اكتشاف البولي إثيلين بسبب تسرُّبٍ أو تلوث في أدوات البحث
اكتُشِفت مادة التيفلون (البولي تترافلوروإثيلين) وطُورت إبان الحرب العالمية الثانية مباشَرةً؛ نظرًا لفائدتها في إنتاج القنابل الذرية. وثمة بوليمر آخَر، اكتُشِف أيضًا في ثلاثينيات القرن العشرين، وكان مهمًّا للغاية لقوات الحلفاء في جهودها الحربية، أَلَا وهو البولي إثيلين، الذي كان يُستخدَم في عزل كبلات أجهزة الرادار، وكان عنصرًا فاعلًا إلى حدٍّ كبير في كفاءة تلك المعدات الإلكترونية الجديدة. ذكرتُ في الفصل الخاص بتفاعل فريدل وكرافتس أنه كان من بين الاستخدامات العملية للاكتشاف الناتج عن التعاون الفرنسي-الأمريكي إنتاجُ وقودِ طائراتٍ عالي الأوكتين ساعد في تفوق الطيارين البريطانيين على الطائرات الألمانية. وعند النظر إلى التيفلون والبولي إثيلين والوقود العالي الأوكتين — وهي ثلاثة استخدامات فقط للاكتشافات وعمليات التطوير الكيميائية — يمكننا أن نفهم سبب الفخر الذي كان يشعر به الكيميائيون في دول الحلفاء بدورهم وإسهاماتهم في الانتصار في الحرب العالمية الثانية.
مع مرور الوقت، أصبح هناك ميل لإضفاء طابع من المثالية على قصة أي اكتشافٍ، وتقديمها على نحو يوحي بوجود تقدُّم منطقي ومنظَّم منذ بداية البرنامج البحثي وحتى اكتشاف المنتج الناتج عن هذا الاكتشاف وتطويره. لكن قصة البوليثين تُعَدُّ مثالًا واضحًا، على نحو غير معتاد، على التوصُّل إلى النتائج غير المتوقعة التي ربما تنتج عن البحث وعن أهمية دور المصادفة في هذا الشأن … بدأت القصة الفعلية لاكتشاف البوليثين في عام ١٩٣٢ في نورثويتش، بتشيشر، في قسم القلويات بشركة إمبريال للصناعات الكيميائية، عندما أوصى إم دبليو بيرين وسوالو (مؤلِّف هذا الفصل) بإجراء أبحاثٍ حول تأثير درجات الضغط العالية جدًّا على التفاعلات الكيميائية … تمت تجربة أكثر من خمسين تفاعلًا أثناء عامَيْ ١٩٣٢ و١٩٣٣، وكانت النتائج كلها مخيِّبة للآمال؛ أيْ لم ينتج عن أيٍّ منها منتجات مثيرة أو قيِّمة. ومن بين تلك التفاعلات التفاعل بين الإثيلين والبِنزالدهيد، الذي تمت تجربته في مارس عام ١٩٣٣ عند درجة حرارة ١٧٠ درجة مئوية، مع تعريض الإثيلين لدرجة ضغط تماثِل درجةَ الضغط في ١٤٠٠ غلاف جوي (أيْ درجة ضغط عالية جدًّا). وفي نهاية التجربة، وُجِد أن جدران وعاء التفاعل مغطَّاة بطبقة رقيقة من «مادة صلبة شمعية بيضاء»، وذلك حسب قول آر أو جيبسون الكيميائي الذي قام بالتجربة، في كلماته التي وردت في مفكِّرته. واكتُشِف أن المادة الصلبة هي أحد بوليمرات الإثيلين، لكن عند تكرار التجربة مع استخدام الإثيلين فقط تحلَّلَ الإثيلين بعنف شديد.
