مريضٌ هندي يكتشف الكينين
كان أول استخدام مُسجَّل لمادة الكينين في علاج الملاريا من جانب الإرساليات اليسوعية في مدينة ليما عام ١٦٣٠ تقريبًا؛ ومن هنا، أُطلِق اسم «لحاء اليسوعيين» على هذا اللحاء الطبي، قبل ليناوس بنحو مائة عام. وربما يتعذر تمامًا أن نعرف على وجه التأكيد إن كان اليسوعيون قد عرفوا من الهنود الخصائص الطبية لهذا اللحاء المفيدة في علاج الملاريا. ومع ذلك، توجد أسطورة قديمة تقدِّم رواية معقولة للاكتشاف العرضي للخصائص العلاجية للحاء شجرة الكينا.
تدور الأسطورة حول رجل هندي كان يعاني من الحمى، وكان تائهًا في غابة عالية في جبال الإنديز. وتنمو هناك أنواع عديدة من شجرة السينكونا (التي يطلِق عليها الهنود «كينا-كينا») على المنحدرات الدافئة الرطبة لجبال الإنديز من كولومبيا إلى بوليفيا، على ارتفاعات تزيد عن ٥ آلاف قدم. وأثناء تقدُّمِه متعثِّرًا عبر الأشجار، وجَدَ بركة راكدة من الماء، فألقى نفسه بالقرب من حافتها لتناول بعض الماء البارد، ومن أول رشفة من الماء الذي أحسَّ بمرارته، أدرَكَ أنه مُزِج بلحاء أشجار «الكينا-كينا» المجاورة، الذي كان يعتقد أنه سام، ولكنه اهتمَّ بأن يروي عطشه الشديد ويقلِّل مؤقتًا أثر الحمى التي أصابته أكثر من اهتمامه بالآثار العكسية المميتة المحتمَلة؛ فاغترف من الماء الكثير.
ومما أثار دهشته أنه لم يمت! ففي حقيقة الأمر، هدأت الحمى التي كان يعاني منها وتمكَّن من العودة إلى قريته وهو في كامل قوته. أخبر أصدقاءه وأقرباءه بقصة هذا الدواء السحري؛ مما جعلهم يستخدمون مستخلصات من لحاء شجرة الكينا-كينا لعلاج الحمى الشديدة التي كان الكثير منهم يعانون منها. لقد كان السبب في هذه الحمى هو الملاريا، وكانت المادة الكيميائية الموجودة في هذا اللحاء هي مادة الكينين. وقد انتشرت أنباءُ هذا الاكتشاف في أرجاء المنطقة بأسرها، وربما وصلت إلى الإرساليات اليسوعية في أوائل القرن السابع عشر. ومما يؤكِّد تلك القصة — هذا إن كانت صحيحة — أنه حتى في المجتمعات البدائية، يمكن أن تسمح «الفطنة» بإعمال العقل للوصول بمحض المصادفة إلى اكتشافٍ ذي نتائج مدهشة.
على الرغم من أن صحة تلك القصة على وجه الخصوص لا يمكن تأكيدها، فإن أمرًا كهذا كثيرًا ما يحدث. في بعض الأحيان، تكون النتيجة مصادفة سعيدة، كما في هذه الحالة، ولكن غالبًا ما تكون النتيجةُ هي موت أو مرض الشخص الذي يتناول مادة طبيعية قوية المفعول للمرة الأولى.
تعقيب
كان علاج الملاريا بمادة الكينين هو أول استخدام ناجح لمادة كيمائية لعلاج مرض مُعدٍ. (للتعرُّف على تاريخ إدخال مادة الكينين كدواء إلى أوروبا واستزراع شجرة السينكونا من أمريكا الجنوبية في جنوب شرق آسيا، انظر الفصل الثاني في كتاب سيلفرمان المذكور في الملحق.) لم تُستخلَص المادة الفعَّالة في علاج الملاريا الموجودة في لحاء شجرة السينكونا، وهي مادة الكينين، حتى عام ١٨٢٠ (وكان ذلك على يد الكيميائيَّيْن الفرنسيَّيْن بيير جوزيف بليتييه وجوزيف بيانامي كافنتو)، ولم تُعرَف الصيغة الكيميائية لتلك المادة على وجه التحديد حتى عام ١٩٠٨، ولم يُجرَ التخليقُ المعملي لها حتى عام ١٩٤٤. (للتعرُّف على اكتشاف عرَضي يرجع إلى محاولة بدائية لتخليق مادة الكينين في عام ١٨٥٦، انظر قصة ويليام بيركن والصبغة الأرجوانية في الفصل الثالث عشر.)
