذا النظير من خلال عرضنا لقصة التيفلون في الفصل السابع والعشرين.) ولحسن الحظ، تمَّتْ هذه العملية في الولايات المتحدة قبل أن تتم في ألمانيا.
تعقيب
في ٢ أغسطس من عام ١٩٣٩، أرسل ألبرت أينشتاين خطابًا تحذيريًّا إلى الرئيس فرانكلين دي روزفِلت قال فيه: «هناك عمل حديث من قِبل إي فيرمي وإل سيلارد … جعلني أتوقَّع أنه ربما يتحوَّل عنصر اليورانيوم إلى مصدر جديد ومهم للطاقة في المستقبل القريب … ومن المرجَّح … أنه قد يتم صنع قنابل ذات مفعول قوي جدًّا من نوع جديد.»
إنَّ باقي برنامج الطاقة الذرية معروف جدًّا: صناعة القنابل الذرية واستخدامها في الحرب العالمية الثانية، والانشطار النووي، فضلًا عن اكتشافِ شكلٍ أكثر قوةً من الطاقة النووية وتطويره. وقد شُيِّدت مصانع للطاقة الذرية للاستخدام السِّلمي، لكن الطاقة الذرية لم ترتقِ حتى الآن إلى مستوى التوقُّعات في الولايات المتحدة، كما أن التخلُّص من النفايات النووية ما زال يمثِّل مشكلةً مهمةً، وظلَّ الفحم والنفط المصدرين الأساسيين للطاقة في القرن العشرين.
ما غيَّرته الطاقة النووية على نحو كبيرٍ ولا يمكن الرجوع فيه هو معنى الحرب؛ فكلُّ سلاح جديد عبر التاريخ كان يمثِّل تطوُّرًا كبيرًا عن الأسلحة السابقة عليه — كالمقلاع الروماني، والقوس الطويل الإنجليزي، والقوس المستعرض السويسري، والبارود، والنيتروجليسرين — لكن تلك التطورات تُعَدُّ بسيطةً مقارَنةً بالقفزة الهائلة التي تمت من الأسلحة التقليدية الحديثة إلى القنابل والقذائف النووية. إن اتحاد العلماء الذريين، وهي رابطة للعلماء الذين عملوا على تطوير القنبلة الذرية في أثناء الحرب العالمية الثانية، الذي غيَّرَ اسمه فيما بعدُ بقليل إلى اتحاد العلماء الأمريكيين، وأصبح هدفه الأساسي الآن هو نزع السلاح النووي؛ قد أعلن أن الأسلحة النووية قد جعلَتِ الحروبَ مستحيلةً. ويذكِّرنا هذا بردِّ ألفريد نوبل على برتا فون سوتنر حين طلبت منه أن ينضمَّ إليها في أحد مؤتمرات السلام: «مصانعي يمكن أن تُنهِي الحربَ أسرع من مؤتمراتِك.»
دعونا نأمل أن يكون جيلنا واستخدامه للطاقة النووية أكثر نجاحًا من نوبل ومَنْ خلفه في منع الحروب!