ذكر سوالو أنهم توقفوا عن العمل عند درجات الضغط العالية حتى يتمكَّنوا من تصميم وإنشاء معدَّات أفضل. وفي ديسمبر من عام ١٩٣٥، أُجريت تجارب أخرى على الإثيلين باستخدام جهاز تجربة محسَّن، وعند الوصول إلى درجة حرارة ١٨٠ درجة مئوية، انخفض الضغط، وبالتالي تم ضخُّ كمية أكبر من الإثيلين. وعندما فتح الكيميائيون وعاء التفاعل الصغير، وجدوا مادةً صلبةً على هيئة بودرة بيضاء إجمالي وزنها ٨ جرامات. ووجدوا أن بلمرة الإثيلين وتحوُّله من الشكل الغازي إلى الشكل البوليمري الصلب لا يمكن أن يكون السبب لكلِّ هذا الانخفاض الملحوظ في الضغط، وشكُّوا في وجود تسرُّب في مفصِّلات جهاز التجربة.
هنا أيضًا لعبت المصادفة دورًا مهمًّا، واستغرق الأمر عدة شهور من العمل المكثَّف من قِبَل كل أعضاء الفريق البحثي لتحديد الأسباب الكاملة التي كانت ستؤدي إلى أن تكون التجربة أقل نجاحًا عمَّا كانت عليه، وربما تكون تكرارًا للتجارب السابقة غير الناجحة، لولا حدوث هذا التسرُّب.
كان نجاح التجربة في ديسمبر يرجع في حقيقة الأمر إلى إضافة الإثيلين الجديد إلى وعاء التجربة ليحل محل ما تسرَّبَ. وكان الإثيلين الجديد يحتوي بالمصادفة على الكمية الصحيحة من الأكسجين اللازم لتحفيز تكوُّن كميات متتابعة من البوليمر.
كتب سوالو أيضًا أنهم وجدوا أن البولي إثيلين يمثِّل ظاهرة «السحب على البارد» التي لاحَظَها دبليو إتش كاروثرز من شركة دو بونت كخاصية لأنواع البوليستر والبولي أميد (المعروضة في الفصل الخامس والعشرين)، التي تشير إلى أن هذا البوليمر من الإثيلين كان بوليمر مستقيمَ السلسلة ذا وزن جزيئي كبير نسبيًّا. لكنَّ المسئولين في شركة إمبريال للصناعات الكيميائية وجدوا أنه لا فائدة من البوليمر الجديد، وكان سيظل حبيس الأدراج لولا الدور الذي لعبته المصادفة من جديد.
سمع جيه إن دين من الشركة البريطانية لإنشاء وصيانة التلغراف — التي كانت معنيَّة بإنتاج كبلات مائية خاصة بالتلغراف والتليفون — عن البوليمر الجديد، وشعر القائمون عليها أنه ربما يكون مادة عازلة جيدة للكبلات المائية. (ثمة تشابُه مذهل بين الطريقة التي طوَّر بها البريطانيون البولي إثيلين لاستخدامه في أجهزة الرادار عبر التواصل غير المقصود بين الدكتور دين وشركة إمبريال للصناعات الكيميائية؛ والطريقة التي طوَّرت بها الولايات المتحدة التيفلون لاستخدامه في أبحاث القنبلة الذرية عبر التواصل غير المقصود بين شركة دو بونت والجنرال جروفز. انظر قصة التيفلون في الفصل السابع والعشرين.) أعرَبَ دين عن اهتمامه الكبير بفحص المادة، حتى لو كانت متوافرة بكميات صغيرة جدًّا. وبالإضافة إلى ذلك، اكتشف أحد موظفي شركة إمبريال للصناعات الكيميائية وجود تشابه بين الخصائص الميكانيكية للبولي إثيلين وتلك الخاصة بمادة الجوتابرشا (وهي مادة بوليمرية طبيعية شبيهة بالمطاط، لكنها غير لدنة)، التي كانت مستخدَمة في عزل كبلات التلغراف.