لا يزال مرض الملاريا أكثر الأمراض فتكًا على مستوى العالم، مع أنه قد اختفى تقريبًا في الدول المتقدمة؛ نظرًا لحملات مكافحة البعوض باستخدام المبيدات الحشرية. (ينتقل طفيل مرض الملاريا من دم الشخص المصاب إلى الأصحاء من خلال لدغات بعض أنواع البعوض.) ومع ذلك، فقد تسبب مرض الملاريا في موت عدد كبير من الأشخاص يفوق عددَ مَن ماتوا في كل الحروب المعروفة على مدار التاريخ؛ ومن ثم لا يمكن المبالغة في تقدير قدرة المبيدات الحشرية والأدوية التي يمكنها مكافحة هذا المرض الخطير. إذا تحدَّثَ البعض عن الضرر الكبير والمُثبت للمبيدات الحشرية على الطيور وبعض الحيوانات الأخرى، فيجب أن نضع في الاعتبار حياةَ آلاف الأشخاص الذين يتم إنقاذهم من الملاريا بسبب استخدام تلك المبيدات، خاصةً في ضوء ظهور مبيدات حشرية جديدة تلحق ضررًا أقل كثيرًا بالبيئة مقارَنةً ببعض المبيدات الأقدم منها.
كانت مادة الكينين من المواد المهمة في تاريخ السياسة العالمية. فنظرًا لعدم إمكانية الوصول إلى أشجار السينكونا في أمريكا الجنوبية، زُرعت تلك الأشجار في مناطق أخرى من العالم، ولا سيَّما في جزر الهند الشرقية الهولندية. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى، حُرِمت ألمانيا من الوصول إلى المناطق التي يمكنها الحصول منها على إمداداتها من مادة الكينين؛ مما أدَّى إلى قيامها بجهود كبيرة لإنتاج بديلٍ تخليقيٍّ لها، وقد نجحت في إنتاج دواء يُسمَّى الأتابرين أو الكويناكرين. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تقاتل في مناطق كانَتْ ساحةً لتوالُدِ البعوض الناقل للملاريا (مثل شمال أفريقيا وأدغال جزر جنوب المحيط الهادئ) وكانت اليابان مسيطرة على أماكن زراعة أشجار السينكونا؛ وبالتالي كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى تطوير أدوية تخليقية فعَّالة لمواجهة الملاريا.
في شمال أفريقيا، أسَر الأمريكيون جنودًا إيطاليين كانت معهم أقراص شكُّوا أنها تعالج الملاريا؛ كانت تلك الأقراص بيضاء، في حين أن أقراص الأتابرين صفراء. ونُقلت تلك الأقراص إلى الولايات المتحدة وأُخضِعت لتحليل دقيق؛ فوجدوا أنها لدواء يُسمَّى كلوروكوين، وهو دواء آخَر مضاد للملاريا تم تطويره في نفس المعمل الألماني الذي طُوِّر فيه دواء الأتابرين ويحمل نفس براءة الاختراع الألمانية. كشفت الاختبارات الدوائية التي أُجرِيت على هذا الدواء أنه أكثر فاعليةً عشر مرات من الكويناكرين عند تناول نفس الجرعة من كلا الدواءين، كما أن آثاره الجانبية أقل ولون أقراصه أبيض.
كانت القوات الأمريكية في المحيط الهادئ آنذاك تستخدم دواءَ الكويناكرين، الذي كان يباع بالاسم التجاري أتابرين من قِبَل شركة وينثروب، وهي شركة أمريكية تابعة للشركة الألمانية التي طوَّرت الدواء، لكن الولايات المتحدة لم تكن تحصل على هذا الدواء بانتظام. أشاعت الإذاعة اليابانية الشهيرة «طوكيو روز» الناطقة بالإنجليزية في ذلك الوقت، وكانت تحاول بثَّ البلبلة بين صفوف الأمريكيين أن تناول الكويناكرين لا يؤدِّي فقط إلى اصفرار الجلد (وهذه معلومة صحيحة)، ولكن أيضًا إلى الإصابة بالعُقم (وهو أمر غير صحيح). ونتيجةً لذلك، أعرَضَ الأمريكيون عن تناوُلِ هذا الدواء، وعندما وصلت القوات الأمريكية إلى غينيا الجديدة، في غضون أسبوعين أُصِيب ٩٥٪ منهم بالملاريا.
لقد أُبلِغنا نحن أعضاء البرنامج الحكومي لمكافحة الملاريا التابع للجنة الأبحاث الطبية بجامعة إلينوي بهذا الأمر حتى ندرك أهمية ما نقوم به. وقد قيل لنا إن إصابة ألف فرد من قوات البحرية بالملاريا أسوأ (من الناحية العسكرية) من موتهم؛ لأنه سيُخصَّص لهم أفراد من الجيش لعلاجهم. وجاء هذا بالتزامن تقريبًا مع تأكُّدنا من أن الكلوروكوين أفضل من الأتابرين عند حصول المريض على نفس الجرعة من الدواءين، وكان يُنظَر إلى عدم تسببه في اصفرار الجلد كميزة كبيرة أخرى.
