زجاج الأمان
حدث الاكتشاف العَرَضي لزجاج الأمان عندما كانت الحاجة إليه شديدة؛ بعد فترة قصيرة جدًّا من اختراع السيارة واستخدام الزجاج في صناعة زجاجها الأمامي. وكان احتمال تعرُّض السيارات لحوادث وتحطُّمها أكبر من العربات التي تجرها الخيول؛ مما كان يؤدِّي إلى تعرُّض راكبيها لإصابات بالغة بسبب انكسار الزجاج الأمامي.
كان الزجاج الطبيعي، مثل السَّبَج، موجودًا في الطبيعة منذ نشأة الأرض. وتشكَّلَ السَّبَج وغيره من الأشكال الأخرى للزجاج الطبيعي من عناصر شائعة في قشرة الأرض بسبب الحرارة البركانية الشديدة المتبوعة بتبريد سريع، وذلك قبل فترة طويلة من تفكير أيِّ أحدٍ في تغيير تركيبه أو لونه أو شكله.
ضَاعَ خبرُ أول مَن قام بعمل الزجاج الصناعي وسطَ الآثار القديمة والأساطير، ومن أشهر الأساطير في هذا الشأن تلك التي وثَّقَها الكاتب والمؤرِّخ بليني الأكبر الذي عاش في القرن الأول الميلادي. وكتب بليني ٣٧ مجلَّدًا عن التاريخ الطبيعي، ومات وسط رماد إحدى ثورات بركان فيزوف في عام ٧٩ ميلاديًّا، بعد أن أبحرَ مع بعضٍ من الأسطول الروماني بقيادته إلى الساحل قرب بومبي لمساعدة سكان تلك المنطقة المهدَّدة.
أرجع بليني الفضل إلى بعض التجار الفينيقيين في إنتاج الزجاج على نحو عَرَضي عندما أشعلوا نارًا على شاطئ رملي. وقيل إنهم وضعوا قدورَ الطهي الخاصة بهم على كتل من النطرون، وهي مادة معدنية من كربونات الصوديوم ربما يكونون قد جلبوها من مصر، وتركوها تشتعل طوال الليل كي يدفئوا أنفسهم. وفي الصباح اندهشوا حينما وجدوا زجاجًا منصهرًا يلمع عبر الرماد، حيث دمجت الحرارة كتل النطرون مع سيليكا الرمال. ومع أنه لا يمكن التحقُّق من هذا الاكتشاف العَرَضي وتاريخه (قُدِّر بأنه حدث في عام ٤٠٠٠ قبل الميلاد)، فإن استخدام الزجاجات من قِبَل المصريين القدماء منذ عام ١٥٠٠ قبل الميلاد موثَّق على نحوٍ تامٍّ.
ظهر الزجاج منذ فترة طويلة، ونعرف أيضًا أن الرومان استخدموه في صنع النوافذ. وفي المرافق الثابتة في الأبنية، كان يُستخدَم بصفة عامة على هيئة ألواح صغيرة عديدة مع وضع إطار برونزي لها، وحتى عند استخدامه في النوافذ الصغيرة للعربات الصغيرة والكبيرة التي تجرُّها الخيول، لم يكن خطرُ كسرِه كبيرًا بالرغم من هشاشته الداخلية. ولكن مع ظهور العربات التي لا تجرها الخيول، أصبح استخدامه في الزجاج الأمامي والنوافذ مصدرًا محتمَلًا للإصابة.
في عام ١٩٠٣، أوقع كيميائيٌّ فرنسي يُدعَى إدوار بينيديكتس قارورةً زجاجيةً على أرض صلبة؛ تحطَّمت القارورة، لكن بينيديكتس لاحَظَ مندهشًا أنها بقيت تقريبًا قطعةً واحدةً على صورتها الأصلية ولم تتفتت. فحص بينيديكتس القارورة ولاحظَ وجود قشرة رقيقة في الداخل أبقَت الزجاجَ المكسور ملتحمًا بعضه ببعض؛ فأدرك أن تلك القشرة مصدرها تبخُّر محلول الكولوديون (أو نترات السليولوز التي يتم تحضيرها من القطن وحمض النيتريك)، الذي كان موجودًا في القارورة. (عرضنا اكتشافات عَرَضية أخرى تتضمن محلول الكولوديون في الفصلين الخامس عشر والسادس عشر.) وعند وجود محلول الكولوديون في القارورة الزجاجية المفتوحة، تبخَّرَتِ المادةُ السائلة تاركةً قشرةً رقيقة من الكولوديون داخل القارورة. ودوَّنَ بينيديكتس تلك الحادثة على بطاقةٍ ووضعها على القارورة المكسورة، لكنه تجاهَلَ الأمر في ذلك الوقت.
لكن بعد حدوث تلك الحادثة التي تعرَّضَ لها في المعمل، قرأ بينيديكتس خبرًا عن فتاة صغيرة تعرَّضَتْ لإصابات شديدة بسبب الزجاج في حادثة سيارة في باريس. وبعد ذلك ببضعة أسابيع، قرأ عن حادثة مشابهة ذات تبعات خطيرة بسبب الزجاج المتطاير، وفجأةً خطر على باله أن تجربته مع قارورة الزجاج التي تكسَّرت ولم تتفتَّت تُعَدُّ حلًّا محتمَلًا لمثل تلك المشكلات. اندفع إلى المعمل ووجد القارورة الموضوع عليها البطاقة وقضى الليل كله يفكِّر كيف يمكن وضع طبقة من نوع معين على الزجاج لجعله آمِنًا. وقيل إنه بحلول مساء اليوم نفسه، وبمساعدة مكبس النسخ أنتَجَ أولَ لوحٍ من زجاج الأمان.
