تصنيع النايلون وعملية السحب على البارد
ثمة مقولة تقول: «قيراط حظ ولا فدان شطارة.» وطبقًا لملحمة نوردية قديمة، كان الفايكنج يرغبون في المخاطرة بحياتهم بالسير في أعقاب ليف إريكسون عبر منطقة شمال الأطلنطي المضطربة في قوارب مكشوفة، ليس لأنه كان قويًّا أو شجاعًا أو ذكيًّا (مع أنه ربما كان يتَّصِفُ بهذا كله)؛ وإنما لأنهم كانوا يعتقدون أنه كان محظوظًا. وفي واقع الأمر، فإن المقابل الإنجليزي لاسمه الأول يعني المحظوظ؛ أما اسمه الكامل «ليف إريكسون» فهو تركيب في اللغة النوردية القديمة يعني «المحظوظ ابن إريك». وكان ابن إريك الأحمر هو مؤسِّسَ أولى المستوطنات الإسكندنافية في جرينلاند. ويُعَدُّ اكتشاف ليف إريكسون لأمريكا الشمالية في عام ١٠٠٠ ميلاديًّا تقريبًا مثالًا آخَر على السرنديبية. فقد فوَّضَه ملك النرويج لنشر المسيحية في جرينلاند، لكنه انحرف عن مساره من آيسلندا إلى جرينلاند بسبب الطقس السيئ ونزل في نيوفنلند بدلًا منها.
إنَّ مقولة الحظ السابقة تنطبق فيما يبدو على قصة اكتشاف النايلون؛ فقد انتقل والاس هيوم كروثرز إلى شركة دو بونت للإشراف على برنامجها الرئيسي الجديد في مجال البحث الكيميائي؛ لأن زملاءه في جامعة إلينوي وجامعة هارفرد قالوا عنه إنه أذكى عالمِ كيمياء حيوية كانوا يعرفونه على الإطلاق. وأطلق كروثرز برنامجًا بحثيًّا هدفه فهمُ تركيب البوليمرات الطبيعية مثل السليولوز والحرير والمطاط، وإنتاجُ مواد صناعية مشابهة لها. ومع أن فريقه بحلول عام ١٩٣٤ قدَّم معلومات أساسية مهمة في تلك المجالات، فقد كان على وشك أن يقرَّ بفشل جهوده لإنتاج ألياف صناعية مشابهة للحرير، عندما حدثَتْ مصادفةٌ أثناء بعض المزاح الثقيل بين زملائه في المعمل؛ فحوَّلَتْ تلك المصادفة الفشلَ المزمع إلى ذلك النجاح الكبير الذي رُوِّج له في عام ١٩٣٩ في معرض نيويورك العالمي على أنه «النايلون، الحرير الصناعي المصنوع من الفحم والهواء والماء!»
لقد تم تصنيع النايلون (وهو بولي أميد، له تركيب مماثِل لتركيب الحرير)، ولم يَبْدُ أن له خصائص مفيدة على نحو خاص، ووُضِع جانبًا على الرَّف دون الحصول على براءة اختراع له. واستمرَّ العملُ على سلسلة البوليسترات، التي قدَّمت منتجات قابلة للذوبان أكثر وأنعم في التعامل معها، وبالتالي أبسط في العمل معها في المعمل. وبينما كان يعمل جوليان هيل مع تلك المواد الأكثر نعومةً، لاحَظَ أنه إذا جمع كرة صغيرة من هذا البوليمر على طرف قضيب تقليب (زجاجي) وسحبها من الكتلة، فسوف تتمدَّد تلك الكرة وستصبح مثل الحرير في الشكل. وجذب هذا انتباهه وانتباه مَن كانوا يعملون معه، وقيل إنه ذات يومٍ، بينما كان كروثرز في وسط المدينة، حاوَلَ هيل وزملاؤه أن يروا إلى أي مدًى يمكنهم مطُّ إحدى تلك العينات، فأخذوا كرةً صغيرة على قضيب تقليب، ثم مطُّوها عبر الردهة على شكل خيط، وبقيامهم بهذا لاحظوا الشكل القريب جدًّا من شكل الحرير «للخيوط» الممطوطة، وأدركوا أنهم كانوا يوجهون جزيئات البوليمرات ويزيدون من قوة المنتج.
نظرًا لأنه كان لأنواع البوليستر التي كانوا يعملون عليها نقاطُ انصهارٍ منخفضة جدًّا بحيث لا يمكن استخدامها في المنتجات النسيجية، رجعوا إلى البولي أميدات التي نحَّوْها جانبًا ووجدوا أن تلك الألياف أيضًا يمكن «سحبها على البارد» لزيادة قوة الشد بدرجةٍ كبيرةٍ لتتحوَّل إلى أنسجة رائعة، ويمكن أيضًا تصنيع الخيوط والآلات وغيرها من الأشياء الأخرى المشكَّلَة من البوليمر ذي قوة الشد الكبيرة، وذلك من خلال عملية السحب على البارد. قال لي الدكتور مارفل: إن شركة دو بونت لم تحصل على براءة اختراع على «تركيب مادة» النايلون، ولكنها حصلت على براءة اختراع فقط لعملية السحب على البارد. وقد أدَّتْ تلك العملية، التي اكتُشِفت بالمصادفة، إلى أهم منتج تطرحه الشركة في السوق. لكن حادثة المزاح الثقيل أدَّتْ إلى اكتشافٍ ذي أهمية اقتصادية واجتماعية عالمية، فقط بسبب التبصر الذي أَبْدَاه جوليان هيل وزملاؤه في إدراك التبعات العلمية للشكل والخصائص المادية للخيوط الممطوطة للبوليستر التي كانوا يعبثون بها.