رُوِّجت شائعة بأن الإيطاليين كانوا يستخدمون الكلوروكوين في شمال أفريقيا وليس الأتابرين؛ لأن الألمان وجدوا أن الكلوروكوين أقل فاعليةً ولذلك أعطوه لحلفائهم من دول المحور وادَّخَروا الأتابرين لجنودهم. وكان الألمان متميزين ككيميائيين، لكنهم لم يكونوا كذلك كاختصاصيين في علم الأدوية.
عندما كشفت الاختبارات الدوائية الأمريكية أن الكلوروكوين دواءٌ رائع، أعطينا الكلوروكوين أولوية كبيرة في برنامجنا المعني بمكافحة الملاريا. وبصفتي كيميائيًّا حاصلًا حديثًا على درجة الدكتوراه وأعمل في هذا البرنامج، طُلِب مني اكتشافُ طريقة جديدة لتخليق الكلوروكوين. وكان حصول الألمان على هذا الدواء في صورته النقية يمثِّل مشكلة بالنسبة إليهم؛ وهذا ربما كان سببًا آخَر لتفضيلهم الأتابرين.
لا أزال أتذكَّر بوضوحٍ الإثارةَ التي شعرت بها عندما رأيتُ بعض البلورات البيضاء الرائعة وهي تُفصَل من محلول يغلي في تجربة مهمة. كانت تلك البلورات لمركب وسيط في عملية تخليق الكلوروكوين، وقبل تصنيعي لأكثر من جرام من الكلوروكوين، كنت أنا والبروفيسور تشارلز سي برايس (مدير الأبحاث الذي أعمل معه) على متن أحد القطارات متوجِّهَين إلى مدينة بوفلو للتحدُّث إلى كيميائيين في إحدى الجهات التصنيعية بشأن كيفية إنتاج دوائنا بكمياتٍ كبيرة لإمداد الجيش بها. وكانت العملية ناجحة جدًّا لدرجة أنني والبروفيسور قد حصلنا على براءات اختراعٍ لها (باسم الحكومة الأمريكية)، وقد استُخدِمَتْ لإعداد أطنان عديدة من الكلوروكوين قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها.
في مرة أخرى، كان فريقنا البحثي بالكامل المعنيُّ بمكافحة الملاريا (الذي كان مكوَّنًا من حوالي ١٢ باحثًا من طلبة الدكتوراه ومن الحاصلين على الدكتوراه، بالإضافة إلى البروفيسور برايس) يسابق الزمن لصنع كميات كافية من الدواء لأحد المستشفيات التي كانت تُجرَى به اختبارات إكلينيكية عليه. وتلقَّيْنا مكالمة هاتفية من نيويورك بعد ظهيرة أحد أيام الجمعة يخبروننا فيها أنه يُجرى اختبار الدواء على المرضى بذلك المستشفى، وأن إمداداتهم تكاد تنفد. وما زلتُ أشعر بالقشعريرة عندما أذكر المخاطر التي خضناها ونحن نسارع الزمن لتصنيع الكميات المطلوبة، التي كان علينا الانتهاء منها قبل يوم الإثنين.
كان الكلوروكوين واحدًا من آلاف المركبات الجديدة التي صُنِّعت واختبِرت في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، وقد استُخدِم هو وبعض المركبات التخليقية الأخرى المضادة للملاريا أثناء الحرب الكورية وحرب فيتنام. وبعد استخدام تلك الأدوية لسنوات عديدة وُجِد أنها أقل فاعليةً؛ إذ يبدو أن سلالات جديدة من طفيليات الملاريا قد ظهرت وكانت مقاوِمة لتلك الأدوية. ولكن نظرًا لأن هذا النوع من المقاوَمةِ لم يظهر تجاه مادة الكينين؛ فقد احتفَظَ الدواء الطبيعي بمكانته في معركتنا ضد الملاريا.
وأخيرًا، أودُّ أن أشير إلى ملحوظة طريفة بعض الشيء في إطار موضوعنا هذا؛ يقول البعض إن بريطانيا سيطرت على الهند سياسيًّا لفترة طويلة جدًّا نتيجةً لعادة البريطانيين في تناول شرابٍ هو مزيج من الجين (شراب مُسكِر قوي) وماء الصودا. ونظرًا لأن ماء الصودا مصنوعٌ من الكينين؛ فقد جنَّبَ هذا البريطانيين ومَنْ والاهم من الهنود شرَّ الإصابة بالملاريا، في حين عانَى الكثير من الرعايا الهنود — الذين لم يكونوا يفضِّلون هذا الشراب البريطاني — من الحمى والضعف العام الناتجَيْن عن الإصابة بالملاريا.