في شهر يوليو من عام ١٩٣٩، صنَّعت شركة إمبريال للصناعات الكيميائية كميةً من البولي إثيلين تكفي لكبل تحت مائي طوله ميل بحري، ووُجِد أنها تفي بالغرض المطلوب، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية حال دون إجراء تجارب كاملة. واتضح أن الخبرة المكتسَبَة في إنتاج هذا الكبل مهمة جدًّا للتطورات السريعة التي كانت مطلوبة بعد بضع سنوات؛ فعلى أساس الاحتياجات المتوقَّعة لكبلات التليفون الخاصة بالغواصات، أُنشئ مصنع صغير بدأ العمل فيه في سبتمبر من عام ١٩٣٩ في اليوم الذي غزا فيه الألمان بولندا. وفي واقع الأمر، وُضِعت الكبلات البحرية المعزولة باستخدام البولي إثيلين قربَ نهاية الحرب، حيث شكَّلت حلقة وصل مهمة بين إنجلترا وفرنسا.
لكن في بداية الحرب، ظهرت حاجة فورية إلى وجود كبل معزول مَرِن ذي تردُّد عالٍ لأجهزة الرادار الأرضية والمحمولة جوًّا. وقد تم إنتاج البولي إثيلين المخصَّص لهذا الغرض من جانب شركة إمبريال للصناعات الكيميائية في إنجلترا وشركتَيْ دو بونت ويونيون كاربايد في الولايات المتحدة.
أدَّى توافر مادة البوليثين إلى تحويل مشكلاتِ التصميم والإنتاج والعزل والصيانة الخاصة بأجهزة الرادار الجوية من مشكلاتٍ غير قابلة للحلِّ تقريبًا إلى مشكلاتٍ يمكن التعامُل معها بسهولة؛ ويرجع هذا إلى خصائصها شبه المثالية في العزل والمتانة الهيكلية … أصبح من الممكن تنفيذُ مجموعةٍ كاملة من التصميمات الجوية والخاصة بخطوط التغذية التي لم تكن ممكنةً قبل ذلك، واستبعادُ مجموعةٍ كاملة من مشكلات الصيانة الجوية التي كانت غير قابلة للحل من قبلُ. وهكذا لعبت مادة البوليثين دورًا لا غنى عنه في سلسلة الانتصارات الكبيرة التي تحقَّقَتْ جوًّا وبحرًا وبرًّا، والتي يُعزى الفضلُ فيها إلى أجهزة الرادار.
كانت مادة البوليثين عنصرًا مهمًّا في هذا «الجهاز الفني الفريد» الذي نَسبَ إليه هتلر التراجُعَ «المؤقَّت» (والدائم، كما اتضح لاحقًا) للغواصات الحربية الألمانية.
وقد كان لها إسهامُها المهم في المعارك البحرية الكبيرة؛ حيث مكَّنت أجهزة الرادار — كما ذكر القائد الأعلى — أسطولنا من «العثور على البارجة الألمانية شارنهورست، وتحديد موقعها، ومحاربتها والقضاء عليها.» وكان لها دورها في العمليات التي تم خلالها القضاء على السفن الحربية الصغيرة.
وكان لها دورها الحيوي في المجموعة الصغيرة من معدَّات الرادار الجوية المضادة للغواصات الحربية الألمانية، التي استطاعَتْ — بمساعدة مثيلاتها الموجودة في السفن الحربية، التي ساعدها كثيرًا أيضًا استخدام البوليثين — إغراقَ مائة من تلك الغواصات في غضون بضعة أسابيع.