تعقيب
على الرغم من أن عملية السحب على البارد — التي جعلَتْ من النايلون إحدى الألياف الصناعية الناجحة — اكتُشِفت مع أنواع البوليستر، فإن أنواع البوليستر التي صنَّعها كروثرز كانت أليافًا نسيجية رديئة. فبعد وقت قصيرٍ من ظهور النايلون كنسيج صناعي، اكتشف كيميائيون بريطانيون نوعًا من البوليستر كان «قويًّا» على نحو كافٍ لصنع نوعٍ من الألياف الممتازة، وطرحوه بالأسواق تحت الاسم التجاري «التريلين». ومع أن الكيميائيين التابعين لكروثرز صنعوا أنواعًا عديدة من البوليستر من الأحماض الثنائية القاعدة وأنواع الكحول ثنائي الهيدروكسيل، فثمة حمض ثنائي القاعدة لم يختبروه وهو حمض التيريفثاليك؛ وهو الحمض الثنائي القاعدة الذي يُنتِج أفضل أنواع الألياف.
مع ذلك، استطاعت شركة دو بونت الاستفادةَ من الدراسات الخاصة بأنواع البوليستر؛ لأن قسم تصنيع الأفلام بها وجَدَ أن نوع البوليستر الذي استخدمه الكيميائيون البريطانيون في إنتاج التريلين يمكن استخدامه لصناعة فيلم قوي إذا تمَّ شده على نحو ثنائي المحور (ربما كان نفس المبدأ متضمنًا كما في السحب على البارد للخيوط). وتم تسويق الفيلم باسم مايلار، وأنتجت شركة دو بونت نسختَها من التريلين باسم داكرون في نفس الوقت تقريبًا. وفي زيارة للشركة منذ عدة أعوام، سمعتُ قصةً ممتعةً عن تسمية نوع ألياف البوليستر الخاصة بها؛ فقد عقد المسئولون مسابقةً لاختيار الاسم، وفي الليلة السابقة على إعلان الاسم وتقديم الجائزة، شعر الشخص المسئول عن المسابقة بالقلق وقرَّرَ أن يتحقَّقَ مرة ثانية للتأكد من أن الاسم المختار غير مسجَّل من قبلُ، واتضح من خلال هذا التحقُّق النهائي أنه كان مسجلًّا. وبسبب الارتباك الذي أحدثه هذا، اختير الاسم التالي في القائمة وهو الداكرون، دون أن يتم التحقُّق منه على نحو كامل. ومع أنه غير مستخدَم لتسمية شيء آخَر، فإنه يُعتبَر خرقًا لإحدى القواعد المهمة المتبَعة في الشركة، وهي ضرورة انتفاء أي احتمال لنطق الاسم التجاري على نحو خاطئ. تأمَّلْ معي، على سبيل المثال، منتجَي الشركة: النايلون والأورلون؛ فمن الصعب أن تفكِّر في وجود نطق ثانٍ لتلك الكلمتين، لكن داكرون يمكن نطقها هكذا أو دكرون! وقد حُكِيت لي تلك القصة عندما سألتُ أحدَ الأشخاص في الشركة: «ما النطق الصحيح لكلمة داكرون؟»
أصبح الداكرون مكوَّنًا شائعًا في أقمشة ملابس الرجال، سواء بمفرده أو مع الصوف. وقد استُخدِمت أفلام مايلار منذ خمسينيات القرن العشرين في الميكروفيلم وأفلام الصوت المغناطيسية، ومؤخرًا أصبحت المادة المفضَّلة لتصنيع الأقراص المضغوطة. وثمة استخدام مثير آخَر للداكرون، وهو القماش القوي والخفيف والرفيع جدًّا الذي يغطي أجنحة الدراجة الطائرة دايدالوس، التي حقَّقَتْ رقمًا قياسيًّا جديدًا في قطع المسافات، حيث طارت من جزيرةٍ لأخرى عبر بحر إيجه في أبريل من عام ١٩٨٨.
إن ظهور النايلون في المعرض العالمي بنيويورك عام ١٩٣٩ كان من أكثر الأحداث إبهارًا للجمهور في كل الأوقات؛ فقد قدَّم جناحُ شركة دو بونت عرضًا رسوميًّا يشرح طريقة التصنيع الكيميائي للنايلون من «الفحم والهواء والماء»، وقدَّموا نموذجًا جذَّابًا في «أنبوب اختبار» زجاجي كبير يعرض الجورب الجديد المصنوع من النايلون بطريقة بارزة جدًّا. وكنتُ حينها كيميائيًّا شابًّا، وقد جذب العرض انتباهي بالتأكيد.
عندما طُرحت «الجوارب النايلون» لأول مرة للبيع في مدينة نيويورك في ١٥ مايو من عام ١٩٤٠، بِيعَت أربعة ملايين زوج منها في الساعات القليلة الأولى من طرحها، لكن تلك المبيعات لم تكن لتتكرَّر لفترة طويلة جدًّا؛ لأن سُحُبَ الحرب قد بدأت بالفعل تلوح في الأفق، ولم تَكَدِ النساءُ الأمريكيات تولع بالنسيج الجديد حتى تم أخذه واستغلاله في الحرب، وخاصةً لتصنيع المظلات. ولم يقتصر الأمر فقط على عدم وجود جوارب نايلون جديدة يمكن لهن شراؤها، ولكن السيدات اللاتي كانت لديهن جوارب نايلون بالفعل كنَّ مُضطراتٍ للتخلي عنها من أجل تحويلها إلى مظلات.