كان الاسم الذي اختير لزجاج الأمان الجديد، وهو «التربلكس» (الذي يعني الثلاثي)، يشير إلى تصميم المادة؛ فهي تتكوَّن من لوحين من الزجاج بينهما لوح من نترات السليولوز، مع دمج الألواح الثلاثة المصنوعة من مادة شفافة معًا عن طريق الحرارة. وتطلَّبَ التحوُّل من تصنيع المادة في المعمل إلى تصنيعها في المصانع عدة سنوات، ولم يحصل بينيديكتس على أول براءة اختراع له على زجاج الأمان الجديد إلا في عام ١٩٠٩.
مع أن بينيديكتس اخترَعَ زجاجَ الأمان لمنع الإصابة بسبب الزجاج المتطاير من الزجاج الأمامي للسيارات ونوافذها، فلم يكن هذا هو الاستخدام العملي الأول للزجاج الرقائقي الجديد؛ فقد كان أول استخدام له في عدسات أقنعة الغاز في الحرب العالمية الأولى. ولكن مع ازدياد أعداد السيارات وسرعتها إلى حدٍّ كبير في عشرينيات القرن العشرين، أصبحت الإصابات بسببِ تطايُرِ الزجاج في حوادث السيارات مشكلة كبيرة، وأصبح الزجاج الرقائقي هو الزجاج القياسي المستخدَم في السيارات الأمريكية.
تعقيب
ربما يذكر بعضُ القرَّاء أن الزجاج الأمامي في السيارات القديمة كان يتحوَّل لونه إلى اللَّون الأصفر بمرور الوقت. ويرجع هذا إلى أن المادة البلاستيكية الأصلية التي كانت تُستخدَم بين طبقتَي الزجاج في زجاج الأمان كانت مصنوعةً من نترات السليولوز (أي الكولوديون)، التي يتحوَّل لونها بمرور الوقت وبالتعرض لضوء الشمس إلى اللَّون الأصفر.
في عام ١٩٣٣، حلَّت محل المادة الرابطة المتمثلة في نترات السليولوز مادةُ أسيتات السليولوز، التي كانت مقاوِمةً أكثر للتلوُّن بفعل ضوء الشمس، لكن مفعولها كان يضعف عند التعرُّض لنطاق من درجات الحرارة المختلفة، وتتسبب في بعض الغشاوة. والمادتان السابقتان كلتاهما مشتقتان من السليولوز، وهي مادة مأخوذة من الخشب وغيره من المصادر الطبيعية، وأدَّت الأبحاثُ التي كانت تبحث في المواد البلاستيكية الممكنة البديلة للسليولوز إلى اكتشاف وجود بوليمر صناعي بالكامل — وهو صمغ بولي فينيل البوتيرال — يُعَدُّ أفضلَ من أسيتات السليولوز. ومنذ عام ١٩٣٩، أصبحَتْ تلك المادةُ هي المادة القياسية للزجاج الرقائقي المستخدَم في السيارات والطائرات وغيرها من الأشياء التي تتطلَّب مادة شفافة قوية.
ثمة شكل آخَر من زجاج الأمان وهو الزجاج المُقَسَّى غير الرقائقي؛ أيْ لا يحتوي على طبقة داخلية بلاستيكية، وهو يتحطَّم إلى أجزاءٍ صغيرة عديدة قلَّما تؤدِّي إلى إيذاء أحد، وهو يُستخدَم في صناعة النوافذ الجانبية والخلفية للسيارات. لكن في الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى يُستخدَم الزجاج الرقائقي لصناعة الزجاج الأمامي للسيارات.
تحتاج الطائرات إلى نوافذ مصنوعة من مادة قوية؛ لأنها تحتاج إلى مقاوَمة أقصى درجات الحرارة والضغط، ويجب أن تكون مَرِنة لمواجهة اصطدام الطيور الذي يتم بسرعة عالية. ويتم الوفاء بتلك المتطلبات من خلال نوعيةٍ خاصة ومعقَّدَة جدًّا من الزجاج الأمامي، تتكون من طبقات متعددة من الزجاج والبلاستيك.
وحديثًا، استُخدِمت طبقة بلاستيكية ثانية داخل الزجاج الأمامي للسيارات لمنع حدوث تهتُّك في الجلد عند الاحتكاك مع الزجاج المحطَّم الذي يلتحم بالطبقة البلاستيكية الوسطى في زجاج التربلكس الرقائقي العادي. وفي عام ١٩٨٧، تم إدخال هذا في بعض السيارات على سبيل التجربة، وكانت النتائج الأولية مُبشِّرة؛ فعند اصطدام رأس الشخص في إحدى الحوادث بالزجاج الأمامي للسيارة الذي له تلك الطبقة البلاستيكية الداخلية المضادة للتهتُّك، فإنه سيصاب بكدمة شديدة وصدمة، لكن لن يحدث قطع في الرأس أو الوجه.
في كل هذه الأنواع من زجاج الأمان ما عدا الزجاج المُقَسَّى، يكون الأساس — الذي لا يختلف عن ذلك الذي لاحَظَه بينيديكتس بشكل عَرَضي في عام ١٩٠٣ — واحدًا، وهو احتواؤه جسيمات الزجاج من خلال طبقة رقيقة من البلاستيك.