كما ضاعفت نُظُم الرادار الجوية السنتيمترية المستخدَمة فيها مادة البوليثين من فاعليةِ سلاحِ الطائرات المقاتلة القاذفة بدرجة كبيرة جدًّا في واقع الأمر …
لم تكن مادة البولي إثيلين، شأنها شأن التيفلون، معروفةً على نطاق واسع من جانب الناس إلا بعد انتهاء الحرب، عندما استُخدِمت في تصنيع الرقائق البلاستيكية والأشياء المشكَّلة منها. وقد تطوَّرَ إنتاج الرقائق البلاستيكية بسرعةٍ في الولايات المتحدة عندما بدأت مادة البولي إثيلين تحل محل السلوفان في العديد من التطبيقات. وتُستخدَم تلك الرقائق الآن في تغليف المنتجات الزراعية والأطعمة المجمَّدة السريعة التلف وجميع أنواع السلع والمنسوجات. وتتضمن الاستخدامات الأخرى لتلك الرقائق تطبيقاتٍ واسعةً في الزراعة (الصُّوبات الزجاجية، وأغطية التربة، والأغشية العازلة المُبطِّنة للقنوات والبرك والخزانات)، وفي البناء (حواجز الرطوبة، والمواد المغطية للمرافق، والأغطية الواقية)، ناهيك عن أكياس القمامة التي لا غنى عنها. وما زال عزل الكبلات الكهربائية أحد الاستخدامات المهمة أيضًا للبولي إثيلين. وقد كان البولي إثيلين أول نوع من البلاستيك يزيد معدل إنتاجه عن مليار رطل في العام (في عام ١٩٥٩).
لم يكن الإنتاج غير المقصود للبولي إثيلين من قِبَل كيميائيي شركة إمبريال للصناعات الكيميائية في عام ١٩٣٣ المرةَ الأولى التي حدث فيها هذا؛ فقبل ذلك بثلاثة أعوام، أُنتِجت تلك المادة دون سابق إنذار أو توقُّع كمنتج فرعي في تجربةٍ قام بها إم إي بي فريدريش، بينما كان لا يزال طالبَ دراسات عليا تحت إشراف البروفيسور كارل إس مارفل في جامعة إلينوي. تضمَّنَتِ التجربةُ استخدامَ الإثيلين في وجود مركَّب ألكيل الليثيوم في الضغط الجوي العادي.
في شريط فيديو تمَّ تصويره في عام ١٩٨٠ من قِبَل قسم تعليم الكيمياء بالجمعية الأمريكية للكيمياء، وصف البروفيسور مارفل قصةَ تلك المصادفة التي وقعت في عام ١٩٣٠ مُعتبِرًا إياها «تمهيدًا للبحث في مجال البوليمرات»، الذي قدَّمَ فيه إسهامات كبيرة على مدى ٥٠ عامًا. ثم علَّقَ قائلًا إنه على الرغم من ذلك، فلم يعقب تلك الملاحظة بمتابعة على الفور؛ لأنه «لم يكن أحد يعتقد أن مادة البولي إثيلين مفيدة على الإطلاق.»
يذكِّرني هذا بمثال كلاسيكي آخَر لإساءة التقدير أو ربما عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل. فمنذ عدة سنوات، حدث أنني تحدَّثْتُ إلى البروفيسور إيميت ريد من جامعة جون هوبكينز، الذي قال لي إنه كان أول مَن اكتشَفَ كيفيةَ تحضير إثيل البنزين في نتاج جيد من الإثيلين والبنزين من خلال تفاعل فريدل-كرافتس. (انظر الفصل السابع عشر.) لم يفكِّر ريد في الحصول على براءة اختراع لتلك العملية؛ لأنه فكَّرَ حينها أن «إثيل البنزين لا فائدة منه». وكان هذا صحيحًا حقًّا في عام ١٩٢٨، لكن هذا المركب هو الذي تشكَّلَ منه مركب الستايرين. وفي الثلاثينيات من القرن العشرين اكتُشِف أن الستايرين يمكن تحويله إلى البوليستايرين، والبوليستايرين مادة مفيدة جدًّا ومتعددة الاستخدامات؛ ففي عام ١٩٨٧ تم تسويق أكثر من خمسة مليارات رطل من المنتجات المصنوعة من تلك المادة في الولايات المتحدة.
تشير القصتان السابقتان إلى العدد اللانهائي من المصادفات التي لم تؤدِّ — على الأقل عندما حدثت — إلى اكتشافاتٍ مهمة؛ أيْ لم تكن سرنديبية.
نتج اكتشاف البولي إثيلين المنخفض الكثافة المتفرِّع من تسرُّبٍ في وعاء ضغط ومن عمليات البحث التي تلت تلك الملاحظة. أما اكتشاف البولي إثيلين العالي الكثافة الخطي، فنتجَ عن استخدام أداة غير نظيفة، أو على الأقل لم تُنظَّف جيدًا منذ آخِر استخدام لها.
في عام ١٩٥٣، كان كارل تسيجلر مديرَ معهد ماكس بلانك لأبحاث الفحم في مولهايم بألمانيا، وقد تابَعَ ووسَّعَ من قبلُ عملَ مارفل وفريدريش بمزجِ ألكايلات الليثيوم وبعض الكواشف العضوية الفلزية الأخرى (مركبات محتوية على ذرة فلز مرتبطة بمجموعة عضوية من الذرات) مع الإثيلين، في محاولة لبلمرته عند درجات ضغط أقل من تلك المستخدَمة من قِبَل كيميائيِّي شركة إمبريال للصناعات الكيميائية. ونتج عن تلك التجارب بوليمرات إثيلين لم تكن كبيرةً بالقدر الكافي الذي يجعلها مفيدة. وفي أحد الأيام، أُجريت تجربة فلم ينتج عنها أي بوليمر على الإطلاق، ولكن نتج عنها ديمر إثيلين؛ أي جزيئان فقط من الإثيلين ارتبَطَا معًا. وأثارت هذه النتيجة دهشة تسيجلر وزميله إي هولتسكامب على نحو كافٍ؛ مما جعلهما يبحثان عن السبب وراء ذلك. وأخذ هذا الأمر منهما عدة أسابيع، لكنهما في النهاية وجَدَا أن الوعاء الذي حدث فيه هذا التفاعل احتوى على كمية صغيرة من مركب النيكل الذي لم يتم التخلص منه تمامًا بعد استخدامه في تجربة سابقة.
من الاستخدامات العملية لنقطة الانصهار العالية لنوع البولي إثيلين الخطي الجديد أنه يمكن استخدامه في صناعة الأقداح وغيرها من أدوات المطبخ، التي لن تنصهر في غسالة الأطباق. وقد تم إنتاج حوالي ٨ مليارات رطل من هذا النوع من البولي إثيلين في الولايات المتحدة في عام ١٩٨٧.
من الأشياء المهمة جدًّا بالنسبة إلى المصنِّعين حقيقةُ أن عملية البلمرة يمكن إجراؤها تحت الضغط العادي ودرجة الحرارة المنخفضة، على عكس درجات الضغط والحرارة العالية التي كانت مطلوبةً للعملية الخاصة بشركة إمبريال للصناعات الكيميائية. يحتوي عامل التحفيز الأمثل على رابع كلوريد التيتانيوم وثالث إثيل الألومنيوم، ولأن عامل التحفيز لم يكن يُستنفَد في عملية البلمرة ويمكن إعادة استخدامه؛ فلم يكن ارتفاع سعر التيتانيوم يمثل مشكلة. وأصبح يُطلَق على تلك العملية عملية مولهايم لتحضير البولي إثيلين تحت الضغط العادي، وسرعان ما جذبت إليها الأنظارَ من مختلف أنحاء العالم.
علِمَ البروفيسور جوليو ناتا — وهو كيميائيٌّ إيطالي كان مستشارًا لشركة مونتيكاتيني في ميلان — على الفور بأخبار عملية إنتاج البولي إثيلين الجديدة؛ وذلك بفضل اتفاقية الترخيص المبرَمة بين معهد تسيجلر وتلك الشركة. فاستخدم عامِلَ تحفيز تسيجلر لبلمرة البروبلين وغيره من المركبات الهيدروكربونية القريبة من الإثيلين، وأثبت أنه فعَّال أيضًا معها. وبالتالي، أصبح من الممكن إنتاج البولي بروبلين في أشكال خطية وعالية الكثافة وذات درجة انصهار عالية، وكانت مفيدة أكثر من أي أشكال سابقة عليها. وقد أصبح البولي بروبلين أحد أنواع البلاستيك الأساسية في العالم؛ فقد تم إنتاج حوالي ٧ مليارات رطل منه في الولايات المتحدة في عام ١٩٨٧، وقد استُخدِم في تصنيع العديد من الأشياء المقولبة والمصبوبة، بما في ذلك أجزاء السيارات وصناديق الثلج بالإضافة إلى أدوات عديدة أخرى، هذا إلى جانب ألياف النسيج في السجاجيد والحِبال والكبلات. وتتميز البوليمرات المشتركة المصنوعة من الإثيلين والبروبلين بأنها مَرِنة ويمكن استخدامها بدلًا من المطاط في بعض الاستخدامات.
باستخدام عوامل التحفيز الجديدة، أصبح من الممكن لأول مرة صنع مطاط صناعي مطابِق للمطاط الطبيعي. وقد سمح عامل التحفيز الجديد بالتحكُّم في الطريقة التي يتم بها الربط بين وحدات المونومر (الأيزوبرين) معًا لإعطاء شكل لولبي لجزيء المطاط البوليمري؛ أي التركيب الجزيئي المسئول عن مرونة المطاط. (انظر القسم الخاص بالمطاط الصناعي الذي عرضناه في الفصل الحادي عشر.)
تعتمد المادة المصنوعة منها إطارات السيارات الآن إلى حدٍّ كبير على السعر النسبي للمطاط الطبيعي والصناعي، وعادةً ما يُستخدَم مزيج من النوعين. والدليل على تأثير اكتشاف تسيجلر على صناعة البوليمرات هو تقدير قيمة كل المواد المُنتجَة من العمليات المعتمِدة عليه، التي تصل إلى أكثر من مليار دولار كل عام.
وقد تقاسم تسيجلر وناتا جائزة نوبل في الكيمياء في عام ١٩٦٣. وفي ندوة دولية عُقِدت تكريمًا لتسيجلر بعد وقت قصير من وفاته في عام ١٩٧٣، قال جيه فيلكه، خليفته في معهد ماكس بلانك: «يتمثل المبدأ الأساسي لكارل تسيجلر في أنه من غير الممكن توقُّع شيء جديد في واقع الأمر؛ لأنه في هذه الحالة لا يمكن اكتشافه إلا بالتجربة فقط … وكان من مبادئ تسيجلر أيضًا ضرورة أن يترقَّب المرء أيَّ تطورات غير متوقَّعة، وألَّا يتجاهل أية ظاهرة جديدة تكون غير ذات علاقة بالمشروع الأساسي الذي يعمل به.»
تعقيب
كان حدث إنتاجه لأول مرة وليد المصادفة البحتة. ففي عام ١٨٣٨، وصفَ كيميائيٌّ فرنسي يُدعَى فيكتور رينيو تكوُّنَ مسحوق أبيض عند تعرُّض أنابيبَ زجاجيةٍ محكَمة الغلق من كلوريد الفينيل السائل لضوء الشمس. وبعد عدة سنوات، وتحديدًا في عام ١٨٧٢، أعلن إي باومان عن تحويل كلوريد الفينيل إلى كتلة صلبة بيضاء «لا تتأثَّر بالمذيبات أو الأحماض»، لكن لم يتم إدراك أهمية هذه الملاحظة إلا بعد ذلك بفترة طويلة، ولم يتم تطوير كلوريد الفينيل تجاريًّا إلا بعد تطوير الطرق التحفيزية العملية لبلمرته.
لكن لحسن الحظ، كان لدى العالِمَين من الفضول ما يكفي لدفعهما إلى فحص الأسطوانة التالفة ومحتوياتها. (يذكِّرني هذا بقصة روي بلانكيت الذي اكتشف التيفلون في ظروف مماثلة؛ انظر الفصل السابع والعشرين.) فتركَا السائل الأسود يخرج من الأسطوانة ووجَدَا أنه تحوَّلَ إلى مادة صلبة سوداء جامدة، لكنها كانت على الرغم من ذلك قابلةً للذوبان في الماء. وعندما قامَا بترشيح السائل الأسود، انفصَلَ إلى مسحوق أسود (على المرشح) ومحلول عديم اللون، وعندما تبخَّرَ المحلول، ترسَّبَتْ مادة صلبة بيضاء جامدة. وبتحليل المادة الصلبة السوداء، تبيَّنَ أنها تحتوي على عنصر الحديد، فأعطاهما ذلك مؤشرًا على سبب تكوُّنِ المادة الصلبة القابلة للذوبان في الماء. فقد كان السبب هو بوليمر من أكسيد الإثيلين تكوَّنَ بفعل محفِّز أكسيد الحديد (الصدأ) الذي كان داخل الأسطوانة التالفة، وأسفرت التجارب التي أُجريت بعد ذلك عن اكتشاف إجراءات إنشاء بوليمرات أكسيد الإثيلين بأوزانٍ جزيئية تتراوح بين مائة ألف وخمسة ملايين. وبعد بضعة أعوام لاحقة، استطاع تشارلز سي برايس بلمرةَ أكسيد البروبلين النَّشِط ضوئيًّا وإنتاجَ بوليمر نَشِط ضوئيًّا.
في واقع الأمر، كان الكيميائيون الألمان قد قاموا ببلمرة أكسيد الإثيلين قبل ذلك بثمانية عشر عامًا، لكن لم يهتم أحد بما نشروه عن ذلك. وفي الواقع، فإن لبولي (أكسيد الإثيلين) الذي أُعيدَ اكتشافه خصائص عديدة جعلته مهمًّا للكيميائيين الصناعيين، من بينها أنه يزيد لزوجة الماء على نحوٍ كبير، ويجعل المحاليل متجانسة القوام، وذلك حتى عند استخدام كميات صغيرة جدًّا منه. وتمت الاستفادة من تلك الخاصية في تغليظ قوام أنواع الطلاء المعتمِدة على الماء، وتصنيع أدوات التجميل ومنتجات العناية بالبشرة والمنظِّفات السائلة المستخدَمة في غسل الأطباق.
ثمة استخدام آخَر للبوليمر القابل للذوبان في الماء، وهو في مجال الزراعة؛ إذ يمكن استخدامه في صنع أشرطة أنبوبية الشكل وملئها بالبذور على مسافات منتظمة واستخدامها في عملية الزراعة. ويمكن وضع «شريط البذور» في أخدود ضحل وتغطيته على نحو غير محكَم بالتربة، وعند سقيه بماء المطر أو الري، سيذوب الشريط وتُنتِج البذورُ عند الإنبات نباتاتٍ على مسافات منتظمة؛ مما يسهِّل من الزراعة والحصاد.
ومن أكثر الخصائص المثيرة لهذا البوليمر أن إضافة كميات صغيرة جدًّا منه إلى الماء يقلِّل بشدة احتكاك الماء عند تدفُّقه عبر الأنابيب أو الخراطيم. وقد طُبِّقت تلك الفكرة عند ضخ الخلطة الخرسانية عبر الأنابيب في مواقع البناء. واستُخدِمت أيضًا في مكافحة الحريق؛ مما يسمح للماء حتى عند ضخه عبر خراطيم أصغر أن تصل إلى مسافة أكبر مع استخدام نفس قوة الضخ.
يوجد الكثير من الافتراضات المهمة في هذا الاكتشاف. فعلى سبيل المثال، ماذا لو حدثت عملية البلمرة داخل الأسطوانة التالفة؟ ما كان لشيء أن ينتج، وربما لم يَقُمِ الكيميائيان بأية محاولة لتحديد السبب وراء ما حدث. لكن لحسن الحظ، حدثَتْ عملية البلمرة خارجَ الأسطوانة لتسمح بظهور مادة لَزِجة مثيرة تجذب اهتمام العالِمَين فاولر ودينيسن وتثير فضولهما.